بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

قلت : ما ذكره شيخنا وجها لذلك وجيه ان عد عقد النكاح من عقود المعاوضات حقيقة ، وليس كذلك لأنه عقد شرع لحدوث علقة الارتباط بين الزوجين من حيث انتفاع كل منهما بالآخر بالانتفاع الخاص من وطئ ونحوه ، وان شئت قلت : حقيقته تسليط كل منهما صاحبه على نفسه من حيث الانتفاع الخاص به ، غير ان تسليط الزوجة للزوج على نفسها كذلك أوجب انتفاء سلطنتها التي كانت لها على نفسها قبله ، واختصت السلطنة على الانتفاع الخاص بالزوج ، بخلاف الزوج فإنه باق على ما كان عليه من سلطنة التسليط على نفسه ولذلك صارت الزوجة مملوكا بضعها للزوج بهذا المعنى ، لأن الانتفاع بها مختص به ، ووقع التعبير عن ذلك بالهبة في قوله عز من قائل «وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» (١) وهذا التسليط منها مرة يكون مجانا فتكون مفوضة وأخرى يعطي بإزائه شي‌ء يكون المبذول لها كالنحلة فتكون ، حينئذ ممهورة ، وليس الغرض المقصود من العقد الا التناكح والتناسل غالبا دون تملك المهر ، ولذا لا يبطل العقد ببطلانه أو الإخلال به ، ولا يعد ركنا من أركانه ، بخلاف المعاوضة التي ليست معناها الا تبديل مال بمال ، الموجب لرجوع كل بدل إلى صاحبه ببطلان التبديل وانتفاء البدلية ، ولذا كان كل من العوضين ركنا من العقد.

__________________

في أحكام الرضاع ومسائله العشرة من كتاب النكاح ، في شرح قول المحقق : «الرابعة الرضاع المحرّم يمنع من النكاح سابقا ، ويبطله لاحقا»

(١) آية (٥٠ من سورة الأحزاب) وأول الآية هكذا «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ ..».

١٨١

وان أبيت إلا كونه معاوضة ، فالمعوض نفس التسليط الحاصل بالعقد لطرو الانفساخ في الأثناء غير أنه لو كان من قبلها كان ذلك منها رفعا لتسليطها ورجوعها عن فعلها عرفا ، وليس كذلك لو لم يكن من قبلها. نعم لو كان عوضا عن السلطنة الحاصلة بالتسليط أمكن دعوى الرجوع به مطلقا ، لاستلزام بطلان المعوض بطلان العوض.

وبعبارة أخرى : المهر ـ بعد تسليمه ـ يكون عوضا عن التسليط الذي هو فعلها ، ولذا كان الإيجاب منها ، وبعد تحققه بالعقد وفرض صحته فالاستدامة لأثره ، وهو التسلط والسلطنة ، وبطلان الاستدامة بالفسخ الطارئ لا من قبلها يشبه تلف المعوض بعد التسليم ، ولا كذلك لو كان من قبلها ، فإنه رجوع منها عرفا عما فعلته ، وإبطال لما بذلته ، فلا تستحق المهر حينئذ ، ولذا تراهم فصلّوا في سقوط المهر وعدمه : بين كون الفسخ من قبلها ، وعدمه مع كون بطلان استدامة العقد المستلزم لرجوع كل من المعوضين إلى صاحبه بمري‌ء منهم ومنظر. فافهم.

الثالث : لو كانت له زوجة كبيرة فأرضعت له زوجتين صغيرتين حرمن عليه أجمع ، ان كان الرضاع بلبنه ، وكذا إن لم يكن ، ولكن كان قد دخل بالكبيرة ، لصيرورة الكبيرة بذلك أم زوجته ، والصغيرتين بنتيه ـ على الأول ـ وبنتي منكوحته على الثاني مطلقا ، من غير فرق بين ما لو ارتضعتا دفعة أو على التعاقب ، لأن الثانية حينئذ أيضا ، ربيبته التي قد دخل بأمها. وان لم يكن قد دخل بها وكان اللبن من غيره حرمت الكبيرة مؤبدا ، لكونها أم زوجته ، وانفسخ نكاح الصغيرتين ، ان ارتضعتا دفعة لعدم اجتماع نكاح الأم وبنتها في وقت ، وجاز تجديد العقد على كل منهما لأنهما ربيبتان لم يدخل بأمهما ، وان كان على التعاقب حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح الأولى دون الثانية ، لأنها صارت ربيبة بعد انفساخ زوجته

١٨٢

المرضعة ، ولم يدخل بأمها ، فلا موجب لانفساخ نكاحها ، بخلاف الأولى لاتحاد نكاح الأم وبنتها في وقت واحد ـ وأما الكلام في مهورهن ، فيعلم مما تقدم.

الرابع : لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة فأرضعتها إحدى الكبيرتين الرضاع المحرّم ، ثم أرضعتها الأخرى كذلك حرمت الصغيرة مؤبدا ، ان كان بلبنة ، أو لم يكن ولكن دخل بإحديهما ، لأنها : إما بنته أو ربيبته التي دخل بأمها ، والأولى من المرضعتين مؤبدا مطلقا ، وان لم يدخل بها لأنها أم زوجته وتحرم الثانية أيضا على المشهور شهرة عظيمة ، لصدق «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» عليها الشاملة لمن هي أم زوجة فعلا أو صارت أم من كانت زوجة ، لأن الإضافة تكفي في صدقها أدنى الملابسة مع منع جريان «نِسائِكُمْ» المضاف مجرى المشتق ـ أولا ـ ولو سلم جريانه مجراه ، فنمنع اعتبار التلبس في صدق المشتق ـ ثانيا ـ ولو سلم فنمنع اعتباره في المقام ـ ثالثا ـ وان اعتبرناه في غيره لعدم اعتباره في «نِسائِكُمْ» في آية تحريم الربائب بالنص والإجماع ، (والتفكيك) بينهما : بدعوى عدم استلزام صرف ظهور أحدهما بقرينة صرف ظهور ما لم تقم عليه قرينة (ركيك) تأباه وحدة السياق ، مضافا إلى ما يظهر من موارد التحريم بالمصاهرة كون السبب مجرد حدوث علقتي النسب والزوجية وما بحكمها في الخارج ، ولا دليل على شرطية اتحادهما في الزمان. بل يمكن أن يستدل عليه في المقام بحديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» لأن أم الزوجة في النسب محرمة ، فأمها من الرضاع كذلك من غير فرق بين سبق الأمومة ولحوقها ، غير أن الأمومة من النسب لا يمكن فرض تحقق عنوانها بعد الزوجية لتأخر التكوين. بخلاف عنوان الأمومة من الرضاع ، ولذا تحرم الربيبة لو تأخر حدوث عنوان البنتية والأمية عن انفساخ الزوجية.

١٨٣

وقيل ـ كما عن الشيخ في (النهاية) وابن الجنيد ـ : لا تحرم الثانية لأنها أرضعتها ، وهي بنته. نعم هي أم من كانت زوجة ، فلا تحرم : أما بناء على اعتبار التلبس بالمبدء في صدق المشتق ـ وقد عرفت ما فيه ، أو لخبر علي بن مهزيار ـ المتقدم ـ الصريح في ذلك (١).

وفيه ـ مع ضعف سنده بصالح بن أبي حماد أنه مرسل ، لأنه في (الكافي) رواه عن أبي جعفر عليه السلام (٢) وأبو جعفر ـ عند الإطلاق يراد به الباقر ـ عليه السلام ـ مؤيدا بكون المخطئ ابن شبرمة الذي أدركه ـ عليه السلام. ولو أريد به الجواد عليه السلام ، لان ابن مهزيار أدركه ، لم يعلم أنه أخذ منه ، لظهور كلمة (رواه) في غيره فالارسال محقق على التقديرين. ولعله لذا أعرض المشهور عن هذه الفقرة من مضمونه. فالأقوى : ما عليه المشهور : من تحريم الثانية أيضا.

ومما ذكرنا يظهر مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر) حيث اختار عدم تحريم الثانية ، قائلاً ـ بعد الاستدلال بخبر ابن مهزيار : ما لفظه :

__________________

(١) أي في عدم الحرمة وذلك بصراحة ذيله القائل : «فأما الأخيرة فإنها لا تحرم عليه لأنها أرضعته وهي بنته» والتعليل يعطي اشتراط فعلية التلبس في المشتق.

(٢) وكذلك في الوسائل : كتاب النكاح باب ١٤ من أبواب ما يحرم بالرضاع ينقله هكذا عن الكليني : «محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه السلام قال :

«قيل له : ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأة له أخرى؟ فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليه السلام : أخطأ ابن شبرمة : تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، وأما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته».

١٨٤

«ولا يلزم منه عدم حرمة ربيبته التي هي بنت من كانت زوجته المدخول بها ، ضرورة الفرق بين مصداق قوله تعالى «وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ» وبين قوله «أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» فإن الأولى صادقة قطعا على بنت من كانت زوجة ، بخلاف الثانية ، الظاهرة في اعتبار اجتماع الأمية والزوجية ، خصوصا مع اشتراط بقاء المبدء في صدق المشتق ان شابهه ، على أنه قد عرفت انحصار المحرّم في الرضاع بما يحرّم من النسب ، وليس في النسب من انحصر صدقها في أم من كانت زوجة ، إذ أم المطلقة ـ مثلا ـ ليس حرمتها لذلك بل لتحقق الصدق قبل الطلاق وهو سبب التحريم مؤبدا فليس حرمتها لأنها أم من كانت زوجته بل لأنها كانت أم زوجة فعلا .. بخلاف الربيبة ، فان في النسب بنت من كانت زوجة مندرجة تحت الآية الشريفة ، فيحرم مثلها في الرضاع» (١).

ولعل الذي دعاه الى الفرق حتى قطع بدخول بنت من كانت زوجة في آية تحريم الربائب كلمة «دَخَلْتُمْ بِهِنَّ» فيها.

وأنت خبير بأن الدخول لا مدخلية له في صدق «نِسائِكُمْ» على من كانت زوجة ، إن اعتبرنا التلبس في صدق المشتق حقيقة.

الخامس : لو كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها أمته الموطوءة ، حرمت الموطوءة مؤبدا ، لأنها أم زوجته ، والصغيرة أيضا كذلك مطلقا لأنها : إما بنته أو ربيبته التي دخل بأمها الا أنه لا يرجع هنا على الموطوءة بمهر الصغيرة ، لو ثبت لها عليه مهر ، وان قلنا بالرجوع على الكبيرة بمهر

__________________

(١) هذه الجملة شرح لقول المحقق في أخريات المسألة الرابعة من أحكام الرضاع ـ «ولو كان له زوجتان وزوجة رضيعة فأرضعتها إحدى الزوجتين أولا ، ثم أرضعتها الأخرى حرمت المرضعة الأولى والصغيرة دون الثانية ، لأنها أرضعتها وهي بنته».

١٨٥

الصغيرة في الفروع المتقدمة ان كانت الأمة مملوكة له ، لان السيد لا يثبت له على مملوكته مال ، إلا إذا كانت مكاتبة مطلقا ، ولو كانت مشروطة ، لصيرورتها بحيث يمكن له الاستحقاق عليها وان كانت موطوءة بالعقد أو بالتحليل فيستتبع به بعد عتقها.

خلافا لشيخنا في (الجواهر) حيث مال الى الاستتباع مطلقا ولو كانت مملوكته ، عملا بقاعدة الضمان في إتلاف المال (١).

وهو ضعيف ، للفرق الواضح بين مملوكه ومملوك غيره ، لان الأول لا يمكن الاستحقاق له عليه ، والثاني لا يمكن الاستيفاء منه ، لمزاحمة حق مالكه المقدم على حقه ، فيستتبع بعد العتق ، لعدم المزاحمة حينئذ. ولو قيل بتأخر الاستحقاق في الأول إلى العتق ، لزم تخلف المعلول عن علته.

السادس : لو كان لاثنين زوجتان : كبيرة وصغيرة ، فطلق كل منهما زوجته ، وتزوج بالأخرى ، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة الرضاع المحرم حرمت الكبيرة عليهما مطلقا ، وان لم يدخلا بها ، لصيرورتها أم زوجة بالنسبة إلى أحدهما ، وأم من كانت زوجته بالنسبة إلى الآخر ، بناء على الأقوى : من التحريم بذلك ، وحرمت الصغيرة عليهما ، ان دخلا بها ، وعلى من دخل ، ان اختص الدخول بأحدهما ، لصيرورتها ربيبته التي دخل بأمها ، كما أنه لو فرض اللبن لأحدهما صارت بنتا.

بقي هنا مسائل : الأولى ـ إذا قال : هذه أختي من الرضاع أو بنتي أو

__________________

(١) قال ـ في شرح قول المحقق في أحكام الرضاع من كتاب النكاح : «الخامسة : لو كانت له أمة بطأها ، فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا جميعا عليه ، ويثبت مهر الصغيرة ، ولا يرجع به على الأمة .. الا أن الإنصاف عدم خلوّ ذلك عن التأمل ، إن لم يكن إجماعا ، ضرورة اشتراك ضمانه مال الغير ، ويتبع به بعد العتق ان أعتق ..».

١٨٦

أمي مع إمكان ذلك ـ بأن لا يكذبه الحس بحسب سنهما على وجه لا يمكن ارتضاعهما من لبن واحد ، أو ارتضاعها من لبنه أو ارتضاعه منها إذ لا أثر لقوله ـ حينئذ ـ فلا يخلو : اما ـ أن يكون الإقرار منه قبل العقد عليها أو بعده. وعلى التقديرين : فاما أن تصدقه ، أو تكذبه ، أولا بأن لا يعلم الحال. ولو كان بعد العقد : فاما أن يكون قبل الدخول بها أو بعده. وعلى التقديرين ، فاما أن يكون قد سمى لها مهرا أو لا ، وعلى التسمية : فاما أن يكون المسمي بقدر مهر المثل أو أكثر منه أو أقل.

فنقول : أما إذا كان قبل العقد ، حكم بتحريمها عليه ظاهرا مطلقا صدقته أو لا ، فلا يجوز له التزويج بها ، وان أكذب نفسه ، لعموم نفوذ : «إقرار العقلاء على أنفسهم». نعم لو أظهر لدعواه تأويلا محتملا بأن قال : «إني اعتمدت في الإقرار على قول من أخبرني ، ثم تبين لي أن مثل ذلك لا يثبت به الرضاع «وأمكن في حقه ذلك ففي (المسالك) احتمل القبول لإمكانه ، الا أنه قال بعده : «وأطلق الأصحاب عدم قبوله مطلقا ، لعموم : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز وعليه العمل» (١) انتهى وقوى في (الجواهر) قبول قوله في تكذيب نفسه بإبداء التأويل المحتمل في حقه مع تصديقها له ، مناقشا في شمول الخبر لهذه الصورة ـ حيث قال بعد نقل كلام (المسالك) عن الأصحاب : «وفيه أن المتيقن من الخبر المزبور إلزام المقر بما أقر به لمن أقر له مع المخالفة له ، لا أن المراد به إلزامه بذلك ، وان وافقه المقر له على الكذب في الإقرار ـ إلى أن قال ـ بعد نقل كلام العلامة وشارحيه واستغرابه منهم عدم احتمالهم القبول في هذه الصورة ونقل ما عن أبي حنيفة القبول مطلقا ، وانه على

__________________

(١) راجع ذلك في شرح قول المحقق ـ في المسألة السابعة من أحكام الرضاع : «إذا قال : هذه أختي من الرضاع».

١٨٧

إطلاقه غير جيد : ضرورة عدم قبوله مع المخاصمة ـ ما لفظه ـ : «نعم ما قلناه في صورة التصديق على الكذب في الإقرار لا يبعد قبوله في المقام وفي غيره من المقامات من البيع والملكية والوقفية والزوجية ونحو ذلك ، بل إن لم يقم إجماع ، أمكن دعوى القبول في حال عدم العلم من الخصم فضلا عن صورة الموافقة له على الإقرار الصوري ، والمسألة محتاجة إلى تأمل تام في غير المقام من أفرادها» (١) وقال قبل ذلك في صدر المسألة : «فإن أكذب نفسه ووافقته المرأة على ذلك ، احتمل قويا جواز النكاح لانحصار الحق فيهما».

قلت : تنقيح هذه المسألة : هو أن يقال : الرجوع عن الإقرار مرة يكون بإنكاره نفس الإقرار الذي هو فعل من أفعاله ، وأخرى بإنكاره لما أقر به من البيع أو الوقف ونحوهما ، ومرة ثالثة بإنكاره لصحة الإقرار بدعوى صورية إقراره أو كونه مكرها عليه ، ونحو ذلك من الدعاوي المستلزم ثبوتها بطلان الإقرار.

لا كلام في عدم قبول إنكاره في الصورتين الأوليين بمعنى عدم الإصغاء إليه ، لكونه إنكارا بعد إقرار.

وأما الصورة الأخيرة ، فالأقوى قبول قوله بمعنى الإصغاء إليه كسائر الدعاوي المسموعة ، لكن على موازين القضاء. فيطالب بالبينة ، وعلى المنكر اليمين حيث يتوجه عليه ، ولذا يثبت لو صدقه المنكر ، لانحصار الحق فيهما كما ذكره في (الجواهر) ولعله على غير هذه الصورة ينزّل إطلاق كلام الأصحاب ، لو سلم ، وحينئذ فيبطل نفوذ الإقرار وأثره بالنسبة إليهما ، دون غيرهما ، لعدم ثبوت الزوجية في الواقع ، حتى يجوز لأم الزوجة

__________________

(١) راجع العبارة بطولها في شرح المسألة السابعة من كلام المحقق ـ كما أشرنا إليه ـ

١٨٨

مثلا ـ الكشف عن معاصمها عنده» بخلاف ما لو أقام على دعواه بينة أو حكم بثبوتها الحاكم ، فإنه يبطل بذلك الإقرار من أصله في الواقع.

وان كان بعد العقد ، وكان قبل الدخول ، حكم عليه بالتحريم ، لنفوذ الإقرار في حقه ، فان صدقته فلا شي‌ء لها من المهر ، لبطلان العقد وكذلك ان لم تصدقه ، ولكن أقام على ذلك بينة أو حلف اليمين المردودة لو ادعى عليها العلم بذلك فأنكرت مع ردها اليمين ، والا فلا ينفذ الإقرار في حقها ، فلها المهر كملا ، لثبوته بالعقد ، أو النصف على القول بالتشطير الفسخ قبل الدخول ، سيما وقد جاء من قبله.

وان كان بعد الدخول ، وصدقته على ذلك ، فالعقد باطل : فان اعترفت بالعلم قبله ، فلا شي‌ء لها عليه ، لأنها بغي بالدخول ، وان ادعت تجدد العلم لها بعده قبل قولها. وحينئذ : فيحتمل ثبوت المسمى لها ، بناء على أن العقد هو سبب ثبوت المهر ، لأنه مناط الشبهة ، فكان كالصحيح لتضمين البضع بما وقع عليه التراضي في العقد.

ويحتمل ـ ولعله الأقوى ـ ثبوت مهر المثل مطلقا ، وان زاد على المسمى لبطلان العقد الموجب لبطلان ما تضمنه من المهر ومنع إلحاق الشبهة بالصحيح إلا في عدم الإثم وبعض الأحكام ، فيضمن لها قيمة المثل ، جريا على قاعدة ضمان تلف الأموال وما بحكمها ، أو الرجوع إلى المسمى ، ان ساواه ، أو كان أقل منه ، لقدومها على الرضاع عن البضع بالأقل ، فلا يلزمه الزائد.

ويضعف بأن مهر المثل هو المجعول شرعا في قيمته ، ورضاها بدون وجه شرعي لا عبرة به.

وان كذبته في إقراره ، لم ينفذ في حقها إقراره ، ولم يجز لها التزويج من غيره ، وجاز لها مطالبته بحقوقها ، وان لم يجز له مطالبتها بحقوقه ، لمنافاتها إقراره النافذ في حقه ، الا أن يقيم بينة على ما أقر به

١٨٩

فيثبت بها بطلان النكاح الموجب لبطلان حقوقها عليه الا المهر ، فيثبت لها بالدخول حسبما تقدم من مهر المثل أو المسمى مطلقا أو على التفصيل

ولو أكذب نفسه بإبداء التأويل المحتمل في حقه في صورتي : ما بعد العقد قبل الدخول ، وبعده ، وصدقته في التكذيب ، فالكلام فيه ما تقدم من تصديقها لتكذيب نفسه في الصورة المتقدمة قبل العقد.

هذا كله في الممهورة ، ومنه يعلم حكم ما لو كانت مفوضة في جميع الصور المتقدمة ، والله العالم.

الثانية : لا تقبل الشهادة على الرضاع وإن وصفه بالمحرّم مطلقة ، بل لا بد أن تكون مفصلة بأن يشهد على الارتضاع في الحولين من الثدي خمس عشرة رضعة أو عشر رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد بلبن الحمل أو الولادة عن نكاح صحيح أو بحكمه ، من غير خلاف أجده ممن تعرض لهذا الفرع.

وعللوه بوقوع الاختلاف الكثير بين الفقهاء فيما يعتبر في التحريم به من الشروط : فقد يعتبر عند الحاكم في التحريم بالرضاع ما لا يعتبر فيه عند الشاهد : لما اجتهادا أو تقليدا منه لغيره.

وأشكل عليه باستلزام ذلك اعتبار ذكر التفصيل في غيره من الشهادات أيضا ، لسريان العلة في غيرها من أغلب موارد الشهادة ، قال في (المسالك) ـ بعد التعليل بذلك : «ومثل هذا ، ما لو شهد الشاهدان بنجاسة الماء مع الاختلاف الواقع بين الفقهاء فيما تحصل به نجاسة» (١) وفي (الجواهر)

__________________

(١) في شرح المسألة الثانية منه للمحقق من أحكام الرضاع ـ من كتاب النكاح ـ وهي قوله : «لا تقبل الشهادة بالرضاع إلا مفصلة ،» قال الشهيد الثاني ـ قدس سره ـ في كلام له قبل هذه الجملة المذكورة في المتن ، واعلم أن ما ذكر من اعتبار التفصيل يتم مع اختلاف مذهب الشاهد

١٩٠

بعد ذكر عدم قبولها إلا مفصلة ، والتعليل بذلك ، وحكاية ما تقدم من (المسالك) قال : «وصريحه كظاهر غيره سراية المسألة في كل ما كان المشهود به ذا شرائط مختلف فيها أو أسباب كذلك ، ومنه حينئذ الملك والبيع والوقف والزوجية والطلاق ونحو ذلك مما يقطع الفقيه بملاحظة إفرادها بعدم اعتبار التفصيل في الشهادة بها ، ومنه ينقدح الاشكال فيما نحن فيه ـ الى أن قال ـ بعد المبالغة في الاشكال على الفرق بين المقام وغيره : «فالمتجه طرد الحكم في الجميع نحو ما سمعته من (المسالك) إذ احتمال الخصوصية في الرضاع لم نتحققها» (١) وقال بعض الفضلاء (٢) في تعليقه على (الروضة) في الرد على التعليل لذلك بالاختلاف في شرائطه : أنه لو تم لزم وجوب التفصيل في جميع الشهادات حتى في الملك والبيع ونحو ذلك لوقوع الاختلاف في بعض أسباب الملك ، وبعض شروط البيع مع قبول الشهادة في جميع ذلك مجملة غير مفصلة ، والظاهر أن اعتبارهم التفصيل في الشهادة على الرضاع مستند إلى النص لدلالة بعض الظواهر عليه كما بيناه (في رسالة الرضاع).

__________________

لمذهب الحاكم في الشرائط واحتمال الاختلاف أما مع العلم باتفاقهما على الشرائط كما لو كان الشاهد مقلدا للحاكم فيها موثوقا بمراعاة مذهبه فالوجه عدم الافتقار الى التفصيل وان كان أحوط ، خروجا من خلاف الأصحاب حيث أطلقوا اشتراطه ، ومثل هذا ..».

(١) تجد هذه العبارة بتفصيلها في شرح المسألة الثامنة المذكورة للمحقق من مسائل الرضاع في النكاح.

(٢) القائل : آقا محمد علي الهزارجريبي المازندراني (منه). ولد ١١٨٨ وتوفي سنة ١٢٤٥ ه‍. من مؤلفاته الكثيرة : تعليقته المفصّلة على (روضة الشهيد الثاني) من الطهارة إلى الديات (منا)

١٩١

والعجب منه أنه في (رسالته الرضاعية) استند في اعتبار التفصيل إلى وقوع السؤال من الامام عن عدد الرضعات ممن أخبر بوقوع رضاع بين اثنين.

وأنت خبير بأن عدم قبول قول من أخبر بالرضاع لا يستلزم عدم قبول من أخبر بوقوع الرضاع المحرّم وأطلق من غير ذكر للتفصيل ، لأن الأول أعم من الثاني ، فلا يكون شهادة به وبعبارة أخرى : مرة تكون الشهادة على وقوع رضاع ، وأخرى على الرضاع المحرّم ، ومرة ثالثة على وقوعه مفصلا. لا كلام في قبول الأخير ، كما أنه لا كلام في عدم كفاية الأول في الحكم بالتحريم. وانما الكلام في الصورة الثانية التي هي غير مورد الأخبار التي استند إليها في اعتبار التفصيل في خصوص الشهادة على الرضاع. ولذا لم نجد منهم من استند في المقام الى النص وانما استندوا إلى العلة المتقدمة.

هذا وتمام الكلام في المسألة ينتهي في مقامين :

الأول : في طريق الشهادة ، والثاني في المشهود به.

أما الأول فنقول : إذا شهد الشاهد شهادة مطلقة ، فمقتضى القاعدة عدم قبولها ، لأن الشهادة في الحقيقة إخبار عن ثبوت النسبة بحسب علمه واعتقاده ، إذ لا طريق له إليه الا العلم ، وتصديق خبره بما دل على تصديق خبر العادل ، ليس معناه إلا تصديقه في علمه به وكونه معتقده ومعلوما له ، وأين ذلك من ثبوت المخبر به في الواقع مع وقوع الخطأ فيه كثيرا ، إلا إذا تعلق بالمحسوسات أو بما كان منتهيا إلى المبادي الحسية (١)

__________________

(١) فالمحسوسات واضحة الأمثلة ، وأما المنتهية إليها من الحدسيات كإثبات الملكات النفسية ـ مثل العدالة والعفاف ونحوهما ـ من طريق المبادي المحسوسة المتمثلة بالأعمال الخارجية.

١٩٢

اللهم الا أن يكون مفاد دليل «صدق العادل» تصديقه في المخبر به وكونه مطابقا للواقع ، وهو انما يتم حيث يكون المخبر به من الأمور الحسية أو المنتهية إليها ، لأن احتمال الكذب منفي في حق العادل بما دل على تصديقه ، واحتمال الخطأ منفي بالأصل لندرة وقوعه في المحسوسات ولغوية احتماله فيها عند العقلاء ، ولذا خص الأكثر اعتبار الشهادة فيما كان المشهود به من الأمور الحسية أو منتهيا إليها.

وأما الثاني فالمشهود به : مرة يكون له واقع لا يختلف باختلاف الآراء والأنظار ، كالملكية والزوجية ونحوهما وانما الاختلاف في بعض أسبابه ، وأخرى يكون مما لا واقع له متفقا عليه ، بل تحققه واقعا يختلف باختلاف الآراء كبعض الأسباب الشرعية ، فإن البيع بالفارسية ـ مثلا ـ عند بعض سبب ، وعند آخر غير سبب.

فان كان المشهود به من القسم الأول ، قبلت الشهادة به مطلقة ، لأنه شي‌ء متحد له واقع غير مختلف فيه ، يمكن استناده في تحققه الى إلى الحس ، فلا يكلف بالتفصيل ذكر السبب.

ولا كذلك لو كان من القسم الثاني لعدم ثبوت واقع الا بحسب معتقده فلا بد من ذكره مفصلا في شهادته به حتى يعلم موافقته فيه للحاكم وعدمه وليس معنى تصديقه في هذه الصورة إلا تصديق خبره دون المخبر به.

ومن الثاني الفسق ، والعدالة بناء على انها عبارة عن حسن الظاهر (١)

__________________

(١) العدالة في اللغة معناها الاستقامة والاعتدال في كل شي‌ء وعدم الجور والانحراف يمينا وشمالا وفي مصطلح الفقهاء ـ حيث أخذوها شرطا في كثير من المسائل والأحكام كمسألة التقليد وإمامة الجماعة والطلاق والشهادات ـ اختلف في حقيقتها : إنها الملكة النفسانية الباعثة على إتيان الواجبات وترك المعاصي ، أو أنها فعل الواجبات وترك المحرمات عن

١٩٣

لتوقفهما على معرفة المعاصي حتى يكون مرتكب واحد منها فاسقا ، ومتجنب الكل ظاهرا عادلا ، وكم من فعل يكون معصية عند بعض ، ولا يكون معصية عند آخر ، فلعل الشاهد استند في تفسيقه إلى صدور فعل منه يراه معصية بالاجتهاد أو التقليد ، ولا يراه الحاكم معصية ، وفي تعديله بحسن الظاهر عنده لتجنبه ظاهرا عن جملة أمور لا يرى غيرها معصية حتى يكون ارتكابه

__________________

ملكة ، أو انها الاستقامة العملية والسلوك في جادة الشرع بإتيان الواجبات وترك المحرمات ، أو انها : الإسلام وعدم ظهور الفسق في الخارج ، أو انها : حسن الظاهر فحسب ، ولكل من هذه الآراء قائلون وأدلة وصلات بإخبار أهل البيت عليهم السلام : ولو أمعنا التأمل والتحقيق في هذه الآراء الخمسة لتمخضت عن رأيين متعارضين فقط ، فإن الأولين ربما يجتمعان في مفهوم واحد ، فيخضع أحدهما للآخر وتكون الحصيلة : أن العدالة نتيجة عمل خارجي وانطواء نفسي ، والآخران ، الظاهر أنهما من الطرق الكاشفة عن حقيقة العدالة ، لا هي نفسها ، كما أن للعدالة طرقا أخرى تكشف عنها غير حسن الظاهر وعدم ظهور الفسق ، وهي العلم ، والبينة والوثوق والاطمئنان ، والشياع والاستفاضة ـ على ما قيل.

ثم اختلفوا ـ في المعاصي التي تهدم العدالة ، هل تنقسم إلى صغيرة وكبيرة أم كل الذنوب كبائر؟ وانما الاختلاف بينهما نسبي.

ثم اختلف القائلون بالتقسيم في المائز بينهما فالمشهور : إن الكبيرة ما توعّد عليها النار في الكتاب ، وقيل : محض التوعد ، سواء من الكتاب أم من السنة. وقيل : الكبيرة هي ما رتب لها في الشريعة حد معين وقيل : الكبيرة : هي المعلومة الحرمة بدليل قاطع كإجماع أو كتاب أو سنة ، وقيل : غير ذلك في تعريف الكبيرة ، وبالمعاكسة تعرف الصغيرة لأن الكبر والصغر من المعاني المتضايفة التي يعرف أحدها بمعاكسة الآخر

١٩٤

معصية ، ويراه الحاكم معصية نعم على القول بأنها هي الملكة ، تقبل الشهادة بها مطلقة ، لأن لها واقعية كالملكية والزوجية.

ومنه أيضا : سببه الرضاع للتحريم ، فكم من رضاع يراه بعض سببا للتحريم شرعا ، وينكره الآخر ، ولا يرى سببيته له شرعا ، فلا تكفي شهادته الرضاع المحرّم إلا مفصلة بذكر سبب التحريم من الكمية والكيفية.

هذا مع أن ما كان من القسم الثاني يؤول ـ في الحقيقة ـ إلى الفتوى فان ترتب المترتب على ما يراه سببا فتوى منه بذلك واجتهاد في سببية السبب وهو غير مقبول ولا متبع. ولا كذلك ما كان من القسم الأول ، فإنه له واقع يشهد بثبوته وتحققه في الواقع ، ولا تؤول الشهادة عليه إلى الفتوى والاجتهاد.

نعم لو ان ما كان من القسم الثاني يجري فيه الأصل الموضوعي كما لو كان له فردان : صحيح وفاسد لم يسئل عن تفصيله ، للحمل على الصحيح بأصالة الصحة ، غير أن الكلام فيه في أن اجراء الأصل : هل هو وظيفة الشاهد أم وظيفة الحاكم. والظاهر هو الأول لأن الحاكم وظيفته الحكم بالبينة لا بالبينة والأصل.

نعم ليس على الشاهد بيان الاستناد إليه في شهادته ، بل قد يقال : بإفساده الشهادة بذكر المستند في بعض الموارد ، قال الشهيد في (القواعد) :

__________________

ثم اختلفوا أيضا ـ بعد الاتفاق بقدح الكبيرة في العدالة واستمرارها ـ هل تقدح الصغائر فيها أيضا ، وكذا منافيات المروة وهي الصفات الموجبة للخسة والدناءة ـ على اختلافها ـ؟ إلى غير ذلك من مسائل الخلاف بين الفقهاء في موضوع العدالة وطرقها وقادحيتها وغير ذلك ـ يراجع في تفصيل ذلك : موضوع العدالة في أبواب الاجتهاد وامامة الجماعة والشهادات من الموسوعات الفقهية وكتب الأخبار.

١٩٥

«ذكر الشاهد السبب في الشهادة : قد يكون سببا كما في صورة الترجيح وقد يكون فعله وتركه سواء كما في صور كثيرة ، وقيل قد يكون ذكر السبب قادحا في الشهادة كما لو قال : اعتقد أن هذا ملكه للاستصحاب وان كان في الحقيقة مستندا إلى الاستصحاب. وكذا لو صرح بأن هذا ملكه» علمته بالاستفاضة ، وهذا ضعيف ، لأن الشرع جعل الاستفاضة من أسباب التحمل ، فكيف يضر ذكرها ، وانما يضر ذكر الاستصحاب ان قلنا به لأنه يؤذن بشكه في البقاء ، ولو أهمل ذكره وأتى بصورة الجزم زال الوهم. ولو قيل بعدم الضرر أيضا ، كان قويا. وكذا الكلام لو قال : هو ملكه ، لأني رأيت يده عليه أو رأيته يتصرف فيه بغير مانع وغاية ما يقال : ان الشاهد ليس له وظيفة ترتب المسببات على الأسباب إنما يشهد بما يعلم ، وانما ذلك وظيفة الحكام. قلنا : إذا كان الترتيب شرعيا وحكاه الشاهد ، فقد حكى صورة الواقعة ، فكيف ترد الشهادة بما هو مستندها في الحقيقة (١) انتهى.

وبالجملة : لو كان في المقام أصل موضوعي يمكن استناده كأصالة الصحة ، والاستصحاب ونحوهما لا مانع من الاستناد إليه ، لأن الأصل ـ حينئذ ـ يكون بالنسبة إليه كالرؤية بعد فرض اعتباره.

لا يقال : أن الأصل لا يوجب العلم بالمشهود به ، ولا ريب أن العبرة بالعلم لا غير ، كما يستفاد من الأخبار المتواترة.

لأنا نقول : معنى اعتبار الامارة ترتب جميع الآثار على ما قامت عليه ، ومن المعلوم أن جواز الشهادة أيضا من الآثار ، فلا بأس بأدائها

__________________

(١) توجد هذه العبارة في قواعد الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الدمشقي المتوفى سنة ٧٨٦ ه‍. ص ١٧٠ طبع إيران حجري بعنوان : قاعدة في ذكر السبب في الشهادة.

١٩٦

بصورة الجزم من غير حاجة إلى ذكر المستند.

فتحصل مما ذكرنا ان المشهود به إن كان من الأمور الواقعية ، جازت الشهادة عليها مطلقة ولم يفتقر قبر لها إلى ذكر التفصيل ، كالشهادة على الملكية أو الزوجية ونحوهما مما قامت السيرة القطعية المتلقاة ـ خلفا عن سلف إلى زمن المعصوم عليه السلام ـ على قبولها مطلقة في أمثال ذلك من غير استفصال منه عن أسبابها.

وان كان من غيرها ، فان كان هناك أصل موضوعي فكذلك ، والا فلا بد من التفصيل ، فيقبل منه ما كان معتقده اجتهادا أو تقليدا موافقا لمعتقد الحاكم ، ولا يقتل ما كان مخالفا له.

نعم غير بعيد استثناء صورة ما لو علم الحاكم موافقته لمذهبه وكان واثقا به ، فيقبلها عنده ، مطلقة غير مفصلة ، كما استثناها بعض ، الا أنه خلاف إطلاقهم المنع عن قبولها مطلقة ، فالرضاع مما لا تقبل الشهادة فيه مطلقة. وكذا الشهادة على النجاسة ، فإنها أيضا مما اختلفت فيها الأقوال فإن العصير ـ مثلا ـ طاهر عند واحد ، ونجس عند آخر (١).

وكذا للكر ، فإنه أيضا ليس من الأمور الواقعية ، بل يختلف باختلاف آراء المجتهدين : فرب مقدار من الماء هو كر عند بعض ، وليس بكر عند آخر (٢) فالشهادة في أمثال ذلك لا تقبل مطلقة.

__________________

(١) العصير العنبي إذا غلا واشتد بنفسه أو بالواسطة ولم يذهب ثلثاه اختلفوا في نجاسته بعد اتفاقهم على حرمته ـ إذا أسكر كالمسكرات عموما ـ فالمشهور ألحقوا النجاسة بالحرمة ، وغيره فرقوا بينهما حتى في الخمر وعامة المسكرات فقالوا بالحرمة لا النجاسة ـ عن الموسوعات الفقهية في أحكام النجاسات.

(٢) اختلف الفقهاء في مقدار الكر الوارد في لسان الأخبار ، الذي به يعصم الماء المطلق من الانفعال بالنجاسة : على أقوال شتى ، فقيل

١٩٧

وبعد الوقوف على ما ذكرنا يظهر لك : أن العلة في اعتبار التفصيل في الشهادة على الرضاع ليست سارية في جميع موارد الشهادات ـ كما تقدم من الجواهر ـ ولا مخصوصة بخصوص الرضاع حتى يقع الإشكال في وجه الخصوصية مع وجودها في غيره أيضا ، بل تختلف بحسب المقامات في موارد الشهادات حسبما ذكرنا.

هذا : ولا يتوهم الفرق على ما قلنا بين ما لو شهد على الرضاع على أحد العناوين السبعة المسببة عنه ، فيقال بالقبول مطلقة في الثاني كالشهادة على الأمومة والبنتية ، فإنها كالشهادة على الملكية والزوجية ، ضرورة عدم الفرق بينهما بعد أن كانت العناوين المحرمة مسببة عن الأسباب المختلفة في تحققها ، ولذا عطف غير واحد الصورة الثانية على الأولى في تعداد الأمثلة كالعلامة في بعض كتبه ، والكركي ، وكاشف اللثام وشيخنا في (الجواهر) ، بل منهم من اقتصر في المثال على الصورة الثانية كالداماد في (الرسالة الرضاعية) حيث قال فيها : «مسألة : لا تسمع الشهادة في الرضاع مطلقة كما يسمع الإقرار به مطلقا ، بل لا بد من التفصيل ، فلو شهد الشاهدان بأن هذا ابن هذه من الرضاع أو أخوها ـ مثلا ـ لم تسمع حتى يقولا : نشهد أنها أرضعته من لبن الولادة عشر رضعات تامات ـ إلى أن قال ـ صرح بذلك الأصحاب ، وذهبت إليه العامة ، لأن النصاب المتعلق به التحريم مختلف فيه كمية وكيفية : فبعضهم حرم بالقليل وبعضهم بالإيجار (١) إلى غير ذلك من الاختلافات ، فلا بد من ذكر الكمية

__________________

هو ما بلغ مكسّر مساحته (٢٧ شبرا) ، وقيل (٣٦ شبرا) ، وقيل ثلاثة وأربعين شبرا إلا ثمن الشبر ، وقيل غير ذلك. عن الموسوعات الفقهية وكتب الأخبار ـ في أوائل كتاب الطهارة ـ

(١) أوجره إيجارا : الشي‌ء في فيه : جعله فيه.

١٩٨

والكيفية ، وسائر ما اختلف في اعتباره ـ الى أن قال ـ بعد ذلك : ضابطة اعلمن : أن هذا الحكم ليس مختصا بباب الرضاع ، بل أنه أصل ضابط في مطلق الشهادة فيما اختلف فيه آراء المجتهدين» (١) انتهى.

هذا كله في الشهادة على الرضاع مطلقة. ولو شهد على الإقرار به مطلقا ، قبلت الشهادة في ثبوت الإقرار ، وان كان مطلقا ، لنفوذه في حق المقر مطلقا مفصلا كان أو مطلقا و (دعوى) ان المقر ربما ظن محرّما ما ليس منه (يدفعها) أنه أمر آخر لا تعلق له بالشهادة على الإقرار الذي مع ثبوته لا يجب على الحاكم استفصاله ، لعموم مؤاخذة العقلاء بإقرارهم وهو واضح ، لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

الثالثة : لو ملك أحد عموديه من الرضاع انعتق عليه كالنسب على الأظهر الأشهر ، بل المشهور ، ولا سيما بين المتأخرين ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه ، للمعتبرة المستفيضة الدالة على الانعتاق فيه ، مع تضمن بعضها للاستدلال عليه بحديث «يحرم من الرضاع» (٢) فلا يعارضها

__________________

(١) توجد هذه العبارة في أخريات الرسالة المسماة بضوابط الرضاع ص ١١٧ طبع إيران حجري والسيد الداماد هو محمد باقر بن محمد الحسيني الاسترآبادي المعروف بالسيد الداماد لأن والده كان صهرا للمحقق الثاني الكركي ، توفي سنة ١٠٤١ ه‍. ودفن في النجف الأشرف.

(٢) الروايات المعتبرة بهذا المضمون كثيرة ، تجدها في عدة أبواب وكتب من كتب الأخبار ، ككتاب العتق ، وباب الرضاع من كتاب النكاح وفي كتاب الضمان ، وفي كتاب التجارة باب ٤ من أبواب بيع الحيوان من كتاب الوسائل ، روايات كثيرة نذكر منها ما يلي : «محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير عن ابان بن عثمان عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد ، كلهم عن أبي عبد الله عليه السلام :

١٩٩

ما دل على العدم من الأخبار المرجوحة بالنسبة إلى تلك المعتبرة ، التي هي أكثر منها عددا وأوضح منها سندا وأرجح منها بالعمل وبمخالفة العامة (١)

__________________

قال : إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو بنت أخته ـ وذكر أهل هذه الآية من النساء ـ عتقوا جميعا ويملك عمه وابن أخيه وابن أخته والخال. ولا يملك أمه من الرضاعة ولا أخته ولا عمته ولا خالته ، إذا ملكن عتقن ، وقال : ما يحرم من النسب فإنه يحرم من الرضاع. وقال يملك الذكور ما خلا والدا أو ولدا ، ولا يملك من النساء ذات رحم محرم قلت : يجري في الرضاع مثل ذلك؟ قال : نعم يجري في الرضاع مثل ذلك».

ولقد عقد في الوسائل كتاب العتق منه بابا خاصا بانعتاق العمودين من الرضاعة على ولديهما ، يحتوي على زهاء عشرة أحاديث متقاربة المضامين.

(١) قال : السيد الداماد في (رسالته الرضاعية ص ٨٧) طبع إيران حجري : «مسألة : هل الرضاع شقيق النسب في كونه سببا في العتق ، فينطبق على المالك منه ما ينعتق عليه من النسب؟ ذهب أكثر علمائنا وكثير من فقهاء العامة إلى انه كذلك ـ إلى قوله ـ : وخالف فيه الحسن ابن أبي عقيل من قبل وقال : لا بأس بملك الأم والأخت من الرضاعة وبيعهن ، وانما يحرم منهن ما يحرم من النسب في وجه النكاح فقط ، فوافقه الشيخ المفيد وتلميذه سلار بن عبد العزيز ، وارتضاه وانتصره محمد ابن إدريس وسبطه المدقق يحيى بن سعيد رحمهما الله ـ وأما أبو علي بن الجنيد فكلامه يعطي جواز الملك على كراهة وعدم تسويغ البيع إلا لضرورة ـ ويستمر في تأييده لكلام المشهور بالكتاب والسنة ثم يقول : احتج النافون للانعتاق .. بموثقة الحسن بن محمد بن سماعة بعلو إسناده عن عبد الله وجعفر ومحمد بن العباس عن أحدهما عليهما السلام قال : يملك

٢٠٠