بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

يدور مدار تحقق منشأ انتزاعه ، سواء كان المنشأ من الأسباب الواقعية المستحيل التخلف أو الشرعية الممكن في حقه ذلك في الواقع.

وحيث تحققت الإحاطة بالشي‌ء الحاصلة من الاستيلاء عليه كانت موجبة لاختصاص المحاط بالمحيط وإضافته اليه ومقتضية له ما لم يمنع عنه مانع من الاختصاص بالغير ، ضرورة أن الإحاطة على ما لا اختصاص له بأحد يوجب انتزاع الاختصاص الخاص اليه ، وحيثما شك فيه كان مقتضى الأصل عدمه (وسبق) الملكية للغير من حيث هو سبق ، سيما لو كان مجهولا مع الشك في بقائها كما هو الغالب في موارد اليد (لا) ينافي الملكية للثاني ، لعدم اتحادهما في الزمان ، وانما المنافي هو كونه حين ما هو في اليد مستحقا للغير ، وهو كما يحتمل ، يحتمل العدم لإمكان الانتقال اليه ولو من المالك الأول ، فيكون الثاني من شئون سلطنة الأول وفي طوله فمرجع الشك حينئذ إلى الشك في كون اليد الفعلية طولية أو عرضية ، ويكفي في ترتب الأثر على اليد الفعلية من انتزاع الإضافة الخاصة منها إلى صاحبها عدم إحراز كونها عرضية للأصل ، وان لم يثبت به كونها طولية بعد ثبوت المقتضي وعدم المانع بالأصل ، فلا تزاحم اليد الفعلية باليد السابقة ، سواء كان الشك في حدوثها للأصل أم في دوامها بعد العلم بحدوثها لأن المنافاة في الثاني منفية بالأصل أيضا كما عرفت.

نعم هي مستصحبة ، ومقتضاها ، وان كان ذلك ، الا أن التفكيك بين الأحكام في مجاري الأصول التعبدية غير عزيز فتأمل (١) ، مع كون اليد ـ كما ستعرف ـ مقدمة على الاستصحاب ، إذ لولاه لما قام للمسلمين سوق.

__________________

(١) وجه التأمل : هو أن الشك في المزاحمة وعدمها مسبب عن الشك في دوام اليد وعدمه ، والأصل في السبب حاكم على الأصل في المسبب فبالاستصحاب يتعين كونها عرضية (منه رحمه الله).

٣٤١

وبالجملة ، فمنشأ الانتزاع ، وهو الاستيلاء ما دام موجودا كان مقتضيا لانتزاع الإضافة الخاصة منه ما لم يمنع مانع عنه من كونها يدا عرضية ، وقد عرفت أن مقتضى الأصل عدمه ، والاستصحاب غير مجد في المقام.

وإذ قد عرفت ذلك ، ظهر لك جواز الشهادة على الأمر المنتزع ، وهو الملكية ، بمشاهدة منشأ انتزاعه ، فاليد ولو كانت مجردة عن التصرف كما يجوز الشهادة عليها إذا كانت معلومة بالحس أو غيره ، كذلك يجوز الشهادة على ما ينزع منها من الاختصاص الخاص ، ضرورة معلومية المنتزع بمعلومية منشأ انتزاعه ، ولا ينافي كونها من هذه الحيثية سببا لانتزاع الملكية كونها كاشفة عن سبق الاستحقاق بالغلبة. ولا كذلك مؤدى غيرها من الأصول والأمارات الموجبة للحكم به تعبدا ، ولذا لا تجوز الشهادة بمؤدى الاستصحاب والبينة ، مع أنها أقوى من اليد ـ كما ستعرف ـ فما دل على اعتبار اليد في إفادتها الملك انما هو في الحقيقة إمضاء من الشارع لما عليه العرف والعقلاء من الانتزاع المذكور بمشاهدة منشأ انتزاعه ، ويشهد لما ذكرنا : ما هو المعلوم : من جواز الشهادة على الملك المطلق بمشاهدة أسبابه الشرعية كالبيع ونحوه مع عدم العلم بملك البائع للمبيع الموجب لسراية الشك الى ملك المشتري لتوقفه عليه في الواقع ، وليس إلا لكون السبب الشرعي معلوما بالحس أو غيره ، وترتب المسبب على السبب علمي من غير حاجة الى تقييد الملك فيه بالظاهر ـ وكونه حكما ظاهريا ، فكذلك اليد والاستيلاء إذا كان مشاهدا جازت الشهادة بما ينتزع منه لكونه معلوما بمعلومية منشأ الانتزاع ، وان كان اعتباره للحكم بسبق الاستحقاق من باب الامارة الكاشفة عنه بالغلبة.

ولذا حكي عن (كشف اللثام) تشبيه الشهادة بمقتضى بعض الطرق الشرعية بالشهادة على أثر الأسباب الشرعية فإنها أيضا محتملة للفساد ، كما

٣٤٢

تحتمل الطرق التخلف.

وان استغربه في (الجواهر) وأورد عليه بوجهين : لا يخلو ان من نظر ـ حيث قال بعد حكايته عنه ـ : «وفيه أولا ان من الواضح للفرق بينهما ضرورة أن الشارع قد جعل السبب في الظاهر سببا للأثر فيه على وجه لم يتخلف عن مقتضاه ، بخلاف الطريق ، فإنه قد جعله طريقا مع تخلفه ، إذ التصرف قد يجامع غير الملك بخلاف البيع الصحيح بحسب الظاهر ، فإنه لا يتخلف عن أثره فيه كالسبب في الواقع. وان أبيت عن ذلك وفرضت صورة تختلف فيها الشهادة بالسبب وأثره لم تجوّز للشهادة بالأثر أيضا ، بل لا بد فيها إذا كانت عند الحاكم من الشهادة بالسبب نفسه وفعله. ولذا أوجب الأصحاب ذكر السبب في الشهادة بالجرح ، ولم يجوزوا الشهادة بالأثر ، لاحتمال كونه غير مسبب عند الحاكم ..» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وأنت خبير بما فيه : أما الأول ، فلما عرفت : من عدم الفرق بين اليد من حيث كونها منشأ وسببا للأمر المنتزع منه المشهود به ، وبين غيرها من الأسباب الشرعية ، وان كان الفرق بينهما من حيث كونها كاشفة عن سبق الملك بالغلبة واضحا.

ولعل (الجواهر) اقتصر نظره إليها من حيث الكاشفية دون حيث السببية التي هي الوجه للتشبيه في كلام (الكشف) ولذا اختصت اليد

__________________

(١) راجع ذلك في نفس الباب الآنف الذكر من الشرائع في شرح قول المحقق : أما من في يده دار ،. وقبل هذه العبارة قوله : ومن الغريب ما في (كشف اللثام) من تشبيه الشهادة بمقتضي الطرق الشرعية بالشهادة على أثر الأسباب الشرعية فإنها أيضا محتملة للفساد كما تحتمل الطرق التخلف. وفيه .. إلخ.

٣٤٣

بجواز الشهادة بمفادها دون غيرها من سائر الأمارات التي لا توجد فيها الحيثية السببية. وأما الثاني ، فلان ذكر السبب في الجرح إنما هو لاحتمال أن لا يكون سببا عند الحاكم وان كان سببا عند غيره ، وهذا غير الطريق المعلوم كونه طريقا ، وان احتمل تخلفه عن الواقع ، فتخلف الطريق بعد معلومية كونه طريقا غير الشك في نفس الطريقية ، وكونه طريقا أولا ، والذي يشبه ذكر السبب في الجرح هو الثاني دون الأول ، فالقياس بينهما ـ مع كونه قياسا ـ قياس مع الفارق.

ولعل ما ذكرنا من سببية اليد للانتزاع منها وجواز الشهادة على الأثر المنتزع من منشأه والتشبيه بالأسباب الشرعية في جواز الشهادة مع احتمال التخلف في السبب مستفاد من نفس الخبر المتقدم من قوله : «أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال : لعله لغيره» إلخ ، فتكون الرواية على ما ذكرنا ، وفتاوى أكثر الأصحاب في جواز الشهادة على مفاد اليد من الملك موافقة للقاعدة ، ولذا أفتى بمضمونها من لا يعمل بخبر الواحد.

وان كان صحيحا فضلا عن الضعيف منه ولو كان منجبرا. اللهم الا أن يفرق في جواز الشهادة على الأمر المنتزع بين ما كان منشأ انتزاعه سببا كالحيازة أو كاشفا عن سبب متقدم ، فتجوز الشهادة على المنتزع في الأول ولا تجوز في الثاني ، إلا على نفس المنشأ دون المنتزع منه ، لكونه معلوما على الأول ، ومظنونا على الثاني ولو بالظن المعتبر شرعا. نعم تحقق المنشأ وهو اليد سبب لتحقق الحكم بالملك شرعا لا واقعا ، فتأمل.

(العاشر)

الأصل في اليد على مال الغير إيجابها الضمان ودخوله في عهدة ذي اليد إلى حصول التأدية بنفسه مع وجوده ، وببدله مع تلفه بالمثل إن كان

٣٤٤

مثليا ، وبالقيمة ان لم يكن ، الا ما استثني. ويدل على سببيتها للضمان ـ مضافا الى الإجماع عليها بقسميه في الجملة ، وقاعدة الاحترام الموجبة لذلك حسبما مر تفصيلها في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (١) النبوي المنجبر ضعف سنده بتلقي الأصحاب له بالقبول ، واستدلالهم به عليه في كثير من الموارد ، وهو : «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (٢)

__________________

(١) مضى تحقيق ذلك ضمن الرسالة الثانية من الجزء الأول من هذا الكتاب

(٢) في كشف الخفاء للعجلوني ج ٢ ص ٦٩ يرويه عن أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحسن عن سمرة بن جندب بلفظ (حتى تؤديه) وكذلك في كنز العمال للمتقي ج ٥ ص ٢٥٧ ، وسنن البيهقي ج ٦ ص ٢٩ ومثله مستدرك وسائل الشيعة للنوري باب ١ من كتاب الغصب حديث (٤) ولكن في سنن أبي داود والترمذي ومثله : خلاف الشيخ الطوسي كتاب الغصب مسألة (٢٠) فيما إذا غصب شيئا ثم غير صفته .. وبعض كتب الحديث ترويه بلفظ (حتى تؤدي) وعلى كلتا صورتي روايته ، فالحديث متواتر النقل إجمالا. وبلغ من الشهرة بحيث اعتبر قاعدة كلبة يطبقها الفقهاء على مختلف مواردها من الفقه.

والملاحظ أنه ليس المقصود من اليد في الحديث المذكور : اليد الجارية إذ ربما ليس للمتعدي يد أصلا أو أن المأخوذ غير قابل لوضعه في اليد الخاصة كالدور ونحوها ، بل المقصود ههنا المعنى الاستعاري لليد ، وهو محض المستولي على الشي‌ء ، ومعناه إقرار الضمان القهري على صاحب اليد الآخذة من قبل الشرع أو العقل أو كليهما. فلا يرتفع هذا الضمان الاعتباري إلا بالأداء إلى المالك الحقيقي أو التنزيلي بواحدة من مراتب الأداء المندرجة ، برد العين مع وجودها ، أو برد مثلها مع إمكان ذلك ، أو برد قيمتها مع تعسر الأولين ـ كما ستعرف.

٣٤٥

الشامل بإطلاق اليد فيه لأنواع اليد الا ما خرج عنه بالدليل كيد الأمانة بالمعنى الأعم ، مالكية كانت أو شرعية. بناء على ما هو الظاهر منه ولو بمعونة فهم العرف من سياقه : من أن المراد (ثابت على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤدّي) فهو إنشاء لبيان حكم الشرع من الضمان ، لا إخبار عن كون المأخوذ كائنا في اليد الى زمان التأدية ، لأنه ـ مع كونه حينئذ من بيان الأمر البديهي الذي يجل عنه الحكيم ـ لا يناسب التعدي بكلمة (على) ولا التغيي بخصوص التأدية ، للزوم الكذب مع التلف قبلها ، ضرورة أن غايته التلف حينئذ دون التأدية ، فهو إنشاء لحكم شرعي تكليفي أو وضعي لا سبيل إلى الأول منهما ، فيتعين الثاني. وتقريبه : هو أن قوله (ص) (على اليد) متعلق بمحذوف هو خبر للموصول المتأخر بصلته ، والمحذوف المتعلق به إما من أفعال العموم كالثبوت والكون ، أو من أفعال الخصوص كواجب أو لازم ونحوهما.

ثم انه لا بد أيضا من تقدير مضاف للموصول بدلالة الاقتضاء بعد عدم صلاحيته بنفسه لأن يكون مبتدأ للخبر المتقدم حيث كان المراد منه الأعيان الخارجية المتصفة بكونها مأخوذة ، فهي بنفسها غير قابلة لتعلقها باليد المراد منها صاحبها ، وانما القابل لذلك انما هو باعتبار أمر آخر فيها من العهدة والضمان أو الحفظ أو الرد ونحو ذلك ، فهو نظير قوله تعالى «سْئَلِ الْقَرْيَةَ» الدال على سؤال الأهل بدلالة الاقتضاء : فان كان المضاف المقدر هو الضمان والعهدة كان المتعلق به المقدر من أفعال العموم نحو (ثابت) ، وان كان غير ذلك كان المناسب تقدير المتعلق به من أفعال الخصوص نحو (واجب ولازم) فيكون الحاصل على الأول (ثابت على اليد ضمان ما أخذت وعهدته) وعلى الثاني (واجب على اليد حفظ ما أخذت أورد ما أخذت أو أداء ما أخذت) ، فلا كلام في أصل

٣٤٦

التقدير والحذف ـ في الجملة ـ في المقامين ، انما الكلام في تعيين المقدر والمحذوف فيهما والأظهر ، بل الظاهر ، بل المتعين من سياق أمثال المقام بحسب المتفاهم عند العرف من نحو قولهم : على زيد مال عمرو ، وعليه دين ، وعليه دم فلان ، وعليك تفاوت قيمة ما بين الصحيح والمعيب في قول الصادق عليه السلام في صحيحة أبي ولّاد ، الى غير ذلك من الأمثلة : هو الأول ، فإن الأنسب بجعل التأدية غاية لحمل المحمول المقدر على الموصول هو ذلك ، دون المعنى الثاني الذي حاصله : واجب أو لازم على اليد حفظ المأخوذ أورده أو تأديته الى أن تؤديه ، فإن ذلك بين ما هو إظهار لحكم بديهي كتقدير الحفظ ، وما يوجب النفرة كتقدير الرد أو التأدية ، مع استلزامه خلو الحديث عن ذكر ما هو حكمه بعد التلف ، ويكون على الأول أتم فائدة وأعم نفعا. وحيث تعين المعنى الأول ، فالمستفاد منه هو حكم الوضع ، وان استلزم التكليف بدليل خارج أو بإجماع مركب ونحوه ، فمن يدعي ظهوره في الحكم التكليفي ، فلعل دعواه ناشئة من الغفلة عن الفرق في مدخول كلمة (على) بين ما كان من الأفعال نحو (عليك بالصدقة وعليك بصلاة الليل وأداء الفرائض) ونحو قوله تعالى «وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» وما كان من الأعيان كالأمثلة المتقدمة ، فدعوى الظهور في بيان الحكم التكليفي مسلمة في الأول ، وممنوعة في الثاني ، بل الظاهر فيه كونه بيانا للحكم الوضعي ، وان لم ينفك عن التكليف.

هذا مع إمكان ان يقال : بعدم الحاجة إلى الحذف والتقدير على تقدير كونه بيانا للحكم الوضعي بدلالة كلمة (على) الموضوعة للضرر على العهدة والضمان ، كدلالة (كلمة اللام) على الملك المتعلقة بالأعيان والأموال عند الإطلاق ، فإنها منصرفة إلى الاختصاص المطلق المساوق للملكية والملازم لها ، وان كانت في الأصل موضوعة لمطلق الاختصاص

٣٤٧

فكذلك كلمة (على) فإنها عند الإطلاق منصرفة إلى التضرّر المطلق الذي هو ضد الملكية للضمان أو ملازم له ، فقوله (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ضد قوله (ع) : «اليد ما أخذت وللعين ما رأت» (١) فكما أن الثاني دليل على الملكية ، فالأول دليل على الضمان والعهدة ، فلا يحتاج في الاستدلال بالحديث على الضمان الى تكلف الحذف والتقدير فان هذا المعنى انما يستفاد منها باعتبار كونها ملاحظة لمعنى أسمى هو الضمان والعهدة ، كما في دلالة سائر الحروف على المعاني الحرفية المعبر عنها عند إرادة تفصيل معانيها بمعان اسمية ، مثل أنه يقال : (من) للابتداء (والى) للانتهاء (واللام) للاختصاص (وهذا) للإشارة ، ونحو ذلك ، بل لعل فهم الأصحاب ذلك منه حجة أخرى كاشفة عن قرينة كانت موجودة فيه خفيت علينا.

وحيث قد عرفت معنى الحديث وما يراد منه ، فاعلم ان الحديث بالنسبة إلى أفراد اليد وأنواع الأخذ ، وان كان مطلقا ، الا أنه بالنسبة إلى زمان الأخذ إلى حين الأداء عام ، فلو ثبتت يد على مال لا بعنوان الضمان

__________________

(١) في الكافي للكليني ، كتاب الصيد ، باب صيد الطيور الأهلية حديث (٦) «بإسناده : أن أمير المؤمنين (ع) قال في رجل أبصر طائرا فتبعه حتى سقط على شجرة ، فجاء رجل آخر فأخذه فقال (ع) : للعين ما رأت ولليد ما أخذت». وفي (من لا يحضره الفقيه) للصدوق باب ٤٧ نادر من أبواب القضاء والأحكام حديث (١) : «روى السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (ع) : أنه سئل عن رجل أبصر طيرا .. الحديث. وفي (التهذيب للشيخ الطوسي) : كتاب الصيد والذبائح باب الصيد والذكاة ، حديث (٥٧) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في رجل .. الحديث.

٣٤٨

في وقت كيد الأمانة ـ مثلا ـ ثم شك في ضمانها لعروض ما يوجب الشك به في أصل معنى الأمانة ، حكمنا على اليد فيه بالضمان ، وان اقتضى الاستصحاب عدمه ، لعموم (على اليد) القاضي بالضمان في جميع الأزمان من أن الأخذ إلى آن التأذية ، والخروج عنه في زمان لا ينافي الدخول فيه في بقية الأزمان ، ولا يعارض استصحاب حكم المخصوص عموم العام ، ولذا استدلوا على الضمان في صورة التعدي أو التفريط بعموم (على اليد) ولم يلتفتوا الى استصحاب عدمه قبله نعم لو ثبت بالاستصحاب نفس العنوان الخاص المخرج به عن العموم دون حكمه ، قدم عليه ، لأنه من الأصل الموضوعي المرتب عليه حكمه ، وهذا في الحديث عكس قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنه عام بالنسبة الى الأفراد ، مطلق بالنسبة إلى الزمان فلو ثبت في وقت عدم وجوب الوفاء بعقد ثم شك فيه في وقت آخر كان اللازم استصحاب حال المخصص ، كما لو شك في لزوم البيع الغبني للشك في كون الخيار على الفور أو باق بعد للعلم به ، فاللازم هنا استصحاب حكم المخصص الحاكم على العموم المستفاد من دليل الحكمة في «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» المطلق بالنسبة إلى الأزمان ، ضرورة صلاحية الاستصحاب لان يكون بيانا في مورد كان العموم فيه من جهة عدم البيان ، فلا إشكال ، كما توهم في تقديم استصحاب حال المخصص على حال العموم في «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ولو شك في لزوم العقد في زمان لم يكن لازما قبله ، وتقديم حال العموم على حكم المخصص في حديث (على اليد) لو شك في ضمان يد في زمان لم تكن على الضمان في زمان قبله ، لوضوح الفرق بين المقامين ، فإن دلالة الحديث على الضمان في الأزمان من زمان الأخذ إلى حين التأدية بالعموم المستفاد من التقييد بالغاية ، وعلى أفراد اليد بالإطلاق بدليل الحكمة ، والاستصحاب لا يقاوم العام لحكومته عليه فيتعاكسان في

٣٤٩

تقديم أحدهما على الآخر في الحديث والآية ، فيقدم حال العموم على استصحاب حكم المخصص في الأول وبالعكس فيقدم حال المخصص على العموم الناشي من الحكمة في الآية ، وهو واضح بأدنى تأمل ، فافهم.

(المقام الرابع)

في حكم معارضتها مع غيرها من الاستصحاب أو البينة أو الاستفاضة فهنا موارد ثلاثة :

(الأول)

في معارضتها مع الاستصحاب. والكلام فيه مرة ـ في غير صورة التنازع ـ وأخرى ـ فيها. وعلى التقديرين فباعتبارهما : إما من باب الكشف فيهما أو التعبد كذلك أو بالاختلاف بينهما من حيث جهة اعتبارها فهنا صور :

والحق تقدم (اليد) على الاستصحاب مطلقا ، سواه قلنا باعتبارها من باب الامارة كما يعطيه صدر خبر حفص من قوله «أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل» إلخ الظاهر في كون النقص عليه بما هو عليه بناء العقلاء فيكون إمضاء منه ـ عليه السلام ـ لما هو عليه طريقتهم ، أم من باب التعبد كما لعله يعطيه ذيل الخبر الظاهر في كون منشأ الجعل والتعبد هو قيام السوق ، وانه لولاه لاختل النظام ، وسواء قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الكشف أم التعبد.

أما على المختار : من كونها إمارة كاشفة عن الواقع ، والاستصحاب اعتباره من باب التعبد ، فتقديمها عليه واضح ، ضرورة حكومة الأمارة التي هي في الموضوعات بمنزلة الدليل الاجتهادي في الأحكام على الأصل.

٣٥٠

وأما تقدمها عليه على بقية الأقوال في كيفية اعتبارهما ، فلانة لما لم ينفك مورد (اليد) غالبا عن استصحاب مخالف لها في الاقتضاء ، كان اعتبارها لو لا التقدم لغوا وحمل الأخبار الكثيرة على فرض مورد نادر يمكن فيه التفكيك بينهما كما لو علم دخول المباح أما في ملك زيد أو عمرو دون غيرهما وشاهدناه في يد أحدهما ، فاستصحاب عدم الملك بالنسبة الى من هو في يده معارض بمثله في الآخر ، وبعد التساقط يحكم به باليد لصاحبها ، بعيد عن الصواب.

هذا ويظهر من بعض إلغاء اليد في صورة التداعي بتقديم الاستصحاب عليها ، وهو ليس يجيد إلا في صورة ما لو اعترف ذو اليد بسبق يد المدعي أو ملكه ، فيطالب هو بالبينة ، لأن اعترافه بذلك متضمن لدعوى انتقاله منه اليه ، فيكون ، مدعيا يطالب بالبينة. وبالجملة : ذو اليد إن لم يعترف بسبق الملك لأحد أو اعترف ، ولكن لغير من يدعى عليه مع غيبته ، بل وحضوره مع سكوته ، قدم قول ذي اليد. ولا كذلك لو اعترف به له لما عرفت من تضمن اعترافه له دعوى الانتقال منه اليه فتلغو يده وبطالب بالبينة. بل ويحتمل أن يكون مثله في لغوية اليد ومطالبته البينة ما لو اعترف لغيره ممن لو تم له لكان للمدعي ، لأنه يمتّ به ، كما لو اعترف به لمورثه ـ مثلا ـ فان الاعتراف بسبق الملك له كالاعتراف بسبق الملك لنفس المدعي وبعبارة أخرى : فرق في الاعتراف لغير المدعي بين من كان ملك المدعي في طول ملك المعترف له أو في عرضه في لغوية اليد في الأول ، وعدمها في الثاني.

ولعله بذلك يتشبث الخصم لتصحيح مطالبة (الأول) للبينة من ذي اليد في (حديث فدك) (١) بعد اعترافه بالنحلة من رسول الله (ص)

__________________

(١) المقصود ب (الأول) : هو أبو بكر بن أبي قحافة التيمي

٣٥١

الذي لو لم يتم الانتقال منه اليه لكان فيئا للمسلمين : بحديث مجعول عليه (ص)

__________________

(رضي الله عنه). والمقصود بذي اليد هي فاطمة الزهراء بنت محمد (ص) حيث كانت صاحبة اليد في فدك تصرفت فيها ـ بعد أن نحلها إياها أبوها النبي (ص) أيام حياته وكانت (خالصة له) لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. وفدك ـ كما عن ياقوت الحموي في معجم البلدان ـ قرية بينها وبين المدينة ثلاثة أيام ، وبها عين فوارة ونخل كثير».

قال البلاذري في (فتوح البلدان) : ـ ومثله غيره من المؤرخين : لما فتح رسول الله (ص) خيبر ، ولم يبق غير ثلاثة حصون خاف اليهود خوفا شديدا ، فصالحوا النبي (ص) على الجلاء وحقن الدماء ، فقتل النبي منهم ، ولما بلغ أهل فدك ذلك أرسل رئيسهم (يوشع بن نون) اليهودي إلى رسول الله (ص) بالصلح على أن يعطيه فدك ، ويؤمنه وقومه وعلى أن يعمل بها في نخيلها بأن يكون لهم نصف التمر ، ثم ان شاء رسول الله أبقاهم وان شاء أجلاهم ، فرضي (ص). وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لأنها مما أفاء الله بها على رسوله حيث لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب : ومثل ذلك في شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي بعنوان : ما ورد من السير والاخبار في أمر فدك. وفي نفس المصدر وغيره من مصادر التأريخ : ان فاطمة (ع) قالت لأبي بكر ان فدك وهبها لي رسول الله (ص) ، قال : فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب فشهد ، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا ، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن ابن عوف فشهدا أن رسول الله كان يقسمها. قال أبو بكر : صدقت يا ابنة رسول الله وصدق علي وصدقت أم أيمن وصدق عمر وصدق عبد الرحمن ابن عوف .. قال ابن أبي الحديد ومثله غيره ـ : طالبته ـ أولا ـ

٣٥٢

«نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» إلخ ، مع اعترافه في احتجاج علي (ع) معه بعدم سؤال البينة من ذي اليد ، بل تسئل ممن يدعى عليه (١) وليس الا لبطلان اليد بدعوى الانتقال بالنحلة التي لو لم تتم لكان فيئا لا ميراثا ، الا (أن المبنى) : من احتمال المساواة بين الاعتراف بسبق اليد لنفس

__________________

بالنحلة ، ولما منعت منها طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب ، فقال أبو بكر ـ بعد أن احتجت عليه الزهراء بتلك الخطبة البليغة : يا خير النساء وابنة خير الأنبياء ، والله ما عدوت رأي رسول الله (ص) ولا عملت إلا باذنه ، وإن الرائد لا يكذب أهله وإني أشهد الله وكفى بالله شهيدا أني سمعت رسول الله (ص) يقول : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة. هذا بايجاز وللتفصيل عن موضوع فدك يراجع ما كتبناه في تعليقنا على الجزء الثالث من (تلخيص الشافي).

(١) في الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، حديث (٣) : «على بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله (ع) ـ في حديث فدك ـ : أن أمير المؤمنين (ع) قال لأبي بكر : أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا ، قال : فان كان في يد المسلمين شي‌ء يملكونه ، ادعيت أنا فيه : من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال : فاذا كان في يدي شي‌ء ، فادعى فيه المسلمون ، تسألني البينة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول الله (ص) وبعده ، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادعوا عليّ كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم ـ إلى أن قال ـ : وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر».

٣٥٣

المدعي أو لمن يمت به من مورثه في لغوية اليد فيهما مع إمكان تضعيفه بوضوح الفرق بينهما بتقريب : أن الاعتراف للمدعي اعتراف له باليد وان كانت سابقة ، والاعتراف لمورثه لا يكون اعترافا له باليد والملكية السابقة إلا بضميمة مقدمة هي بقاء يد المورث الى حين موته ، بل ومعها أيضا لعدم ثبوت اليد به للوارث (فاسد) لا ينفع في تشبث الخصم لتصحيح فعل (الأول) : من انتزاع (فدك) من يد فاطمة ـ عليها السلام ـ ومطالبتها بالبينة لسبق الانتزاع منها على دعواها النحلة ، حيث كان فيما جاء به من (حديث فدك) : ان الأول لما بويع واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث الى (فدك) من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (ص) منها ، ثم جاءت فاطمة عليها السلام ، فوقع بينها وبينه من الاحتجاجات ما وقع ، وكذا بين علي (ع) وبينه بما ظهر منه وبان ، من المخالفة للكتاب والسنة. ولو سلم المبنى لم يجز انتزاع العين من ذي اليد إلا بعد الاعتراف لمن لو تم له لكان للمدعي ، وقد انتزعها منها قبل الاعتراف والمخاصمة. وبالجملة : في لغوية اليد بالاعتراف لمورث المدعي وعدمها لنا تأمل ، والله العالم.

الثاني : في معارضتها مع البينة التي هي من الأمارات الكاشفة عن الواقع. وتقديمها على اليد مما لا كلام فيه : سواء قلنا بكونها أصلا أو إمارة. أما على الأول فواضح ، لحكومة الامارة على الأصل وأما على على الثاني ، فهو وان كان من تعارض الأمارتين ، الا أن الواجب فيه تقديم أقواهما ، وهو البينة ، لأن اعتبارها في مورد اليد دليل على تقدمها عليها ، كما ان اعتبار اليد في مورد الاستصحاب دليل على تقدمها عليه ، ولأنه يلزم من عدم تقدمها على اليد عدم سماع دعوى المدعى على ذي اليد إذ التكليف بالبينة ومطالبتها منه لغو مع فرض عدم تقدمها على اليد ولا

٣٥٤

شي‌ء أقوى من البينة ، حتى يكلف المدعي بإقامته مع حصر ميزان القضاء بالبينات والأيمان كون الأولى على المدعي والثانية على المنكر. هذا مضافا إلى أن اعتبار إمارة اليد من باب الغلبة المنكشف بها حال المشكوك من حيث كونه مشكوكا إلحاقا له بالغالب ، فالحيثية المزبورة مأخوذة في موضوعها والبينة ، وان كانت أمارة كاشفة عن الواقع عند الجهل به ، إلا أن الجهل لم يؤخذ موضوعا في اعتبارها ، فالجهل مورد للحاجة إليها ـ غالبا ـ لا أنه مأخوذ في موضوع اعتبارها. وبعبارة أخرى : البينة معتبرة في مورد الجهل بالواقع لكن لا من حيثية الجهل به كالدليل الاجتهادي المعتبر طريقا في معرفة الأحكام المفيد للظن لا من حيث الجهل بحكم مورده ، بخلاف الغيبة ، فإنها معتبرة في إلحاق المشكوك من حيث كونه مشكوكا بالغالب للظن الحاصل من الغلبة ، فحصول الظن بها انما هو بعد ملاحظة الغلبة في أكثر الأفراد والشك في فرد خاص ، فيحصل الظن باللحوق كالاستصحاب المأخوذ فيه الشك بناء على اعتباره من باب الظن النوعي ، وبناء العقلاء المستفاد إمضاؤه من الاخبار ولا كذلك البينة ، إذ لا يتوقف حصول الظن بها على ملاحظة الجهل في موردها ، فالامارات كما تحكم على الأصول كذلك يحكم بعضها على بعض ، فما كان ملاحظة الشك مأخوذة في موضوعه كان محكوما لما لم تكن مأخوذة فيه لكونه رافعا لموضوعه ، غير أنه لما كان ظنيا كان حاكما. ولو كان علميا لكان واردا عليه.

ثم البينة : ان شهدت بالملك المطلق أو بالفعل ، قدمت على اليد ، وان شهدت به في الوقت السابق لم تقدح في اعتبار اليد ، لعدم المنافاة بينهما ، لاختلاف زمانهما ، إلا بالاستصحاب الذي قد عرفت حكومة اليد عليه ومنه يظهر الوجه بالأولوية في تقديم اليد للاحقة على اليد السابقة.

(لا يقال) : ان حكومة اليد على الاستصحاب تنافي تقدم البينة

٣٥٥

عليها مع العلم غالبا باستناد الشاهد في شهادته إلى الاستصحاب ، وان هو الا تقديم للمحكوم على الحاكم.

(لان) ذلك أولا : هو اجتهاد في مقابل النص لورود المعتبرة التي هي ما بين صريحة وظاهرة في جواز تعويل الشاهد على الاستصحاب حتى عقد لذلك بابا في (الوسائل) حيث قال : باب جواز البناء في الشهادة على الاستصحاب بقاء الملك وعدم المشارك في الإرث ـ إلى أن قال ـ : «محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن وهب قال : قلت له : ان ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار ، مات فلان وتركها ميراثا ، وانه ليس له وارث غير الذي شهدنا له؟ فقال : اشهد بما هو علمك ، قلت : ان ابن أبي ليلى يحلّفنا الغموس ، فقال : احلف انما هو على علمك» (١) «وعنه عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن معاوية بن وهب ، قال قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يكون في داره ، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ، ويدع فيها عياله ، ثم يأتينا هلاكه ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما أحدث له من الولد إلا أنّا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد ، ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين تركت في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أو نشهد على هذا؟ قال : نعم ، قلت : الرجل يكون له العبد والأمة ، فيقول أبق غلامي أو أبقت أمتي ، فيؤخذ بالبلد ، فيكلفه القاضي البينة أن هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه : أفنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه أحدث شيئا؟ فقال : كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم نشهد به. محمد بن الحسن بإسناده عن علي بن إبراهيم نحوه.

__________________

(١) راجع من كتاب الشهادات منه باب ١٧ ، حديث (١).

٣٥٦

وكذا الذي قبله (١) «وبإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن الحسن وغيره عن معاوية بن وهب ، ولا أعلم ابن أبي حمزة إلا رواه عن معاوية بن وهب ، قال قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يكون له العبد والأمة قد عرف ذلك فيقول أبق غلامي أو أمتي ، فيكلفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع ولم يهب ، الشهد على هذا إذا كلفناه؟ قال نعم» (٢) انتهى.

وثانيا : ان البينة التي لم تنفك ـ غالبا ـ عن الاستصحاب لما اعتبرها الشارع في موارد اليد التي يخالف مفادها مقتضى البينة ، دل على تقدم استصحابها بالخصوص على اليد بالنصوص ، وان كانت اليد مقدمة على غيره من سائر الاستصحابات ، وبالجملة كما أن اعتبار اليد في مورد الاستصحاب دل على تقديمها عليه ، والا لكان اعتبارها لغوا كذلك اعتبار البينة التي لم تنفك غالبا عن الاستصحاب في موارد اليد دل على تقديمه بالخصوص عليها والا لكان اعتبار البينة لغوا في أغلب مواردها (ودعوى) اختصاص اجراء الاستصحاب بالحاكم دون الشاهد (مدفوعة) بلزوم تركب ميزان القضاء حينئذ من البينة وفعل الحاكم ، مع أن الحكم منه إنما يكون بعد إقامة الميزان عنده.

وكيف كان ، فالمستفاد من الأخبار المتقدمة ـ بضميمة ما ورد فيما يعتبر في الشهادة من العلم الحاصل من طريق الحس ـ كما عن بعض جمودا على التمثيل بالمحسوس من الشمس والكف في النصوص ، أو الأعم منه ومن غيره تنزيلا للمنصوص على المثال بإرادة حصول تلك المرتبة من العلم القطعي ـ ان ما هو معتبر حين التحمل غير ما هو معتبر حين الأداء ، لأن العلم الحاصل بالحس أو ما هو مثله لا بد من ضعفه ، بل وزواله ـ غالبا ـ

__________________

(١) المصدر الأنف الذكر حديث (٢) مع تبعه الأخير.

(٢) المصدر الآنف الذكر حديث (٣).

٣٥٧

بمرور الليالي والأيام ، سيما نحو العام ، فضلا عن الأعوام ، لطرو الاحتمالات المنبعثة عن عروض العوارض وتطرق الحوادث فلا مندوحة إلا الاستناد الى الاستصحاب عند أداء ما تحمله من الشهادة. وبالجملة : فالروايات ـ كما تراها ـ صريحة في جواز الشهادة مستندا في بقاء المعلوم عند التحمل الى الاستصحاب وحملها على صورة بقاء العلم القطعي إلى حين الأداء ـ كما في الجواهر ـ (مع) كونه حملا على الفرض النادر ، بل الأندر تأباه صراحة منطوقها.

وبما ذكرنا يظهر لك : أنه لو كان الحاكم شاهدا جاز له الشهادة بالملك ، ولم يجز له الحكم به ، لو قلنا بجواز القضاء بعلمه ، لأن تنزيل الظن الاستصحابي منزلة العلم بالبقاء في الشهادة لدليل دل عليه بالخصوص لا يوجب تنزيله منزلة العلم في القضاء به ، بل ولو ضم اليه شاهد واحد أيضا ، للزوم تركيب ميزان القضاء حينئذ نعم لو علم به من دون استناد الى الاستصحاب ، ومنعنا عن القضاء بعلمه واستثنى منه ما لو ضم إليه شاهد واحد ـ بلا خلاف كما في (وسائل البغدادي) لأن علمه لا يقصر عن شهادة الشاهد ، فيكون من القضاء بالعلم على القول بالمنع عنه ، لا من القضاء بالبينة فافهم.

هذا ، ولكن يجوز له الحكم بالدين على من هو عليه لو علم به في السابق ، كما يجوز الحكم به لو شهدت البينة كذلك لثبوت الاشتغال المستصحب إلى أن يتحقق الوفاء ، لعدم وجود ما يعارضه مما يكون مفاده الوفاء ، فاتضح الفرق بين ما لو ادعى دينا على أحد ومالا في يد أحد ، فيكتفى في الأول بالبينة وان شهدت به في السابق ، ولا يكتفى بها في الثاني ، لوجود ما يكون مفاده الملك الفعلي المقدم على الاستصحاب ، بخلاف الأول ، والله العالم بحقائق أحكامه.

الثالث : معارضتها مع الاستفاضة التي تثبت بها أمور خاصة ، منها :

٣٥٨

الملك المطلق من دون تقييد بذكر السبب. وتقديمها على اليد أو تقديم اليد عليها مبني على الأقوال في اعتبار خصوص ما أفاد العلم منها أو الأعم منه ومن الظن المتاخم ، أو مطلق الظن.

فعلى الأول : تقديمها على اليد مما لا كلام فيه ، إذ ما وراء العلم من شي‌ء ، إلا أنه لا معنى حينئذ لاختصاص ثبوت الأمور المخصوصة بها : من الولاية والملك المطلق والنسب والوقف والموت والعتق. وعلى الأخيرين ـ ولا سيما الأخير منهما ـ فالعمدة في دليل اعتبارها ـ كما قيل ـ هو :

الإجماع ، وهو غير معلوم تحققه فيما كان اليد على خلافها ، فالأقوى تقدمها على الاستفاضة كما لعله المشهور بينهم ـ خلافا لوالد الشيخ البهائي في (رسالته التي كتبها في هذه المسألة) فاختار فيها تقديم الاستفاضة على اليد. واستدل عليه بأمور لا تتم الا على مبناه : من أنه لا دليل على اعتبار اليد ـ بعد تضعيفه لسند خبر حفص المتقدم إلا أصالة الصحة وحمل أفعال المسلمين عليها وإنكار كونها بنفسها من الأمارات أو الأصول التعبدية. وهو ـ على مبناه ـ حسن لكن دون صحته خرط القتاد ، بعد ما عرفت من دليل اعتبارها وإفادته الملك حتى بالنسبة إلى ما لا يجري فيه أصل الصحة في فعله كالصغير والكافر.

هذا والظاهر أنه لا يجوز الشهادة بمفادها في الأمور المذكورة مستندا إليها إلا فيما يحصل بها العلم ، بناء على كفايته وفي الشهادة ، وان حصل من غير طريق الحس ـ كما هو الأقوى ـ ضرورة أن جوازها في صورتي حصول مطلق الظن أو الظن المتاخم بناء على كفاية ذلك في اعتبارها ينافي اعتبار العلم في الشهادة.

اللهم إلا ان يكتفى به سيما المتاخم منه في خصوص الشهادة المستندة إليها وان لم يكتف به في الشهادة بمؤدى البينة التي هي أقوى من الاستفاضة

٣٥٩

في كونها طريقا إلى ترتب الأحكام عليها ، إلا أنه لم يقم عليه دليل واضح ، وان كان ظاهر عباراتهم يعطي جواز ذلك ، إلا أنها لا تخلو من تشويش واضطراب.

نعم يشهد الشاهد بنفس الاستفاضة دون مفادها ، فيحكم الحاكم بمفادها لثبوت ما يوجبه بالبينة لعدم الفرق بين قيام الاستفاضة عند الحاكم وبين قيام البينة عليها عنده ، ان قلنا بجواز القضاء بالاستفاضة منه ، كما لعله يظهر أيضا ، من عبارات أكثرهم في الحكم بمفادها من الأمور التي ثبتت بها وبالجملة : فهناك مقامات ثلاثة.

الأول : اعتبار الاستفاضة وحجيتها في ثبوت أمور مخصوصة بها بحيث يترتب على الثابت منها أحكام تحققه في الخارج كاليد بالنسبة إلى مفادها.

الثاني : في الحكم والقضاء بها على الخصم بحيث يكون ميزانا له عليه كالبينة.

الثالث : في جواز الشهادة بمفادها مستندا إليها عند الحاكم.

أما الأول ، فهو من المتفق عليه عندهم ، وان وقع الخلاف في مقدار ما يثبت بها من الأمور.

وأما الأخيران ، فيظهر من كلام بعض وقوع الخلاف فيه. والذي يظهر من جدنا في (الرياض) دعوى الاتفاق عليه في الأخير منهما (١).

قلت : إن تم إجماع فيهما أو في أحدهما ، فهو ، والا ففي غير صورة حصول العلم بها إشكال ، لعدم دليل واضح يدل على كونها ميزانا للقضاء

__________________

(١) راجع ذلك ـ في أخريات كتاب القضاء منه ، الفصل الثالث في أحكام تعرض البينات. وفي أخريات كتاب الشهادات. المسألة الأولى من مسائل أربع في شرح قول المصنف : يكفي في جواز الشهادة بالملك مشاهدته يتصرف فيه إلخ.

٣٦٠