بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ثم الظاهر منها إرادة فعلية النبت لا أهلية الإنبات. فلو منع عنه مانع لمرض ونحوه لم تنشر الحرمة مع احتماله ، وهو الأحوط ، كما أن الظاهر أيضا كونه الأصل في التقدير ، والأخيران معتبران من باب الامارة عليه كما يعطيه صريح بعضها.

وعليه ، فلو علم بتخلف الأثر عن التقديرين الآخرين ، فلا نشر للحرمة ، وتنشر لو تخلفا عنه بأن حصل ، ولما يكمل العدد أو الزمان فيكونان مرجعين ما لم يحرز عدمه ، خلافا لجماعة فاعتبروها أصولا وأسبابا متعددة للتحريم بحيث لو انفرد كل منها عن أخويه نشرت الحرمة ، والآخرين فاعتبروا العدد أصلا ، وظاهر النصوص هو الأول.

هذا وربما يقال : ان التقدير بالأثر إنما يناسب القول بكفاية الرضعة الواحدة ، بل المسمى ، لما هو مسلم عند الأطباء : من فعل الطبيعة في الغذاء بعد وروده في المعدة ، فإنه يطبخ فيها وينجذب صفوه بتوسط العروق الماساريقا الى الكبد ، وتبقى فضلته في قعر المعدة ، ثم ينضج في الكبد وتطبخه طبخا ثانيا ، فننوعه إلى أربعة أنواع ، تعلوها رغوة صافية متلونة بالصفرة ، سميت صفراء ، وعاؤها المرارة ، ورسوبها السوداء متلون بالسوداء المشوب بالخضرة ، وعاؤه الطحال وما بينهما ، لا بمرتبة الرغوة في الصفرة ولا بمرتبة السوداء في الرسوب ، هو الدم والبلغم ، فما رق منه وتم نضجه تلون بالحمرة ، وهو الدم ، وما لم يتم هو البلغم ولا وعاء لهما فينشر الدم مصاحبا للبلغم إلى أعضاء البدن ، فيتخلف بدلا عما تحلل من البدن ، فان انقطع المدد عن الدم من الغذاء مدة بحيث لا يمكن استحالته بدلا عما تحلل ، تخلف البلغم حينئذ عن الدم بعد تلونه بلونه في التحليل الى ما يكون بدلا عما تحلل ، حتى يأتيه المدد ، فالدم الحاصل من الغذاء ـ وان قلّ ـ هو الناشر الى البدن ويأخذ كل ذي قسط قسطه ، ويكون بدلا لما

١٦١

تحلل منه ، فيحصل النمو به لكل جزء من اجزاء البدن. وأين ذلك من اعتبار العدد أو الزمان بعد حصول الأثر بالرضعة الواحدة ، بل بالأقل منها.

وفيه : ان المعتبر ليس مطلق النمو ، بل النمو الخاص ، وهو ما زاد على المسمى بما يدرك بالحس ، ولو لأهل الخبرة موازيا لما يحصل بالعدد أو الزمان ، إذ ليس موضوع الحكم هنا إلا كسائر موضوعات الأحكام الشرعية المبتنية على الصدق العرفي دون المداقة الفلسفية.

ولو سلم فلا يعلم حصوله مع احتمال فساده في مرتبة من المراتب المتقدمة بحيث يمنع عن الاستحالة الى ما يكون بدلا عما يتحمل من البدن وأصالة السلامة لا يثبت بها النمو الذي هو شرط التحريم.

هذا والمرجع في تحققه هو أهل الخبرة ، والأقوى انه يعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة من العدد والعدالة ، لاعتبار العلم بذلك ، أو ما يقوم مقامه. ولا يكفي الواحد ، وان كان عدلا أفاد الظن ، لعدم الدليل على الاكتفاء به.

ولشيخنا في (الجواهر) طريق آخر للعلم بتحققه معترف بانفراده به حيث قال فيه : «وللعلم بالأثر طريقان : أحدهما الرجوع إلى قول أهل الخبرة ـ إلى أن قال ـ وثانيهما أن يتحقق الرضاع مدة طويلة كشهرين أو ثلاثة ـ مثلا ـ مع اختلال شرط الزمان والعدد ، كما إذا كانت الرضعات ناقصة واشترطنا الكمال في المدة كالعدد أو تحقق الفصل في المدة قبل إكمال العدة ، وقلنا : بعدم اشتراط التوالي في النشر بالأثر ، فيحكم بالتحريم بهذا الطريق ، لأن العادة قاضية باستقلاله ـ مثلا ـ في إنبات اللحم وشد العظم وان لم يرجع فيه الى أهل الخبرة ، وهذا القسم وان

١٦٢

لم يصرحوا به الا انه داخل فيما قالوه» (١) انتهى.

وحاصله ـ بتوضيح منا ـ حصول العلم العادي بالنمو البالغ حد الأثر المعتبر شرعا بالرضعات الواقعة في المدة الطويلة بعد ضم ما حصل من اللواحق الى السوابق ، وان كان الحاصل من كل منها بنفسه لا يجدي في المقدار ، الا أن الحاصل من المجموع يبلغ الحد المعتبر ، وان تخلل بين النموات الحاصلة من الرضعات نموات حاصلة من غيرها ، لعدم اعتبار التوالي في التقدير بالأثر.

وفيه : ان ذلك انما يتم بعد إحراز مقدمتين : حدوث النمو بكل من الرضعات لينضم بعضه إلى بعض ، وهو ممنوع لاحتمال فساده في مرتبة من مراتب الطبخ ، والنضج في المعدة أو في الكبد أو في النشر الى حيث ينتهي إلى نمو البدن منه ، وقد عرفت أن أصالة الصحة لا تثبت النمو ودوامه بعد فرض حصوله الى أن يبلغ المجموع القدر المعتبر ، وهو ممنوع أيضا ، لأن البدن يتحلل منه ويتخلف بدله وأصالة البقاء ـ مع أنه ضعف في ضعف ـ لا يثبت تحقق عنوان الشرط المعتبر في الأثر ، ولعله لذا لم يجعلوه طريقا للعلم به ، كما اعترف به هو ـ رحمه الله.

وأما الثاني (٢) فهو التقدير بالزمان ، وهو رضاع يوم وليلة بحيث يرتضع كلما يحتاج إليه الصبي حتى يرتوي ، ويصدر بنفسه ، تنزيلا للرضعة والرضاع في الأخبار على المتعارف ، وقوله (ع) : في مرسلة ابن أبي عمير :

__________________

(١) قال ـ قدس سره ـ في كتاب النكاح في عرض كلامه عن شروط الرضاع المحرم تحت عنوان الشرط الثاني ـ الكمية ـ : «وكيف كان ، فللعلم بالأثر طريقان ..».

(٢) أى من شروط المرتضع ، فالشرط الأول ـ كما مر آنفا ـ هو المشار إليه بقوله : أن يكون سنه دون الحولين ..

١٦٣

«الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يتملى ويتضلع وينتهي بنفسه» (١) كخبر ابن أبي يعفور : «سألته عما يحرم من الرضاع؟ قال : إذا رضع حتى يمتلى‌ء بطنه فان ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرّم» (٢) بناء على اعتباره كذلك في الكشف بالعدد أو الزمان عن الأثر ، ولو تعبدا ، والا فلو تحقق الأثر بغيرهما كفى في التحريم.

ويدل على التحريم بهذا التقدير ـ بعد الإجماع المستفيض نقله ، المعتضد بدعوى الاتفاق عليه من غير واحد ـ موثقة زياد بن سوقة : «قلت لأبي جعفر عليه السلام : هل للرضاع حد يؤخذ به؟ قال : لا يحرّم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرها ، فلو ان امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات ، لم يحرم نكاحهما» (٣) وضعف السند ـ مع أن الموثقة حجة ـ مجبور بعمل الطائفة بها فيه (٤) وان عورض في العدد بروايات أخر ـ وما عن (المقنع) : انه «سئل الصادق عليه السلام : هل لذلك حد؟ فقال : لا يحرم من الرضاع الإرضاع يوم وليلة أو خمس عشرة

__________________

(١) الوسائل ، كتاب النكاح باب ٤ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث (٢).

(٢) المصدر نفسه حديث رقم (١).

(٣) المصدر نفسه باب ٢ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث رقم (١).

(٤) أي بالموثقة في التقدير بالزمان.

١٦٤

رضعة متواليات لا يفصل بينهن» (١).

والظاهر انها رواية أخرى ، وإرسالها مجبور بما عرفت.

ولا يعارضه تحديد المدة بثلاثة أيام متواليات كما عن (الفقه) المنسوب إلى الرضا عليه السلام : «والحد الذي يحرّم به الرضاع مما عليه عمل العصابة ، دون كل ما روي ، فإنه مختلف : ما أنبت اللحم وقوى العظم وهو رضاع ثلاثة أيام متواليات أو عشر رضعات متواليات محررات مرويات بلبن الفحل» وبخمسة عشر يوما في مرسلة الصدوق ـ المحكية عن (هدايته) : «أنه سئل الصادق عليه السلام : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟ «ولا يحرم من الرضاع الإرضاع خمسة عشر يوما ولياليهن وليس بينهن رضاع» (١) لإعراض الأصحاب عنهما ، وتطرق الموهنات عليهما مع احتمال قطع الحديث على النسب في الثاني ، فيكون الباقي فتوى منه ، ولا موافق له عليه حينئذ.

ولا التحديد بسنة في صحيح علاء بن رزين عن الصادق (ع) : «سألته عن الرضاع ، فقال : لا يحرّم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة» (٢) وان صح سنده الا أنه متروك العمل به معرض عنه ، مع اشتماله على اعتبار وحدة الثدي المعلوم عدمه ، الا أن يكون كناية عن وحدة المرضعة ، فيجب طرحه ، أو تصحيفه بالضم والتشديد أو بالكسر مع الإضافة إلى ضمير الارتضاع : على أن المراد في الحولين اللذين هما سن الرضاع والسنة فيه ، فيوافق خبر الحلبي عن الصادق (ع) :

__________________

(١) وأول عبارة (المقنع للصدوق) هكذا : «ولا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشدّ العظم» راجع : آخر كتاب النكاح منه. ومثله في الوسائل في باب ١ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(٢) المصدر نفسه من الوسائل حديث رقم (١٥).

(٣) المصدر نفسه من الوسائل حديث رقم (١٣).

١٦٥

«لا يحرم من الرضاع الا ما كان حولين كاملين» (١) وخبر عبيد بن زرارة أو زرارة عنه (ع) أيضا : «سألته عن الرضاع؟ فقال : لا يحرم من الرضاع الا ما ارتضعنا من ثدي واحد حولين كاملين» (٢) بناء على إرادة حولي المرتضع المعتبر فيهما وقوع الرضاع ، ولا فرق في اليوم أو الليلة بين الطويل منهما والقصير ـ لانجباره ابدا بالآخر ـ كيف ولو اعتبر التساوي بينهما وجب حمل الآخر على يومي الاعتدال ، وما يقرب منهما في السنة ، وهو ـ مع بعده ـ ينافي كونه علامة. نعم في الاكتفاء بالتلفيق ـ لو وقع في أثناء أحدهما لحصول المعنى أو وجوب الاحتساب من أولهما للأصل مع الاقتصار على المتيقن في الخروج عنه ـ قولان : اختار ثانيهما جدنا في (الرياض) تبعا لجماعة ، ولعل الأول هو الأقوى والأقرب الى اعتبار العدد في كونهما علامتين للأثر.

وأما الثالث : (٣) وهو التقدير بالعدد ، فقد اختلفت كلمات الفقهاء بعد شذوذ القول بكفاية الرضعة للواحدة كما عرفت ، مع أن الواحد ليس من العدد ، وان تألفت منه الاعداد ، على قولين :

بين قائل بالعشر ونسب ذلك إلى مشهور القدماء منهم : المفيد وابن أبي عقيل والمرتضى وسلار وابن البراج وأبي الصلاح وابن حمزة ـ على ما حكى عنهم ـ وهو المحكى عن المختلف والإيضاح ، واستقر به في اللمعة ، وهو أحد قولي ابن إدريس حيث قال : في أول النكاح من السرائر : «المحرّم عشر رضعات متواليات في الصحيح من المذهب ، وذهب بعض

__________________

(١) المصدر نفسه باب ٥ حديث (١٠).

(٢) المصدر نفسه باب ٥ حديث رقم (٨).

(٣) وهو الثالث من شروط المرتضع ، وهي الأثر ، والزمان ، والعدد : المشار اليه ـ الآن ـ

١٦٦

أصحابنا الى خمس عشرة رضعة ، معتمدا على خبر واحد ، ورواية عمار بن موسى الساباطي ، وهو فطحي المذهب مخالف للحق ، مع أنا قد قدمنا أن أخبار الآحاد لا يعمل بها ولو رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته وشيخنا المفيد ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي والأول هو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب» (١) وان قال ـ في أول باب الرضاع ـ : «الذي يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم على ما قدمناه ، فان علم ذلك ، والا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة على الأظهر من الأقوال ، وقد حكينا الخلاف فيما مضى إلا أنا اخترنا هناك التحريم بعشر رضعات ، وقويناه ، والذي أفتى به وأعمل عليه الخمس عشرة رضعة لأن العموم قد خصصه جميع أصحابنا المحصلين والأصل الإباحة والتحريم طارئ ، فالإجماع من الكل يحرم بخمس عشرة رضعة ، فالتمسك بالإجماع أولى وأظهر فان الحق أحق أن يتبع» انتهى. وهذا منه يدل على اضطرابه في المسألة :

وبين قائل بالخمس عشرة ، وهو خيرة الشيخ والعلامة في التذكرة والإرشاد والتبصرة والتلخيص ، وظاهر القواعد والتحرير والشرائع ، بل اختلفت كلماتهم في الأشهر من القولين : فعن المختلف والمقتصر ، وغاية المرام ونهاية السيد : ان العشر هو قول الأكثر ، وفي (الروضة) نسبته إلى المعظم ، وعن التذكرة وزبدة البيان ، والمفاتيح : أن المشهور هو الخمس

__________________

(١) فإنه قال : «ومن شروط تحريم الرضاع أن يكون ما ينبت اللحم ويشد العظم ، فان لم يحصل ذلك فيوما وليلة أو عشر رضعات» ـ هكذا أول العبارة ، وتكملتها : «لأن الرضاع يتناول القليل والكثير فالإجماع حاصل على العشرة وتخصيصها ، ولأن بعض أصحابنا يحرم بالقليل من الرضاع والكثير ويتعلق بالعموم ، فالأظهر ما اخترنا».

١٦٧

عشرة : وعزاه في (كنز العرفان) إلى الأكثر ، وفي (كنز الفوائد) إلى عامة المتأخرين ، وفي المسالك : إلى أكثرهم ، قال : «وأكثر القدماء على القول بالعشر» ودفع بذلك للتنافي بين كلامي العلامة في المختلف والتذكرة.

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار في ذلك : فمن ذهب إلى العشر استدل ـ بعد العمومات ـ بروايات منها : رواية فضيل بن يسار : «عن الباقر عليه السلام قال : لا يحرم من الرضاع الا المخبور ، قلت : وما المخبور؟ قال أم تربي أو ضئر تستأجر أو أمة تشترى ، ثم ترضع عشر رضعات يروى الصبي وينام» (١) ومنها : الموثق عن عمر بن يزيد قال : «سألت الصادق عليه السلام عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين؟ فقال : لا يحرم ، فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات ، قال إذا كانت متفرقة فلا» (٢) ومنها خبر هارون بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام : «لا يحرّم من الرضاع الا ما شد العظم وأنبت اللحم فأما الرضعة والرضعتان والثلاث حتى بلغ عشرا إذا كن متفرقات فلا بأس» (٣) ومنها خبر عبيد ابن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «سألته عن الرضاع ما ادنى ما يحرّم منه؟ قال : ما أنبت اللحم والدم ـ ثم قال ـ ترى واحدة ينبته؟ فقال : لا ، فقلت : اثنتان ـ أصلحك الله ـ فقال : لا ، قال :

__________________

(١) الوسائل ، كتاب النكاح باب ٢ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث رقم (١١) باختلاف بسيط في بعض كلمات الحديث.

(٢) المصدر الآنف ذكره حديث رقم (٥)

(٣) المصدر الآنف الذكر حديثان : رقم ٩ و ١٩ منه ، وفي كل منهما هارون عن مسعدة بن زياد العبدي.

١٦٨

فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات» (١) وعنها خبره الآخر ـ أيضا في حديث ـ الى أن قال : «فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم ، فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : كان يقال عشر رضعات ، قلت : فهل يحرم عشر رضعات؟ فقال : دع ذا ، ما يحرّم من النسب فهو يحرّم من الرضاع» (٢).

ومن ذهب الى الخمس عشرة استدل بروايات : منها موثقة ابن سوقة المتقدمة. ومنها موثقة عبيد بن زرارة «عن أبي عبد الله عليه السلام : قال سمعته يقول : عشر رضعات لا يحرّمن شيئا» (٣) ونحوه خبر ابن بكير عنه أيضا (٤) ومنها : صحيحة علي بن رئاب عنه أيضا : «قال : قلت : ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشد العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال : لا ، لأنه لا ينبت اللحم ، ولا يشد العظم عشر رضعات» (٥) ومنها مرسلة (المقنع) المتقدمة في التقدير بالزمان.

والأحسن في الجمع بين أخبار القولين ـ مع معارضتها ببعضها الدال على العشر بالمفهوم الذي لا يقاوم المنطوق في المعارضة والحصر في رواية فضيل المعلوم عدم اختصاص التحريم بما فيها مع اشتمال سنده على محمد بن سنان المجروح عند الأكثر ، والتعليل بعدم الإنبات بالعشرة في صحيحة ابن رئاب ، الموجب لتقديم الخبر المعلل على غيره ، مع أقوائية سنده.

__________________

(١) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (٢١).

(٢) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (١٨).

(٣) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (٣).

(٤) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (٤).

(٥) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (٢).

١٦٩

حمل أخبار العشر على التقية ، كما يشعر به ، بل يومئ اليه نسبته إلى قائل في قوله : «كان يقال» في خبر عبيد بن زرارة ، سيما قوله فيه : «دع ذا» والجواب بما لا يطابق سؤاله ، وليس إلا الاعراض عن بيان عدم النشر بالعشر ، بذكر جملة أخرى على التقية ، فإذا بطل النشر بالعشر انحصر العدد المحرم بخمس عشرة ، إذ لا قائل بالتحريم فيما بينهما من العدد ، والخمسة عشر مع دلالة النص عليه إجماعي ، بل لا خلاف في التحريم به.

ثم انه يعتبر في العدد : التوالي ، بمعنى عدم تخلل رضعة من امرأة أخرى ، إجماعا ، وللموثقة المتقدمة المصرحة به ، وبتفسيره ، وبذلك فلا يقدح تخلل غيرها من المأكول وغيره للأصل ، ولتفسيره في النص بما عرفت.

وفي اختصاص القدح بتخلل الكاملة منها ، لوحدة المراد منها ومن الرضعة المعتبرة في العدد بحسب السياق بعد تنزيلها على التعارف ، أو يعمها والناقصة أيضا ، فيقدح تخلل مسماها لنفي الطبيعة الموجب لنفي جميع أفرادها ، ولعله الأقوى.

وجهان : بل قولان. وهو معتبر أيضا في التقدير بالزمان ، لكن بمعنى عدم تخلل مطلق المأكول والمشروب ، رضاعا كان أو غيره في المدة المضروبة حدا لا للتقييد به في الموثقة ، والا ، لا اختص القدح بما فسر به مع ظهور تخصيص التقييد به بالجملة الأخيرة ، بل لأن ذلك مقتضى انطباق الرضاع في المدة المزبورة.

وتقييده بامرأة واحدة من لبن فحل واحد :

توضيحه : أن القدر المحرم ـ أياما كان من التقديرات الثلاث ـ يعتبر فيه ـ بالنص والإجماع ـ اتحاد الفحل والمرضعة معا ، فلو تلفق العدد ـ مثلا ـ من مرضعتين ، بطل الاحتساب ، وان اتحد الفحل ، كما لو

١٧٠

ارتضع ما دون العدد من مرضعة ، وارتضع المكمل كذلك من غيرها ، لم تنشر الحرمة ، وان اتحد الفحل ، لعدم صيرورته بذلك أبا ، ولا المرضعات أمهات لانتفاء الشرط الموجب لانتفاء المشروط ، بخلاف ما لو ارتضع من واحدة تمام القدر من لبن فحل ، ومن أخرى دونه من ذلك اللبن أيضا ، تحققت الأبوة للفحل ، والأمومة للأولى ، لوجود شرط التحريم ، ولم يتحقق الأمومة للثانية ، لفقد الشرط. وان حرمت على المرتضع لو كان ذكرا لا لكونها أمه ، بل لكونها منكوحة أبيه.

وبالجملة : رضاع القدر المحرم لا بد أن يكون من مرضعة واحدة. وحيث يتحقق ذلك في العدد ، وان تخلل المأكول فيه ما لم يتخلل الرضاع في أثنائه ، احتيج إلى قيد التوالي بهذا المعنى فيه ، ولا يتحقق ذلك في الزمان مع تخلل الغذاء مطلقا ، لعدم انطباق الرضاع معه على تمام المدة ، الذي معناه أن يرتضع كل ما يحتاج إليه من لبن امرأة واحدة ، فإن يكن بغير اللبن لم يكن رضاعا ، وان كان منه بالرضاع أجنبية ، لم يكن من امرأة واحدة فقوله : «رضاع يوم وليلة من امرأة واحدة» يعطى منافاة التخلل مطلقا ولذا قال جدي (رحمه الله) في (الرياض) : «وان لا يفصل بين الرضعات برضاع غير المرضعة والمأكول والمشروب في الزمانية خاصة دون العددية فيمنع فيها الفصل برضاع غير المرضعة خاصة» (١) انتهى.

وما أبعد ما بينه وبين القول بعدم اعتبار التوالي أصلا ، حتى الرضعة والرضعتين في التقدير بالمدة ، لصدق رضاع يوم وليلة عرفا مع التخلل المذكور ، فضلا عن تخلل غيره.

__________________

(١) أوائل كتاب النكاح في شروط الرضعات العددية والزمانية ، شرح قول المحقق «ويعتبر في الرضعات قيود ثلاثة».

١٧١

وفيه : مساواة اعتبار الزمان هنا للزمان في ضرب المسافة ، ويوم التراوح مع فرضه حدا للرضاع الواقع فيه ، المحمول بيان كميته بعد امتناع رضاع مستمر في تمام المدة على التغذي به كلما احتاج اليه ، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بعد أن كان الظرف حدا لوقوع المظروف فيه ، وهو واضح.

ومنها : أي من الأمور المعتبرة في الرضاع : أن يكون الارتضاع من الثدي على المشهور شهرة عظيمة كاد أن يكون من المتفق عليه ، عدا الإسكافي والشيخ في المحكي عن موضع من (مبسوطه) ، دون المواضع الأخر فاكتفيا بالوجور ، ولعله (للمرسل) عن الصادق عليه السلام : «وجوز الصبي اللبن بمنزلة الرضاع (١) الموهون ـ مع إرساله ـ بإعراض الأصحاب عنه ، واحتمال إرادة التغذي في المنزلة و (لدعوى) شمول الرضاع له ، فيدخل تحت إطلاقات أدلة التحريم بالرضاع ، الممنوع صدقها عليه بحكم العرف ، وتبادر الغير منه ، (ولحصول) الإنبات الموجب للتحريم به ، فيحكم بوجود المعلول بعد وجود علته ، وهو مسلم ان كانت العلة مطلق النشوء لا النشوء الخاص الحاصل من الرضاع المتبادر منه غيره ، مع كونها من العلة المستنبطة التي لا تعويل عليها ، لاحتمال أن يكون الرضاع مدخلية في التحريم بالأثر كما للحمل أو الولادة مدخلية في التأثير ، بل ولا يجدي الوجور من الثدي إلى حلق الصبي ، ما لم يكن بالتقامه الثدي وامتصاصه ، بل ولا بد أن يكون على النحو المتعارف ، بل قد يشكل لو التقم وامتص من الثدي لا من موضع معتاد ، لو فرض ثقب فيه فضلا عن غير الثدي ، لخروجه عن إطلاقات أدلة الرضاع بعد تنزيله على

__________________

(١) الوسائل ، كتاب النكاح باب ٧ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث رقم (٣).

١٧٢

المتعارف ، فضلا عما لو أدخل اللبن في جوفه من ثقب ونحوه أو أكله جبنا ونحوه ، لعدم صدق الرضاع على ذلك كله.

ومنها : أن يكون الرضاع بلبن غير ممزوج بغيره بحيث يخرجه عن عن اسمه ، ولو في فيه بسكر ونحوه ، بل ولو بلعابه المخرج له عن إطلاق اسم اللبن عليه.

المبحث السادس : هو انه لا فرق في التحريم بالرضاع بين سبقه على النكاح أو لحوقه له ، فكما يبطل به النكاح ابتداء ، يبطل به استدامة من غير خلاف أجده فيه ، بل الإجماع ـ بقسميه ـ عليه.

مضافا الى إطلاقات أدلة الرضاع الشاملة للتحريم به حدوثا ودواما وخصوص الخبرين المتقدمين : صحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبد الله عليه السلام : «قال لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد نكاحه» والآخر بهذا الاسناد عنه أيضا : «في رجل تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده؟ قال : تحرم عليه». ولأن العنوان المتحقق به مثل النسب لا يمكن فرض جواز النكاح معه وتحققه مما يترتب على وقوعه قهرا من دون تخلف فيه ، وترتب الحكم على العنوان الحاصل به ضروري لا يدانيه شك ولا شبهة من غير فرق بين كون التحريم بالرضاع أو بالمصاهرة بعد تنزيل الرضاع فيها منزلة النسب ـ كما تقدم.

الأول : لو كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها من يفسد نكاحها بالرضاع كأمه وجدته وأخته وزوجة الأب والأخ إذا كان بلبنهما ، فإنه يفسد نكاحها ـ حينئذ ـ لصيرورتها أختا أو عمة أو خالة على الأولين ، وبنت أخت على الثالث وأختا أو بنت أخ على الأخيرين ، فيبطل به لا حقا كما يبطل به سابقا ، لما عرفت من تضافر النصوص والفتاوى بذلك

١٧٣

وفي سقوط مهرها وعدمه أو التشطير وجوه ، بل لعلها أقوال :

وتفصيل المسألة هو ان المرتضعة : إن اختص السبب المحرّم بها بأن انفردت به ، كما لو سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة فامتصت منه بدون شعورها كما لو كانت نائمة أو بحكمها ، فالوجه سقوط مهرها ، وعللوه بأن الفسخ جاء من قبلها ، فكان كالردة قبل الدخول (١).

ويحتمل التشطير ، لأنه فسخ قبل الدخول فأشبه بالطلاق المنصّف للمهر ، والموت ـ على القول به.

__________________

(١) الردة ـ بالكسر ـ الاسم من الارتداد عن الدين ، وأصحاب الردة ـ على ما نقل ـ منهم : من ارتد عن الإسلام إلى الجاهلية ، ومنهم من أنكروا فرض الزكاة بعد النبي (ص) ـ والتفصيل في محله ـ والمرتد عن الإسلام إلى الكفر قسمان : إما عن فطرة الإسلام ، فيقتل في الحال وتعتد زوجته حين الارتداد عدة الوفاة وتقسم تركته بين ورثته. وان تأخر قتله فتاب لا تسقط هذه الأحكام بتوبته لكنها مفيدة لطهارة بدنه وصحة عباداته وتملكه الجديد.

وأما المرتد عن غير فطرة ، بل عن ملة بأن كان كافرا فأسلم ثم ارتد ، فيستتاب عدة مرات ، فان تاب ، وإلا قتل في الرابعة وتعتد زوجته عدة الطلاق ، فان تاب في العدة رجعت الزوجية ، وان بانت منه ، ولا تقسم أمواله إلا بعد القتل. عن رسالة الأحكام لسيدنا الوالد ـ قدس سره ـ وفي الحديث عن أهل البيت عليهم السلام : «كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمدا (ص) بنبوته» وكذبه ، فإن دمه مباح لكل من سمع ذلك منه ، وامرأته بائنة منه فلا تقربه ويقسم ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها وعلى الامام أن يقتله إن أتى به إليه ولا يستتيبه» عن كتب الأخبار.

١٧٤

ويحتمل عدم سقوط شي‌ء من المهر لثبوته بالعقد ، فيستصحب حتى يثبت السقوط ، ولا دليل عليه ـ بعد تنزيل فعلها لعدم القصد والشعور منزلة العدم والتشطير انما ثبت في الطلاق لدليله ، فلا يقاس به غيره.

ويضعف بعدم مدخلية القصد في حكم الوضع ، لأن غايته عدم الإثم ، لا عدم السقوط ، فإذا الأقوى : السقوط كما عليه الفتوى.

وان اختص السبب بالمرضعة ، بأن انفردت بإرضاعها من دون ضرورة ، فلا يسقط شي‌ء من مهرها ، لأن الفسخ جاء من قبل المرضعة لا من قبلها. والتشطير قد عرفت ما فيه. وفي رجوع الزوج على المرضعة بذلك وعدمه؟ وجهان : مبنيان ـ كما قيل ـ على ضمان منفعة البضع لأنها مما تقابل بالمال في كثير من الموارد ، وعدمه لأنها غير متمولة وإن قوبلت أحيانا بالمال. ولعل الأظهر ، بل الأقوى : رجوع الزوج عليها حتى على القول بعدم ضمان منفعة البضع ، غير أنه على القول به يرجع عليها بمهر المثل لكونه قيمة المنفعة المفوتة عليه ، ويرجع عليها بما يغرم لها ، لو قلنا بعدمه للضرر الوارد عليه من قبلها.

(ودعوى) ثبوت غرامة المهر انما هو بالعقد لا بالفسخ الطارئ كما في (المسالك) فلا ضرر من قبلها (ضعيفة) لأن الإقدام منه بالعقد انما هو على المهر المعوض بالمنفعة أو الانتفاع ، وهو ليس بضرر ، وانما الضرر دفعه بلا عوض ، الموجب لتضييعه عليه ، وهو مسبب عن فعلها.

وعليه فيرجع بما يغرم من المسمى ، زاد على مهر المثل أو لا ، ويحتمل الرجوع بمهر المثل فيما لو زاد المسمى فإن الزيادة ضرر أقدم عليه بالعقد وانما الفائت عليه بفعلها ما يساوي مهر المثل أو الأقل منه من المسمى.

لا يقال : ان دفع الزيادة انما كان بإزاء المعوض من البضع ، ولو لخصوصية دعته اليه ، والفرض أنه لم يسلم له ذلك.

١٧٥

لأنا نقول : ان الخصوصية داعية الى الإقدام على الضرر وتحمله لا أن دفع الزائد معها ليس بضرر كي يقال : دفعه بدونه ضرر جاء من قبلها.

وان كان إرضاعها لضرورة كالخوف عليها من التلف ، فقد قيل بعدم ضمانها هنا ، وان قلنا بضمانها ، لو قصدت به الإفساد ، لأن الفعل جائز لها ، بل واجب عليها ، فكان كما لو حفر بئرا في ملكه ، فإنه لا يضمن المتردي فيها ، مضافا الى كونها محسنة «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (١).

وفيه : وضوح الفرق بين المقام المستلزم لصدق الإتلاف والضرر على الزوج ، وبين حفر البئر غير المستلزم المتردي فيها ، والإحسان ـ لو سلم إيجابه الجبران في المقام فغايته الرجوع على الصغيرة في مالها بما تغرم للزوج ، لا عدم ضمانها له بما أضرته به أو أتلفته عليه ، ولو اشتركا في السبب ، فستعرف الكلام فيه ان شاء الله.

الثاني : لو كان له زوجتان : كبيرة ، وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة ـ حرمت الكبيرة مؤبدا ، لأنها صارت أم زوجته ، وأم الزوجة محرمة أبدا ، والصغيرة كذلك ، ان كان الرضاع بلبنة أو لم يكن ولكن دخل بها ، لأنها على الأول بنته ، وعلى الثاني ربيبته التي دخل بأمها ، وكل منهما لا ينفك التحريم عنه ، وان لم يدخل بها انفسخ به نكاح الصغيرة أيضا ، لامتناع نكاح الأم وبنتها ، وإبطال أحدهما بالخصوص ترجيح بلا

__________________

(١) فقرة من آية (٩١) من سورة التوبة ، وتمام الآية هكذا : «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي ما عليهم سبيل بالحجة والعقوبة والمؤاخذة بحكم إحسانهم وتفضلهم.

١٧٦

مرجح ، فكان كما لو عقد عليهما دفعة ، من غير فرق في البطلان بين الحدوث والدوام ، وجاز له تجديد العقد عليها ، لأنها حينئذ ربيبة لم يدخل بأمها ، ومثلها يجوز العقد عليها.

ويدل عليه ما تقدم : من النص (١) وخبر علي بن مهزيار : «عن أبي جعفر عليه السلام ، قال قيل له : ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأته الأخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليه السلام : أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، فأما الأخيرة فإنها لا تحرم عليه ، لأنها أرضعتها وهي بنته» (٢).

وهذه النصوص كافية في إثبات المدعى : من إبطال النكاح السابق بالرضاع اللاحق.

وضعف سند الأخير (٣) واشتماله على ما يمكن المناقشة فيه على التخطئة في تحريم الثانية لكونها مرضعة لبنته دون زوجته لبينونتها بإرضاع الأولى بتقريب : أنه انما يتم بناء على اعتبار فعلية الزوجة في تحريم أمها على الزوج ، وهو ممنوع ، بل يكفي في التحريم كونها أم امرأته ولو كانت زوجة بمنع اعتبار التلبّس بالمبدء في قوله تعالى «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» كما

__________________

(١) إشارة إلى صحيحة الحلبي : «لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد نكاحه» وخبره الآخر : «رجل تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده قال تحرم عليه».

(٢) الوسائل ، كتاب النكاح باب ١٤ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث (١) والخبر في غير مورد المسألة ، ولكنه شامل لها بالانطباق.

(٣) وهو خبر ابن مهزيار ، فان في طريقه صالح بن أبي حماد وهو ضعيف لدى علماء الرجال.

١٧٧

ستعرف الكلام فيه في الفرع الآتي.

لا يضر بعد الجبر ، والعمل بمضمونه في إثبات المدعى لتصريحه بانفساخ نكاح الصغيرة ، والأولى من المرضعتين.

وبالجملة : لا إشكال في حكم المسألة بعد وضوح مدركها : من تطابق النصوص والفتاوى عليه.

فلا يلتفت إلى ما عسى أن يقال على تحريم الكبيرة مؤبدا لصيرورتها بالإرضاع أم الزوجة : بأنه بمجرد صدق الأمية والبنتية يتحقق انفساخ النكاح ، فيستحيل صدق أمية الزوجة فعلا ، ضرورة استلزام صدق الأمية فسخ الزوجية ، لأنه أول آنات صدق

البنتية.

أو يقال على انفساخ نكاح الصغيرة أيضا ، مع عدم الدخول بأمها المرضعة بعدم الموجب لانفساخ نكاحها ، مع اقتضاء الأصل بقاءه واختصاص الأم بالانفساخ بناء على تعميم الزوجة لمن كانت زوجة (١) لتحقق سبب التحريم فيها وإبقاء الربيبة على عقدها الأول من غير حاجة إلى تجديد العقد عليها لصحة نكاح الربيبة ، مع عدم الدخول بأمها ، وان عقد عليها أولا ، ثم انفسخ عقدها ، ولا يقاس المقام بالعقد على الأم وبنتها دفعة لعدم التأثير في كل من العقدين الموجب لعدم تحقق الزوجية لكل منهما.

إذ ذلك كله ـ مع انه اجتهاد في مقابل النص (٢) يدفع الأول منهما :

__________________

(١) وان لم تكن بالفعل زوجة ، بل هي ربيبة غير مدخول بأمها ، فتكون الأم ـ على هذا ـ مشمولة لقوله تعالى : ـ في تعداد المحرمات من النساء ـ «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» فتحرم : وذلك على اختيار أن المشتق حقيقة في الأعم مما تلبس بالمبدإ بالفعل وفيما انقضى عنه المبدء وتلبس بالفعل بغيره.

(٢) تلك النصوص المشار إليها آنفا من خبر ابن مهزيار وغيره.

١٧٨

أولا : أنه يكفي في التحريم المؤبد صدق الأمية ، ولو على من كانت زوجة على المشهور شهرة عظيمة ، وثانيا إن مرتبة انفساخ الزوجية متأخرة طبعا عن مرتبة صدق الأمية والبنتية ، لأنها معلولة ، والمعلول متأخر عن العلة بالذات ، وان اقترنا بالزمان ، وهذا القدر من التأخر ـ ولو طبعا ـ كاف في تحقق سبب التحريم. والثاني منهما : بأن المانع هو امتناع اتحاد زمان زوجية الأم وبنتها ، وهو كما يمنع عن تأثير العقدين ابتداء كذلك يمنع عن دوام أثرهما ، وبعد الانفساخ لا مانع عن تجديد العقد على البنت ما لم يدخل بأمها.

هذا : وقد تقدم الكلام في ما يتعلق بثبوت مهر الصغيرة حينئذ وسقوطه مطلقا ، أو على التفصيل المتقدم ، وأما الكبيرة ، فيثبت مهرها بعد الدخول مطلقا وقبله أيضا ، ان لم يكن الفسخ من قبلها ، وإلا فيسقط كله مطلقا ، ولو كان لضرورة ، لأن الفسخ كان من قبلها ، والتشطير خلاف الأصل. ومع الضرورة فالأقوى فيه السقوط أيضا ، بعد أن كان الفسخ من قبلها. نعم لا يبعد رجوعها على الصغيرة في مالها بما تضررت بالإحسان عليها.

ولو استند التحريم إلى فعليهما ، بأن كان السبب المحرّم مشتركا بينهما كأن أرضعتها الكبيرة مختارة عشر رضعات ، ثم انفردت الصغيرة بخمسة أخر من غير شعور الكبيرة بناء على التحريم بالخمس عشرة.

يحتمل الحوالة في التحريم على الأخير ، فتكون العشرة حينئذ شرطا في تحقق التحريم بالأخير ، وعليه فحكم الكبيرة حكم النائمة في إرضاعاتها العشر التي تثبت مهرها ، لعدم كون الفسخ من قبلها ، فتكون حكم الصغيرة كما لو انفردت في تمام العدد في سقوط مهرها.

ويحتمل التقسيط ، ولعله الأقوى ، لأن للسبب مركب من آحاد العدد

١٧٩

فكل منها جزء منه ، فيسقط من الكبيرة ثلثا مهرها بفعلها ، ويثبت لها الثلث ، ان لم نقل بالتشطير للفرقة قبل الدخول ، ويسقط الباقي أيضا بالفرقة ، ان قلنا به ، لأنه أقل من النصف الساقط بها ، ويسقط من الصغيرة بفعلها الثلث ويثبت لها الثلثان على الزوج ، ان لم نقل بالتشطير وان قلنا به فيثبت لها عليه السدس ، لسقوط الثلث بفعلها والنصف بالفرقة فيسلم السدس لها من المهر.

ويحتمل العكس في ترتيب التقسيط على التشطير : بتقديم السقوط بالفرقة على السقوط بالفعل ، وحينئذ فيسقط من مهر الصغيرة النصف بالفرقة ثم الثلث بفعلها ، فيثبت لها على الزوج ثلث المهر ، ويسقط من الكبيرة ـ حينئذ ـ النصف بالفرقة ثم الثلثان بفعلها فيبقى لها السدس من مهرها ، وفي رجوع الزوج بما يغرمه لكل منهما على الأخرى ما تقدم.

هذا والذي يظهر من تتبع كلماتهم أن المدار في سقوط المهر وعدمه على كون الفسخ من قبلها وعدمه ، الا أن شيخنا في الجواهر علل السقوط بوجه ، ان تم كان مقتضاه السقوط مطلقا ، وان لم يكن الفسخ من قبلها حيث قال في الفرع الأول : «ولو انفردت المرضعة بالارتضاع مثل أن سعت إليها فامتصت ثديها من غير شعور المرضعة سقط مهرها لبطلان العقد الذي باعتبار استدامته يثبت استدامة استحقاق المهر ، بل كل عقد يتعقبه الفسخ والانفساخ من طرف أو طرفين يبطل تسبيبه ، ومنه الإقالة والخيار في البيع المقتضيين رد الثمن إلى المشتري ، والمبيع إلى البائع ، بل ذلك روح البطلان الذي هو كالصحة ، المستلزم حصولها في طرف ثبوتها في الطرف الآخر ، ومن هنا لم يذكر أحد في المقام وجها لثبوت المهر» (١) انتهى.

__________________

(١) هذه الجملة مجموعة من متن الشرائع وشرح الجواهر ، ذكرها

١٨٠