بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

فضلا عن الشهادة بمفادها لو سلم كونها ميزانا ، كما لا يصير شاهدا بمفاد البينة ، مع أنها ميزان القضاء. وتفصيل الكلام في اعتبارها ، ومقدار ما يثبت بها ، وما هو شرط فيها موكول الى محله. وانما الكلام هنا في تقدمها على اليد ، أو تقدم اليد عليها. وقد عرفت ما هو الأقوى منهما والله العالم.

(تذييل)

اشتهر بين الفقهاء : أن من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له به وذكروها بنحو القاعدة الكلية ، وأرسلوها إرسال المسلّمات ، والمعروف عندهم أيضا قاعدة أخرى ، وهي ان من ادعى أمرا ولا معارض له قيل قوله. وهي أعم من الأولى ، لاشتمالها على ما لا يدخل من الأمور تحت اليد ، واختصاص الأولى بما لا يد عليه مع كونه قابلاً للدخول تحت اليد مع اختصاصها أيضا فيما لا يكون له منازع فيما يدعيه ، والا لكان من التداعي. فلا يقبل قول كل منهما إلا بالحجة ، ولذا قيده به توضيحا في (في القواعد) حيث قال : «وكل من ادعى ما لا يد لأحد عليه ولا منازع له فيه قضي له به» انتهى.

هذا وليعلم ـ أولا ـ ان اليد المنفية في القاعدة الأولى نعم يد المدعي وغيره. وان نفى ملكية العين عن نفسه وأثبتها لمالك مجهول فإنه لا يسلمه الى مدعيه بمجرد دعواه إلا بإقامة الحجة وان احتمل كونه مالكا له ولذا صرحوا في اللقطة بعدم تسليم الملتقط أباها لمن يدعيها بمجرد دعواه الا أن تكون مقرونة بحجة أو محفوفة بقرائن تفيد العلم العادي بصدقه لأنه المكلف بإيصالها إلى مالكها ، فهو معارض لمن يدعيها بحسب الوظيفة ولذا يكون خارجا عن القاعدتين. كما يخرج عنهما لو كان المدعى به تحت

٣٦١

يد المدعي لكونه حينئذ يقضى به له لليد ، دون غيرها من القاعدتين. كما يحكم به له أيضا لو كانت دعواه موافقة للأصل فان الحكم بذلك انما هو للأصل دون القاعدة ، الا ان يستدل بها حينئذ تكثيرا للأدلة فهذه الصور الثلاث من الدعاوي خارجة عن القاعدتين.

ثم المراد من قولهم في القاعدة الأولى : (لا يد لأحد عليه) دائر بين محتملات ثلاثة :

الأول : انه لا يد لأحد عليه مطلقا في حالتي الدعوى وما قبلها أصلا لا لمعلوم صاحبها ولا لمجهول.

الثاني : لا يد لأحد عليه في حال الدعوى وقبله لمعلوم مع العلم يسبق يد عليه قبله ، لكن مجهول صاحبها الثالث : اختصاص نفي اليد بحال الدعوى دون ما قبله ، بل ولو علم سبق يد عليه قبله لمعلوم فضلا عن المجهول.

لا إشكال في عدم ارادة المعنى الأول ، والا لاختصت القاعدة بقبول قوله في المباحات الأصلية ، وما كان بحكمها وكادت تنعدم فائدتها.

وارادة المعنى الثاني غير بعيدة ، وان كان الثالث أعم نفعا ، بل لعله الظاهر من كلماتهم.

هذا والمراد من قولهم (قضى له به) ليس المراد منه ما هو ظاهره من قضاء الحكم ، بل قبول قوله في ترتيب آثار الملك له وجواز المعاملة معه عليه. وما ذكرنا من الاحتمالات في نفي اليد في القاعدة الأولى يجري مثله في نفي المعارض والمنازع في القاعدة الثانية ، وستعرف الحال بالنسبة إلى محتملاته في آخر المسألة.

إذا عرفت ذلك فنقول :

يدل على الأولى من القاعدتين مضافا الى الإجماع المحكي مستفيضا المعتضد بالشهرة المحققة فضلا عن المنقولة ـ صحيحة

٣٦٢

منصور بن حازم : «قلت للصادق (ع) : عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال (ع) : هو للذي ادعاه» (١) الخبر. فإنه حكم عليه السلام بأنه لمن ادعاه ، وليس الا لكونه مدعيا له بلا معارض لما لا يد لأحد منهم عليه ، بعد أن نفاه كل منهم عن نفسه وان نوقش فيه بأنه من الحكم له باليد لأن توسط الكيس بينهم أوجب صدق اليد لهم عليه ، فاذا نفى من نفى منهم عن نفسه ثبتت اليد لمن لم ينف فضلا عن دعواه بكونه له. وأشار إليها في محكي (السرائر) حيث قال ـ بعد ذكر الصحيحة : «ان هذا الحديث صحيح وليس هذا مما أخذه بمجرد دعواه وانما هو لما لم يثبت له صاحب سواه واليد على ضربين. يد مشاهدة ويد حكمية ، فهذا يده عليه يد حكمية لأن كل واحد منهم نفى يده عنه وبقي يد من ادعاه عليه حكمية. ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة أو متفرقا : هو لي ، لكان الحكم فيه غير ذلك. وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ثم ادعاه غيره ، لم تقبل دعواه بغير بينة ، لأن اليد المشاهدة عليه لغير من ادعاه ، والخبر الوارد في الجماعة : أنهم نفوه عن أنفسهم ولم يثبتوا لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادعاه له عليه يد من طريق الحكم ، فقبل فيه دعواه من غير بينة ، فافقه ما حررناه. وأيضا إنما قال : ادعاه من حيث اللغة لأن الدعوى الشرعية من ادعى في يد غيره عينا أو دينا» (٢) انتهى.

قلت : قوله : انما قال ادعاه من حيث اللغة إلخ دفعا لما يتوهم من أن قوله ـ عليه السلام في الجواب ـ هو للذي ادعاه ، كونه له من جهة دعواه لا

__________________

(١) الوسائل ، كتاب القضاء باب ١٧ حديث (١).

(٢) كتاب القضاء من السرائر ، أخريات باب النوادر في القضاء.

٣٦٣

من جهة اليد بإرادة المعنى اللغوي من الدعوى دون المعنى الشرعي ، ويؤكد ما ذكر من كون المحدقين بالكيس ذوي أيد عليه : ما ذهب اليه غير واحد في باب اللقطة في الحكم بأن ما يقرب من اللقيط أو غيره بكونه له اليد عليه وان كان صغيرا ، فكيف بمن كان الكيس في وسطهم؟ ولو ادعاه غيرهم وأنكروه كان هو المدعي وعليه البينة دونهم ، وليس الا لكونهم ذوي أيد عليه.

إلا أن المناقشة ضعيفة ـ لا لما قيل : من عدم اليد حتى لمن ادعاه لنفيه عن نفسه أولا ، لاندراجه في قوله : (فقالوا كلهم لا) الظاهر في معناه الحقيقي الشامل له أيضا ، فقبول دعواه بعد نفيه عن نفسه ليس إلا لكونه مدعيا بلا معارض لظهور الجملة بخروجه من العموم وأنه بحكم الاستثناء الصارف لظهور الأداة في العموم الشامل له عن ظهوره مع كونه من دعوى الحق بعد إقراره بعدمه المعلوم بطلانها. والحمل على الصحة في قوليه لإمكان نسيانه ـ أولا ـ ثم التذكر بعده ـ كما في الجواهر ـ غير موافق للقواعد الشرعية ـ بل لمنع كونهم ذوي أيد على الكيس المطروح بينهم ، فان مجرد قرب الشي‌ء من شخص لا يوجب صدق اليد له عليه الا إذا كان القرب منه محفوفا بقرائن توجب صدق ذلك ، والا فمجرد القرب من حيث هو ممنوع إيجابه لصدق اليد عليه أشد المنع. ولذا ذهب الأكثر إلى المنع عنه في باب اللقطة.

قال في (مفتاح الكرامة) : «ولا يحكم له بما يوجد قريبا منه ، كما في التذكرة والدروس ومجمع البرهان. وكذا الإرشاد والروضة ، وقيده في الدروس بما لا يدله عليه ولا هو بحكم يده ـ الى أن قال ـ وفي :

(الشرائع) ، فيما يوجد بين يديه أو الى جانبيه تردد : أشبهه أنه لا يقضى له ، وفي التحرير في القريب مثل ما يوجد بين يديه أو الى جانبيه

٣٦٤

نظر ، ونحوه ما في الكفاية ، انتهى.

وفيه عن (المبسوط) : «وأما ما كان قريبا منه مثل أن يكون بين يديه صرة أو رزمة ، فهل يحكم بأن يده عليه أم لا؟ قيل فيه : وجهان :

(أحدهما) لا تكون يده عليه ، لأن اليد يدان : يد مشاهدة ويد حكمية وهي ما يكون في بيته ويتصرف فيه ، وهذا ليس بأحدهما (والوجه الثاني) أن تكون يده عليه ، لأن العادة جرت بأن ما بين يديه يكون له مثل الإناء بين يدي الصراف ، والميزان وغيرهما وهذا أقوى ، (١) انتهى.

والتعليل بجريان العادة والتمثيل بالميزان ونحوه مما يعطي فيه لزوم الاقتران بما يفيد ذلك لا مطلقا مع كون الصحيحة المزبورة بمرئي منهم ومنظر ، ولم يستدل أحدهم بها على سببية القرب لصدق اليد ، نعم اللقيط وان كان صغيرا ، ذو يد على ثيابه وما هو ملفوف به والمشدود على ثوبه والموجود في جيبه والموضوع تحته والخيمة والفسطاط الموجود فيهما والدار التي لا مالك لها ، وفي هذه الثلاثة من الأقمشة ، كل ذلك محكي في مفتاح الكرامة عن المبسوط والشرائع والتحرير والمسالك والدروس والإرشاد واللمعة والروضة ومجمع البرهان والكفاية ، بل فيه عن (المبسوط) : ذلك كله مما لا خلاف فيه» (٢) انتهى.

قلت : وهو كذلك لصدق اليد والاستيلاء في جميع ذلك وان كان صغيرا ، لأن الاستيلاء ممكن في حقه وان كان حصوله له بفعل الغير ، ولا يعتبر في صدق اليد وحصول الاستيلاء له أن يكون حدوثه بفعل نفسه

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب اللقطة ، المطلب الأول في الملقوط في شرح قول العلامة في القواعد (ولا يحكم له بما يوجد قريبا منه)

(٢) راجع نفس المصدر في شرح كلام القواعد (أو ما في يده عند الالتقاط) إلخ.

٣٦٥

حتى يتوهم عدم صدقه في الصغير لعدم تمكنه من الاستيلاء الذي هو مسبب عن الأفعال الاختيارية. فظهر أن توسط الكيس من حيث هو لا يوجب صدق يد المحدقين به عليه. ولو سلم ، فالتوسط إن أوجب صدق اليد ، فالثابت به انما هو يد واحدة لمجموع من لا يتحقق عنوانه الا بهم دون كل واحد منهم ، ضرورة عدم صدق التوسط والبينية لواحد من العدد ، فلا يد لمن ادعاه أيضا بعد نفي الغير له عن أنفسهم اللهم الا أن يجاب عنه بأن السبب في المقام إنما هو قرب الكيس من كل واحد منهم لا توسطه بينهم هذا ومع التنزل والتسليم ، فتوسط الكيس بين جماعة محدقين به يمكن تحققه في الخارج على كيفيات مختلفة يوجب صدق اليد في بعضها دون جميعها ، فلعله كان مطروحا قبل أن يحدقوا ، وان كان دفعة ، فلا يد لهم عليه ، أو اجتمعوا عليه متفرقين لا دفعة ، فلا يد لغير الأول منهم أو كان المدعى لا حقا في الدخول معهم في الاجتماع عليه وان كان قبل السؤال ، فلا يد للمدعي عليه ، والحكم في الجواب بكونه له من دون استفصال عن الكيفية لا بدّ وان يكون منطبقا على جميع محتملاتها التي لا يتم الحكم في بعضها لو كان سببه اليد ، فلا بد من سبب موجود في جميع صورها ، وليس الا كونه مدعيا بلا معارض فيما لا يد لأحد عليه ، وليس اللفظ ظاهرا في كيفية حتى يؤخذ بظاهره في الدلالة عليها ، بل الكيفيات خارجة عن مداليل الألفاظ فلا ظهور للسؤال في كيفية مخصوصة. وحينئذ فالصحيحة وافية في الدلالة على المقصود من إثبات القاعدة الأولى.

واستدل عليها أيضا في (الجواهر) تبعا للمحكي عن أستاذه في (مفتاح الكرامة) بصحيحته الأخرى المروية في (الكافي في باب الحجة) وفيه : «محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عن

٣٦٦

منصور بن حازم قال قلت : لأبي عبد الله (ع) : ان الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت : قلت : إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضي أو سخطا وأنه لا يعرف رضاه أو سخطه الا بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل ، فاذا لقيهم عرف أنهم الحجة ، وأن لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أن رسول الله (ص) : كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى قلت : فحين مضى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فاذا هو يخاصم المرجئي والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيّم ، فما قال فيه من شي‌ء كان حقا ، فقلت لهم : من قيم القرآن؟ فقالوا : أين مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كله؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال : أنه يعرف ذلك كله الا عليا (ع) وإذا كان الشي‌ء بين القوم ، فقال : هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري فأشهد ان عليا عليه السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضة ، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (ص) وأن ما قال في القرآن. فهو حق ، فقال : رحمك الله» (١) الخبر.

وتقريب الاستدلال بها على المدعى ـ بتوضيح منا ـ : هو عموم

__________________

(١) راجع ذلك من الجواهر : في كتاب القضاء ، النظر الرابع في أحكام الدعوى ، الفصل الثاني من فصلى المقدمة في التوصل إلى الحق في شرح المسألة الأولى من مسألتي المحقق (من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضى له به ..) والحديث ذكره الكليني في أصول الكافي كتاب الحجة ، باب الاضطرار إلى الحجة ، حديث (٢).

٣٦٧

قول الراوي (وإذا كان الشي‌ء بين القوم) إلخ. الظاهر في أن لقديم قول من يدعى الدراية على من لا يدعيها وأنه مقبول متبع من المفروغ عنه عند العقلاء على نحو القاعدة الكلية ليتم الاستدلال بها على ثبوته في المورد الخاص من ثبوت الإمامة لعلي (ع) ، وقد أقرّه الامام على ذلك بقوله : في الجواب : رحمك الله.

وفيه : ان ذلك إن تم ، فهو بمعونة صدرها والفقرات المشتملة عليها مخصوص بما يتعلق بالأحكام من المسائل العلمية الراجع محصله الى وجوب اتباع الأعلم وتقديم الفاضل على المفضول ، وأين ذلك من قبول قول المدعي في الأمور الخارجية نحو الملكية وغيرها ، وعموم الشي‌ء انما هو بحسب متعلقة دون غيره.

وأما الدليل على القاعدة الثانية فلم أجد ما ينهض لإثباتها بنحو الكلية ، وان استدل عليها جدنا في (الرياض) برواية الكيس (١).

الا أن مفادها ـ كما عرفت ـ مخصوص بما يمكن دخوله تحت اليد ، لا كل أمر تعلق به دعوى من يدعيه بلا معارض لتكون دليلا على القاعدة الثانية التي قد عرفت أنها أعم من الأولى.

نعم قد ثبت من الشرع في جملة من الموارد قبول قول المدعي بمجرد دعواه ، التي منها : من يدعى عينا لا يد لأحد عليها ، ومنها : دعوى الوكالة في بيع ما في يده كالدلال ونحوه مما قامت السيرة القطعية على جواز المعاملة معه عليه ، وان لم تنفذ على الموكل لو أنكر وكالته ، ومنها :

دعوى : المرأة عدم اليأس وعدم الزوج أصلا ، ودعوى الإعسار مع عدم

__________________

(١) ذكر ذلك في كتاب القضاء ، ضمن النظر الرابع في بيان الدعوى ، الفصل الأول في بيان المدعى ، الأولى من مسائل خمس : من انفرد بالدعوى لما لا يد لأحد عليه.

٣٦٨

سبق اليسار ، ودعوى الصبي عدم البلوغ ، ودعوى الحرية حيث لا يعلم سبق الملك ، ومنها : دعوى المرأة اليأس والحيض والطهر والحمل ، والصبي دعوى البلوغ بالاحتلام ، ودعوى المطلقة ثلاثا أنها تزوجت بالمحلل مع الوطء والطلاق بعده ، وهذه الموارد ، وان قبل قول المدعي فيها ، إلا أنه لا لأمر جامع بينها : من كونه مدعيا بلا معارض حتى يتسرى الى غيرها فيحكم به عند وجوده ، بل لأن سبب القول فيها مختلف ، فإن الأول منها مندرج كما عرفت في القاعدة الأولى ، والثاني انما يقبل قوله لقبول قول ذي اليد فيما يتعلق بما هو في يده مطلقا ، وان لم تكن يدا مالكية ، بل ولو كانت يد عدوان كالغاصب فإنه يقبل تصديقه لأحد المتنازعين على العين المنصوبة في يده ـ كما ستعرف. وأما دعوى المرأة عدم الياس وعدم الزوج أصلا ، ودعوى الإعسار مع عدم سبق اليسار وعدم البلوغ والحرية حيث لا يعلم سبق الملك ، فإنما يقبل قول المدعي في أمثال ذلك لكونه موافقا للأصل ، لا لعدم المعارض. وقد عرفت خروج ما كان موافقا له عن موضوع القاعدة ، فإنه من قبول قوله بالدليل المعتبر وان كان هو الأصل. وأما بقية الموارد المتقدمة فلكونها مما لا يعلم إلا من قبله ، وكل ما كان كذلك قبل قوله ، وهي قاعدة أخرى معتبرة بالنص والإجماع.

وبالجملة : فإن تم إجماع على تأسيس هذه القاعدة ، وإلا فلا دليل عليها بنحو الكلية.

والله العالم بحقائق أحكامه

٣٦٩

رسالة

في أحكام الدعاوي

٣٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة : في معنى المدعي والمدعى عليه عرفا ووظيفة كل واحد منهما ، وذكر أحكام التداعي وبيان نبذة مهمة من مسائل القضاء ، فهنا مقامات :

(المقام الأول)

في معنى المدعي عرفا حيث لم تثبت له حقيقة شرعية حتى يحمل عليها ما عبر به في الأخبار الكثيرة ، مع معلومية عدم ارادة معناه اللغوي وهو الطلب ، لصدقه على المنكر أيضا. وما كان كذلك ، فالمرجع فيه هو العرف.

وقد اختلفوا في تعريفه على أقوال : فبين من عرفه ب (من لو ترك الخصومة لترك) (١) وهو المقصود ممن عبر عنه بأنه (لو ترك يخلى وسكوته) (٢) أو وسبيله (٣) وبين من عرفه بأنه : الذي يدعى خلاف

__________________

(١) بهذا عبر المحقق الحلي في الشرائع ـ آخر كتاب القضاء. النظر الرابع في أحكام الدعوى وبهذا أيضا عبر الشهيد الأول في متن اللمعة في كتاب القضاء ، القول في كيفية الحكم. وغيرهما كالعلامة في قواعده في كتاب القضاء أيضا.

(٢) وهو تعبير الشهيد الثاني في الروضة في شرح كلام الشهيد الأول في المصدر الآنف. قال : وهو المعبر عنه بأنه الذي يخلى وسكوته».

(٣) في الرياض : كتاب القضاء ، أحكام الدعوى ـ في تعريف المدعي ـ : «هو الذي يترك ويخلّى سبيله لو ترك الخصومة ولم يطالب

٣٧١

الأصل ، أو خلاف الظاهر (١) وبين مقتصر فيه على المعطوف عليه أو على المعطوف (٢) فتكون المسألة ثلاثية الأقوال أو رباعيتها ويحتمل في كلام بعض (٣) كونها ثنائية.

والمشهور ـ كما قيل ـ : هو الأول. وعليه ، فمعنى تركه المعلق :

هو تركه كما كان قبل الدعوى ، ومن حيث ما كان يدعى به وان لم يترك بالكلية ومن حيثية أخرى ، فلا ينتقض بمدعي الوفاء ، فإنه يطالب بالدين وان ترك دعوى الوفاء ، فالحيثية مأخوذة في التعريف.

__________________

بشي‌ء» وفي المسالك للشهيد الثاني ـ بنفس الباب ـ : «الذي إذا سكت خلّي ولم يطالب بشي‌ء».

(١) الملاحظ : أن هذين التعبيرين والتعبير الأول عن المدعي ذكره عامة فقهائنا الأعلام من القدماء والمتأخرين كالعلامة في قواعده ، وتبعه جميع شراح القواعد كولده فخر المحققين في الإيضاح ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ، وهكذا في كفاية السبزواري والمسالك للشهيد الثاني ، وغيرهم في غير ذلك من عامة الكتب الفقهية ، في باب الدعوى من كتاب القضاء ، فإنهم ذكروا تعاريف ثلاثة أو أربعة للمدعي : إنه الذي يترك لو ترك ، وإنه الذي يدعي خلاف الأصل ، وإنه الذي يدعي خلاف الظاهر ، ونحو ذلك ، والمنكر بعكسه ـ بحكم المضايقة بينهما.

(٢) يلاحظ (الجواهر) في هذا الباب فإنه يستعرض عامة تعاريف المدعى والمنكر.

(٣) كالمحقق في (شرائعه) بنفس الباب ، فإنه لم يذكر تعريفه بخلاف الظاهر. ولعله لما ذكره في (الجواهر) : «مما لا ينبغي صدوره ضرورة عدم منافاة أكثر الدعاوي للظاهر الذي هو مقتضى العادة ونحوها».

٣٧٢

والمراد بالأصل : هو القاعدة الشرعية المعمول بها في الواقعة المخصوصة سواء كان من الأصول الأولوية العملية كأصالة البراءة وأصالة العدم واستصحابه ، أم الثانية كأصالة الصحة ونحوها ، أو الظواهر المعتبرة كقاعدة اليد ونحوها ، فالمدار في كل خصومة على ما هو مقتضى الأصل المعمول به فيها ، فمن يكون قوله مخالفا كان مدعيا.

وبعد تبيّن معنى الأصل الموجب لصدق المدعي على من كان قوله مخالفا له ، ظهر لك عدم ورود ما قيل عليه ـ كما في الجواهر ـ من إجمال التعريف به : «لأنه ان كان المراد مخالفة مقتضى كل أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى ، فلا ريب في بطلانه ضرورة أعمية المدعى من المخالفة للأصل ، فان كثيرا من أفراده موافقة لأصل العدم غيره ، ولكنها مخالفة لأصل الصحة ونحوه ، وان أريد مخالفة أصل في الجملة ، فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلا من الأصول» (١) انتهى.

ضرورة أنه لا مسرح ولا مجرى للأصل الأولي بعد حكومة الأصل الثانوي عليه حتى تكون مخالفته مناطا في الصدق ، فلو تنازعا في صحة المعاملة وفسادها كان من يدعى الفساد مدعيا لمخالفة قوله الأصل المعمول به في الخصومة وهو أصالة الصحة ، ومن يزعم الصحة منكرا لموافقة قوله له وان كان مخالفا للأصل الأولى وهو عدم الانتقال والتملك لعدم العبرة به

__________________

(١) قال ـ في ضمن النظر الرابع في أحكام الدعاوي ، في شرح قول المحقق : وكيف عرفناه فالمنكر في مقابله : «وعلى كل حال ، لا يخفى عليك أيضا أنه ليس شي‌ء منها منطبقا على معنى المدعي الذي قد عرفت وانما المراد بتعريفه بذلك التمييز بذكر شي‌ء من خواصه اللازمة أو الغالبة وان خرجت عن مفهومه ، مع انه قد يناقش أيضا بأن فيه إجمالا لأنه ان كان ..» إلخ.

٣٧٣

بعد محكوميته ـ وهذا بخلاف. ما لو تنازعا في وقوع أصل المعاملة وعدمه فان المدعى منهما من يزعم وقوعها ، لأنه يدعي خلاف الأصل ، وهو أصل العدم وهو المعمول به حيث لا أصل يحكم عليه هنا. ولعل التعريف به حينئذ يرجع في المعنى إلى التعريف الأول لعدم الانفكاك بينهما.

ثم الظاهر من (الظاهر) الذي أنيط بمخالفته صدق المدعي في التعريف : هو الظهور النوعي الناشي من الغلبة ، دون ظاهر حال الشخص فإنه لاختلافه بحسب الأشخاص والأحوال غير صالح لجعله ميزانا في الصدق وعليه فيكون التعريف به أعم مطلقا من التعريف بمخالفة الأصل ، بناء على اعتبار الأصول من باب الظن النوعي ، وارادة ما يعم الظهور العرفي من التعريف بمخالفة الظاهر وان اعتبرناها من باب التعبد خرجت الأصول عن التعريف ، وكانت النسبة حينئذ بينه وبين التعريف بمخالفة الأصل عموما من وجه : يجتمعان في مورد ، ويفترقان في آخر ، كما لو ادعت الزوجة بعد الطلاق الدخول بها مع الخلوة قبله مع ادعاء الزوج عدمها ، فإنها مدعية على التعريف بمخالفة الأصل والزوج منكر ، وبالعكس على التعريف بمخالفة الظاهر لغلبة وقوع الوطء ممن هو حديث عهد بالعرس مع الخلوة بها باسدال الستر وإغلاق الباب الكاشفة عنه كشفا ظنيا ، وكانت امارة عليه معتبرة شرعا بما دل عليها من الأخبار المستفيضة. وحيث أردنا بالأصل القاعدة الشرعية المعمولة في تلك الخصومة اندرج فيه التعريف بمخالفة الظاهر ، إن خصصناه بما كان ظهوره معتبرا شرعا ، وان عممناه لما يشمل الظهور العرفي كان أعم من وجه ، كما يظهر من بعض في مسألة : ما لو اتفق الزوجان على إسلامهما قبل المسيس ، واختلفا في التقارن وعدمه ، فادعت الزوجة سبق إسلامها على الزوج فيبطل به النكاح ، وادعى الزوج عدمه والتقارن فيه فالنكاح باق ، فالزوجة مدعية على التعريف بمخالفة

٣٧٤

الأصل لمخالفة قولها له وهو أصالة عدم التقدم لا استصحاب النكاح ، لأن الأصل المعمول به في المقام انما هو الأصل الموضوعي دون المحكي ، والزوج منكر ، وعليه فيحلف الزوج ويكون النكاح بينهما على حاله ، وينعكس الأمر على التعريف بمخالفة الظاهر لبعد التقارن وندرته فتحلف الزوجة ويبطل النكاح. (والمناقشة) بأن قول مدعي التقارن مخالف للأصل أيضا ، بعد أن كان معنى التقارن بين الشيئين هو كون حدوث أحدهما عند حدوث الآخر المعلوم كون مقتضى الأصل عدمه ، بل كل من التقارن والتقدم عنوان منتزع مما يكون منشأ انتزاعه مخالفا للأصل ، بل التأخر أيضا كذلك بناء على أن منشأ انتزاعه هو حدوث كونه مسبوقا بالآخر وحادثا بعده ، لا عدم حدوثه عنده وقبله حتى يكون موافقا للأصل وهو أصل العدم ، وحينئذ فيكون الزوج مدعيا أيضا (فاسدة) لأن الأصل المعمول به في هذه الخصومة المنوط بمخالفته صدق المدعي ـ كما عرفت ـ هو أصالة عدم التقدم دون أصالة عدم التقارن ، لعدم ترتب الأثر عليه وانما الأثر مرتب على الأصل الأول ، ضرورة أن بطلان النكاح انما يترتب على تقدم إسلام الزوجة ، وعدم التقارن لا يثبت تقدم إسلامها ، بل هو أعم منه ومن التأخر المتحد مع التقارن في الحكم من بقاء النكاح وهو واضح.

وكيف كان فالمنكر في كل تعريف : ما يقابل المدعي فيه ، وحيث ما فرض الشك في الصدق من حيث الشك في انطباق التعاريف عليه وعدمه إلزام أحدهما بالبينة من دون تعيين ، بناء على أن الاكتفاء من المنكر بيمينه انما هو للتسهيل عليه في حجته وكونها رخصة في حقه. وأما على القول بالعزيمة واختصاص الوظيفة بها ، فيشكل الحكم في حق كل منهما بإقامة البينة أو اليمين ـ كما ستعرف. والأحسن في الإحالة في ذلك على العرف. بل الظاهر : ان من عرفه بأحد التعاريف المذكورة إنما رام

٣٧٥

التعريف له بلازمه وخاصته لا التعريف له بالكنه والحقيقة حتى ينطبق عليه طردا وعكسا ، فالكل يحومون حول معنى واحد مما هو عند العرف من معناه. ولعله عندهم هو الاخبار الجازم بما يقتضي ترتب الحق له أو سقوطه عنه ، فإن الأخبار بذلك يسمى عندهم دعوى ، والخبر مدع ، كما أن الاخبار بما يعود ضررا عليه عندهم إقرار ، وبما لا يكون لا له ولا عليه بل هو مجرد نسبة المحمول إلى الموضوع خبر ، والاخبار بما يكون دعوى منه لا ينفك عن الطلب الذي هو معناه اللغوي ، غير أنه عرفا طلب خاص لا مطلق الطلب الذي قد ينطبق على المنكر أيضا.

(المقام الثاني)

في حكم المدعي والمدعى عليه المعبر عنه بالمنكر أيضا ، وبيان وظيفة كل واحد منهما ، فنقول :

إنه قد استفاض النص والإجماع على أن : «البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه» (١) وقيل في وجه اختصاص كل منهما بما عليه من الوظيفتين هو ضعف الدعوى لمخالفتها الأصل أو الظاهر ، وقوة الإنكار لموافقته له أو لهما فلم يقنع في الدعوى إلا بالحجة القوية ، أعني البينة لبعدها عن التهمة جبرا لخبره ، واجتزأ في الإنكار بما لا يكون في القوة كالبينة وهو اليمين دفعا للتهمة المحتملة فيه ، وان لم تبلغ قوة التهمة في المدعي ، فاقتضت المناسبة ذلك تعديلا للميزان وعلى كل حال ، فمن المعلوم أن النصوص المفصلة واردة في مقام البيان بنحو التفصيل لما بين

__________________

(١) ومنطلق النصوص والإجماعات هو النبوي المشهور المذكور في عامة كتب الحديث من الفريقين في باب القضاء : «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه».

٣٧٦

بنحو الإجمال : من الميزان للحكم وحصر القضاء به في قوله (ص) : «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» (١) فتكون مبنية لوظيفة كل منهما بنحو القاعدة الكلية ، فالقضاء بغيرهما أو بغير التفصيل فيهما خروج عن موازينه.

نعم قد تخصصت القاعدة ـ كما قيل ـ بجملتيها : الأولى والثانية في موارد : بعضها متعلق بالأولى ، وهي (البينة على المدعي) فيقبل قوله بلا بينة : إما مطلقا ، أو مع اليمين ، وبعضها متعلق بالثانية بمعنى أنه منكر لا يمين عليه أو يمين لا على المنكر ، بل على المدعي.

أما الأول ففي موارد : (منها) : دعوى الأمين تلف العين المقبوضة له بنحو الأمانة الشرعية أو المالكية ، فإنه يقبل قوله في التلف ، ولو مع يمينه ، ولا يطالب بإقامة البينة عليه. ويدل عليه ـ مضافا الى الإجماع المستفيض ـ المرسل عن الصادق (ع) وفيه : «عن المودع إذا كان غير ثقة : هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه» (٢) وخبر مسعدة عنه (ع) : «ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولآتتهم من ائتمنت» (٣) وخبر ابن زياد عنه عن أبيه : «أن رسول الله (ص) قال : ليس لك أن تتهم من ائتمنته ولا تأتمن الخائن» (٤) وضعف السند منجبر بما عرفت

__________________

(١) راجع : الوسائل ، كتاب القضاء باب ٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث ١. وتتمة الحديث : «وبعضكم ألحن بحجيته من بعض فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار).

(٢) الوسائل : كتاب الوديعة باب ٤ في أحكامها حديث (٧).

(٣) نفس المصدر الآنف حديث (٩).

(٤) المصدر الآنف حديث (١٠) بتكملة جملة : وقد جربته.

٣٧٧

وان اشتمل الأول على عدم اليمين كما عن بعض ، إلا أن الأقوى قبول قوله معها ، لعموم ما دل على حصر القضاء بميزانه من البينة أو اليمين مع عدم معلومية الجابر له من هذا الخصوص حتى يخصص به ما دل بعمومه على الحصر.

هذا مع إمكان أن يقال ان إنكار المالك للتلف مرجعه في الحقيقة إلى دعوى خيانة الأمين واتهامه ، كما لعله تشعر به الأخبار المتقدمة مع انطباق التعاريف عليه أيضا ، لأنه لو ترك ترك ، وكان قوله مخالفا للأصل والظاهر من عدم الخيانة ، الحاكم على أصالة عدم التلف ، والأمين منكر وليس هو إلا مخبرا بما يتحقق به انتهاء حق المطالبة والاسترداد للعين من المالك.

ضرورة أن العين غير مضمونة على الأمين ، بل يجب ردها ما دامت موجودة لا مطلقا ، حتى يجب ردّ بدلها مع التلف ، فلم تتحقق الخصومة من المالك معه إلا بدعوى أحد أمرين : إما التعدي مع تصديقه التلف أو اتهامه بالخيانة مع تكذيبه ، وعلى التقديرين فهو مدع والأمين منكر. وعليه فلم يكن المورد مما خرج عن القاعدة ـ كما قيل ـ واتضح به وجه توجّه اليمين عليه أيضا ، لأنه من يمين المنكر في قبول قوله مع الخصومة وليس الوجه فيه هو تعسر إقامة البينة عليه حتى يتجه القول بالتفصيل ـ كما عن الشيخ ـ بين ما لو استند إلى مسبب ظاهر كالحرق والغرق ونحوهما وعدمه ، سواء استند إلى سبب خفي كالسرقة ونحوها أو لم يذكر السبب أصلا ، مع أن ترك الاستفصال في الأخبار يقتضي القبول مطلقا.

ومنها : دعوى الودعي رد الوديعة إلى المالك مع إنكاره فإنه يقبل قوله على المشهور شهرة عظيمة ، بل الإجماع محكي عليه مستفيضا ، والنصوص المستفيضة شاملة له أيضا ، ولا كذلك في دعوى الوكيل الرد

٣٧٨

على الموكل ، والمستعير الرد على المعير على الأقوى ، وان كانت العين بيدهما أمانة بالمعنى الأعم. وقيل كما في (الجواهر) وغيره في الفارق بين الوديعة وغيرها في ذلك انما هو النص والإجماع المفقودان في غير الودعي من الأمناء

قلت : وهو وان كان كذلك إلا أنه يمكن تطبيق كل من القبول في الوديعة وعدمه في غيرها على القاعدة ، بتقريب : أن إنكار الرد في الوديعة مرجعه في الحقيقة إلى إنكار أصل الحفظ الذي ائتمنه المالك عليه واستنابه فيه. وليس الحفظ في غيرها إلا مستتبعة للأغراض المقصودة بالذات من عناوينها والعلة الغائية لإيجادها ، فإن عقد الوكالة مفاده الاستنابة على التصرف دون الحفظ وان استتبعه ، ومفاد العارية هو التبرع بالمنفعة أو الانتفاع. وأما الوديعة فالعلة الغائية لها والمقصود الأصلي فيها ليس الا نفس الحفظ الذي ائتمنه عليه ، ولذا عرّفوها بأنها الاستنابة على الحفظ ، والوكالة استنابة على التصرف ، فالحفظ في الوديعة كالتصرف في الوكالة في أن المالك ائتمنه عليه وإن اطمأن بحفظ الوكيل لما له المسبب عن اطمئنانه بأمانته ، فهو أمين عنده في حفظه لا أمين له فيه بحيث ائتمنه عليه ، وإنكار الرد خارج عما ائتمنه عليه في غير الوديعة وان كان مرجعه إلى إنكار الحفظ ، فيبقى تحت قاعدة البينة على المدعى ، لان الرد فعل خارجي يدعيه الوكيل أو المستعير ـ مثلا ـ على المالك فيطالب بالبينة.

ومنها : دعوى المالك إبدال النصاب في أثناء الحول لئلا تتعلق به للزكاة أو يكلف بأدائها فإنه يصدق قوله فيه بلا يمين وكذا لو ادعى الدفع إلى المستحق إجماعا فيهما كما في (وسائل البغدادي) وغيره ، وهو كذلك لذلك ولأن التصرف ـ وهو الإبدال في الأول ـ من شئون المالكية ، وفي الثاني مما يملكه بالولاية التي هي ثابتة للمالك كولاية التبديل والعزل بالقسمة ، فيندرج تحت قاعدة (من ملك شيئا ملك الإقرار به) بل المالك فيهما منكر لما يدعى عليه

٣٧٩

الحاكم من اشتغال الذمة بالدفع ، سيما في الأول الذي يوافق قوله الأصل وهو عدم تعلق الزكاة بماله أو عدم التكليف بأدائه ، مع أنه ـ ولا سيما في الثاني ـ مما يتعسر أو يتعذر إقامة البينة عليه لإمكان احتسابه من الدين الذي له على المستحق ، وسقوط اليمين فيهما لكون الدعوى عليه من الحاكم غير جازمة لاحتمال الفراغ أو عدم التعلق ، سيما مع كونه مصدقا فيهما واستصحاب بقاء العين وعدم الإبدال في الأول لا يثبت ادارة الحول على الموجود أو كونه فيه.

ومنها : دعوى المالك نقصان ما خرص عليه المصدق لينقص بحسب ذلك ما قرر عليه من الزكاة ، بل هو منكر لما يدعي عليه المصدق من بلوغ القدر المخروص المنبعث عن الحدس والتخمين ، لموافقته للأصل ومخالفة قول المصدق له.

ومنها : دعوى الذمي الإسلام قبل الحول ليتخلص من الجزية ، فإنه يقبل قول كل منهما ، ويصدق بلا يمين. للإجماع المحكي فيهما أيضا في (الوسائل) وغيره ، وسقوط اليمين فيهما ، لما عرفت من كون الدعوى غير جازمة ، والأصل يقتضي البراءة ، مع أن الدعوى في الثاني أيضا مما لا تعلم إلّا من قبله ، مضافا فيه إلى أنه لو أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية عندنا ، كما في (المبسوط) للجب (١).

__________________

(١) قال الشيخ في المبسوط : كتاب الجزايا ضمن كتاب الجهاد ، فصل في كيفية عقد الجزية ، آخر الفصل : «وإذا أسلم الذمي بعد الحول سقطت عنه الجزية) ويشير السيد الماتن ـ قده ـ بتعليل (الجب) إلى الحديث النبوي المشهور : «الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها» قال الجزري في النهاية بعد ذكر الحديث ـ : «أي يقطعان ويمحوان ما قبلهما من الكفر والمعاصي».

٣٨٠