بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ومنها : دعوى الصبي الحربي الذي ظاهره البلوغ بالنبات : الاستنبات بالعلاج ، ولم يكن عن بلوغ ليلحق بالذراري في عدم القتل. وعن بعض عدم قبول قوله الا بالبينة ، لأن النبات ظاهر في البلوغ اعتبره الشارع إمارة عليه ، فهو مقدم على الأصل فيه ، فهو مدع لمخالفة قوله له ، فيطالب بالبينة عليه ، والأقرب فيه القبول احتياطا في الدماء لأنه لو لم يسلم فليس إلا القتل ، ولا أقل من كونه موجبا للشبهة التي تدرء بها الحدود بعد أن كان المجعول امارة على البلوغ انما هو النبات بنفسه لا مطلقا ، وحيث احتمل كونه غيره أوجب دعواه الشبهة الدارئة للقتل.

نعم لو ادعى الاستنبات لإبطال ما أوقع من عقد أو إيقاع ، فإنه لا يقبل قوله حينئذ إلا بالبينة ، لسلامة الامارة فيه عما يوجب عدم العمل بها من الشبهة الدارئة للحد.

ومنها : دعوى البلوغ والأقوى تقييدها بدعوى الاحتلام دون السن لعدم تعذر إقامة البينة عليه بخلاف الاحتلام الذي لا يعلم إلا من قبله فإنه يقبل فيه لأنه لا يمكن إقامة البينة عليه ، فلو توقف عليها لزم الحرج والضرر المنفيان : آية ورواية (١).

وبالجملة : سماع الدعوى في مثل ذلك انما هو للضرورة التي تتفدر بقدرها ، وهي متحققة في دعوى الاحتلام دون السن.

اللهم إلا أن يقال بتعسر البينة غالبا عليه أيضا ، فيلحق المتعسر غالبا بالمتعذر في القبول. ولعله لذا عن بعض قبول قوله فيه مطلقا من غير تقييد باختصاصه بدعوى الاحتلام ، فتأمل وكيف كان ، فلا يمين عليه

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في نفي الحرج ـ كما في سورة المائدة : «ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» وقوله (ص) في نفي الضرر : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

٣٨١

لأنها ضربت على المنكر دون المدعي ، وللزوم الدور ، لتوقف اعتبارها على البلوغ فلو توقف البلوغ عليها دار : (لا يقال) سماع الدعوى مشروط ببلوغ المدعي والشأن فيه ، فيدور أيضا (لأنا نقول) : ما دل على القبول في المقام من الضرورة يدل على القبول فيه من دون شرط ، فيكون مخصصا لما دل على شرطية البلوغ لسماع الدعوى وبما ذكرنا يظهر لك الوجه في قبول قول المدعي لكل ما لا يعلم إلا من قبله كدعوى البراءة مما يتعلق بالحيض والطهر كالعدة وغير ذلك مما يتعذر الاطلاع عليه ، ولكل ما يوجب الشبهة الدارئة للحد احتياط في الدماء.

ومنها : دعوى من عليه الحق الإعسار حيث لا تكون الدعوى مالية ولا مسبوقة باليسار ، فان المشهور ـ كما قيل ـ على قبول قوله بيمينه بلا بينة ، مع أنه مدع لما يوجب سقوط المطالبة من العسر المفسر بالضيق والشدة في مقابل اليسر المفسر بالسعة ، وهما ضدان وجوديان لا ينتقضان فلا يثبت بالأصل حتى يكون مدعيه منكرا في الحقيقة لموافقة قوله له ، بل هو مدع لمخالفة قوله إياه ، وحيث علق الانظار عليه في الآية الشريفة (١) كان شرطا في وجوبه. فلا بد من إحرازه لتوقف الحكم به على تحققه لكونه شرطا لما علق عليه من الانظار ، مضافا إلى ما ورد في الأخبار : «من أن عليا (ع) كان يحبس على الدين ثم يفتش عن ماله فان وجد والا أطلقه وأنظره إلى الميسرة» (٢) ولو لا جواز المطالبة بالحق عند الشك في الإعسار لم يكن للحبس وجه قبل التبين (لا يقال) : مقتضى المفهوم

__________________

(١) إشارة إلى آية (٢٨٠) من سورة البقرة «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ».

(٢) راجع ـ بهذا المضمون في الوسائل آخر : كتاب الحجر باب ٧ حديث (١).

٣٨٢

من جعل الميسرة غاية هو كون اليسار شرطا لجواز المطالبة فيتوقف ثبوته على تحققه والأصل عدمه (لأنا نقول) : جعل اليسر غاية انما هو لبيان انتهاء زمان الانظار بانتفاء شرطه ، وهو الإعسار ، لا لكونه شرطا في تركه المرادف للمطالبة ، فهو كدخول الليل المجعول : غاية للصوم الواجب في النهار المنتفي هو بانتفاء زمانه المنكشف بدخول الليل. وكذا الحكم المعلق على السكون ـ مثلا ـ المنتفي بالحركة ، فإنه لانتفاء شرطه ـ وهو السكون ـ لا لخصوصية في الحركة من حيث هي حركة أوجبت انتفاء الحكم أو ثبوت ضده فاتّضح الجواب عما توهم من دوران الأمر ، بين كون الإعسار شرطا للأنظار ـ كما يستفاد من منطوق الآية ـ أو كون اليسار شرطا للمطالبة ـ كما يستفاد من مفهومها الثابتة حجيته.

وهذا أقصى ما يمكن أن يستدل به على عدم قبول قوله إلا بالبينة ـ كما عن بعض ـ إلا أن الأقوى ما عليه المشهور من قبول قوله بيمينه لكونه منكرا لوجود ما يتمكن منه من الوفاء ، وان كان الإعسار المفسر بالضيق والشدة أمرا وجوديا بعد أن كان مناط صدقه انما هو بفصله العدمي.

توضيح ذلك : ان العسر واليسر المفسرين بالضيق والسعة ، وان كانا أمرين وجوديين ، إلا أنهما يدوران مدار فقد المال ووجوده ، وامتياز العسر عن ضده انما هو بفصله العدمي من فقد المال أصلا أو فقد مقدار ما به يتحقق اليسر ، ضرورة أن من عنده مال لا يزيد على مؤنته الشرعية وضرورة معيشته هو معسر شرعا ، ومناط صدقه عليه انما هو فقدان ما زاد عليه لا وجدان ما نقص عنه ، لاشتراكهما في وجدان ذلك القدر ، وانما الامتياز بفقد ما زاد عليه ووجدانه ، فالاعسار ، وان كان وجوديا ، إلا ان امتيازه عن ضده بفصله العدمي المأخوذ في صدقه ، ولم يكن ملحوظا في صدق الميسرة إلا كونه واجدا للقدر الموجب لصدقه من غير ملاحظة أمر عدمي

٣٨٣

في صدقه وحقيقته ، فيكون الإعسار حينئذ هو الموافق للأصل الموجب لصدق المنكر على من يكون قوله موافقا له ، فيتوجه عليه اليمين. وأما الأخبار ـ فمع معارضتها بغيرها وكونها حكاية فعل لا عموم فيه ـ محمولة على كون الدعوى مالية وكانت مسبوقة باليسار.

وأما الثانية أي تخصيص الجملة الثانية المتكفلة لبيان وظيفة المنكر : من كونه منكرا لا يمين عليه أو يمين لا على المنكر ، بل على المدعي.

فالأول منها : هو كل منكر لا غرامة عليه لو أقر بما أنكره فإنه لا يمين عليه لأن المنكر انما كان عليه اليمين ليدفع بها غرامة المدعي عن نفسه فحيث لا غرامة فلا يمين. وهو واضح ، مثاله : ما إذا كان عبد في يد إنسان فادعى على مولاه أنه أعتقه. وادعى آخر على مولاه أنه باعه منه : فان كذبهما المولى ولم تكن لهما بينة حلف لهما لأنه منكر لدعواهما وان صدق أحدهما ثم كذب الآخر لم يحلف لمن كذبه لأنه لا غرامة مع إقراره فلا يمين مع إنكاره ، ضرورة أنه لو صدق المشتري ـ أولا ـ ثم أقر للعبد لم ينفذ إقراره لكونه إقرارا في ملك الغير ولا غرامة على تفويت الحرية لأنها غير مضمونة ، فحيث لا غرامة بإقراره لا يمين مع إنكاره.

وهذه قاعدة مسلّمة نبّه عليها الشيخ في (المبسوط) ، وكذا لو صدق العبد ـ أولا ـ لم يحلف للمشتري لانفساخ العقد بحرية العبد المسببة عن إقراره له أولا ، فيكون من تلف المبيع قبل قبضه الموجب للانفساخ قهرا وإتلاف البائع كالتلف السماوي في سببيته للانفساخ كما أسلفناه في محله ، فتكون هذه القاعدة في مجاريها مخصصة لعموم اليمين على من أنكر.

والثاني : يمين الاستظهار التي هي على المدعي إذا كانت الدعوى على الميت ، فإنها لا تثبت له إلا بالبينة واليمين معها ، كما دلت عليه النصوص المستفيضة ، والحق أن يمينه يمين المنكر ، إذ لو كان حيا يدعى الوفاء

٣٨٤

لكان المدعي حينئذ منكرا عليه اليمين ، وحيث كان محتملا في حقه نزل الشارع الميت الصامت منزلة الحي المدعى للوفاء مراعيا فيه الاحتياط ، كما هو صريح التعليل في الخبر المروي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، وفيه : «وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو : لقد مات فلان وان حقي عليه ، فان حلف وإلا فلا حق له لأنا لا ندري لعله قد وفّاه بهينة لا نعلم موضعها؟

أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثم صار اليمين مع البيّنة» (١) وعليه فلم يكن المورد خارجا عن قاعدة الوظيفة.

(تكملة) : هل اليمين اعتبرت في حق المنكر إرفاقا به عن كلفة إقامة البينة أو هي معينة عليه مختصة حجته بها ـ كما يقتضيه ظاهر النبوي المتقدم (٢) ولو بمعونة التفصيل القاطع للشركة ، وصريح خبر منصور ابن حازم عن الصادق عليه السلام : «قلت له رجل في يده شاة فجاء رجل وادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب ، وجاء الذي في يده البينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : حقها للمدعي ولا أقبل من الذي هي في يده بينة لان الله عز وجل أمر أن تطلب البينة من المدعي ، فان كانت له بينة وإلا فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر الله عز وجل» (٣).

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء ، باب ٤ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى. والرواية عن الشيخ أي الإمام موسى بن جعفر (ع) وهي طويلة حذف في المتن من أولها ومن آخرها.

(٢) إشارة إلى قوله (ص) : البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه ، أو من أنكر.

(٣) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ١٢ من أبواب كيفية الحكم

٣٨٥

الأقوى هو الأول ، لعموم ما دل على حجية البينة ، وخصوص ما ورد مستفيضا في ترجيح إحدى البينتين المتعارضتين بأحد وجوه المرجحات الآتية في صورة ما لو كانت العين في يد أحدهما ، ضرورة أن الترجيح فرع حجية كل واحدة منهما ، إذ لا تعارض بين الحجة وغير الحجة ، مضافا الى ما ورد في (حديث فدك) : من إنكار علي أمير المؤمنين (ع) على الأول ، حيث ابتدأ بطلب البينة من ذي اليد ، وكان حق الطلب أن يبتدء بسؤالها من المدعي وهو المسلمون (١) ولو كانت البينة من ذي اليد غير مقبولة ولا مسموعة ، لكان الإنكار عليه بعدم القبول وعدم الحجية أولى من الإنكار بابتداء الطلب منه ، وهو واضح ، بل الظاهر كون ذلك من المسلمات عندهم ، حيث اختلفوا في تقديم بينة الخارج على على بينة الداخل أو بالعكس مطلقا ، أو على التفاصيل الآتية : من الإطلاق والتقييد ، وذكر السبب وعدمه ، وما يمكن فيه التكرر وما لا يمكن ، المعلوم ابتناء ذلك كله على حجية بينة المنكر من دون نكير عليهم ، وليس ذلك إلا لكون بينة المنكر معتبرة أيضا ، فيكون مخيرا بين اليمين وإقامة البينة ان أراد دفع كلفة اليمين عن نفسه ، بل عن بعض : جواز إقامة البينة عند الحاكم تسجيلا لثبوت حقه خوفا من تعذر إقامتها لو ظهر مدع عليه. (لا يقال) : إن مرتبة المنكر لإقامة حجته متأخرة عن مرتبة المدعي لإقامة حجته ، بل مشروطة بعدم الحجة للمدعي ، ولذا لا يمين على المنكر بعد إقامة المدعي بينته ، فكيف يكون المنكر مخبرا في حجته بين البينة واليمين؟ (لأنا نقول) مع أنه اجتهاد في مقابل النص الوارد في تعارض البينتين مع كون العين في يد أحدهما ، يدفعه أن المنكر حيث لا بينة للمدعي مخير

__________________

وأحكام الدعوى ، حديث (١٤).

(١) تقدمت الإشارة إلى هذه المحاجة في رسالة : (قاعدة اليد).

٣٨٦

بين إقامة البينة أو اليمين. ومعها وإن كان لا يطالب باليمين لأن الإحلاف حق المدعي يضطر اليه عند الحاجة ومع البينة لا حاجة له اليه ، الا أنه يطالب بدفع حجة المدعي أما بإبطالها كالجرح أو بالمعارضة بمثلها كالبينة ، فالمنكر مع عدم البينة للمدعي مخير بين اليمين وإقامة البينة ، ومع بينة المدعي مخير بين إبطالها أو المعارضة بمثلها ، غير أنه على الثاني يمكن أن تكون فائدة بينته دفع بينة المدعي ، فيكون المورد بعد الاسقاط كما لو لم تكن بينة للمدعي ، ويمكن ترجيحها باليد على بينة المدعي بناء على تقديم بينة الداخل على الخارج.

فاتضح بما ذكرنا أن اليمين حيث تتوجه على المنكر انما هي من باب الإرفاق لا حصر الحجة بها ، والله العالم.

وأما النبوي ، فمع كونه محمولا على الغالب ، يحتمل أن يكون ناظرا إلى ما هو للمدعي وعليه من الميزان لقطع الخصومة التي هي من حقوقه ولذا لو تركها لترك من البينة عليه واليمين له على المدعى عليه. ولذا كان الإحلاف متوقفا على طلبه لأنه من حقوقه وان توقف استيفاؤه على الحاكم وكان له الاكتفاء باليمين مع تمكنه من البينة ، فمساق الحديث : البينة على المدعي وله اليمين على من أنكر ، وليس ناظرا إلى حصر إثبات حق المنكر باليمين.

وأما خبر منصور بن حازم ، فمع كونه مرميا بالضعف ، غير مكافى‌ء لما دل على الترجيح في صورة التعارض بالمرجحات الآتية المستلزم لقبول بينة المنكر لو انفردت بنفسها ، فيختص لو بني على العمل به بمورده من إلغاء بينة المنكر مع قيام بينة المدعي لا مطلقا ، وان كان التعليل فيه يقتضي العموم.

٣٨٧

(المقام الثالث)

في التداعي وبيان جملة من أحكامه ، فنقول : لو تداعيا في ملكية عين : فلا يخلو : اما أن تكون العين بيديهما أو بيد أحدهما أو بيد ثالث غيرهما أو لا يد لأحد عليها. وعلى التقادير : فأما أن لا تكون لهما بينة أو كانت ولكن لأحدهما دون صاحبه أو لهما معا ،

، فهنا صور أصولها أربعة ، وأقسام كل أصل منها ثلاثة :

الصورة الأولى ـ ما لو كانت العين بيدهما ، وهي على أقسام :

(القسم الأول) : إذا لم تكن لهما بينة فالحكم فيه بعد التحالف التنصيف لكون كل منها مدعيا من جهة ومدعى عليه من جهة أخرى لأنه منكر لما يدعى عليه صاحبه من اختصاص الملكية بنفسه ، فعليه اليمين من غير فرق بين القول بأن يد كل منهما على النصف فلا يد له على النصف الآخر أو القول بأن يد كل منهما على الكل لا بنحو الاستقلال وأنه من تزاحم البدين في توجه اليمين على كل منهما والقضاء بالنصف عليهما. وهو على الأول واضح لتغاير موضوع ما به يكون مدعيا لموضوع ما به يكون منكرا فإنه في الأول هو النصف الذي في يد صاحبه ، وفي الثاني هو النصف الآخر الذي في يده ، وتغاير الموضوع شرط في صدق العنوانين على واحد وعلى الثاني : فقد يتوهم الإشكال في صدقهما على كل منهما مع كون العين في يدهما ، فان موضوع ما يدعى ملكية جميعه ـ وهو العين ـ عين ما يدعيه الآخر ، فكيف يكون مدعى عليه فيما يكون فيه مدعيا ، إذ ليس هو إلا ملكية الجميع يدعيها كل منهما. الا أنه مدفوع بكفاية التغاير بالاعتبار في صدق العنوانين عليه ، إذ العين التي في يديهما مربوطة بهما بمقتضى اليد عليها ، فكل منهما بدعواه الاختصاص به يدعى على صاحبه خلاف

٣٨٨

ما تقتضيه يده من الربط به ، فكل من حيث الربط الحاصل له به باليد مدعى عليه ، وبالنسبة إلى الربط الحاصل للآخر بها مدع ، ضرورة أن مقصود كل منهما في دعواه انتزاع العين من يد الآخر ليستقل بها.

وبعبارة أخرى : اليد يدان : يد مستقلة ، ويد مزاحمة بمثلها ، ومفاد كل منهما غير مفاد الأخرى ، لأن مفاد الأولى هو الملكية المستقلة بمعنى استقلال مالكها بها ، ومفاد الثانية هو الملكية غير المستقلة ، فمفاد كل من اليدين هو الملكية ـ في الجملة الثابتة لكل منهما باليد ، فدعوى الاختصاص من كل منهما من حيث تعلقها بما يرجع إلى ملك الآخر ، ولو في الجملة سبب لكونه كان مدعيا على الآخر ، والآخر مدعى عليه وهذا القدر من التغاير كاف في صدق العنوانين على كل منهما.

وان أبيت عن ذلك ، فلنقرر المطلب بتقرير آخر ، وهو أن اليد وغيرها من الأمارات المعتبرة شرعا في الأحكام كخبر الواحد والإجماع المنقول مثلا ، أو في الموضوعات كالبينة واليد ونحوهما هي أمارات على مؤدياتها مفيدة لها دالة عليها عرفا ، غير أنها لما كانت ظنية غير علمية احتيج إلى إمضاء الشارع للعمل بدلالتها ، فالمجعول منه هو اعتبار الدلالة لا كونها دالة ، وحينئذ فاليد ان كانت مستقلة كانت دالة على الملكية المستقلة وان كانت مزاحمة بمثلها كانت دالة على النصف كذلك عرفا ، والشارع جعل كلا من اليدين معتبرة في مدلولهما العرفي من الكل مستقلا في الأول وبالنصف في الثاني. وان قلنا فيه بكون اليد على الكل أيضا بعد أن كان مفادها النصف عرفا ، فكل منهما مدعى عليه لمفاد يده. هذا ومرجعه في الحقيقة الى ما ذكرناه أولا ، ضرورة أن النصف المشاع مستقلا عين الكل لا بنحو الاستقلال ، فالملكية المتعلقة بالكل لا بنحو الاستقلال : ان تم نقصانها في الفرض من حيثيته الاستقلالية تولد منه كسر من الكسور التسعة

٣٨٩

وهو النصف مثلا ، فلا نقض في الفرض بالنسبة إلى الملكية وانما النقض بالنسبة إلى الاستقلال وعدمه.

وبما ذكرنا يظهر لك مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر) حيث قال : «وقد يناقش بعدم اندراجهما في القاعدة المزبورة إذ الفرض أن يد كل منهما على العين لا نصفها ، ضرورة عدم تعقل كونها على النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع في كل منهما وحينئذ فلا مدع ولا مدعى عليه منهما ، ضرورة تساويهما في ذلك ، الا أن الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما ، كما سمعته من النبوي المرسل فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة التي كان مقتضى يد كل منهما الكل ، ومنه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر ومدعى عليه في نصفه كي يتوجه التحالف ، بل المتوجه إلغاء حكم يد كل منهما بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه ، ويكون كما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها ولا بينة لكل منهما ، فان القضاء حينئذ بالحكم بكونها بينهما لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد ، إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر ، ضرورة عدم كونه مدعى عليه بعدم يد له على العين يراد رفعهما عنه ، فقول كل منهما : هي (لي) دعوى بلا مدعى عليه فلا يمين فيها فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع. أو يقال في الفرض باعتبار ثبوت اليد لكل منهما على العين مدعى عليه ، لو كان مدع خارج عنهما ، وإلا فلا يتصور كونه منهما بعد أن كان مع كل منهما عنوان المدعى عليه لمعلومية التباين بين المدعي والمدعى عليه ، ومن هنا كان التحالف إذا كان كل منهما مدعيا منكرا بمعنى أنه مدع لشي‌ء ومنكر لآخر كما هو ظاهر في النظر إلى أفراد ذلك. لا في

٣٩٠

مثل المقام الذي دعوى كل منهما الكل ، والفرض ان اليد لكل منهما فلا يكون مدع فيما هو مدعى عليه فيه.

اللهم الا أن يقال : ان اليمين هنا لترجيح أحد السببين كالترجيح بها لإحدى البينتين وان ترتب عليه كون العين للحالف منهما» (١) انتهى وانما ذكرنا كلامه بطوله لتقف على مواقع التأمل فيه وبذلك يظهر الوجه في إحلاف كل منهما للآخر إن أريد القضاء بالنصف عليهما قطعا للخصومة الواقعة بينهما ، لان كلا منهما مدعى عليه ويمينه يمين المنكر ، خلافا للمحكي عن (الخلاف) والغنية والكافي والإصباح وظاهر الشرائع في الحكم بالتنصيف من دون يمين ، بل عن الأولين : دعوى الإجماع عليه مؤيدا بظاهر النبوي المرسل : «ان رجلين تنازعا في دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي (ص) بينهما» إلا أنهما (٢) موهونان بالإرسال ، ومصير المعظم إلى الخلاف من لزوم التحالف ، مع كون المرسل ، وإجماع الغنية ليس فيهما الا عدم التعرض لليمين ، وهو أعم من عدمها ، فلا موجب لتخصيص ما دل على حصر القضاء بالميزان من البينة أو اليمين ، ثم ان حلفا أو نكلا مع الرد أو بدونه قضي بينهما وإلا فهو للحالف منهما.

هذا وقد يتوهم النقض بعدم اليمين في نظير المقام من التداعي في مسائل تعرضوا لها في الصلح :

منها : مسألة ما لو أودعه إنسان درهمين وآخر درهما وامتزج الجميع

__________________

(١) راجع ذلك في : كتاب القضاء النظر الرابع في أحكام الدعاوي المقصد الأول في دعوى الأملاك ، في شرح قول المحقق (مسائل : الأولى لو تنازعا عينا في يدهما ولا بينة).

(٢) أي النبوي ودعوى الإجماع : فالأول موهون بالإرسال ، والثاني بعدم تحققه.

٣٩١

ثم تلف درهم كان لصاحب الدرهمين درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم لخبر السكوني عن الصادق (ع) ، المنجبر بالعمل ، وفيه : «عن رجل استودعه رجل دينارين واستودعه آخر ، دينارا فضاع دينار منهما؟ فقال : يعطى صاحب الدينارين دينارا ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين» (١).

ومنها : ما لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين درهما ، ثم اشتبها ، فان خيّر أحدها صاحبه فقد أنصفه ، وان تعاسرا بيعا وقسم ثمنهما بينهما أخماسا : أعطي خمسان لصاحب العشرين وثلاثة أخماس لصاحب الثلاثين ، لخبر إسحاق بن عمار عن الصادق (ع) : «في الرجل ببضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب ، وآخر عشرين درهما في ثوب فبعث الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه؟ قال : يباع الثوبان ، فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن والآخر خمسا الثمن. قلت : فان صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين : اختر أيهما شئت؟ قال : قد أنصفه» (٢).

ومنها : ما لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما وقال الآخر : هما بيني وبينك ، كان لمدعيهما درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ، لمصححة عبد الله بن المغيرة : «عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) في رجلين كان معهما درهمان ، فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الآخر :

هما بيني وبينك؟ قال فقال أبو عبد الله (ع) : أما الذي قال هما بيني وبينك ، فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شي‌ء وأنه لصاحبه ، ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين» (٣).

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الصلح ، باب ١٢ حديث (١).

(٢) المصدر الآنف الذكر ، باب ١١ حديث (١).

(٣) المصدر الآنف الذكر باب ٩ ، حديث (١)

٣٩٢

ومثله مرسل محمد بن أبي حمزة (١) ولا يمين في هذه النصوص المنجبرة بالعمل الحاكمة بالقسمة المتقدمة. وان استقرب التحالف في الأخير في محكي (التذكرة) حيث قال : «الأقرب أنه لا بد من اليمين فيحلف كل واحد منهما على استحقاق نصف الآخر الذي تصادمت دعواهما فيه فمن نكمل منهما قضى به للآخر ولو نكلا معا أو حلفا معا قسم بينهما نصفين» (٢) واستحسنه في محكي (المسالك).

إلا أنه مدفوع : (أولا) بوضوح الفرق بين تلك الفروع ولا سيما الأولين منها ، وبين محل البحث المأخوذ فيه كون الدعوى من كل منهما بنحو البت ودوران الاحتمال في المدعى به بين كونه لهما بالإشاعة أو لكل منهما بالاستقلال المنتفيين في المسألة الأول والثانية قطعا ، لعدم الجزم بما يدعيه كل منهما بسبب الاشتباه وعدم احتمال الإشاعة في المشتبه منها لمعلومية كونه : إما له أو لصاحبه (وثانيا) بإمكان دعوى خروجهما عن عنوان التداعي بحصول الشركة الحكمية بالاشتباه الملحق بالمزج الحقيقي والعرفي في سببيته لها بناء على القول به ، لوجود المناط الموجب لها من عدم التمييز فأدت الضرورة إلى الحكم فيه أيضا بالشركة الحكمية دون الحقيقية التي هي بمعنى الإشاعة في الكل لبقاء كل من المالين على ملك مالكه على الأقوى ، وكانت الشركة بينهما على نسبة المال ، ولذا لو ابتاع بمجموع الدراهم الثلاثة سلعة كانت الشركة فيها أثلاثا ، لكن بالإشاعة لكونه معوضا عن مجموع الثمن الذي له فيه الثلث ، بخلاف ما لو اشتراها بواحدة منها فإن الشركة فيها على حد الشركة في ثمنها من الحكمية لقيام

__________________

(١) في المصدر الآنف ، أخر الحديث إشارة إلى المرسلة المذكورة.

(٢) آخر كتاب الصلح بعنوان : مسألة : لو كان في يد شخصين درهمان ، فادعاهما أحدهما وادعى الآخر واحدا منهما ..

٣٩٣

المثمن مقام الثمن في دوران الاشتباه بين كونه : إما له أو لصاحبه.

(لا يقال) ان مقتضى الشركة في مسألة الوديعة هو الحكم بالتثليث في القسمة بينهما دون التنصيف الذي حكم به الخبر الوارد فيها بتنصيف الدرهم بينهما فيعطى لصاحب الدرهمين درهم ونصف وللآخر نصف درهم فيرجع إلى التربيع في الإنصاف الأربعة من الدرهمين الموجودين دون التثليث فيهما الموجب لتخريج الخبر مخرج الصلح القهري تعبدا (لأنا نقول) مقتضى الشركة الحكمية التي هي لا بنحو الإشاعة في قسمتها بعد تلف البعض : هو ما حكم به الخبر من تنصيف المردد المشتبه بينهما لو كانت الشركة بين اثنين فتكون الرواية جارية على القاعدة في قسمة أمثالها ، لا على خلافها تعبدا.

ضرورة أن القسمة انما ترد على المشتبه المردد بينهما ، دون ما هو معلوم لواحد منهما بعد أن كان معنى التقسيم هو إعطاء كل ذي حق حقه من المال فيعطى لصاحب الأكثر ما هو له على التقديرين ، سواء كان التالف منه أو من الآخر كصاحب الدرهمين المعلوم كون الواحد منهما له على كل حال ، فلا قسمة فيه ، وانما القسمة في الواحد المردد بينهما ، ومقتضى الشركة فيه بين الاثنين تنصيفه بينهما ويكون التلف منهما بقدر ما لو ضم إلى ماله من الموجود كان طبقا لما كان له قبل التلف فيكون حكم التالف في التوزيع حكم الموجود في القسمة من التعلق بالقدر المردد بينهما بحيث لو كان التالف مضمونا ، كما لو كان المزج بتعد منه ، كانت القسمة في بدله على نسبة القسمة في الموجود المردد.

توضيح ذلك : ان خلط المالين المتماثلين بحيث يرتفع التمييز بالاشتباه لا يخلو : أما أن يختلفا في القدر أو يتساويا فيه. وعلى التقديرين : فاما أن تكون الشركة الحكمية بين اثنين أو أكثر والحكم في جميع صورها : هو ما ذكرنا : من قضاء الضرورة إعطاء حكم الشركة في الجميع قبل

٣٩٤

التلف على نسبة السهام فيه ، للاشتباه الدائر في الكل الموجب لتعذر التعيين ووقوع قسمة الموجود منه بعد التلف على المردد المشتبه بين الشركاء على نسبة عددهم : من التنصيف بين الاثنين والتثليث بين الثلث وهكذا دون القدر المعلوم لأحدهم ، وتوزيع التالف منه عليهم كذلك بالنسبة بحيث لو ضم إلى ما أعطى له كان طبقا لما كان له قبل التلف.

ولنزد توضيح ذلك بالمثال : كما لو كان لواحد درهم والآخر تسعة دراهم ، فاختلطا وتلف واحد منها أعطي ثمانية منها لصاحب التسعة باليقين ونصف من الواحد الموجود المردد بالشركة ، والنصف الآخر لصاحب الدرهم والتالف بالتوزيع بينهما كذلك ، فلو كان التالف في المثال درهمين كان لصاحب التسعة سبعة دراهم باليقين ، وعليه من التالف واحد كذلك وله نصف من الواحد المردد بالشركة ، فلو ضم الى ماله من الموجود ما تلف منه باليقين وبالتوزيع كان طبقا لما كان له قبل التلف وكذا بالنسبة إلى صاحب الدرهم أو ضم ما تلف منه من النصف بالترديد إلى ما أعطي له من الموجود كذلك كان طبقا لما كان له من الدرهم قبل التلف وكذا لو كان لأحدهما ثمانية دراهم وللآخر درهمان وتلف منها أربعة دراهم ، كان لصاحب الثمانية أربعة من الموجود باليقين وواحد منه بالقسمة للترديد ومن التالف اثنان باليقين وواحد بالتوزيع للترديد ، وكان لصاحب الدرهمين درهم من الموجود بالقسمة للترديد ، ومن التالف واحد كذلك ، فلو ضم التالف من كل منهما الى ماله من الموجود كان طبقا لما كان له قبل التلف ولو تساويا في قدر المال فيقسم الموجود بينهما بالسوية ، ويوزع التالف عليهما كذلك. ولو كان الشركاء أكثر من اثنين فبالنسبة إلى عددهم في قسمة الموجود بينهم وتوزيع التالف عليهم بالتثليث أو التربيع أو التخميس ، وهكذا. والقسمة في الثوبين المشتبهين تقع في ماليتهما على نسبة ملك الثمنين فتحصص أخماسا

٣٩٥

ويعطى لصاحب العشرين خمسان ، ولصاحب الثلاثين ثلاثة أخماس بموجب الشركة الحكمية في نفس الثوبين ، غير أن القسمة لما كانت متعذرة في عينيهما كانت في ثمنيهما. وبما ذكرنا اتضح لك عدم منافاة القسمة في فرض الدرهم المردد بينهما للعلم الإجمالي في كونه لأحدهما حتى يقال بكونه من الصلح القهري تعبدا.

وأما النقض بالمسألة الثالثة ، فقد يدفع بأن النص ، وان كان السؤال فيه ظاهرا في كون نسبتهما إليه بنحو الإشاعة. إلا أنه يجب صرفه عن ظاهره بإرادة اختصاص التداعي في واحد منهما بقرينة جواب الامام ، الظاهر في إرادة الواحد بالعدد الموجب لكون الواحد المتنازع فيه مرددا بين كونه : إما له أو لصاحبه ، وحينئذ فيخرج عن محل البحث المفروض فيه قيام احتمال كون ما في يديهما لهما بنحو الإشاعة أيضا ، فلا يصلح النقض به. مع أن العلم الإجمالي حينئذ باختصاص ما اختص التداعي به بأحدهما يوجب سقوط اليد من الجانبين لسقوط إحداهما بالعلم الإجمالي بأنها ليست مالكية ، والأخرى بسقوط ظهورها في تعيين صاحبها بالنسبة إلى الآخر فيكون حكمها حكم ما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها : من القضاء فيه بالحلف بعد القرعة ـ كما ستعرف ـ فالحكم فيه بالتنصيف من دون يمين مع أنه لم يصلح نقضا مخالفا للقاعدة أيضا.

اللهم الا أن يمنع وجوب صرف السؤال عن ظاهره بتقريب أن يقال : ان قوله في السؤال : (هما بيني وبينك) إما مجمل من حيث ارادة كون النسبة إليهما بنحو الإشاعة فيهما أو إرادة الواحد منهما ، واما الأعم منهما الشامل لهما ، وقوله في الجواب (فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شي‌ء) وان كان ظاهرا في إرادة الواحد بالعدد دون الملفق من النصفين المساوي للواحد المعبر عنه به أيضا ، الا أن ذلك لم يكن مما

٣٩٦

أقر به بقوله (هما بيني وبينك) لظهوره في الوحدة التلفيقية أو إجماله بينها وبين الوحدة العددية ، فلا تكون خصوص العددية مقرا بها ، فيصرف ظهور الجواب الى ما يرجع الى ظاهر السؤال : من كونه بينهما بالإشاعة وحينئذ فيكون داخلا في محل البحث من احتمال كون العين لهما بنحو الإشاعة فيصلح النقض به للحكم في محل البحث لعدم ذكر اليمين فيه.

توضيح ذلك : أن الواحد إذا لوحظ بلحاظ الكسور كان مرادفا لما يساويه منها ، ضرورة أن الواحد ينطبق على النصفين وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع ، وهكذا الى عشرة أعشار ، كما أن عشرين عشرا ينطبق على الاثنين وكذا عشرة أخماس وثمانية أرباع وستة أثلاث وأربعة أنصاف ينطبق عليه أيضا ، فيقوم كل من اللفظين مقام الآخر في التعبير ، فيقال : واحد ونصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع ، وانما التغاير بالاعتبار.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : قوله في السؤال (هما بيني وبينك) من غير تقييد بالتفاضل الظاهر في التساوي ينحل بعبارة أخرى إلى قوله (نصفهما لي ونصفهما لك) وله مصداقان : أحدهما الواحد بالعدد ، والآخر بالتلفيق من نصفين ، وهو : اما مجمل بينهما أو ظاهر في الوحدة التلفيقية فكيف يكون ما أقر به هو الوحدة العددية فيصرف بقرينة الإقرار إلى إرادة الوحدة من حيث النتيجة المنطبقة على كل منهما. مضافا الى لزوم مخالفة الرواية للقاعدة إن اختص التداعي فيها بالواحد بالعدد ، لما عرفت من سقوط اليدين وإرجاع حكمه الى ما لو لم تكن يد عليها من القرعة والحلف بعدها ـ كما ستعرف ـ فلا مناص عن الحمل على اختصاص التداعي بواحد منهما ، الصادق معه أيضا باعتبار المجموع قوله : هما بيني وبينك ، مع احتمال الإشاعة أيضا بتثليث الاحتمالات فيه بكونه : إما له أو لصاحبه أو لهما معا مع كونه في يديهما ، فيكون من محل البحث.

٣٩٧

إلا أن النقض به ليس الا من جهة عدم ذكر اليمين فيه مع الحكم بالتنصيف ، وهو لا ظهور له في العدم بحيث يخصص ما دل على القضاء باليمين ، ولعل الترك للايكال الى ما يقتضيه ميزان القضاء من حصره بالبينة واليمين.

(القسم الثاني) : لو كانت لأحدهما بينة دون الآخر ، قضي بها لصاحب البينة ، لعموم ما دل على حجيتها ، ولا يمين عليه بناء على أن يمين المنكر للإرفاق لا للوظيفة. ولو قلنا بالثاني وأنه يختص حجته بها لزم ضم اليمين إليها بناء على ما عليه المشهور : من أن اليد المشتركة انما هي على النصف ، فالقضاء بالجميع له يتوقف على اعمال الوظيفتين.

اللهم الا أن يدعى كون الترجيح بالداخل أو الخارج انما هو لضرورة التعارض المفقود مع وحدة البينة الموجبة للعمل بمؤداها. ولعله الوجه في إطلاق من أطلق القضاء بجميعها لذي البينة من دون تقييد باليمين معها مع تصريح أكثرهم في صورة التعارض بترجيح بينة الخارج.

(القسم الثالث) : لو كانت لكل واحد منهما بينة على ما يدعيه قضي بها لهما بالسوية مطلقا أو بعد التحالف من دون ملاحظة الترجيح هنا كما عن المشهور ، ولعله عندهم لاختلاف محلهما وموضع اعتبارهما فلا ينفك عن الترجيح : اما بتقديم بينة الخارج أو الداخل ، فبينة كل منهما انما تثبت ما تحت يد الآخر على الأول أو ما تحت يده على الثاني ، فالمثبت بإحداهما غير المثبت بالأخرى ، ومعه لا يرجع الى المرجحات الخارجية من الأعدلية والأكثرية. وهو حسن بناء على أن يد كل منهما على النصف ويشكل بناء على ما هو الأقوى : من كون يد كل منهما على الكل لتساويهما في الدخول ، فلا ترجيح من حيث الداخلية أو الخارجية.

وبالجملة : لا كلام في الحكم بالتنصيف ، وانما الكلام في وجه

٣٩٨

ذلك مع اقتضاء بينة كل واحد منهما اختصاص العين به ، فبين قائل يتساقط البينتين ورجوع الفرض بعده إلى الصورة الأولى ، الا أنه لا ينبغي حينئذ اختصاص ذلك بصورة التساوي ، ومع الترجيح بإحدى المرجحات الآتية في الصور الباقية ينبغي العمل بالراجح ، لأن التساقط فرع التكافؤ والتساوي بينهما ، وبين قائل بترجيح بينة الخارج بالوظيفة لأن يد كل منهما على النصف فيقضى لكل منهما بما في يد غريمه ، وقائل بترجيح بينة الداخل باليد فيقضى له بما في يده الموجب للتنصيف على التقديرين وان اختلفا في الاعتبار.

وتظهر الثمرة بينهما وبين الوجه الأول في كون التنصيف انما هو بعد التحالف على الأول ، وبدونه على الأخيرين ، لأن المأخوذ فيهما انما هو مأخوذ بالبينة التي لا معنى لليمين معها.

فمن الغريب ما ذهب إليه في (التحرير) : من لزوم التحالف مع بنائه على ترجيح بينة الخارج حيث قال هنا بعد الحكم بالتنصيف والقضاء لكل منهما بما في يد غريمه تقديما لبينة الخارج ما لفظه : «وهل يحلف كل واحد على النصف المحكوم به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأول مع احتمال الثاني» وكذا في (التنقيح) حيث فرع على الحكم بالتنصيف : أما لتقديم بينة الخارج أو الداخل بقوله : «فيكون بينهما نصفين على التقديرين سواء أقاما بينة أو لم يقيما بينة ويكون لكل منهما اليمين على صاحبه فان حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدم ، وان حلف أحدهما ونكل الآخر قضى بها للحالف» انتهى.

ولم أروجها لذلك الا التشبث بخبر إسحاق بن عمار : «عن أبي عبد الله عليه السلام ، أن رجلين اختصما الى أمير المؤمنين (ع) في دابة في أيديهما وأقام كل واحد منهما البينة : أنها نتجت عنده ، فأحلفهما علي (ع) فحلف

٣٩٩

أحدهما وأبى الآخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف ، فقيل له ، فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما به البينة؟ فقال : أحلفهما فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين» (١) الخبر وهو كما يحتمل ذلك تعبدا كذلك يحتمل ابتناءه على التساقط الموجب للتحالف ـ كما عرفت.

(الصورة الثانية) : ما إذا كانت العين بيد أحدهما وادعاها كل منهما ، وهي بهذا القيد تندرج في عنوان التداعي ، والا فمجرد إنكار ذي اليد لما يدعى عليه وتكذيبه فيما يدعيه قائلاً في جواب قوله (هو لي) أنه (ليس لك) لا يكون الا مدعى عليه وخارجا عن عنوان التداعي ، بل هو من قسم المدعي والمدعى عليه ـ فقط ـ ولعل من لم يعتبر بينة المنكر يريد من كان منكرا بهذا المعنى لأنها إن شهدت بما يوافق جواب المنكر كانت غير مسموعة ، لأنها نافية ، وان شهدت بأنها له كانت غير مطابقة لجوابه : وهو ان تم خلاف ظاهر ما عليه الأصحاب في معنى المنكر المنطبق عليه تعاريفهم : من موافقة قوله الأصل أو الظاهر ، ومن لو ترك لم يترك الصادق على ذي اليد مطلقا وان قال في جواب مدعيه : هو لي ، كما يظهر من كلامهم في ترجيح بينة الداخل أو الخارج وغيره.

وكيف كان : فهذه الصورة أيضا تنقسم إلى أقسام ثلاثة ، لأنها : اما أن لا تكون لهما بينة أصلا ، أو كانت لأحدهما ، أو لهما معا.

أما الأول : فيقضى بها لذي اليد بعد يمينه.

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء ، باب ١٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، حديث (٢). وتكملة الحديث هكذا : «قيل : فان كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة قال : أقضي بها للحالف الذي هي في يده».

٤٠٠