بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

١

٢

٣

٤

رسالة في الوصية

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٦

كتاب الوصية

وفيه مباحث :

(المبحث الأول)

الوصية تنقسم إلى قسمين : تمليكية ، وعهدية. وعرفوها (١) بأنها تمليك عين أو منفعة ، أو تسليط على تصرف بعد الموت. وهو تعريف لها بقسميها : التمليكية والعهدية ، فالأول للأول ، والثاني للثاني (٢) وأخذ التمليك جنسا دون النقل ، مضافا الى الاقتصار على العين والمنفعة ، يعطي عدم تعلقها بغير المال من الحقوق كحق التحجير وحق الخيار من الحقوق المنتقلة وهو ليس كذلك كما ستعرف. والعين تعم الموجودة بالفعل وبالقوة كالشجرة والثمرة ، والمنفعة تعم المؤقتة ، والمؤبدة والمطلقة ، وتقييد الموت يخرج المنجزات في الحياة.

__________________

(١) وهذا هو تعريف الشهيد الأول صاحب اللمعة ، والمحقق الحلي صاحب المختصر النافع. إلا أن فيهما كلمة (الوفاة) بدل الموت. والملاحظ : أن هذه التعاريف المذكورة كلها من حيث الاصطلاح الشرعي ولم يتعرض سيدنا المصنف لمعنى الوصية لغة واشتقاقها من الثلاثي أو الرباعي وإن كان الظاهر من كتب اللغة : أنها اسم مصدر من الرباعي المضعّف أو المهموز وبمعنى العهد ، وكما يظهر ذلك من جملة من آيات الوصية ورواياتها

(٢) أي جملة (تمليك ..) تعريف للتمليكية ، وجملة (تسليط ..) تعريف للعهدية.

٧

وزاد بعضهم في التعريف قيد التبرع (١) لإخراج التمليكات العوضية بناء على استفادة المجانية من أدلتها ، وأنها قسم من العطايا والصدقات المأخوذ فيها التبرع.

وآخر : أو فك ملك (٢) لئلا يرد النقض عليه بالتدبير ، سواء قلنا إنه عتق معلق أو وصية به ، إذ لا تمليك فيه ولا تسليط ، بل هو تحرير وفك ملك (٣).

وعرفها الشهيد ـ قدس سره ـ في (الحواشي) المنسوبة إليه بأنها تنفيذ حكم

__________________

(١) كما فعل العلامة الحلي في كتاب الوصايا من التذكرة ، فقال : انها «تمليك عين أو منفعة بعد الموت تبرعا» وأما في (قواعده) فاقتصر في تعريفها على جملة (تمليك عين أو منفعة بعد الموت) كما فعل المحقق في شرائعه بإبدال كلمة (الموت) بالوفاة.

(٢) وهو السبزواري في كفايته فقال هكذا : «الوصية تمليك عين أو منفعة أو فك ملك بعد الوفاة ، أو تسليط على تصرف بعدها».

(٣) قال الشهيد الثاني في (المسالك) تعليقا على تعريف المحقق في شرائعه : «وينتقض في عكسه أيضا بالوصية بالعتق ، فإنه فك ملك ، لا تمليك للعبد نفسه ، وكذلك التدبير على القول بأنه وصية ، كما ذهب إليه الأكثر والوصية بإبراء المديون ، وبوقف المسجد ، فإنه فك ملك أيضا ، : وبالوصية بالمضاربة والمساقاة ، فإنهما وان أفادا ملك العامل للحصة من الربح والثمرة على تقدير ظهورهما ، الا أن حقيقتهما ليست كذلك ، وقد لا يحصل ربح ولا ثمرة ، فينتفي التمليك». ولكن الأقوى منع صحة الوصية بالمذكورات سوى التدبير ، فإنه بالخصوص منصوص عليه ، وأما غيره من المذكورات فلا دليل على صحة الوصية فيه ، لبطلان الإنشاء المعلق ـ بأقسامه ـ بالإجماع ، سواء كان التعليق على الموت أم على غيره.

٨

شرعي من مكلف أو في حكمه بعد الوفاة.

ولعمري إنه أجود التعاريف وأشملها ، فيشمل الحكم التمليك والتسليط وفك الملك من المكلف أو بحكمه كالمميز ، فإنه بحكم المكلف في نفوذ وصاياه وبالقيد الأخير يخرج ما كان من ذلك في الحياة.

ولا يتوهم ان التنفيذ فعل الوصي أو الحاكم ، وهما غير الوصية التي هي فعل الموصي دون غيره ، لان المراد من التنفيذ هنا ليس العمل بما نفذه الموصى في ماله من أحكامه ومقاصده المشروعة ، بل تنفيذ ذلك فيه انما هو بوصيته ، ولذا تتصف الوصية بكونها نافذة في ثلث ماله فهو المنفذ.

وفي اعتبار القبول في التمليكية منها مطلقا أو عدمه كذلك أو التفصيل بين ما كان لمعين محصور ، فيعتبر القبول فيه ، وما لم يكن لمحصور فلا يعتبر؟ احتمالات بل لعلها أقوال (١).

وتنقيح المسألة هو أن يقال : إن للإنسان أن يعين في ماله مقدار الثلث لمقاصده المشروعة بعد الوفاة ، وحينئذ : فأما أن يعيّن شيئا منه للشخص قاصدا به إنشاء التمليك له ، أو يعينه للنوع كالفقهاء أو بني هاشم أو يعين لإعمال يريد وقوعها بعده من وجوه البر كالأوقاف العامة من المدارس والخانات والرباطات والقناطر والإطعام والزيارات وغير ذلك من وجوه الخيرات

__________________

(١) ولقد اختلف فقهاء الإسلام ـ من إمامية وغيرهم ـ في أصل الوصية : أنها من العقود المبتنية على جانبي الإيجاب والقبول ، أم من الإيقاعات الحاصلة بطرف الإيجاب فقط. والفريق الثاني اختلفوا في أخذ القبول شرطا للتمليك أم شرطا للصحة أم لا يعتبر شي‌ء من ذلك وإنما يكتفى بمحض عدم الرد من الموصى له أم لا يعتبر في تحقق الوصية شي‌ء من ذلك مطلقا حتى عدم الرد .. راجع في تفصيل ذلك : كتاب الوصية من الموسوعات الفقهية ـ من الفريقين ـ

٩

والمبرات ، ويتخذ من يتولى ذلك عنه بعده بإعطاء ولاية له على التصرف في ذلك بالوصية ، فيكون وصيا له وقائماً مقامه في ذلك.

و (الأول) هو المتيقن من الوصية التمليكية ولا إشكال في كونه عقدا يتوقف على القبول ، لأن الدخول في ملك الغير شخصا بدون رضاه نوع سلطنة له عليه ، وليس لأحد سلطنة على غيره إلا فيما ورد من الشرع ولأنها تبطل بالرد بلا خلاف ـ كما قيل ـ ولا تبطل به لو دخل في ملكه قبل القبول ، وان خرج به عنه ، لتحقق التمليك المقصود من الوصية ، مضافا إلى حكاية الإجماع عليه المستفيضة المعتضدة بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه ولا يرد النقض على الأول (١) بالإرث الموجب للانتقال الى الوارث قهرا ، وبتمليك اللاحقة المتلقية من الواقف بجعل الوقف (٢) وبنذر النتيجة (٣) لأن الإرث سبب شرعي له لا بتمليك من أحد ، وتملك

__________________

(١) أي التعليل الأول لتوقف العقد على القبول ، وهو المشار إليه بقوله : لأن الدخول في ملك الغير ..

(٢) أي البطون اللاحقة غير الموجودة في الوقف عليهم تبعا للبطن الموجود فعلا ، فقد وردت الأدلة في تسويتهم مع الموجودين في تمليك المنفعة ، ويسقط اعتبار القبض والقبول فيما سوى الطبقة الموجودة.

(٣) وهو ما كان محط صيغة النذر نتيجة الفعل والمعنى الاسم المصدري منه ككون العبد حرا والفرس ملكا ، مقابلة لنذر السبب ، وهو ما كان محط الصيغة نفس الفعل والمعنى المصدري منه كعتق العبد وتمليك العبد. وعلى التحقيق في باب النذر من أنه التمليك وجعل الحق لله سبحانه على الناذر ، لا أنه التزام الناذر بالمنذور أمام الله سبحانه ـ كما قيل ـ فهل يصح نذر نتيجة الأفعال غير المقدورة التمليك بحد ذاتها لارتباطها بأسبابها ـ وهو الشرط ـ أم لا يصح ذلك؟ فلا بد من إيجاز القول في الشرط في ضمن العقد ليتضح

١٠

المعدومين بعد الوجود في وقف التشريك والموجودين عند انقراض الاولى في الترتيب إنما هو بالتبعية لتملك الموجودين المتوقفة على قبولهم صحة الوقف الذي مقتضاه التأبيد والدوام ، ولذا بطل في المنقطع الأول ، ونذر النتيجة ممنوع في التمليك ، وان سلم في فك الملك ، للنص وعدم المانع كالانعتاق الحاصل بنذر العتق.

__________________

الكلام في صحة نذر النتيجة وعدمها ، فنقول : تارة يتعلق الشرط بنفس السبب كشرط البيعية بالمعنى المصدري أي إيقاعها من قبل البائع ، وتارة يتعلق بالمسبب والنتيجة كالمبيعية والمعنى الاسم المصدري ، لا شك في صحة الأول للتمكن منه بحكم تعلقه بالملتزم فتشمله أدلة الوفاء بالشرط ، بخلاف الثاني ، لعدم التمكن من المسببات المتعلقة بأسبابها الشرعية ، وليس الشرط من أسباب البيع ونحوه من المسببات ، فلا تصح ، وعلى هذا الغرار يكون التفصيل بين نذر السبب ونذر النتيجة بصحة الأول وبطلان الثاني إذ النذر كالشرط ليس من الأسباب المحصلة لمسبباتها شرعا ، فيصح نذر عتق العبد وبيع الفرس ، وتطليق الزوجة ، ونحو ذلك من الأسباب المتعلقة بنفس الناذر ، ولا يصح نذر حرية العبد ومبيعية الفرس وكون الزوجة طالقا وأمثال ذلك من نتائج الأفعال ومسبباتها المرتبطة في الوجود بأسبابها المجعولة شرعا وليس النذر من أسبابها ، فلو وقع النذر على ما ظاهره التعلق بالنتيجة فلا بد من تخريجه ـ كما في الأمثلة الآنفة الذكر ـ على جعل العبد حرا أو الفرس مبيعا أو الزوجة طالقا بجعل مستقل غير صيغة النذر ، لا بنفس صيغة النذر ، إذ الصيغة الواحدة لا تصلح لجعل المنسوب الذي هو مفاد كان التامة وجعل النسبة التي هي مفاد كان الناقصة ، ولا يجتمع الأمران في أداء واحد. ولزيادة التفصيل يراجع بابا النذر والشرط في ضمن العقد من كتب الفقه.

١١

وإيجابه كل لفظ دال عليه بنفسه أو بمعونة قرينة كقوله : أعطوا لفلان بعد وفاتي كذا ، فان التقييد قرينة تصرف العطية عن التنجيز إلى الوصية. ولو قال : (وصيت لفلان بكذا) لم يحتج الى ذكر التعليق بالموت لدلالة لفظ الوصية عليه. ولو قال : (هو لفلان) كان إقرارا ما لم يقترن بما يدل على التنجيز أو الوصية.

والقبول كل ما يدل على الرضا قولا أو فعلا كالأخذ والتصرف. وعلى الوصي تسليم الموصى به الى الموصى له عن الموصى.

و (الثاني) ـ وهو التمليك للنوع لا يعتبر فيه القبول كما عن الأكثر وإن قيل باعتباره ، كما عن صريح بعض ، وظاهر من أطلق العقد على الوصية التمليكية ، لعدم الدليل عليه بعد خلو الاخبار عنه ، وعدم تضمنها له مع الحاجة إليه لو كان معتبرا دليل على عدم اعتباره ، ولعدم ورود ما دل على اعتباره في الأول : من الإجماع المفقود هنا ، ومن السلطنة المنفية بأدلة الضرر ، إذ لا سلطنة على النوع فضلا عن تعقل تضرره بها ، والدفع للفرد منه ليس تمليكا له ، بل هو من الانطباق عليه لكونه مصداقا للكلي الذي يصلح أن يكون مالكا كما يصلح أن يكون مملوكا. ومع ذلك فتملكه يتوقف على رضاه المنكشف بقبضه ، لأن الدخول في ملكه قهرا ضرر عليه ولو انحصر النوع في فرد ، فتعين الملك له لو سلم فهو بسبب حصر الانطباق عليه لا بتمليك المالك حتى يوجب السلطنة له عليه ، ومن بطلان الوصية بتعقب الرد قبل القبول لعدم اعتبار القبول هنا حتى يكون الرد قبله مبطلا لها ، بل هو فيما كان كذلك من الإيقاعات لا من العقود ، بل يجري ذلك في كل ما كان تمليكا للنوع كالأوقاف العامة بناء على ما هو الأقوى : من كونها تمليكا لهم كالفقهاء وبني هاشم من حيث المنفعة الخاصة أو الانتفاع ، بل كذلك على الجهة العامة كالقنطرة للعابرين والحظرات

١٢

للخدّام والزائرين ، والمساجد للمصلين من حيث الجهات المخصوصة كالحقوق العامة نحو الزكاة للفقراء والخمس لبني هاشم ، غير أن التمليك فيهما من الله سبحانه وتعالى ، وفي الوقف من العبد ، فلا يتوقف صحته على القبول بل هو من الإيقاع الذي يتحقق بالإيجاب وحده ، كيف ولو توقف على القبول لتعذر أو تعسر ، لأنه من الجميع غير ممكن ، ومن البعض ترجيح بلا مرجح ، والاكتفاء بقبول الحاكم لولايته عليهم في المصالح العامة متعسر غالبا ، بل هو خلاف السيرة القطعية ، سيما في الرباطات والخانات والمساجد المبنية في الطرق والمفاوز والقرش والمعلقات والإستار المرسولة إلى الكعبة والحضرات. والاكتفاء بقبول الناظر في تلك المصلحة ـ كما وقع من جدنا في الرياض (١) وغيره ـ لا وجه له ، ضرورة أن الناظر المتولي للوقف ـ مع توقف تحقق ولايته على تحقق الوقف لتوقف ثبوت النسبة على تحقق الطرفين طبعا فكيف يتحقق الوقف بقبوله (٢) لا ولاية له على الموقوف عليهم حتى يصح قبوله عنهم ، ولا ولاية للواقف أيضا حتى يفيضها الى الناظر ، إلا إذا كان مجتهدا ، فله الولاية عليهم من حيث كونه مجتهدا لا من حيث كونها واقفا. نعم للناظر الولاية على إصلاح الوقف وتعميره وإجارته وأخذ منافعه لإيصالها إلى أربابها أو صرفها في مصارفها ـ حسبما عينه الواقف عليه ـ من الإطلاق ، والتقييد وقياس القبول بالقبض الذي يكفي فيه قبض المتولي قياس مع الفارق ، لان تلك التصرفات في العين المجعولة له بالوقف التي هي في الحقيقة من كيفياته موقوفة على قبض العين ، وبه يتحقق خروج العين عن سلطنة المالك

__________________

(١) يلاحظ ذلك في أوائل كتاب الوقوف والصدقات في شرح قول المصنف «ويعتبر فيه القبض ، ولو كان الوقف على مصلحة عامة كالقناطر أو موضع عبادة كالمساجد قبضه الناظر فيها ..»

(٢) للزوم الدور الظاهر وهو عقيم النتيجة ـ كما حقق في محله ـ

١٣

بالكلية ، فهو من شئون سلطنة المالك في وقف ملكه ، إذ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها (١) وأين ذلك من قبوله بدلا عن قبول من لا ولاية له عليه؟

و (أما الثالث) فهو وصية عهدية يتولى الوصي من ذلك ما كان يتولاه الموصي لو كان حيا.

هذا ولو قيل بعدم اعتبار القبول (٢) ففي مانعية الرد ، وعدمه؟ احتمالان : احتملهما شيخنا في (الجواهر) حيث أضافهما إلى الأقوال المتقدمة عليهما في كلامه قائلاً : «وقد يحتمل عدم مدخليته أصلا في الملك ، ولا في اللزوم وانما الرد مانع ، بل قد يحتمل عدم مانعية الرد أيضا» (٣) انتهى.

والى أحدهما يرجع كلام الشيخ في (الخلاف) حيث قال : «إذا أوصى لرجل بشي‌ء ثم مات الموصى ، فإنه ينتقل ما أوصى به الى ملك الموصى له بوفاة الموصي ـ الى أن قال بعد نقل أقوال الشافعية ـ : دليلنا

__________________

(١) في الوسائل باب (٢) وجوب العمل بشرط الواقف حديث (٢) : «محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى قال : كتب بعض أصحابنا الى أبي محمد (ع) في الوقوف وما روي فيها ، فوقع (ع) : الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله».

(٢) أي في مطلق الوصية بأنواعها التمليكية والعهدية ، أم في بعض الأنواع ـ على الخلاف ـ وهذا يناسب القول بكونها من الإيقاعات لا العقود.

(٣) أوائل كتاب الوصايا في شرح قول المحقق (ولا ينتقل بالموت منفردا عن القبول) يقول في أول هذه العبارة : «وقد ظهر بذلك أن الأقوال في المسألة ثلاثة : أحدها ـ أن القبول تمام السبب الناقل كباقي العقود ، والثاني ـ كونه شرطا في الملك كاشفا. والثالث كونه شرطا في اللزوم ، وقد يحتمل ..»

١٤

لا يخلو الشي‌ء الموصى به من ثلاثة أحوال : إما أن يبقى على ملك الميت أو ينتقل إلى الورثة ، أو ينتقل الى الموصى له ، ولا يجوز أن يبقى على ملكه ، لأنه قد مات ، والميت لا يملك ، ولا يكون ملكا للورثة ، لقوله جل سبحانه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) فجعل لهم الميراث بعد الوصية ، فلم يبق الا أن يكون ملكا للموصى له بالموت» (١) انتهى الا أنه بمعونة الإجماع (٢) على تأثير الرد قبل القبول يقوي إرادته الأول من الاحتمالين. وعليه فلا مناص حينئذ عن رجوعه الى أحد الأقوال الآتية ـ كما ستعرف.

وكيف كان فحيثما يعتبر القبول (٣) ففي كونه جزء ناقلا للملك

__________________

(١) راجع منه كتاب الوصايا : مسألة (١٨).

(٢) كما ادعى ذلك في (الجواهر) و (الحدائق) وغيرهما من الفقهاء المتأخرين. وهو ـ مع تماميته ـ الدليل الحاسم في التأثير ، وإلا فاطلاقات الأدلة مانعة عن ذلك.

(٣) ويظهر من عبارة المصنف ـ قدس سره ـ الآتية : أن الأقوال ـ بناء على اعتبار القبول في الوصية ـ أربعة : (الأول) : كونه جزء للعقد ناقلا للملك من حيث صدوره وهو المشار اليه بقوله : (ففي كونه جزء ناقلا). (الثاني) ـ كونه جزء للعقد كاشفا عن الملك من حين موت الموصي ، وهو المشار اليه بقوله : (أو كاشفا عنه ..) (الثالث) كونه شرطا في استقرار الملك ولزومه لا في أصل ثبوته وهو المشار اليه بقوله : (أو شرطا للزوم الملك ..) (الرابع) كونه شرطا في حدوث الملكية المتزلزلة وتستقر بالقبض ، وهو المشار اليه بقوله : (أو بالقبول يملك ..). والقولان الأخيران يناسبان القول بإيقاعية الوصية ، كما أن الأولين يناسبان القول بعقديتها.

١٥

من حينه ، أو كاشفا عنه من حين الموت ، أو شرطا للزوم الملك فقبله يملك متزلزلا ويستقر بالقبول ، أو بالقبول يملك متزلزلا وبالقبض يستقر؟ أقوال :

ذهب الشيخ في (المبسوط) إلى الأخير ، حيث قال في موضع منه عند ذكر صور الرد من الموصى له : «الثالثة ان يردها بعد القبول والقبض فإنه لا يصح الرد لأن بالقبول تم عليه ملكه وبالقبض استقر ملكه ..

الرابع : أن يردها بعد القبول وقبل القبض ، فإنه يجوز ، وفي الناس من قال لا يصح الرد لأنه لما قبل ثبت ملكه : إما بالموت أو بالشرطين ، فاذا حصل في ملكه لم يكن له الرد ، والصحيح أن ذلك يصح ، لأنه وان كان قد ملكه بالقبول ، لم يستقر عليه ملكه ما لم يقبضه ، فيصح منه الرد (١).

وفيه : أنه مبني على اعتبار القبض ، وستعرف ضعف المبنى (٢).

وأما الثالث : فإن أريد بالتزلزل قبل القبول : ما هو المصطلح من معناه ، الراجع الى كونه أثرا للعقد وموجبا لانقسامه من هذه الحيثية إلى كونه عقدا لازما أو جائزا ، فليس معناه إلا كون المتعاقدين أو أحدهما له الخروج عما ألزم به نفسه : من التمليك أو التسليط وأنه به لم تنقطع عنه علقة الملكية والسلطنة بالكلية ، فجواز الرجوع حينئذ من شئون السلطنة السابقة ولذا كان من الأحكام ، لا بسلطنة جديدة حدثت له بسبب شرعي أو بشرط منه ونحوه حتى يكون من الحقوق كحق الخيار ـ مثلا ـ فان البيع ـ مثلا ـ سبب قاطع للملكية بالكلية ، والخيار محدث لمن هو له سلطنة

__________________

(١) راجع ذلك منه في ج ٤ ص ٣٣ الطبعة الثانية في المطبعة الحيدرية بطهران سنة ١٣٨٨ ه‍. بعد أن ذكر الصورة الأولى وهي الرد قبل وفاة الموصي ، ولا حكم لها ، والصورة الثانية : الرد بعد وفاة الموصي وحكمها الصحة ، وانتقال المال الى ورثته.

(٢) كما سيأتي قريبا في قوله : (وأما قول الشيخ .. ففيه)

١٦

جديدة ، ولذا كان من الحقوق لا من الأحكام. وحينئذ فالملك المنتقل أو التسليط الحاصل بالعقد الجائز أو اللازم المتحقق معه ما يوجب الخيار ملك متزلزل : إما بنفس العقد أو بما هو متحقق معه. وهو هنا بهذا المعنى غير متصور قبل القبول ، لعدم وقوعه من الموصى له حتى يكون له الخروج عما ألزم به نفسه بالقبول ، والموصي وإن كان له الخروج عن إلزام نفسه بإنشائه المعلق ، الا أنه صار إنشاؤه لازما بموته ، فلا موجب لاتصاف الملك بالتزلزل بالمعنى المصطلح المنحصر سببه بأحد الأمرين ، وأما التزلزل بمعنى أن له قبل القبول أن لا يقبل ويرد ، فهو بهذا المعنى ثابت لكل قابل قبل القبول ولو كان عقدا لازما.

وان أريد به لا من حيث كونه أثر العقد أو أثر ما هو متحقق معه من أسبابه ، بل من حيث أنه هو وجه الجمع بين الدليلين : (أحدهما) ما دلّ على خروج الموصى به عن ملك الموصي : من قوله تعالى «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» وكون الميت لا يملك وأنه بموت الموصى له يكون اختيار القبول أو الرد لوارثه (الثاني) ما دل على اعتبار القبول وأن بالرد قبله تردد الوصية من إجماع وغيره ، فوجه الجمع بينهما هو الحكم بانتقال الموصى به الى الموصى له متزلزلا ، وبقبوله يستقر ، وبرده قبله يرد لتزلزله فيرجع الى ورثة الموصي.

(ففيه) أن ثبوت النتيجة انما هو بعد ثبوت المقدمتين ، والأولى ممنوعة ، لأن إطلاق الوصية في الآية الشريفة ونحوها ليس مسوقا لبيان ما يعتبر فيها ، بل هو مسوق لبيان عدم الانتقال الى الوارث مع الوصية بشرائطها ، وعدم ملك الميت مسلّم بالنسبة إلى حدوثه له دون دوامه ، فان قوله (ع) : «له من ماله الثلث» في جواب السائل : «الميت ماله من

١٧

ماله» (١) الظاهر في بقاء الملكية إلى وقوع التصرفات الموصى بها ، ولا أقل من كونه بحكم ماله ، ونقل القبول أو الرد الى وارث الموصى له لو مات قبل قبوله أعم من ذلك لشموله لمن تشبث به بالوصية وموت الموصي ، فهو بهذه الجهة ملك أن يملك ، وهذا القدر كاف في نقله الى وارثه ، بل هو أولى من نقله إليه لو مات قبل موت الموصي ، مضافا الى النص ـ كما ستعرف ـ وحينئذ فلا إشكال في ضعف هذه الأقوال ، وإنما الكلام في القولين الأولين : كونه ناقلا من حينه ، أو كاشفا عن النقل من حين الموت ، والترجيح بينهما.

أما القول الأول ، فاستدل له بأن الملك أثر شرعي ، وسببه الإيجاب والقبول ، فيستحيل تحققه قبل تحقق تمام سببه.

وأما الثاني ، فاستدل له بوجهين : (أحدهما) استدل له جدنا (في الرياض) ومحصله هو : أنّ مقتضى أدلة الوصية الدخول في الملك ، وإطلاقها وان كان يقتضي عدم اعتبار القبول ، الا أنه من هذه الجهة مقيد بما دل على اعتباره ، فيبقى من حيث تقييد الدخول في الملك به على إطلاقه وعمومه ، والعام المخصص حجة في الباقي.

وفيه : ان ما دل على كون القبول ناقلا بعد تسليم أصل اعتباره للإجماع وغيره : من استحالة تقديم المعلول على علته لا يبقى حينئذ إطلاق حتى يقال بحجيته في الباقي.

(وثانيهما) هو اقتضاء العقد لذلك بعد ان كان القبول هو الرضا بمدلول الإيجاب الذي هو التمليك عند الموت ، واستحالة تحقق المشروط في

__________________

(١) في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ١٠ جواز الوصية بثلث المال حديث ـ ٢ ـ هكذا : «.. وبإسناده عن حماد بن عيسى عن شعيب بن يعقوب عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يموت :

ما له من ماله؟ فقال : له ثلث ماله ، وللمرأة أيضا».

١٨

الواقع قبل تحقق شرطه المتأخر انما هو حيث يكون نفس الشرط بذاته شرطا ، لا محققا لموضوع الشرط المقارن للإيجاب ، وهو التعقب وكونه معقبا به. (ودعوى) أن التعقب أيضا منتزع من القبول المتأخر ، ويستحيل تقدم المنتزع على منشأ انتزاعه (يدفعها) أن المنشأ ليس وجود القبول بذاته بل بعديته. وبعبارة أخرى : منتزع من أمر سيوجد لا من وجوده ، ولذا يصدق حقيقة قبلية اليوم على الغد قبل تحققه للعلم بتحققه مع أن القبلية أمر منتزع ، وليس الا لكونه منتزعا من بعدية الغد المعلوم لحوقه لا من نفسه. وهذا الوجه يجري في كل شرط متأخر.

ويمكن تصحيح الكشف بوجه آخر ، وهو : أن الوصية ـ سيّما بعد تحقق المعلق عليه وهو الموت ـ تحدث ربطا ـ ولو في الجملة ـ بين الموصى به وبين الموصى له ربط إضافة يشتد ويقوى بالقبول الناظر الى ذلك الربط الموجب لتحقق الملك المنبسط عليه ، فالتأثير ، وإن كان متأخرا إلا أن الأثر منبسط على ذلك الربط ، لصيرورة المورد به قابلاً لسراية الأثر اليه.

وقد بسطنا الكلام في هذين الوجهين بالنسبة إلى الإجازة على الكشف في بيع الفضولي فراجع ـ ثمة (١) ـ فاذا القول بكون القبول كاشفا عن الملك من حين الموت هو الأقوى كما عليه الأكثر.

وتظهر الثمرة بين القولين في أمور «منها» لو أوصى بعبده لغيره ثم مات الموصي قبل هلال شوال وقبل الموصى له ، فزكاته على الموصى له كما أن نفقته عليه أيضا على الكشف ، وليس عليه شي‌ء منهما على النقل

(ومنها) لو كان العبد الموصى به كسوبا فكسبه الحاصل بين الموت والقبول للموصى له على الكشف ، دون النقل.

(ومنها) لو ملك ابن أخ له وأوصى به لأجنبي ثم مات الموصي ولم

__________________

(١) يشير إلى الرسالة الثالثة من محتويات الجزء الثاني للكتاب.

١٩

يسكن له وارث سوى أخيه أب الموصى به ، فعلى القول بالكشف بقي الولد رقا مملوكا للأجنبي ، وعلى النقل انعتق على أبيه لتملكه له بالإرث ، فلم يبق موضوع بعده للقبول ، الا ان قلنا ببقائه على حكم مال الميت الى أن يتحقق الرد أو القبول ، فيبقى حينئذ على الرق.

(ومنها) لو زوج جاريته ثم أوصى بها لزوجها : فان كان أجنبيا ومات الموصي بطلت الزوجية من حين القبول على النقل بسبب الملك الذي هو أقوى سببا من الزوجية ، ومن حين الموت على الكشف ، ولو ردّ الوصية قبل القبول لم تبطل الزوجية مطلقا ، الا على القول بالملك المتزلزل وان القبول شرط للزوم فتبطل الزوجية بالملك ولو متزلزلا ، وتبطل الملكية بالرد ، وان كان الزوج وارثا بطلت الزوجية من حين الموت بسبب الملك :

ما بالإرث أو الوصية.

نعم بناء على بقاء الموصى به على حكم مال الميت الى أن يقع الرد أو القبول ، لم تبطل الزوجية حينئذ قبل القبول على القول بكونه ناقلا ، لا كاشفا. ولو أوصى بها لغير زوجها وكان الزوج أجنبيا ومات الموصي لم تبطل الزوجية مطلقا ، من غير فرق بين كون الموصى له وارثا للموصي أو أجنبيا ، رد الوصية أو قبلها ، ناقلا كان القبول أو كاشفا ، لعدم وجود ما يوجب بطلانها من الملك ، وان كان وارثا بقيت على الزوجية ما دام لم يحصل الرد من الموصى له ، بناء على عدم الانتقال الى الوارث قبل القبول على النقل ، وأنه على حكم مال الميت ، والا فتبطل بملك الوارث ، وان خرج عنه بقبول الموصى له ، الى غير ذلك من الثمرات التي يستخرجها الفقيه متفرعة على القولين بأدنى تأمل.

وأما قول الشيخ الذي هو رابع الأقوال المتقدمة ، وهو كونه بالقبول يملك متزلزلا ، وبالقبض يستقر (ففيه) أنه مبني على اعتبار القبض في

٢٠