بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

وقال في الأخرى : «قلت لأبي الحسن عليه السلام : إني أعامل قوما ، فربما أرسلوا إلى فأخذوا مني الجارية والدابة فذهبوا بهما مني ثم يدوّر لهم المال عندي ، فآخذ بقدر ما أخذوا مني؟ فقال : خذ منهم بقدر ما أخذوا منك ولا تزد عليه» (١) إن لم يكن ذلك إذنا منه.

نعم قد يقال : لو كان البدل من غير جنس الحق وكان مثليا توصل ببيع البدل الى ما يكون من جنسه ، فيقتصّ به عنه. وحينئذ فيجب الرفع إلى الحاكم ، لأن ولاية البيع غير ولاية التقاص.

الا انه يضعّف : بأن دفع المثل انما اعتبر في الضمان لوجوب الرّد على الضامن في حالتي وجود العين وتلفها الصادق معه برد المثل عرفا ، والأخذ بالتقاص ليس فيه عنوان الرد والاسترداد حتى يعتبر فيه ذلك ، بل هو أخذ بالبدل عوضا عن ماله ، سوّغه الشارع تداركا للضرر المرتفع بتدارك المالية.

وبالجملة ، ليس في التقاص عنوان رد العين واستردادها حتى يعتبر فيه المثل بخلاف الضمان المأخوذ فيه الخروج عن عهدة العين بردها الصادق يرد مثلها بعد تلفها ، فالرد والاسترداد عنوان ، والأخذ بالبدل مقاصة عنوان آخر ، لا دليل على اعتبار المثل فيه أيضا ، بل الأصل يقتضي عدمه. وعليه فيتخير بالتقاصّ بين ما كان من جنسه وغيره لو اجتمعا عنده ، بل إطلاق الأخبار الآتية في التقاصّ عن الدين ـ الذي لا ينفك غالبا عن كونه عينا ـ مخصوصة مع ترك الاستفصال عن جنس المال الذي

__________________

(١) في الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ، ذكر نص الحديث الأول ، وأشار إلى الثاني بروايته عن الصدوق وفي (التهذيب للشيخ الطوسي) كتاب المكاسب ، أحاديث التقاص حديث (٩٩) «.. عن داود بن زربي قال قلت لأبي الحسن موسى ..» إلخ.

٢٨١

يقتصّ به عنه ـ يعطي جوازه مطلقا ولو من غير جنسه.

وان كان الثالث أعني كون الحق دينا ـ كان له التقاصّ بنفسه بما يقع من ماله في يده إذا كان ممتنعا عن حقه أو جاحدا له من غير توقف على اذن الحاكم مطلقا ، تمكن منه ومن إثبات حقه عنده أولا ، لإطلاق بعض الأدلة المتقدمة ، وخصوص ما ورد في الدّين نحو : خبر جميل بن دراج : «سألت أبا عبد الله عليه السلام ، عن رجل يكون له على الرجل الدّين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده : أيأخذه ، وان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : نعم» (١) وخبر علي بن مهزيار (٢) وصحيح أبي بكير : «قلت له رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها : أيجوز لي أن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال فقال : نعم» (٣) والمروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لما قالت له هند : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وانه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت

__________________

(١) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٨٣ من أبواب ما يتكسب به حديث (١٠).

(٢) في المصدر الآنف من الوسائل ، حديث (٨) : «وبإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن عبد الله بن محمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن إسحاق بن إبراهيم : ان موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر (ع) يسأله عن رجل دفع إليه رجل مالا ليصرفه في بعض وجوه البر ، فلم يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال ، فسأل هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أرده عليه؟ فكتب :

«اقبض مالك مما في يدك».

(٣) المصدر الآنف من الوسائل حديث (٤) والظاهر أن الراوي أبو بكر الحضرمي عن الامام الصادق عليه السلام.

٢٨٢

منه سرا ، وهو لا يعلم ، فهل على ذلك شي‌ء؟ فقال (ص) : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (١).

(ودعوى) : تخيير الغريم في تعيين الوفاء من ماله إذا كان الحق كليا ، فلا يتعين الا بتعيينه أو تعيين وليّه ان كان ممتنعا ، وهو الحاكم القائم مقامه في التعيين (ضعيفة) لعدم المنافاة بين كون الحاكم وليا على الممتنع وثبوت الولاية للمقتص أيضا بالأدلة الخاصة ، فالأظهر ـ كما عليه الأكثر ـ جواز التقاص بنفسه مطلقا من غير توقف على اذن الحاكم ، ممتنعا كان الغريم أو جاحدا.

نعم قيل ـ كما عن الشيخ في (النهاية) وجماعة ـ : المنع عن التقاص من الوديعة ، لعموم ما دل على وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها» (٢) حتى ورد عن الصادق عليه السلام ـ في خبر عبد الله بن إسماعيل : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو أنه قاتل الحسين عليه السلام» (٣) وقال أيضا في خبر عمار : «اعلم أن ضارب عليّ بالسيف وقاتله ، لو ائتمنني

__________________

(١) ذكر هذا الحديث الشريف في كتاب (الأدب النبوي) تأليف عبد العزيز الخولي : ص ٢٩٨ حديث رقم (١٢٧) ونسب روايته إلى البخاري ومسلم.

(٢) في الكافي ، كتاب المعيشة ، باب أداء الأمانة : روايات كثيرة بهذا المضمون منها : «عن ابن بكير عن الحسين الشيباني ـ أو الشباني ـ عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : رجل من مواليك يستحل مال بني أمية ودماءهم ، وانه وقع لهم عنده وديعة؟ فقال : أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوسا».

(٣) في الوسائل ، كتاب الوديعة : باب ٢ وجوب ردّ الأمانة حديث (٤) هكذا : عن إسماعيل بن عبد الله القرشي ـ في حديث ـ : ان رجلا

٢٨٣

على السيف واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة» (١). وخصوص خبر ابن أخ الفضيل بن يسار : «قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام ، ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت لي : اسأله فقلت : عما ذا؟ فقالت : إن ابني مات وترك مالا كان في يد أخي ، فأتلفه ، ثم أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك» (٢).

والقول بالجواز للشيخ في (التهذيبين) والحلي في (السرائر) والفاضل في (الإرشاد) و (المختلف) وظاهر (النافع) وصريح (الشرائع) والصيمري في (شرحه) والمقداد في (التنقيح) والشهيدين في (النكت) و (المسالك) على ما حكي عنهم ، بل في الأخير ، وعن الكفاية : «انه عليه أكثر المتأخرين» وفي (الرياض) : «بل لعله عليه عامتهم» لإطلاق الأدلة المتقدمة وعمومها ، وخصوص صحيح البقباق : «.. إن شهابا ما رآه في رجل له ذهب بألف درهم ، واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الألف التي أخذ منك فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه السلام ، فذكر

__________________

قال لأبي عبد الله عليه السلام : الناصب يحلّ لي اغتياله؟ قال : أدّ الأمانة .. إلخ. وبمضمونه بنفس المصدر حديث (١٢).

(١) في الكافي ، كتاب المعيشة ، باب أداء الأمانة ، حديث (٥) : «بسنده عن عمار بن مروان قال : قال أبو عبد الله : في وصية له : اعلم أن ضارب علي ..» إلخ.

(٢) الوسائل ، كتاب التجارة باب ٨٣ جواز استيفاء الدين ، حديث (٣).

٢٨٤

ذلك ، فقال له : أما أنا فأحب أن أن تأخذ وتحلف» (١) ومكاتبة علي بن سليمان : «قال كتب اليه رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه : أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليه السلام : نعم يحل له ذلك ان كان بقدر حقه ، وان كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي له ان شاء» (٢) فلتحمل الأخبار المانعة على الكراهة ، جمعا ، بل ظاهر الصحيحة عدمها ، لكونه عليه السلام لا يجب المكروه ، إلا أن قاعدة التسامح تقتضي ثبوتها. ولو فرض التعارض بين الأخبار الخاصة وتساويهما في الظهور وغيره الموجب لتساقطهما من البين وجب الرجوع إلى عمومات الطرفين من وجوب ردّ الأمانات وجواز التقاص. والنسبة بينهما وإن كان من العموم والخصوص من وجه ، إلا أن المرجح لما عرفت مع عمومات التقاص ، مضافا إلى منع كون الأخذ بالتقاص خيانة ، بل لعله إحسان عليه بإبراء ذمته ، بل هو نوع إيصال له وردّ إليه ، فالأظهر ـ كما عليه الأكثر ـ هو الجواز مطلقا ، ولو كان من غير جنس حقه.

هذا وحيثما أراد التقاص ولم يمكن الأخذ بقدر حقه الا ببيعه كما لو كان له عليه مأة درهم وعنده سيف مثلا قيمته مأتان تولّى بيعه ليقتص بثمنه قدر حقه ، ففي ضمانه لو تلف قبل بيعه بغير تعدّ وتفريط وعدمه وجهان ، بل قولان : اختار بعضهم العدم لان القبض المتجدد بعد القصد وإن لم يرض به المالك وخرج المقبوض عن كونه أمانة مالكية إلا أنه كان

__________________

(١) المصدر الآنف الذكر ، حديث (٢). وأبو العباس هو البقباق.

(٢) تهذيب الشيخ الطوسي كتاب المكاسب أخر أحاديث التقاص حديث (١٠٦) : «عن محمد بن عيسى عن علي بن سليمان قال : كتب اليه .. والظاهر أن المقصود هو الباقر عليه السلام ، بقرينة ما قبله من الحديث.

٢٨٥

مأذونا من الشرع فيكون أمانة شرعية ، والأمين مطلقا لا يضمن سواء كان مالكيا أو شرعيا.

ويضعف بأن الإذن الشرعي أعم من المجاني والضمان بالعوض ، والعام لا يدل على خصوص الخاص ، واليد من أسباب الضمان كالإتلاف لعموم «على اليد» (١) ونحوه بعد فرض خروج ما تحتها عن كونه أمانة مالكية ، ولا ملازمة بين المأذونية والأمانة الشرعية التي معناها استنابة المأذون في حفظ مال المالك بجعل الشرع ، كالثوب الذي أطارته الريح وأما التصرف المأذون في مال الغير بإتلاف عين أو منفعة كالأكل في المخمصة فقبضه مقدمة للإتلاف المأذون ، وان كان مأذونا فيه ، لأن الاذن في الشي‌ء إذن في لوازمه ، إلا أنه قبض ضمان لليد وعدم كون الاذن به للحفظ لمالكه ، بل لكونه مقدمة للإتلاف الذي رخص فيه شرعا ، فلو تلف قبل إتلافه كان عليه ضمانه ، وليس إلا لليد الموجبة له بعد أن لم يكن القبض قبض أمانة شرعية ، وان كان مأذونا به من الشارع ، فاذا الأظهر الضمان بمجرد القبض المراد به التقاص ، ولو ببيعه والتقاص بثمنه وان جواز ذلك من باب التولية دون الولاية التي لا معنى لضمان الولي كالحاكم ونحوه.

وفي ضمان الزائد على ما اقتص به من ثمنه ، وعدمه وجهان. بل قولان : والأقوى العدم وفاقا للقواعد وغيره ، لكونه بالنسبة إليه أمينا من الشارع استنابه على حفظه لمالكه الى أن يوصله اليه فورا ، فلو أخر لا لعذر دخل في ضمانه ، خلافا لشيخنا في (الجواهر) تبعا لغيره. ولعله نظرا إلى كونه من ثمن مال مضمون عليه بجملته. وفيه : ان أحكام

__________________

(١) سيأتي الكلام ـ من السيد الماتن ومنا ـ حول هذه القاعدة المسئلة من الحديث النبوي الشريف في الرسالة الآتية (قاعدة اليد).

٢٨٦

اليد تختلف باختلاف العناوين الطارئة عليها ، فاليد على الزائد من الثمن غيرها على العين المثمن باختلاف عنوانها ، فافهم فإنه واضح.

(المبحث الخامس)

في ولاية المتصدق لمجهول المالك ، لقطة كان أو غيرها ، وهو : عين أو دين.

فان كان الأول تخير بين التصدق به أو بثمنه ، لو كان الصلاح في بيعه عن مالكه ، لثبوت الولاية له في ذلك بالنصوص المستفيضة وبين دفعه إلى الحاكم أو حفظه والإيصاء به (١) ولا يضمنه على الأخيرين.

__________________

(١) وعلى كل من هذه الموارد الثلاثة شواهد من النصوص المذكورة في كتاب اللقطة من كتب الاخبار ، فشاهد التصدق من قبل الملتقط قول أمير المؤمنين عليه السلام ـ وقد سئل عن حكم اللقطة ـ : «يعرّفها فان جاء صاحبها دفعها إليه وإلا حبسها حولا ، فان لم يجي‌ء صاحبها أو من يطلبها تصدق بها» ـ كما في الوسائل باب ٢ من أبواب اللقطة. وشاهد الدفع الى الامام عليه السلام والى الحاكم ـ بحكم نيابته العامة عنه رواية داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله (ع) قال : قال رجل : إني قد أصبت مالا وإني قد خفت فيه على نفسي ، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه قال : فقال له أبو عبد الله (ع) ، والله ان لو أصبته كنت تدفعه اليه؟ قال : إى والله ، قال : فأنا ـ والله ـ ماله صاحب غيري ، قال : فاستحلفه أن يدفعه الى من يأمره ، قال : فحلف ، فقال : فاذهب فاقسمه في إخوتك ، ولك الأمن مما خفت منه ، قال : فقسمته بين إخواني» ـ الوسائل باب ٧ من أبواب اللقطة. وشاهد الحفظ والإيصاء به

٢٨٧

وفي ضمانه على الأول لو حضر المالك ولم يرض بالأجر؟ قولان : أشهرهما ذلك ، للنص (١) ولولاه لأمكن القول بعدمه ، لأن ذلك نوع إيصال إلى المالك بعد تعذر إيصال العين إليه : وهو الوجه للقول بالعدم ، لا ما قيل ـ كما في (الروضة) : من كونه أمانة قد دفعها بإذن الشارع فلا يتعقبه الضمان (٢) لأن الإتلاف من أسباب الضمان ، والاذن به أعم من كونه مجانا أو بالعوض.

وان كان الثاني أمكن القول بتعيين الدفع الى الحاكم ، لان المدفوع لا يتعين كونه للمالك لكي يتصدق عنه الا بقبضه أو قبض من يقوم مقامه من الوكيل أو الحاكم ، إلا أن إطلاق أدلة التصدق يعطي كون ولاية

__________________

رواية علي بن جعفر عن أخيه الكاظم (ع) : «قال : سألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم أو ثوبا أو دابة : كيف يصنع؟ قال : يعرفها سنة فان لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجي‌ء طالبها فيعطيها أباه وان مات أوصى بها ، فإن أصابها شي‌ء فهو ضامن» ـ الوسائل باب ٢ من أبواب اللقطة.

(١) في الوسائل باب ٢ من أبواب اللقطة حديث (١٤) : «عن علي ابن جعفر عن أخيه عليه السلام قال : وسألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرفها سنة ، ثم يتصدق بها ، فيأتي صاحبها : ما حال الذي تصدق بها؟

ولمن الأجر؟ : هل عليه أن يرد على صاحبها أو قيمتها؟ قال : هو ضامن لها ، والأجر له ، الا أن يرضى صاحبها فيدعها والأجر له».

(٢) راجع : كتاب اللقطة ، الفصل الثالث في لقطة المال. في شرح قول الماتن (وفي الضمان خلاف) أي في الضمان وعدمه. فبعد أن ذكر منشأ الضمان : من دلالة الاخبار ، وقاعدة (على اليد) ، وكونه إتلاف مال الغير ـ ذكر منشأ عدم الضمان ، فقال : ومن كونه أمانة .. إلخ.

٢٨٨

التعيين له أيضا كالمالك في الزكاة ، الذي له ولاية التعيين والتبديل. ولكن الاحتياط في الدين لا ينبغي تركه.

ولو كان لقطة التي معناها المال الضائع لا مطلق ما لا يد عليه من المال تخير الملتقط بعد التعريف ـ حيث يجب ـ بين الوجوه الثلاثة المتقدمة وزيد فيها ـ مطلقا أو في غير الحرم منها ـ جواز التملك بالنية مضمونا عليه لمالكه لو ظهر وطلبه بالمثل أو بالقيمة بمعنى تملكه بنحو المجان غير مضمون عليه إلا بعد الظهور والمطالبة لا بمعنى كونه مضمونا من حين التملك بنحو المعاوضة أو بنحو الضمان الموجب لاشتغال الذمة بالمثل أو القيمة عند التلف قبل الظهور فيكون دينا على التقديرين يخرج لو مات من أصل التركة ، كما يظهر من عبارات الأكثر إلا أنها منزلة على ما ذكرنا ، كما هو مفاد الأخبار الواردة في المقام ، وصرح به الشيخ على ما حكى عنه في (التذكرة) حيث قال : «مسألة قال الشيخ رحمه الله : اللقطة تضمن بمطالبة المالك لا بنيّة التملك» وإن أورد عليه بقوله ـ بعده ـ : «وفيه نظر لأن المطالبة تترتب على الاستحقاق فلو لم يثبت الاستحقاق أولا لم يكن لصاحبها المطالبة فلو ترتب الاستحقاق على المطالبة لزم الدور» (١). إلا أنه فيه أن علقة المالك ـ حسبما دلت عليه الأدلة ـ لم تذهب بالكلية وان ضعفت حتى بلغت أدنى مراتب الملك من مرتبة ملك أن يملك ، وهذه المرتبة كافية في جواز المطالبة والتغريم بعدها. وكيف كان فلو نوى الحفظ لمالكه بعد نية التملك لم يخرج عن كونه مضمونا بالمعنى الذي ذكرنا من الضمان التقديري بحيث لو ظهر وطلب كان عليه ردّ المثل أو القيمة مطلقا أو مع تلف العين ، ومع وجودها ردّها ، فيكون بحكم الفسخ الموجب لذلك لعدم الخروج

__________________

(١) راجع هذا الموضوع في آخر المبحث الأول ـ الضمان وعدمه ـ من المطلب الثاني في الأحكام من كتاب اللقطة.

٢٨٩

بمجرد ذلك عن ملكه وصيرورته أمانة بيده. ولو انعكس الأمر ، بأن نوى التملك بعد نيته الحفظ صح تملكه وضمن بالمعنى المذكور من حينه وليس اختيار الحفظ مانعا عن جواز التملك لكونه مشمولا لإطلاق ما دل على جوازه. وتفصيل الكلام في المقام موكول الى محله. والمقصود هنا بيان ثبوت الولاية في الجملة لمن بيده المال أو عليه قيمته ـ

(المبحث السادس)

في ولاية الحسبة التي هي بمعنى القربة ، المقصود منها التقرب بها إلى الله تعالى. وموردها كل معروف علم إرادة وجوده في الخارج شرعا من غير موجد معين. فهو من قبيل ما كان فيه ولاية الفقيه ، غير أنه متعذر الوصول له حتى يرجع إليه. وثبوتها في مواردها مدلول عليه بالكتاب عموما ، نحو قوله تعالى «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١) وقوله : «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» (٢) بعد معلومية كونه إحسانا. والسنة المستفيضة عموما كقوله (ص) : «عون الضعيف من أفضل الصدقة» ونحوه. وخصوصا ، كما ستعرف ، والإجماع بقسميه ـ محصلا ومنقولا ـ فوق حد الاستفاضة ، بل وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام.

فمن الموارد المنصوص عليه بخصوصه : ولاية عدول المؤمنين فيما لم يكن أب ولا جد ولا وصي ولا حاكم أن يأتوا بما للأب والجد فيه الولاية أو الحاكم ، مع عدم لزوم المباشرة. ضرورة تقدمهم عليهم ان وجدوا

__________________

(١) سورة البقرة ـ ١٩٥ ، ومبدء الآية : «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَأَحْسِنُوا ..».

(٢) سورة التوبة ـ ٩٢. ومبدء الآية «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ..».

٢٩٠

نصا وفتوى ، بل ضرورة ، لما رواه في (الكافي) في الصحيح : «عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : مات رجل من أصحابنا ولم يوص ، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة ، فصيّر عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن ، إذ لم يكن الميت صير اليه وصيته ، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي ، لأنهن فروج ، فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السلام ، فقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ويخلف الجواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن ، أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج. فما ترى في ذلك القيّم؟ قال فقال : إذا كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس» (١). ومثله ما رواه في التهذيب في آخر الوصايا ، لكن بزيادة تقييد عبد الحميد فيه (بابن سالم العطار) وكذا حكاه عنه في (نقد الرجال) (١) بالزيادة المذكورة.

والوجوه المحتملة في المماثلة بين أمور أربعة : المماثلة في الايمان بالمعنى الأعم ، أو في الوثاقة وبينهما عموم من وجه ، أو في الفقاهة لكون محمد بن إسماعيل بن بزيع من الفقهاء من مشايخ بن شاذان ، وعبد الحميد ان أريد به ابن سعد البجلي الكوفي بناء على ظهور لفظ (الكتاب) فيها لما عن

__________________

(١) في الوسائل باب ١٦ من أبواب عقد البيع وشروطه ، حديث (٢) ينقله عن الكافي والتهذيب.

(٢) فقال هكذا : عبد الحميد بن سالم العطار ثقة .. ونقد الرجال تأليف المير مصطفى التفريشي المتوفى بعد سنة ١٠١٥ ه‍ ، وهو تاريخ فراغه من تأليف كتابه ، إذ لم يضبط لوفاته تأريخ معين.

٢٩١

(النجاشي) في حقه : «صفوان عنه بكتابه» (١) أو في العدالة.

لا سبيل إلى الثالث لمعلومية عدم اعتبارها مجردة عن غيرها من أحد العناوين المتقدمة ، مع منافاة اعتباره لإطلاق المفهوم الدال على ثبوت البأس مع عدم الفقيه ولو مع تعذره المفروض ارادة إيجاده مع فقد الفقيه أيضا ولو لتعذر الوصول اليه ، وهذا بخلاف الاحتمالات الأخر ، فإن البأس ثابت للفاسق أو الخائن أو المخالف

وأما الوثاقة ، فيقرّب اعتبارها موثقة سماعة : «في رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك؟ قال : ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس» (٢) بناء على أن المراد من يوثق به في مراعاة المصلحة وملاحظة الغبطة ، كما ورد في صحيحة علي بن رئاب : «رجل مات وبيني وبينه قرابة وترك أولادا صغارا ومماليك وجواري ، ولم يوص ، فما تري فيمن يشترى منهم الجارية ويتخذها أم ولد ، وما ترى في بيعهم؟ قال : ان كان لهم ولي بقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجورا منهم ، قلت : فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية ويتخذها أم ولد؟ فقال : لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم وليس لهم أن يرجعوا فيما فعله

__________________

(١) في رجال النجاشي ـ حرف العين ـ : «عبد الحميد بن سعد بجلي كوفي ، له كتاب ، أخبرنا ابن نوح قال : حدثنا الحسن بن حمزة قال : حدثنا ابن بطة قال : حدثنا الصفار قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال : حدثنا صفوان عن عبد الحميد بكتابه».

(٢) في تهذيب الشيخ الطوسي من زيادات كتاب الوصية ، حديث (٢٢) هكذا : «أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن زرعة عن سماعة قال : سألته عن رجل.

٢٩٢

القيم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم (١) الخبر. وعليه فالظاهر كون عبد الحميد هو ابن سالم العطار ، الذي نص على وثاقته كثير من علماء الرجال ، وقيده به في (التهذيب) ولم نعثر على من نص على وثاقة عبد الحميد ابن سعد البجلي ، الا أن الآقا في (التعليقة) (٢) استقرب كونه هو ، واستبعد كونه ابن سالم ، معللا ـ مع سقوطه من نسخته في (التهذيب) ـ بأن المراد من أبي جعفر عليه السلام في الرواية : هو الجواد عليه السلام ، وابن سالم من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام ، لم يدرك الجواد عليه السلام ، فيعطي كونه ابن سعد البجلي الكوفي. وفيه ـ مع ان ابن سعد لم يثبت كونه أدرك الجواد عليه السلام أيضا ، وان قلنا باتحاده مع ابن سالم حيث أنه من أصحاب الرضا (ع) فقط أو الكاظم والرضا عليهما السلام ـ أن عبد الحميد ليس راويا عن الجواد عليه السلام حتى يلزم أن يكون حيا يومئذ ، وانما الراوي ابن بزيع. ولعل مراده : انه اتفق ذلك ولو قبل وقت السؤال بمدة ، وحكاه للإمام حكاية ، مع إمكان توثيقه أيضا بنفس هذه الرواية فتأمل ، ورواية صفوان الذي هو من أصحاب الإجماع عنه.

الا أن الأقوى ـ مع ذلك اعتبار العدالة ، للنص عليها في خبر إسماعيل بن سعد : «قال سألت الرضا عليه السلام عن رجل يموت بغير وصية وله ولد صغار وكبار : أيحل شراء شي‌ء من خدمه ومتاعه من غير

__________________

(١) المصدر نفسه ، حديث (٢١) سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علي بن رئاب قال : سألت أبا الحسن (ع) عن رجل بيني وبينه قرابة مات وترك ..

(٢) تعليقة الآقا الوحيد البهبهاني المتوفى سنة ١٢٠٦ ه‍ ـ كما هو الصحيح ـ على رجال الميرزا محمد الاسترآبادي المطبوع بايران ، طبعت معه في هامشه.

٢٩٣

أن يتولى القاضي بيع ذلك ، فان تولاه قاضٍ قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة ، أيطيب الشراء منه أم لا؟ قال عليه السلام : إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع ، فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك» (١). مضافا إلى أن الحكم ، أعني التصرف في مال الغير ، حيث كان مخالفا للأصل وجب الاقتصار فيه على الأخص منها ، وهو العدالة لأنها أخص من الايمان والوثاقة ، مع كونها المنساق إليها في أمثال ذلك عرفا.

هذا ومع تعذر العدول ، فهل يثبت ذلك لغيرهم من الفساق ، فيكون واجبا كفائيا على كل من يقدر عليه وان كان فاسقا؟ أو لا.

والكلام فيه (مرة) من حيث تكليفه نفسه في جواز تصدّيه وعدمه (وأخرى) من حيث فعله المرتبط به فعل غيره كشراء مال الطفل منه حيث تصدى لبيعه.

أما الأول فالظاهر جواز توليته ذلك مع المصلحة ومراعاة الغبطة ، توصلا إلى ما يريد الشارع إيجاده للمصلحة المترتبة على وجوده ، كتجهيز الميت الواجب كفاية على كل من يتمكن منه مع عدم ولي له مطلقا حتى الحاكم وعدول المؤمنين ، وحينئذ فلو أحرز صدور الفعل المعروف منه سقط عن الغير ، وان شك في صحته ، حملا للفعل منه على الصحيح بحكم أصالة الصحة في فعل المسلم. وفي قبول قوله لو أخبر بوقوعه منه صحيحا تردد ، ينشأ : من أنه يملك وقوعه كذلك فيملك الإقرار به كما يقبل قول الوكيل فيما وكل فيه. ومن لزوم التبيين في نبأ الفاسق بحكم آية

__________________

(١) تهذيب الشيخ الطوسي : آخر كتاب الوصية في الزيادات : آخر حديث (٢٠).

٢٩٤

النبإ» (١).

وأما الثاني ففي جواز الاقدام على ما يصدر منه من التصرف ، ولو مدعيا فيه المصلحة ومراعاة الغبطة ، إشكال ، ما لم يحرز ذلك فيه بنفسه ، فلا يجوز اشتراء مال الطفل من الفاسق المتصدي لبيعه ، ما لم يحرز المشتري الغبطة له في بيعه ، إذ لم يقع منه فعل حتى يحمل على الصحيح بل هو متصد لوقوعه ، وغير مصدق في دعواه الغبطة ، وان كان الاخبار بها مرجعه غالبا إلى علمه الذي لا يعلم الا من قبله. وهذا بخلاف العادل المصدق في خبره بالنسبة إلى المخبر به في الواقع ، وان كان من علمه الذي هو طريق له اليه ، وليست المصلحة مما لا طريق الى ثبوتها الا بعلم المخبر الذي لا يعلم إلا من قبله حتى يجب تصديق الفاسق في خبره لترتب المخبر به عليه.

وبعبارة أخرى : تصديق خبر العادل بحكم مفهوم آية النبإ ولزوم التبين في خبر الفاسق بحكم منطوقها انما هو في كل منهما بالنسبة إلى المخبر به ، دون نفس الخبر وبالجملة ، الحكم هنا ـ وهو جواز التصرف في مال الطفل ـ محمول على تصرف فيه الغبطة له ، فيجب أولا إحراز الموضوع في ترتب الحكم عليه ، فلا بد في كل فعل يقع بين اثنين من إحراز الموضوع لكل منهما في ترتب الحكم عليه. ولعله يعطي ذلك وقوع السؤال عن حل الشراء وطيبة في خبر إسماعيل بن سعد ، الدال بمفهوم الجواب على ثبوت البأس إذا لم يقم عدل في ذلك.

وعليه فيجوز ـ بل يجب ـ أخذ المال من يد الفاسق المتصدي لبيعه ما لم تعلم الغبطة فيه ، لأن عموم أدلة القيام بذلك المعروف لا ترفع اليد

__________________

(١) وهي قوله تعالى ـ كما في سورة الحجرات ـ ٦ ـ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ».

٢٩٥

عنها بمجرّد تصرّف الفاسق ، فان وجوب إصلاح مال اليتيم ومراعاة غبطته لا ترتفع عن الغير بمجرد تصرف الفاسق

نعم لو وجد في يد الفاسق ثمن من مال الصغير لم يلزم الفسخ مع المشتري وأخذ الثمن من الفاسق ، لأن مال اليتيم الذي يجب إصلاحه وحفظه من التلف لا يعلم أنه الثمن أو المثمن ، ولعل أصالة صحة المعاملة من الطرفين تحكم بالأول ، ان لم تكن مثبتة ، لكن يجري المنع عن تناول الثمن على كل من تقديري صحة المعاملة على المثمن وفسادها ، لبقائه على ملك مالكه على الثاني ، وعدم إحراز المصلحة فيه على الأول.

هذا وليعلم ان تصرف العدول مع فقد من هو مقدم عليهم في المرتبة ليس على وجه النيابة عن الحاكم ، فضلا عن كونه على وجه النصب من الامام عليه السلام ، بل هو محض امتثال للتكليف به وجوبا أو استحبابا ، فيجوز لغير المتصدي منهم مزاحمة المتصدي فيه ، وان دخل في مقدمات العمل ، وكان الأثر لمن سبق منهما في النتيجة دون المقدمات.

وأما الحكام ففي جواز مزاحمة بعضهم لمن سبقه منهم في مقدمات العمل دون نفسه؟ وجهان : مبنيان ـ كما قيل ـ على مستند ولاية الحاكم فإنه : إن استندنا في ولايته إلى أمره عليه السلام ، بإرجاع الحوادث إليه في (التوقيع المتقدم) جازت مزاحمته قبل وقوع التصرف منه وان دخل في مقدماته لان المأمورين بالإرجاع هم العوام دون الحكام ، فإنهم أولياء في مرتبة واحدة كالأب والجد له الموجب لنفوذ تصرف السابق منهما في نفس الفعل دون مقدماته ، وان استندنا إلى عمومات النيابة كما يعطيه إضافة (الحجة) إلى نفسه في تعليله «بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» وغيره ، فيمكن أن يقال بعدم جواز المزاحمة بعد سبق أحدهم ، ولو في مقدمات الفعل ، لأنه بعد تنزيله منزلة الامام بالنيابة التي مرجعها إلى تنزيل

٢٩٦

النائب منزلة المنوب عنه ، كان كمن زاحم الامام عليه السلام ، بعد دخوله ولو في مقدمات الفعل ، المعلوم عدم جواز ذلك.

لكن الأظهر جواز ذلك مطلقا ، وان استندنا في ذلك الى عمومات النيابة ، لأن المنع حينئذ انما يتم لو كانت النيابة متعلقة بمقدمات الفعل أيضا كنفسه ، وهو ممنوع إذ المسلّم كون الفعل بنفسه متعلق النيابة دون مقدماته ، فلا ينزل منزلة الإمام إلا حيث يدخل فيما كان نائبا عنه فيه وهو نفس التصرف المعروف دون مقدماته ، وان هما الا كالوكيلين النافذ تصرف السابق منهما فيما وكّل فيه ، وان سبقه الآخر في مقدماته.

هذا كله ما لم تستلزم المزاحمة والسبق إلى النتيجة توهينا لمن سبقه في التصدي الداخل في مقدمات العمل قبله وإلا فهو ممنوع لذلك ، وهو أمر آخر ، لا دخل له بالجهة المبحوث عنها فافهم ، والله العالم بحقائق أحكامه.

ثم ما سمح به الدهر من تحرير مسألة الولاية ، لا ما أردناه ، إذ كان المرام هو التتبع التام والعوم في كلمات القوم ، واستحصال نهاية ما أرادوا واستنتاج غاية ما أفادوا ، فحال دون المرام حائل الأيام ، وتتابعت صروف الزمان ومعوقات الحدثان ، فمما أصبت به عند اشتغالي بالولاية : أن فجعت بولد ، وأي ولد ، روح له اللطف جسد ، علي الاسم والسمة ، لم أسمع في حبه لا ولمه ، نشأ أكرم منشأ ، ويعرّف حسن المنتهى بحسن المبدء غاص في بحار الفقه على الخفايا وبجودة الفكر أبرزها ، وجال في ميادين العلم لإحراز الغاية فأحرزها. ورثاه بعض العلماء (١). بقصيدة ، أولها :

__________________

(١) هو العلامة الأديب السيد رضا بن السيد محمد بن هاشم الموسوي النجفي الشهير بالهندي المتولد سنة ١٢٩٠ والمتوفى سنة ١٣٦٣ ه‍ والقصيدة تناهز الخمسين بيتا من روائع الأدب العربي ، نوجد بكاملها في مجموعنا المخطوط.

٢٩٧

ألم يكف بالمهدّي ما فعل الردى

فثنى وأشجى في علي محمّدا

فأقام فقده وأقعد ، وغار الحزن بقلبي وأنجد.

ما غاب عنّي إنما شوقه

يمثله عندي على شكله

فأطلق الدّمع لفقدانه

وأحبس القلب على ثكله

ما كنت بالجازع لو لم أكن

فجعت بالمهدّي من قبله

لا يبرء الآسون جرح الحشا

إن وقع الجرح على مثله (١)

أصبت به ولما يندمل جرح أخيه ، وحصلت منهما على ضدّ ما أرتجيه كنت أرتجي أن يكونا أكرمي خلف عن أكرم سلف ، يستكملان تليد الفضل والطريف ، ويرفعان قواعد الدين الحنيف.

فكان غير الذي قدّرت من أمل

(ما كل ما يتمنى المرء يدركه)

وطنت نفسي لما يجري القضاء به

رضا بما يفعل المولى ويتركه

قد يصعب المهر أحيانا وفارسه

يلوى الشكيم على شد قيد يعركه (٢)

«وحسبي الله ونعم الوكيل (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)»

__________________

(١) الظاهر : أن هذه الأبيات الأربعة من إنشاء المصنف ـ قده ـ في رثاء ولده وقرة عينه ، وتطفح العاطفة الأبوية من خلالها.

(٢) وهذه الأبيات الثلاثة أيضا من إنشاء قريحة السيد المصنف ـ قده ـ في رثاء ولديه وفلذتي قلبه ، فقد فقد بفقدهما عينيه الباصرتين وعجز البيت الأول تضمين لصدر بيت للمتنبي ، عجزه (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) من قصيدة له ـ كما في ديوانه يستهلها بقوله :

بمَ التَعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كأس ولا سكن

٢٩٨

رسالة

في قاعدة اليد

٢٩٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين : محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وعترته الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الآن الى يوم الدين. وبعد ، فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الحسني الحسيني الطباطبائي (١).

(مسألة)

في قاعدة اليد والكلام فيها (مرة) في موضوع اليد ومعناها (وتارة) في اعتبارها بعد قيام الدليل عليه من حيث كونها أصلا أو إمارة ، (وأخرى) في أحكامها وسعة عمومها (ورابعة) في معارضتها مع غيرها وتقديمها عليه وتقديم الغير عليها فهنا مقامات :

__________________

(١) هكذا كان سيدنا وجدنا (بحر العلوم) يكتب في توقيعاته الشريفة ويوجد لدينا بعض صور خطه الشريف موقعا ب (محمد المهدي الحسني الحسيني الطباطبائي) وذلك بحكم انتسابه إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الامام الحسن السبط (ع) وأم إبراهيم الغمر ـ المدفون في الكوفة ـ فاطمة بنت الامام الحسين (ع) ، فهو من طرف الأب حسني طباطبائي ، ومن طرف الأم حسيني فاطمي.

٣٠٠