بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

عادية بالنسبة إليه ، كسرج الفرس وثياب العبد المغصوبين إذا ادعاهما الغاصب ، لعدم معلومية الغصب فيهما ، فيقدم قوله ، لأنه ذو يد عليهما ، وطولب المالك بالبينة ان ادعاه. ويحتمل ـ قويا ـ الفرق بين العبد والدابة ، ففي العبد ما لم يصدّق مولاه ، والا فيقدم قول المالك ، لان العبد ذو يد على ثيابه ، وهو وما في يده لمولاه ، بخلاف الدابة بالنسبة إلى ما عليها من السرج واللجام.

(الرابع)

لو اشترك اثنان أو أكثر فيما يصدق به اليد عرفا ، فهل الثابت به يد واحدة لهما فلا يد لكل واحد منهما أو يثبت به يد لكل واحد منهما فتعدد الأيدي حينئذ ، وعليه فهل تختص اليد بالبعض نصفا أو ثلثا بحسب تعدد الشركاء فيكون له اليد على النصف أو الثلث ، أو لكل يد على كل العين وجميعها وان زوحم بمثلها عليه؟ فعلى الأول لا تعارض بين اليدين لاختلاف متعلقهما وعلى الثاني كان من تعارض اليدين لاتحاد المتعلق فيهما. وتظهر الثمرة بينهما فيما لو غصب العين اثنان دفعة ، فتلفت عندهما رجع المالك عليهما معا بالمناصفة أو بالمثالثة بحسب تعدد الشركاء ، على الأول ، وله الرجوع على من شاء منهما أو عليهما بالتوزيع على التساوي أو على التفاضل ، على حد حكم تعاقب الأيدي ، على الثاني أقوال :

أما الأول ، فلا إشكال في بطلانه لتعدد اليد بعد فرض تحقق ما يوجب صدقها بالنسبة الى كل واحد منهما من الاستيلاء بحيث لو كان منفردا لكان مستقلا به.

نعم لو كان تحققه موقوفا على الانضمام بحيث لولاه لم يحصل

٣٢١

استيلاء أصلا لم تتحقق الا يد واحدة لهما ، وان كان الحكم فيها وفي الصور الآتية التنصيف أو التثليث ـ مثلا بحسب تعدد الشركاء.

وبالجملة : ليست اليد آبية عن صدق التعدد بعد فرض وجود ما به يتحقق الصدق.

وعلى الثاني ، فذهب إلى الأول منهما بعض ، ولعله الأكثر ، فاليد إنما هي عندهم ثابتة على البعض المختلف قدره بحسب تعدد الشركاء ، فلا يد له على ما زاد عليه وكانت اليد لصاحبه فيه ، فيكون كل منهما أو منهم بالنسبة الى ما في يد صاحبه مدعيا ، وبالنسبة إلى ما في يده مدعى عليه.

والأقوى عندي : هو الأخير ، كما يظهر من شيخنا في (الجواهر) فتكون لكل واحد منهما أو منهم يد على الكل ، لعدم تعقل اليد على البعض المشاع بعد امتناع فرض تعقله الا بتعلق اليد بجميع العين ولذا لم يتحقق قبض البعض المشاع إلا في ضمن قبض الجميع ، وليس الا لعدم تعقل قبضه مشاعا بقبض البعض المعين ، فاليد ثابتة على الكل ، لكن لا بنحو الاستقلال ، فالمنفي في المقام انما هو الاستقلالية دون أصل الاستيلاء واليد فحينئذ يكون كل من ذوي الأيدي على العين مدعيا للجميع ومدعى عليه بالنسبة إليها كذلك.

نعم ربما يرد في المقام إشكال على كل من القولين الأخيرين ، وهو أن اليد الثابتة لكل منهما : ان كانت على البعض أشكل تعقله مع تساوي أجزاء العين بالنسبة إلى تعلق اليد بها ـ كما عرفت ـ وان كان على الكل أشكل الحكم بملكية البعض من النصف أو الثلث ـ كما عليه الفتوى ـ بعد فرض ثبوت اليد على الجميع ، وان عورض بمثلها فيكون من تعارض السببين الفعليين الممتنع تواردهما على مسبب واحد.

٣٢٢

وبالجملة الحكم بالتنصيف ـ مثلا ـ بينهما حينئذ انما يكون منشأ النصف ـ بالتحريك ـ دون اقتضاء اليد ، وهو خلاف ما يظهر من فتواهم بذلك.

ودفع الاشكال بما تنكشف به حقيقة الحال : هو أن يقال : إن الملكية تابعة لليد في الاستقلالية وعدمها ، لأن الحكم بها إنما هو باقتضاء لليد لها ، ويتصف كل منهما بالاستقلالية واللااستقلالية ، ومقتضى اليد على الكل لا بنحو الاستقلال ملكية الكل كذلك ، فكل منهما يملك الكل لا بنحو الاستقلال بحيث لو تم نقصانها من حيث عدم الاستقلال تولد منه كسر ـ مثلا ـ من الكسور التسع (١) فملكية البعض مستقلا هو عين ملكية الكل لا بنحو الاستقلال ، بل الملكية المنبسطة على الكل لا ضعف فيها في مرتبة الملكية ، وانما النقصان فيها من جهة الاستقلالية على وجه أو تمت هي من هذه الجهة وصارت ملكية مستقلة كانت مقتصرة على كسر من الكسور أو جزء من الأجزاء بحسب تعدد الشركاء ، فالمقتصرة على البعض هي عين المنبسطة على الكل ، لا فرق إلا في الاستقلالية وعدمها.

ولعله الى ما ذكرنا يرجع كلامهم في إفادتها ملكية النصف ، أي الملكية الاستقلالية ، وبذلك صح اتصاف كل منهما بأنه مدع ومدعى عليه لان كلا منهما يدعي الاستقلالية المستلزمة دعواه لعدم ملكية صاحبه أصلا لا عدم استقلاليته ، وصاحبه ـ من حيث كونه ذا يد ولولا بنحو الاستقلال الظاهرة في الملكية ـ كذلك منكر ، فكل منهما مدع للاستقلالية ومنكر لما يدعيه صاحبه عليه من نفي أصل الملكية ، فما به يكون مدعيا غير ما به يكون مدعى عليه ، فلا وجه لالتزام لغوية حكم اليد بالنسبة إليهما ، وان

__________________

(١) ويقصد : الاعتيادية منها لا العشرية ، وهي المنكسرة عن الواحد كالنصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر.

٣٢٣

القضاء به لهما بالمناصفة ، لقاعدة المدعى لمال لا يد لأحد عليه. كيف والمال تحت يديهما ـ أولا ـ واختصاص قاعدة قبول قول من يدعي مالا لا يد لأحد عليه بما لا يكون له منازع ـ كما ستعرف ـ والمفروض كون كل منهما منازعا للآخر ـ ثانيا ـ وان اليدين بالنسبة إليهما من توارد السببين على مسبب واحد المعلوم امتناعه ، فيكون اليمين لترجيح أحد السببين على الآخر لا للقضاء به. كيف وانما الممتنع توارد السببين التأمين على ملكية الكل بنحو الاستقلال لا بنحو الشركة.

وبما ذكرنا يتضح لك مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر) في اشتراط القضاء لهما باليمين وعدمه حيث قال : «وقد يناقش بعدم اندراجهما في القاعدة المزبورة إذ الفرض أن يد كل منهما على العين لانصفها ضرورة عدم تعقل كونها على النصف المشاع الا بكونها على العين أجمع في كل منهما ، وحينئذ فلا مدع ولا مدعى عليه منهما ، ضرورة تساويهما في ذلك ، الا ان الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما كما سمعته من النبوي المرسل ، فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة التي كان مقتضى يد كل منهما الكل.

ومنه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر ومدعى عليه في نصفه كي يتوجه التخالف ، بل المتوجه إلغاء حكم يد كل منهما بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه ، ويكون كما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها ولا بينة لكل منهما ، فان القضاء حينئذ بالحكم بكونها بينهما لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر ضرورة عدم كونه مدعى عليه بعدم يد له على العين يراد رفعها عنه ، فقول كل منهما : (هي لي)

٣٢٤

دعوى بلا مدعى عليه ، فلا يمين فيها فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع» انتهى.

قلت : ان ما ذكرنا أدق ، وبالقبول أحق فظهر لك : أن توقف القضاء على اليمين انما هو للميزان ، لا لترجيح أحد السببين بها على الآخر ، ولا ينافيه النبوي المرسل : «في رجلين تنازعا في دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بينهما» حيث لم يذكر فيه القضاء باليمين لعدم معلومية كون الدابة في يديهما ، فلعله تنازعا فيها ولا يدلهما عليها وهو واضح.

(الخامس)

كما أن اليد تفيد الملكية وتكون امارة عليها ، كذلك فيما يعتبر في حله التذكية ، إن كانت اليد لمسلم تفيد كونه مذكّى ـ إجماعا بقسميه ـ وللمعتبرة المستفيضة فيها وفي سوق المسلمين وأرضهم وهل هي إن كانت للكافر إمارة على الميتية أو لا تكون أمارة أصلا ، وانما الحكم بكونه ميتة لأصالة عدم التذكية السالمة عما يحكم عليها من الأمارة الدالة على التذكية؟ قولان : ذهب إلى الأول منهما شيخنا في (الجواهر) (١) تبعا لأستاذه (كاشف الغطاء) والأقوى : الثاني ، لعدم ما يدل على كون يد الكافر إمارة على الميتية إلا ما عسى أن يتوهم استفادته ـ كما في الجواهر ـ من خبر إسحاق بن عمار «عن العبد الصالح عليه السلام :

__________________

(١) قال ـ في كتاب الطهارة باب النجاسات ، في أخريات شرح قول المحقق «ولا يجوز استعمال شي‌ء من الجلود الا ما كان طاهرا ..» : «أما ما كان مطروحا ولا أثر استعمال عليه أو كان في يد كافر لم يعلم سبق يد مسلم عليه أو أرضهم وسوقهم وبلادهم فهو ميتة لا يجوز استعماله».

٣٢٥

لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس» (١) الدال بمفهومه على ثبوت البأس مع عدم الغلبة في المجهول فضلا عما علم كفره وخبر إسماعيل بن عيسى : «سألت أبا الحسن ـ عليه السلام ـ عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل : أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك» (٢) بناء على أن الأمر بالسؤال من جهة الميتية ومن تقديمهم يد الكافر على أرض المسلمين وسوقهم في الحكم بكون المأخوذ منه ميتة ، إذ لو لم تكن يد الكافر إمارة لم يكن مجرى للأصل المحكوم لامارة السوق ، وليس الا لكون اليد امارة ، فتكون من تعارض الأمارتين ، وأقوائية إمارة اليد من السوق.

وفي الكل نظر : أما خبر إسحاق ، فلكفاية الأصل الموجب للاجتناب في ثبوت البأس. وأما خبر إسماعيل فلظهور الإلزام بالسؤال في عدم أمارية يد الكافر ، وإلا لوجب الاجتناب عنه ، دون الفحص (ودعوى) استفادتها من المقابلة ليد المسلم المستفاد منها حكم الوضع من الأمارية دون صرف التكليف ، فليكن كذلك في يد الكافر بقرينة المقابلة ولو بمعونة فهم العرف منها (فدفعها) : أنه يكفي في التقابل عدم ما هو ثابت في يد المسلم من الأمارية ، سيما في المفهوم الذي ليس المستفاد منه الا سلب ما هو ثابت بالمنطوق.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٥٠ من أبواب النجاسات حديث (٥).

(٢) المصدر نفسه ، حديث (٧) ، وتكملته : «وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه».

٣٢٦

وأما تقديم يد الكافر على سوق المسلمين ، فإنما هو لقصور السوق عن كونه إمارة فيما كان في يد الكافر فعلا ، المعلوم كفره ، وانما هو أمارة بالنسبة إلى مجهول الحال ، إلحاقا للمشكوك بالغالب ، فالتقديم فيه ليس إلا للأصل السالم عما يحكم عليه من أدلة السوق الدالة على حكم مجهول الحال دون معلوم الكفر. وبما ذكرنا ـ ظهر لك ـ أن يد الكافر ليست إمارة على الميتية حتى تعارض يد المسلم التي هي إمارة على التذكية تعارض الأمارتين الموجب للترجيح بينهما ، بل هو من باب تقابل الامارة وعدم الامارة ، لا إمارة العدم حتى يلتمس الترجيح.

وحيث اتضح لك ما ذكرنا ، ظهر أنه لا شك على المختار في الحكم بتذكية الذبيحة المشتركة بين المسلم والكافر الموجودة في يديهما معا ، لقيام الامارة عليها من يد المسلم ، سيما على المختار : من كون اليد على الكل وان كان لا بنحو الاستقلال الحاكمة على أصالة عدم التذكية ، وان كانت في يد الكافر أيضا ، لما عرفت من عدم كون يده إمارة على العدم ، فهي بحكم العدم في قبال يد المسلم ، فلم يبق إلا الأصل المحكوم لها. ولعله كذلك أيضا ، على القول الآخر ، وان كان حينئذ من تعارض الأمارتين لأقوائية يد المسلم في الامارة باعتضادها بأصالة صحة فعله ، وليس الأصل في فعل الكافر الفساد حتى يكون معاضدا ليده ، وأصالة عدم التذكية ليست في مرتبة الإمارة حتى تصلح للاعتضاد بها (١). وهذا هو الوجه

__________________

(١) ولا يخفى أن ذلك ينتقض بأصالة الصحة التي جعلها سيدنا المصنف عاضدة لأمارية يد المسلم ، فهي أيضا ليست في مرتبتها كي تعضدها. وعليه فالمرجع ـ بعد تساقط الأمارتين بالمعارضة ـ أصالة عدم التذكية ، وذلك لحكومتها على أصالة الصحة ، لأنها أصل موضوعي وتلك أصل حكمي ، فتأمل جيدا.

٣٢٧

في ترجيح يد المسلم على يد الكافر ، لو قلنا بكونها إمارة أيضا ، لا ما ذكره شيخنا في (الجواهر) زيادة عليه من أقوائية ما دل من الأخبار على اعتبار يد المسلم بالتعدد ، لأن أكثرية العدد لا تصلح للترجيح بعد حجية ما دل على اعتبار يد الكافر ، وأنها امارة وهو واضح. بل وكذا على المختار ـ لو وجد في السوقين أو الأرضين للمسلمين والكفار مع علم التأريخ وجهله لانقطاع الأصل بتحقق الامارة القاطعة له.

نعم يشكل على القول الآخر لو كان السابق من اليدين أو السوقين ما هو إمارة على الميتية (١) لعدم المانع عن الحكم بها بعد فرض انفرادها عما يعارضها من الامارة ، فلا يجدي لحوق إمارة التذكية بعد عدم تعقل لحوق التذكية فعلا بعد الموت ، ضرورة كون الأمارة كاشفة عن تحقق الموضوع الذي هو مؤداها في الواقع ، وان كان كشفا ظنيا ، الا أن الشارع اعتبرها في مرحلة الكاشفية ، وليست الامارة كالأصل الذي لا يترتب عليه الا الأحكام المجعولة للشارع حتى يمكن التفكيك فيها بحسب اقتضاء الأصول لها.

اللهم الا أن يقال : ان الميتة حيث لا ينتفع بها المسلم بوجوه الانتفاعات أصلا لحرمتها ونجاستها ، لم يكن بد من كون ما في يده مذكّى. ولا كذلك

__________________

(١) قد يقال بعدم ورود الإشكال ضرورة أنه بناء على كون الأمارة كاشفة ، فمعناه كشفها عن الواقع وترتيب الآثار من أول الأمر ـ كما هو مختار سيدنا المصنف قدس سره فيما يأتي ـ فلا بد من المعارضة مطلقا حتى في صورة سبق إحدى الأمارتين على الأخرى ، إن مقتضى كل منهما ترتيب آثار الواقع من ذي قبل ، وذلك تناقض ظاهر. نعم يتم الاشكال بناء على الوجه الآخر من وجهي الامارة وهو ترتيب الآثار من حين تحققها لا من ذي قبل فتأمل.

٣٢٨

الكافر ، فان عدم تذكيته عنده لعدم حاجته إليها لا لحاجته الى عدمها (١) فغلبة عدم التذكية عند الكافر لعدم مسيس الحاجة إليها ، وغلبة التذكية في يد المسلمين وسوقهم لمسيس الحاجة إليها لتوقف وجوه الانتفاعات به على التذكية ، فحيث وجد في يد المسلم ، فلا بد من وقوفه على تذكيته وان سبقتها يد الكافر. واليه يرجع ما تقدم من أصالة الصحة في فعل المسلم ، وعدم أصالة الفساد في فعل غيره ومنه يعلم الوجه في تقديم اليد الحكمية للمسلم على اليد الفعلية للكافر فضلا عن سوقهم وأراضيهم ، وظهر لك أيضا حكم الذبيحة المشتركة بين المسلم والكافر الموجودة في يديهما فعلا بعد الحكم بتذكيتها أو تقطعت وانفرد بقطعة منها بعد العلم بكيفيتها ، فان القطعة المبانة منها مذكاة. وان كانت في يد الكافر هذا وحيث حكم على الجلد ونحوه بعدم التذكية الراجع إلى الميتية للأصل واستعمل ، ثم قامت إحدى أمارات التذكية من يد المسلم أو غيرها فهل هو على نحو الكشف أو من حين قيام الامارة ، فيحكم بنجاسة ما لاقاه قبل ذلك؟ وجهان : الأقوى : الأول ، وان اختار ثانيهما شيخنا في (الجواهر) حيث قال : «وعلى كل حال فحيث حكم بالتذكية لحصول إمارتها الشرعية بعد الحكم بالميتية للأصل أو اليد أو بالعكس ، فهل هو على الكشف بمعنى جريان حكم المذكى عليه مثلا فيما مضى من الأفعال والمباشرة لو كانت ، أولا ، بل من حين تحقق الامارة؟ وجهان : أوفقهما بالأصل والاحتياط الثاني ، ولا ينافيه عدم تصور التذكية له الآن ، ضرورة

__________________

(١) قد يستلزم ذلك إخراج يد الكافر عن الأمارية ـ وهو خلاف الفرض ـ ومع التسليم فذلك جار فيهما حتى لو كانتا في عرض واحد ، ولا خصوصية لحالة سبق إحديهما الأخرى كما لا يخفى.

٣٢٩

كون المراد جريان الأحكام لا التذكية حقيقة ، وربما يؤيده ـ في الجملة ـ ما قيل من وجوب الوضوء للعصر ـ مثلا ـ على من شك فيه بعد الفراغ من الظهر ، وان حكم بصحة الظهر بناء على أن الدليل فيها صحة فعل المسلم ، فهي حينئذ وان ثبتت في الظهر ، لكن لا يثبت بها كونه متوضئا حقيقة ، فتأمل جيدا» (١) انتهى.

وفيه : أن ما ذكره انما يتم على تقدير أن يكون اعتبار اليد من باب التعبد وكونه من الأصول التعبدية ، لا من باب الأمارة التي معناها الكشف عن الواقع. وثبوت مؤداها في الواقع وان كان في مرحلة الظاهر ، لكون الكشف ظنيا لا علميا ـ كما عرفت ـ والتأييد بما ذكره من وجوب الوضوء للعصر تأييد بما لا يكون مؤيدا ، لأن صحة الظهر انما هي لأصالة الصحة أو لقاعدة الشك بعد الفراغ التي هي من الأصول التعبدية التي يمكن التفكيك في أحكامها. وأين ذلك من اليد التي هي من الأمارة التي قد عرفت معناها ، وقد اعترف هو بها. وبالجملة حيث قامت إمارة على التذكية كشفت عن تحققها من حين إزهاق الروح ، فترتب عليه أحكامها من حينه ، لا من حينها ، والله العالم.

(السادس)

يشترط في إفادة اليد الملك عدم العلم بحدوثها بعنوان آخر ، فلو علم بكونها في يده بنحو العدوان أو الأمانة ، ثم شك في ملكيتها ـ وهي في يده في الزمان اللاحق ـ لم تكن اليد مقيدة للملك عند الشك ، لاستصحاب

__________________

(١) ذكر ذلك في المسألة الأولى في البحث عن لباس المصلي من كتاب الصلاة.

٣٣٠

اليد السابقة ، وأصالة عدم تبدل عنوانها بعنوان آخر ، وهو مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه

(السابع)

يقبل قول ذي اليد مطلقا ، وان كانت عادية في جملة مما يتعلق بما في يده كالطهارة والنجاسة ، فلو أخبر بطهارة ما كان متنجسا أو بالعكس قبل قوله ، للإجماع المحكي فيه ، وفي قبول تصديقه لأحد المتنازعين لو تنازعا على عين في يده فصدق أحدهما فيكون المصدق بحكم ذي اليد في كونه مدعى عليه وصاحبه مدع وعليه البينة ، وهو من المسلم عندهم من حيث الفتوى ، الا أن الكلام في دليله ، مع قطع النظر عن الإجماع عليه إذ غاية لزوم تصديقه بالإقرار نفوذه في نفيه عن نفسه ، لا كونه للمصدق فيكون حينئذ من المتنازع على شي‌ء لا يد لأحد عليه بعد أن كان يده بالإقرار كلا يد. ولعل المستند : هو قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به» (١) وهي قاعدة مسلّمة عندهم ـ على ما يظهر من فتاواهم المتفرعة

__________________

(١) أنها قاعدة فقهية مسلمة لدى عامة الفقهاء ، يطبقونها على مواردها المتفرقة في أبواب الفقه ـ وللتعرف عليها بايجاز يستدعي الكلام عن جهات :

الأولى ـ الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) هو عموم مفاد هذه وخصوص مفاد تلك ، فتلك مقتصرة على صورة ما إذا كان الإقرار على النفس لا لها ، وهذه تعمّ الصورتين.

الثانية ـ مدرك القاعدة : الملازمة العقلية بين السلطنة على ثبوت الشي‌ء واقعا وبين السلطنة على إثباته خارجا ـ كما قيل (أولا) أو التسالم

٣٣١

في أبواب الفقه المعللة بها في كلماتهم ـ وان ذكر بعض لها وجوها ومؤيدات لعلها لا تخلو من مناقشة.

منها ما ذكره المدقق التستري الشيخ أسد الله ـ قده ـ في رسالته المعمولة لهذه (القاعدة) ما لفظه : «ومما يؤيده مطلقا في التصرفات القولية أن المقر حيث كان قادرا على إنشاء المقر به عند ما أقر به ، فتكليفه مع فقد البينة عليه بفعله لإثباته مع ان المرجع إليه في قصد مدلوله وكونه لاغيا ظاهرا في نظره ، بل ممتنعا لكونه تحصيلا للحاصل في الطلاق ونحوه خال من حكمة يعتد بها ، فينبغي عدم اعتبار الشارع لمثله ، فاذا ثبت ذلك بحسب الأصل اطرد فيها إذا عرض ما يمنع من الإنشاء كموت الزوج ونحوه ، فليتأمل في ذلك» انتهى.

وفيه : ان خلو التكليف بفعله لإثباته للغويته عنده أو لامتناعه لكونه من تحصيل الحاصل عن الحكمة ، مبني على تصديقه فيما أقرّ به وتحققه في الواقع ، وهو أول الكلام ، فتكون فائدة التكليف بفعله الحكم بنفوذه

__________________

المطبق والإجماع المستفيض ـ (ثانيا) حتى أنها اعتبرت عند الفقهاء من الضروريات الأولية واعتبروها ـ في مقام الاستدلال ـ كالأدلة اللفظية.

الثالثة مفاد القاعدة ـ بجزئيها الشرطي والجزائي ـ : أن المالك للشي‌ء ـ عينا كان أم فعلا ـ واقعا ، مالك للإقرار به ظاهرا ، بلا فرق في السلطنة بين ما لو كانت أولا وبالذات كالمالك الأصلي أم حصلت ثانيا وبالعرض ، كالوكيل والولي ونحوهما ،

الرابعة ـ الظاهر شرطية كون المقر مالكا للشي‌ء فعلا في زمان الإقرار لتطبيق القاعدة ، فلا تكفي مالكيته لذلك في زمان وقوع الفعل منه سابقا ، ويترتب على ذلك عدم نفوذ إقرار الوكيل أو الولي ـ مثلا ـ بعد انتهاء دور الوكالة أو الولاية. والتفصيل لا يسعه المجال.

٣٣٢

على غيره في مرحلة الظاهر ، فجهل الغير بالواقع في النفوذ عليه حكم جهل نفسه به مع الشك فيه في الاحتياط بفعله ثانيا ، وان احتمل وقوعه منه ـ أولا ـ فتكون فائدته قطع الشك باليقين في النفوذ على غيره ، فالأحسن أن يؤيد بخلو العدول عن الإنشاء مع القدرة عليه إلى الإقرار به كاذبا عن الفائدة الموجبة لذلك مع فرض تمكنه فعلا مما يحصل به الغرض من الإنشاء المفروض قدرته عليه حين الإقرار به ، ضرورة أن الإقرار بخلاف الواقع لا بد وأن يكون لداع قوي مفقود فيما يتمكن من إنشائه. ولا كذلك فيما كان موافقا للواقع لكفاية موافقيته له في العدول عن الإنشاء إلى الإقرار به ، فلذا اعتبر تصديق إقراره في ثبوت المقر به شرعا.

وقال أيضا ـ بعد كلامه المتقدم ـ : «وأما أدلة الإقرار فهي شاملة للإقرار بالتصرفات العقدية والإيقاعية وما أشبهها قطعا ، من حيث أنها تقتضي إلزامه بما لولاها لما ألزم به أو إسقاط ما لولاها لكان ثابتا له ، ولا ريب أنه ليس معنى (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) كونه نافذا بالنسبة إليهم خاصة على أن يكون قوله «على أنفسهم» متعلقا بجائز ، وقدم عليه لإفادة الحصر بعد الإقرار ، وذلك لما هو الظاهر من اللفظ والثابت في الحكم ، فان من أقر بما في يده خاصة أنه غصبه من زيد يحكم عليه ، وعلى كل من صارت يده عليه من الودعي والوصي والوارث وغيرهم بوجوب تسليمه الى زيد ، وضمانه بعد تلفه بمجرد ثبوت الإقرار المذكور ويسقط به عن ذلك المال حق كل من له حق مالي على ذلك المقر كواجب النفقة والغريم ـ وإذا أقر من عنده جارية بأنه غصبها من فلان نفذ ذلك في حقه وحق الجارية ، وبالولد له منها كما نص عليه في الأخبار. وإذا أقر المولى بعتق عبده حكم بحريته ونفذ ذلك في حقهما وفي كل ما يترتب على حريته من إرث ووصية وغيرهما. وإذا أقر الأب بنكاح الصغير نفذ ذلك

٣٣٣

في حق الجد كعكسه. وإذا أقر الصبي بالوصية في المعروف نفذ في حق وليه في حياته ووارثه بعد موته. وإذا أقر ذو الحق بوصول حقه اليه نفذ في حقه ، وفي حق من عليه الحق فيسقط عنه التكليف بالوفاء وان كان غير عالم به ما لم يكن عالما بعدمه ، وربما لا يجوز له الوفاء حينئذ ، كما إذا كان مصادما لحق واجب عليه. وإذا أقر أحد بحق عليه لغيره نفذ ذلك بالنسبة إليهما ، وان جهله ذلك الغير ما لم يعلم خلافه ووجب عليه أخذه إذا توقف عليه حق لازم له عليه ، وهكذا حكم سائر الأقارير ، فلا ينبغي أن يحمل الخبر على المعنى المزبور.

نعم يمكن أن يحمل على أن المراد ان إقرارهم على أنفسهم من حيث أنه إقرار جائز على أنفسهم ، من غير تعرض لما عداهم نفيا ولا إثباتا فيثبت الحكم في غير المقر نفيا أو إثباتا بدليل آخر ، فلا يدل حينئذ على المدعى ولا ينفيه الا ان فيه تقليل فائدة الخبر ، وتقييد إطلاقه بلا ضرورة إليه ، فالأولى أن يحمل على أن إقرارهم على أنفسهم فيما يتعلق بهم نافذ مطلقا ، فبالنسبة إليهم أصالة وبالنسبة إلى غيرهم فيما يترتب عليه تبعا ، وعلى هذا بناء الأقارير ، فالتصرف المقر به ان كان مما يشارك المقر فيه غيره كعقد النكاح ـ مثلا ـ لم ينفذ إلا في حقه خاصة ، وان كان مما ـ يختص به نفذ بالنسبة إليه أولا وبالذات ، وبالنسبة إلى غيره ثانيا وبالتبع. وعلى هذا فحكم التصرف بقسميه حكم العين التي عليها يد المقر مع غيره ، وما عليها يده خاصة. ولما كان كل من إبقاء النكاح وإزالته مع توابعه بالطلاق حقا مختصا بالزوج له الولاية عليه لا غير ، فإقراره حينئذ بالطلاق إقرار في حق نفسه ، وإخراج لأمره من يده ، فاذا سمع كان ثابتا مطلقا ولا معنى للتفرقة المذكورة أصلا وكذلك الكلام في نظائر الطلاق كإقرار الأب بنكاح الصغير ونحوه» انتهى.

٣٣٤

وهو كلام حسن جدير بأن يكتب بالنور على وجنات الحور ، الا أنه مبني على كون الإقرار كالبينة في كونه إمارة ناظرة إلى الواقع ، لا أنه من قبيل الأصول التعبدية في وجوب الأخذ بمؤداه والإلزام بما أقر به حتى يمكن التفكيك في أحكامها ، واستفادة أحد الأمرين : من كونه أصلا أو إمارة مبني على كون الجار متعلقا بالإقرار ، أو بجائز ، قدم عليه لإفادة الحصر ، فيكون الأول مفاد الثاني. والثاني مفاد الأول ، الا أن التعلق بالإقرار يضعّفه لزوم كون القيد حينئذ توضيحا ، لأن مفهوم الإقرار لا يتحقق الا حيث يكون على النفس فتأمل.

(الثامن)

لو أقر بما في يده أزيد ثم أقر به لعمرو بالإضراب ، كما لو قال : هو لزيد بل لعمرو ، قضى به للأول بإقراره وغرم بدله للثاني بالحيلولة فهو كالمتلف عليه ، لأنه حال بإقراره النافذ عليه للأول بين الثاني وحقه باعترافه ، بلا خلاف منه معتد به ، بل عن (الإيضاح) : إن ذلك من قواعدهم الظاهر في الإجماع عليه.

وان حكى عن ابن الجنيد : الرجوع إليه في مراده ان كان حيا وإلا فهو مال متداع بينهما فان التفت البينة حلفا واقتسماها ونفى عنه البعد في الدروس قائلاً بعد حكايته عنه : «وليس ذلك ببعيد لأنه نسب الإقرار إليهما في كلام متصل ، ورجوعه عن الأول إلى الثاني محتمل لكونه عن تحقق وتخمين فالمعلوم انحصار الحق فيهما ، أما تخصيص أحدهما فلا» انتهى.

إلا انه من الضعف بمكان ، لأن اتصال الكلام مع احتمال الخطأ والتخمين لا ينافي التعبد بإقراره في النفوذ عليه لإطلاق دليله ، ولغوية

٣٣٥

احتمال الخطأ والنسيان في مقابل الإقرار.

كضعف ما احتمله في (المسالك) ولعله من العامة ـ كما في الجواهر ـ : من القضاء به للأول وعدم العزم للثاني ، لأنه إقرار بما تعلق به حق الغير قبله ، مع أنه : إن تم كان مقتضاه عدم الدفع له لو فرض انتقاله اليه من الأول ، مع أن وجوب الدفع إليه حينئذ كاد أن يكون من المتفق عليه.

ومثله ما لو أضرب عن الثاني إلى الثالث أيضا في دفع العين للأول والغرامة لكل واحد من الأخيرين بتمام البدل.

نعم لو عطف الثالث على الثاني من دون إضراب عنه بأن قال : هو لزيد بل لعمرو وبكر ، غرم بدلا واحدا لهما بالتوزيع عليهما بالمناصفة بينهما ، ولو قال : هو لزيد وعمرو ، بل لبكر دفع العين إلى الأولين وغرم تمام البدل لبكر ، ولو قال : بل ولبكر بالعطف ، غرم الثلث ، واحتمال النصف عملا بالإضراب والعطف الموجب للتشريك مع أحدهما ـ كما في الجواهر ـ ضعيف.

وكذا مثله في الحكم ما لو قال : غصبته من فلان ، بل من فلان في الدفع للأول والغرامة للثاني ، لما تقدم من الإقرار والحيلولة ، بعد أن كان الإقرار بالغصب مستلزما للإقرار باليد للمغصوب منه الدال على الملك له.

لكن في (القواعد) : الإشكال في ذلك (١). ولعله ينشأ مما ذكرنا ومن أن الغصب يصدق من ذي اليد ، وان لم يكن مالكا للعين ، كما لو كان بيده بنحو الإجارة أو الإعارة ، فيدفع للأول لسبق الإقرار باليد الظاهرة في الملك وعدم الصارف لها عن الظهور ، بل يصلح أن يكون هو صارفا عن ظهور الثاني فيه ، فليحمل الغصب في الإقرار الثاني على

__________________

(١) راجع ذلك في المطلب الثاني فيما عدا الاستثناء من كتاب الإقرار

٣٣٦

ما تنفك اليد فيه عن الملك وعليه فلا غرامة للثاني ببدل العين.

وضعّف ـ كما في الجواهر تبعا للمسالك ـ بأن الإقرار بالغصب : اما أن يقتضي الإقرار بالملك على وجه يقتضي الضمان أولا. فإن اقتضاه فقد أقر للاثنين بذلك فكانت كالسابقة فيضمن للثاني ، وان لم يقتض لم يجب الدفع إلى الأول في هذه الصورة فضلا عن الغرم للثاني لعدم الإقرار له بما يقتضي الملك لأن الفرض أعمية الغصب من الملك ، (واحتمال) الفرق بعدم المعارض للأول بخلاف الثاني الذي عارضة حق الأول بسبب الإقرار (يدفعه) : أنه مقتض لعدم الغرامة للثاني ، وان صرح بالملكية (١) انتهى.

وأنت خبير بوضوح الفرق بين الإقرار بالملك ، والإقرار بالغصب الذي قد عرفت كونه أعم منه ، فيغرم في الأول بخلاف الثاني. هذا والمسألة وان كانت من أحكام الإقرار إلا أنا تعرضنا لها استطرادا لكونها متعلقا بما في اليد.

__________________

(١) راجع ذلك من الجواهر في كتاب الإقرار ، النظر الرابع في اللواحق في المقصد الأول منها ، في شرح قول المحقق (وكذا لو قال : غصبتها من فلان بل من فلان) وعلق عليه بقوله : لأن الإقرار بالغصب من الشخص يستلزم الإقرار له باليد الدالة على الملكية. ثم ذكر اشكال القواعد على ذلك ـ الى قوله : وفيه : ان الإقرار .. إلخ.

وفي مسالك الشهيد الثاني في نفس الباب. علق على قول المحقق ذلك بتوجيهه «بأن الإقرار بالغصب من الشخص يستلزم الإقرار له باليد ـ الى قوله في رد ذلك ـ : «ويضعف بأن الإقرار بالغصب ..» الى آخر ما ذكره في المتن من عبارة الجواهر.

٣٣٧

(التاسع)

هل تجوز الشهادة بالملك المطلق بمشاهدة اليد الظاهرة فيه أو لا؟ قولان : والأول مروي (١).

وتنقيح المسألة : هو أن اليد : إما أن يكون معها للتصرف المكرر بلا منازع كالهدم والبناء والإجارة ونحو ذلك من التصرفات التي لا تنفك ـ غالبا ـ عن الملك ، أو لا يكون بل كانت مجرّدة عنه.

فان كان الأول فالجواز هو المشهور شهرة عظيمة حتى ادعي الاتفاق عليه ، بل عن (الخلاف) : دعوى الإجماع عليه ، فان تم ، والا ، فلا يخلو من إشكال ظاهرا ، وان استندوا فيه الى قضاء العادة بأن ذلك لا يكون إلا في الملك وجواز شرائه منه ، ومتى حصل عند المشتري جاز له دعوى الملكية. ولو ادعى عليه فأنكر جاز له الحلف ، والى الأولوية من اليد المجردة عنه ، المصرح في خبر حفص بن غياث بجواز الشهادة فيها مع تضمنه أيضا لما عدا الأول من الوجوه المذكورة ، لعدم (٢) خلو الوجوه المذكورة عن المناقشة :

أما الأول : فإن أريد بقضاء العادة : الملازمة بينها وبين الملك ، فممنوعة لإمكان وقوعه من غير المالك كالوكيل والولي ونحوهما. وان أريد بها غلبته ، فلا يفيد إلا الظن المعلوم عدم جواز الشهادة به.

__________________

(١) إشارة إلى رواية حفص بن غياث المتقدمة ، وفيها : «إذا رأيت شيئا في يد رجل ، أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال : نعم».

(٢) تعليل للإشكال المذكور بقوله آنفا : وإلا فلا يخلو من اشكال

٣٣٨

وأما الثاني ، فلعدم توقف جواز الشراء على كون البائع مالكا ، بل يكفي فيه صحة بيعه الموافقة للأصل ، فيكون من الأسباب الشرعية الموجبة للملك المسوغ للحلف عليه ، ومنه يظهر الجواب عن الثالث.

وأما الأولوية ، فممنوع جواز الشهادة في الأصل ، وهو اليد المجردة حتى يستدل بها هنا ، كيف والمنع هنا يستلزم المنع في اليد المجردة بالأولوية.

وان كان الثاني ، وهو اليد المجردة عن انضمام التصرف إليها ، فأكثر المتأخرين ـ كما في المسالك والكفاية وغيرهما ـ على الجواز أيضا ، ونظرهم فيه الى خبر حفص المتقدم الصريح في جواز الشهادة على الملك والظاهر في كون اليد مجردة عن التصرف والجواز فيه مستلزم للجواز في الأول بالأولوية كما أن المنع في الأول مستلزم للمنع هنا كذلك ، إلا أن الخبر ـ مع ضعف سنده ـ مخالف لما دل على اعتبار العلم في الشهادة ، ضرورة أن مفاد اليد ليس إلا الظن وان نصبها الشارع طريقا للحكم بالملكية فلا يكفي فيما كان العلم بالواقع معتبرا فيه ، ويرده أيضا ما قاله في (الشرائع) ـ بعد أن نسب الجواز الى القليل : «وفيه اشكال» علله بقوله : «من حيث أن اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع دعوى من يقول : الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال : ملك هذا لي» (١) انتهى.

مضافا الى ما قيل على الجواز : من لزوم التعارض بين بينة المدعي

__________________

(١) قال في كتاب الشهادات ، الطرف الثاني فيما به يصير شاهدا ، مسائل ثلاث : الأولى ـ «لا ريب أن المتصرف بالبناء والهدم والإجارة بغير منازع يشهد له بالملك المطلق ، أما من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد ، وهل يشهد له بالمطلق؟ قيل : نعم ، وهو المروي ، وفيه اشكال من حيث.».

٣٣٩

لو شهدت بالملك له وبينة ذي اليد ، كذلك لو علم استنادها الى اليد لتساويهما في الشهادة على الملك والرجوع في الترجيح حينئذ إلى ترجيح البينة الخارجة أو الداخلة ، مع أن تقديم بينة المدعي في الفرض من المسلم ظاهرا عندهم حتى على القول بتقديم البينة الداخلة للترجيح باليد ، لأنه انما هو حيث لا يعلم الاستناد إليها لا مطلقا.

وبالجملة : ليس للشاهد أن يشهد الا على اليد أو التصرف أو هما معا ضرورة عدم جواز الشهادة على مؤدى الأصول والأمارات كالاستصحاب والبينة ، مع أنها أقوى من اليد ، ولذا تقدم عليها.

وأجيب عن ذلك كله : أما عن ضعف الخبر فبانجباره بالشهرة المستفيضة والإجماع المحكي ، وبعد الجبر يخصص به عمومات ما دل على اعتبار العلم في الشهادة ، فيكون المورد مستثنى منها. وأما عن تعليل الشرائع للمنع ، فمع أن مثله جار في التصرف الذي نفي الريب عن الجواز فيه ، فلا وجه للفرق بينهما ، لا يخفى وضوح الفرق بينهما إذ التصريح بالملك تكذيب لدعواه وقوله : التي في يد هذا ، الى محقق لموضوعه ، لان المدعي من كان قوله مخالفا للظاهر. وأما عن استلزام الجواز التعارض بين البينتين والرجوع الى ترجيح الداخلة أو الخارجة ، فلعدم المنافاة بين الجواز وأقوائية بينة المدعي من بينة ذي اليد إذا علم استنادها في الشهادة على الملك إليها ، وتقديم الترجيح بذلك على الترجيح بغيره من المرجحات.

هذا غاية ما ذكر دليلا للمنع والجواز من الطرفين والنقض والإبرام من الجانبين. ونحن ذكرناها جريا على طريقتهم. والا فالذي يقتضيه التحقيق في وجه جواز الشهادة على مقتضى اليد من الملك كالشهادة على نفسها : هو ان الملكية سواء أريد بها ما يوجب السلطنة الخاصة أو نفسها : هي أمر إضافي واختصاص خاص منتزع من أسبابه ، وتحقق المعنى المنتزع

٣٤٠