بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ولو لا تضمن بعضها للاستدلال بحديث (يحرم) لأمكن المناقشة في الاستدلال به عليه ، كما استدل لظهوره في حرمة النكاح دون غيره ، فاللازم حينئذ حرمة ترتيب آثار الملك بقرينة استدلال الامام به في المقام ، وكيف كان فلتفصيل المسألة محل آخر

الرابعة : اختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة النساء وعدمه على قولين :

فعن الشيخ في (الخلاف) وموضع من (المبسوط) والحلي في (السرائر) والعلامة في (القواعد) وغيرهم عدم قبول شهادتهن في الرضاع ، بل في الأول : دعوى الإجماع عليه (١) وفي الأخيرين : القول بالقبول متروك ، وهو الذي يقتضيه الأصل وعموم «(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ)

__________________

الرجل أخاه وغيره من ذوي قرابته من الرضاعة» .. وموثقته أيضا «عن محمد بن زياد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام : قال : إذا اشترى الرجل أباه أو أخاه فهو حر إلا ما كان من قبل الرضاع ، وموثقة ابن فضال عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في بيع الأم من الرضاعة ـ قال : لا بأس بذلك إذا احتاج».

ثم يأخذ في قدح الروايات المعارضة من حيث السند بأن جميعها موثق وتلك صحاح ، والموثق لا يعارض الصحيح ، ومن حيث الدلالة بأن عامتها خارج عن حريم النزاع ، إذ بعضها غير متعرض للعمودين ، وبعضها مأول وبعضها يخص البيع بوقت الحاجة والضرورة لا مطلقا ـ الى آخر كلامه المفصل المفيد ـ فراجعه.

(١) قال : الشيخ في الخلاف ج ٢ آخر كتاب الرضاع ، مسألة ١١ «لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال ـ إلى قوله ـ : دليلنا :

إجماع الفرقة وأخبارهم».

٢٠١

من النساء (١) وأحل لكم» (٢) فتأمل ، ولأن التحريم متوقف على وجود سببه ، ولا دليل على ثبوته بشهادتهن الا ما قد يقال : باندراجه في عموم ما دل على قبول شهادتهن فيما يتعذر أو يتعسر الاطلاع عليه من أمورهن للرجال ، الممنوع كون الرضاع منه حتى تشمله كلية الكبرى.

وعن المفيد والمرتضى وسلار والحسن وأبي علي وابن حمزة والشيخ في موضع آخر من (مبسوطه) قبول شهادتهن فيه ، واستقر به العلامة في (القواعد) (٣) والمحقق في الشرائع (٤) وان تردد هو في النافع الا أنه جعله فيه الأشبه (٥) ، بل قيل : أنه الأشهر ، ولا سيما بين المتأخرين ، لعموم ما دل على قبول شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه

__________________

(١) «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ..» سورة النساء ـ ٣.

(٢) ففي سورة النساء آية ٢٤ بعد عرض آية التحريم السابقة «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ..». «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ..».

(٣) فقال في خاتمة باب الرضاع : «الأقرب قبول شهادة النساء منفردات .. إلى قوله : ولو شهدت بأني أرضعته فالأقرب القبول ما لم تدع أجرة».

(٤) قال : في أخريات الطرف الثالث في أقسام الحقوق : من كتاب الشهادات : «وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف؟ أقر به الجواز».

(٥) قال ـ في ملحقات كتاب الشهادات من المسائل ـ «الثالثة : لا تقبل شهادة النساء في الهلال والطلاق وفي قبولها في الرضاع تردد ، أشبهه القبول».

٢٠٢

ويطلعوا عليه (١) والرضاع منه ، وخصوص مرسلة ابن بكير : «عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام في امرأة أرضعت غلاما وجارية قال : يعلم ذلك غيرها؟ قلت : لا ، قال : لا تصدق إن لم يكن غيرها» (٢) الظاهرة بعموم مفهومها على أنها تصدق مع وجود غيرها ، الشامل بإطلاقه ما لو كان الغير من النساء ولو لم نقبل شهادتها لم يكن وجه للتعليق على عدم وجود الغير معها مع كون الإجماع المتقدم موهونا بفتوى حاكيه في شهادة (مبسوطه) المتأخر عن (خلافه) ـ على ما قيل بالخلاف مؤيدا بإطلاق قبول قول المرأة والنسوة إذا كن مستورات في خبر ابن أبي يعفور (٣) وبما روي عن الفقيه من أن نقص عقول النساء هو الموجب

__________________

(١) مضامين روايات كثيرة ذكرها الوسائل في كتاب الشهادات باب ٢٤ ما تجوز شهادة النساء فيه. فمن ذلك : «عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن إبراهيم الحارثي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام ، يقول : تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا اليه ويشهدوا عليه ..» وغيرها مثلها كثير.

(٢) في الوسائل : كتاب النكاح ، باب ١٢ من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث رقم ٣ ، الرواية هكذا : «وبإسناده ـ أي محمد بن يعقوب الكليني ـ عن علي بن الحسن بن فضال عن محمد بن عبد الله بن زرارة ومحمد وأحمد ابني الحسن بن علي عن الحسن بن علي عن عبد الله بن بكير عن بعض أصحابنا ..».

(٣) في الوسائل ، كتاب الشهادات ، باب ٤١ ما يعتبر في الشاهد من العدالة ، حديث رقم (٢٠) : «محمد بن الحسن بإسناده عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن علي بن عقبة وذبيان بن حكيم الأودي عن موسى بن أكيل عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي جعفر (ع) :

٢٠٣

لكون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، وان شهادة الثنتين منهن بمنزلة شهادة رجل واحد (١) فتأمل.

ولعل هذا القول هو الأقوى ، لأن الرضاع لا يمكن إنكار كونه من الأمور الخفية التي لا يمكن اطلاع الرجال عليها غالبا حسبما هو معتبر في التحريم ، فلو لم تعتبر شهادتهن عليه لزم الوقوع كثيرا في ورطة نكاح المحرمات مع غلبة إرضاع غير الأمهات من المرضعات ، فناسبت الحكمة قبول شهادتهن ، وشمول أخبار قبولها له أيضا ، وان كان موردها ما لا يجوز نظر الرجال اليه كالعذرة وعيوب الفرج والحيض والنفاس ، وحيث قلنا بقبول شهادتهن منفردات قلنا بقبول شهادتهن منضمات ، فتقبل فيه شهادة رجل وامرأتين بالأولوية.

ثم على تقدير قبول شهادتهن ، فهل تقبل شهادتهن فرعا على شهادتهن على الرضاع أولا؟ وجهان : ينشأن من قبول شهادتهنّ أصلا ، فتقبل شهادتهن فرعا بالأولوية ، ومن ان القبول في الأصل لتعسر اطلاع الرجال عليه ، ولا كذلك في الفرع وبذلك تمنع الأولوية وعلى تقدير تسليمها فهي ظنية لا تجدي.

__________________

قال : تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف ، مطيعات للأزواج ، تاركات للبذاء والتبرج إلى الرجال في أنديتهم».

(١) الوسائل ، باب ١٦ من أبواب الشهادات ـ في تفسير الحسن العسكري عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) في تفسير قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» : «إذا ضلت إحداهما عن الشهادة فنسيتها ذكرت إحداهما الأخرى بها فاستقامتا : في أداء الشهادة عند الله شهادة امرأتين بشهادة رجل لنقصان عقولهن ودينهن».

٢٠٤

الخامسة : هل يقع الظهار بالرضاع كما يقع بالنسب بأن يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي من الرضاع ، أم لا؟ فيه خلاف : قيل بالوقوع ، لعموم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١) وخصوص صحيحة زرارة : «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الظهار؟ فقال : هو من كل ذي محرم أم أو أخت أو عمة أو خالة ، ولا يكون الظهار في يمين ، قال قلت : كيف يكون؟ قال : يقول الرجل لامرأته ـ وهي طاهرة في غير جماع ـ أنت علي حرام مثل ظهر أمي أو أختي ، وهو يريد بذلك الظهار» (٢) ، واشتراكهما في قول الزور والمنكر.

وفي الكل نظر : أما الحديث ، فلظهوره في اشتراك عناوين النسبية والرضاعية في التحريم ، لا في اشتراكهما في وقوع الظهار به في التشبيه.

وأما الصحيحة ، فلأن غاية ظهور التنكير شموله لكل محرم بالنسب أما كان أم غيرها ، كما صرح بذكرهن بعده ، لا كل ما كان محرما ، ولو بالرضاع.

وأما اشتراكهما في قول الزور ، فلكونه بمجرده لا يثبت به حكم الظهار ، ضرورة أن الظهار زور ومنكر ، لا كل زور ومنكر ظهار.

فإذا الأقوى هو القول بالعدم ، لا للأصل مع عدم الدليل المخرج منه.

خاتمة : قد ظهر لك : ان بعض أحكام النسب ثابت في الرضاع ، وهو تحريم النكاح وثبوت المحرمية بالاتفاق ، وبعضها مختلف فيه عندهم وهو انعتاق أحد العمودين من الرضاع بالملك ، وثبوت الظهار بالتشبيه

__________________

(١) نبوي مشهور مروي بطرق مختلفة. ذكرت في الوسائل في أوائل أبواب ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح .. ،

(٢) راجع ـ من الوسائل ، كتاب الظهار ، باب ٢ حديث (٢) وباب ٤ حديث (١) مثله.

٢٠٥

بالمحرمات من الرضاع ، كما عرفت الخلاف فيه ، وأن الأقوى هو الثبوت في الأول ، والعدم في الثاني ، ويفترقان في كثير من الأحكام ، فإنها تثبت في النسب ولا تثبت في الرضاع كالتوارث ، واستحقاق المنفعة وعدم قبول شهادة الولد على والده ، وسقوط قود الوالد بالولد ، وعدم استيفائه حد القذف ، وحد القطع بسرقة ماله ، وحق الولاية للأب والحضانة للأم ، وتحمل العقل (١) في جناية الخطأ ، وعدم نفوذ قضاء الولد على والده ، دون الإفتاء ، وانصراف إطلاق الوالد أو الولد في النذور والأيمان إلى من كان من النسب دون الرضاع ، فان هذه الأحكام ثابتة في النسب دون الرضاع فلا توارث بين الولد ووالده من الرضاع ، ولا استحقاق للنفقة أيضا ، وتقبل شهادة الولد على والده من الرضاع ، ويقاد الوالد بولده من الرضاع ويستوفي منه حد القذف والسرقة ، إلى غير ذلك من الأحكام المتقدمة ، فإنها غير جارية في الرضاع

فاتضح لك أن حكم الرضاع بحسب مشاركته للنسب ومباينته إياه ، ينقسم إلى أقسام ثلاثة : قسم يتحد حكمهما إجماعا ، وقسم يختلف حكمها كذلك ، وقسم اختلفت فيه كلمات الفقهاء ، وقد عرفت التفصيل في كل منها بما لا مزيد عليه.

تنبيه : اعلم ان للأم إطلاقات ثلاثة : أمهات النسب ، وأمهات الرضاع وأمهات التبجيل والعظمة ، وهن زوجات النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ

__________________

(١) بالفتح والسكون. الاسم من عقل يعقل ، وهي دية القتيل : قال الطريحي ـ في مجمع البحرين ـ «وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم ، ويقبضونها منه ، فسميت الدية عقلا ، بالمصدر ، يقال : عقل البعير يعقله عقلا ، والجمع عقول».

٢٠٦

فإنهنّ أمهات المؤمنين ، لقوله تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (١) ويشاركن أمهات النسب في حرمة نكاحهن بالنص لا بإطلاق الأمومة عليهن دون المحرمية ، فلا يجوز عندنا النظر إليهن فيما يجوز النظر الى المحارم ، خلافا لبعض من خالفنا ـ على ما قيل ـ فجوزوا النظر إليهن لإطلاق الأمومة عليهن ، وهو مردود بالنهي عن التبرّج ، مضافا إلى ما روته أم سلمة : «قالت كنت أنا وميمونة عند النبي صلّى الله عليه وآله : فأقبل ابن أم مكتوم ، فقال احتجبا عنه ، فقلنا إنه أعمى ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : فعمياوان أنتما؟» (٢) الخبر.

وليس كل من حرم نكاحها جاز النظر إليها كأخت الزوجة : اللهم الا ان تدعى الملازمة بين تأييد الحرمة والمحرمية ، فلا ينقض بأخت الزوجة المحرمة ، جمعا لا تأييدا.

وفيه : ان الملازمة ، لو سلمت كليتها ، فإنما هي بين التحريم بأحد العناوين المتقدمة والمحرمية ، لا مطلقا ، وقد عرفت أن حرمة نكاحهن بالنص لا بإطلاق الأمومة عليهن ، فقد استبان أن المراد أمومة الإجلال والكرامة ، لا غير.

هذا ما وسعنا من تحرير مسائل هذا الباب على تشتت البال وتشويش الخيال ، والله الهادي إلى الحق والموفق للصواب.

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ ٦.

(٢) في مقدمات كتاب النكاح من الوسائل باب ١٢٩ من أبواب مقدماته وآدابه ، الحديث رقم (٤) هكذا : «عن أم سلمة ، قالت : كنت عند رسول الله (ص) وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ـ وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال : احتجبا ، فقلنا : يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه؟ ،

٢٠٧
٢٠٨

رسالة

في الولايات

٢٠٩

بسم الله الرحمن الرّحيم

مسألة في الولاية وأقسامها وموارد ثبوتها ، والقدر الثابت منها.

وتنقيح الكلام فيها يتم بذكر مقدمة ومباحث :

أما المقدمة ففي بيان معناها وانقسامها بنحو الإجمال ، وما يقتضيه الأصل فيها ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ :

الولاية لغة كما عن القاموس والمجمع ـ بالفتح ـ : مصدر بمعنى الربوبية والنصرة ، ومنه قوله تعالى «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ» (١) وبالكسر : اسم بمعنى الامارة (٢) واصطلاحا : هي سلطنة على الغير عقلية أو شرعية ، نفسا كان أو مالا أو كليهما بالأصل ، أو بالعارض ،

__________________

(١) سورة الكهف ـ ٤٤. وتتمة الآية «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً ، وَخَيْرٌ عُقْباً».

(٢) والسلطنة والامارة نوعان : عامة ، وخاصة.

فالعامة : هي المتعلقة بأنحاء التصرفات المشروعة على جهة العموم ، كما لو جعل الشارع المقدس للفقيه ـ مثلا ـ الولاية على أموال القاصر بجميع أنحاء التصرفات الراجعة مصلحتها اليه بلا استثناء ، وتسمى هذه بالولاية العامة.

والخاصة : هي السلطنة الضيقة النطاق ، كما لو فرض جعل الشارع للفقيه إجازة خاصة بنحو معين من التصرفات كالإيجار أو الاستيجار فقط. وتسمى هذه بالولاية الخاصة.

٢١٠

والفرق بينها وبين الحق المفسر بذلك أيضا ـ كما تقدم في مسألة الفرق بين الحق والحكم ـ (١) هو ان تفسير الحق بذلك تفسير له باعتبار أثره ـ غالبا ـ فان الحق ـ حقيقة ـ : هو الشي‌ء الثابت الموجب لسلطنة من هو له على من هو عليه. والولاية هي نفس السلطنة المنجعلة أو المجعولة لصاحبها على الغير ، فأثرها في الأول ـ وهو التصرف من صاحبها ـ انما هو غالبا لاستيفاء ما هو له ولمصلحته ، وفي الثاني انما هو لنقص في المولى عليه ورجوع مصلحته اليه اتفاقا للنظام.

ثم انها تنقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعددة : فتنقسم باعتبار إلى الولاية بالمعنى الأخص ، وإليها بالمعنى الأعم ، (فالأولى) هي المسببة عن أحد الأسباب الخمسة : الأب ، والجد له ، والملك ، والسلطنة ، والوصية ـ كما عن (التذكرة) حيث حصرها في الأسباب المذكورة ـ ثم قال بعد عدها ـ «ولا تثبت بغير ذلك عندنا» (٢) (والثانية) : هي مطلق القدرة على إنفاذ التصرف في الشي‌ء ، فنعم الوكيل والمأذون ، والمتصدق في مجهول المالك ، ومالك الصدقة في الزكاة بالنسبة إلى العزل والدفع الى المستحق وتبديل العين بالقيمة ، والأم بالنسبة إلى الحضانة ، ومتولي الوقف للعام أو الخاص من الواقف ، وفي القصاص والتقاص ، والمرتهن في بيع العين المرهونة ـ في الجملة وغير ذلك من الموارد التي وقع التعبير فيها ـ كثيرا ـ بالولاية لمن له ذلك في كلمات الفقهاء. وهو

__________________

(١) وهي المسألة الأولى من الجزء الأول من كتاب (بلغة الفقيه)

(٢) قال في أوائل كتاب النكاح من التذكرة ، المبحث الثاني في أسباب الولاية ـ : «وهي عندنا خمسة : الأبوة والجدودة والملك والسلطنة والوصاية ، ولا تثبت بغير ذلك عندنا ، خلافا للعامة فإنهم يثبتون مع ذلك شيئين آخرين : العصوبة والعتق».

٢١١

وان كان بظاهره ينافي ما تقدم من (التذكرة) : من اختصاصها بأحد الأسباب المتقدمة ، الا أن الجمع بينهما يقتضي حمل ما تقدم من (التذكرة) على الولاية بالمعنى الأخص التي هي من قبيل المنصب ، وحمل غيره عليها بالمعنى الأعم التي مرجعها في الحقيقة إلى التولية والتفويض ، ويمكن الجمع بحمل ما كان مسببا عن أحد الأسباب الخمسة المتقدمة على الولاية ـ بالكسر ـ التي قد عرفت معناها : الامارة المناسبة لكونها من المناصب ، وغيره على الولاية ، بالفتح ، لتضمنها النصرة والمساعدة ، والا فكثير من ذلك يعد من الحقوق التي تغاير الولاية بالمعنى الأخص.

وتنقسم أيضا باعتبار إلى الإجبارية والاختيارية ، وهما صفتان لمن له الولاية ، دون من عليه ، فمناط الاختيارية كونها بالنظر والاختيار كالوكيل ونحوه ، والإجبارية كونها بالجعل والعنوانية ، كما في الأب والجد ، وان أمكنه الخروج بما يوجب سقوطها عنه بكفر ونحوه ، فان ذلك لا ينافي صدق الإجبارية عليها ، كالتزام الوكيل ونحوه بنذر وشبهه غير المنافي لصدق الاختيارية عليها. وهذا التقسيم لها باعتبار معناها الأعم ، وعلى الاحتمال الآخر في الجمع : من اختصاص كل لفظ بمعناه ، فالاجبارية صفة للولاية بالكسر والاختيارية صفة لها بالفتح.

وباعتبار عموم المولى عليه وخصوصه ، وبالنسبة إلى عموم جهات التولية وخصوصها تنقسم أيضا : إلى الولاية العامة والخاصة وعموم جهات الخاص وخصوصها ، فولاية الحاكم عامة لكونها تعم أفراد الناس في أنفسهم وأموالهم بعد وجود سبب الولاية عليه ، وولاية الأب خاصة على ولده الصغير ، وان عمت من حيث تعلقها بنفسه وماله ، ومثله وصي الأب على صغار ولده ، ولو اختصت الوصية بجهة خاصة من أمر الصغير ، فهو ولي عليه بخصوصه في خصوص تلك الجهة التي ولي عليه فيها.

٢١٢

وباعتبار الاستقلالية في التصرف أو اعتباره في تصرف الغير : تنقسم الى ما يكون الولي مستقلا بالتصرف ، سواء كان تصرف الغير منوطا بإذنه أم لا ، ومرجع ولايته حينئذ ، إلى كون نظره سببا في جواز تصرفه ، والى ما يكون تصرف الغير منوطا باذنه ومرجعه حينئذ إلى كون نظره شرطا في تصرف الغير ، فهو بهذا الاعتبار يطلق عليه الولي أيضا لعدم استقلالية تصرف الغير إلا باذنه ، وبين المعنيين عموم من وجه ـ كما قيل.

ثم ان أكمل الولايات وأقواها : هو ولاية الله سبحانه وتعالى على خلقه من الممكنات بعد أن كانت بأسرها في جميع شئونها وكافة أطوارها مفتقرة في وجودها الى الواجب ، مقهورة تحت سلطانه متقلبة بقدرته ، إذ لا استقلالية للممكن في الوجود لكونه ممكنا بالذات موجودا بالغير ، وعدم التعلق في الممتنع لنقص في المتعلق ، لا لقصور في التعلق ، وإلا فهو على كل شي‌ء قدير.

ومن رشحات هذه الولاية : ولاية النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وخلفائه المعصومين عليهم السلام : بالولاية الباطنية ، فإن لهم التصرف بها في الممكنات بأسرها من الذرة الى الذروة باذنه تعالى ، وهي بهذا المعنى خارجة عن الولاية المبحوث عنها في المقام ، ولهم ـ كما ستعرف ـ الولاية الظاهرية أيضا على كافة الرعية ، بعد أن كانت الناس طرا ـ رعاياهم ، بل عبيدهم ، لكن عبيد الطاعة ، لا عبيد الملك ، كما ورد عن الرضا (ع) (١).

__________________

(١) في الجزء الأول من أصول الكافي للكليني ، كتاب الحجة باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام حديث (١٠) هكذا : «. وبهذا الاسناد عن مروك بن عبيد عن محمد بن زيد الطبري ، قال : كنت قائماً على رأس الرضا عليه السلام بخراسان ، وعنده عدة من بني هاشم ، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ، فقال : يا إسحاق ، بلغني

٢١٣

هذا ولا ريب في أن مقتضى الأصل الأولي عدم الولاية بجميع معانيها لأحد على أحد لأنها سلطنة حادثة ، والأصل عدمها ، ولأنها تقتضي أحكاما توقيفية ، والأصل عدمها ، إلا أنه خرجنا عن هذا الأصل في خصوص النبي ـ صلّى الله عليه وآله ، والأئمة عليهم السلام ـ بما دل : من العقل والنقل على أن لهما أولوية التصرف مستقلا في نفوس الناس وأموالهم من غير توقف على إذن أحد منهم ، فضلا عن ثبوتها لهما بمعنى توقف تصرف الغير في شي‌ء على إذنهما ، ولو في الجملة.

أما العقل فالمستقل منه حكمه بوجوب شكر المنعم بعد معرفة أنهم أولياء النعم ، والغير المستقل حكمه بأولوية وجوب اطاعة الرعية للإمام بالنسبة إلى وجوب إطاعة الابن للأب ، لأن الحق في الأول أعظم منه ، في الثاني بمراتب.

وأما النقل ، فمن الكتاب منه قوله تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (١) «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ..» (٢) «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٣) «و أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

__________________

أن الناس يقولون انا نزعم أن الناس عبيد لنا ، لا وقرابتي من رسول الله (ص) ، ما قلته ـ قط ـ ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ، ولكني أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة موال لنا في الدين ، فليبلغ الشاهد الغائب».

(١) الأحزاب ـ ٦ ، وتتمة الآية (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ).

(٢) الأحزاب ـ ٣٦.

(٣) سورة النور آخر آية ـ ٦٣.

٢١٤

وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (١) و «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ» (٢) الآية.

ومن السنة منها مستفيضة بذلك بل متواترة معنى ، ويكفيك منها الأخبار الدالة على وجوب إطاعتهم ، وان طاعتهم : طاعة الله ومعصيتهم معصيته (٣) مضافا إلى ما روي عن النبي ـ (ص) ـ في خبر أيوب بن عطية : «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» (٤) وإلى ما ورد عنه (ص) متواترا في حديث (غدير خم) : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا :

بلى ، قال : صلّى الله عليه وآله : من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (٥) وإلى مقبولة عمر بن حنظلة (٦) ،

__________________

(١) سورة النساء ، أوائل آية ٥٩.

(٢) سورة المائدة ـ ٥٥ ، وتكملة الآية (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ، وقد نزلت في حق علي (ع).

(٣) ذكر الكليني في كتاب الحجة من أصول الكافي روايات كثيرة بهذا المضمون وعقد لها بابا أسماه (باب فرض طاعة الأئمة).

(٤) في أصول الكافي ، كتاب الحجة ، باب ما يجب من حق الامام على الرعية ، حديث رقم (٦) وتتمة الحديث «وعلي أولى به من بعدي».

(٥) لسنا بحاجة إلى إثبات تواتر الحديث من طرق السنة والشيعة ، ولا إلى تخريجه وعرض قصته بعد أن أسهبت في ذلك الأجزاء الأوائل من كتاب الغدير للمغفور له الحجة الأميني ـ قدس سره.

(٦) في أصول الكافي. كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث حديث رقم (١٠) : «بإسناده عن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام : عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان والى القضاة : أيحل ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا

٢١٥

ومشهورة أبي خديجة (١) والى ما ورد في التوقيع من الأمر بالرجوع في الوقائع الحادثة إلى رواة الحديث معللا بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢).

__________________

وان كان حقا ثابتا ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» ، قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران الى من كان منكم ممن روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منا ، فإنما استخفّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ..» الحديث.

(١) في الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث رقم (٦) : «بإسناده على أبي خديجة ، قال : بعثني أبو عبد الله عليه السلام : الى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فاني قد جعلته عليكم قاضيا ، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا الى السلطان الجائر».

(٢) في المصدر الآنف الذكر ، حديث رقم (٩) : «وفي كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة ، عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع) :

أما ما سألت عنه ـ أرشدك الله وثبتك ـ الى أن قال ـ : وأما الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» الحديث. ورواه الشيخ في (الغيبة) والطبرسي في (الاحتجاج) وغيرهم.

٢١٦

قلت : الكلام في ثبوت الولاية مستقلا لهما ـ تارة بمعنى نفوذ تصرفه ووجوب طاعته ، لو تصرف في شي‌ء أو أمر به ، وأخرى ـ بمعنى أن له أنحاء التصرف في نفوس الرعية وأموالهم ، حسبما تتعلق به إرادته ، كما ينفذ تصرف الإنسان بحسب إرادته في نفسه وماله في غير معصية موجبة لعدم نفوذه ، فله أن يزوج البالغة الرشيدة بغير اذنها ، أو يبيع مال إنسان بغير اذنه كما كان ذلك لكل منهما في نفسه أو ماله ، فنفوذ التصرف ووجوب الإطاعة مقام ، وله أن يتصرف أو أن يأمر مقام آخر.

لا إشكال في ثبوتها لهما بالمعنى الأول ، فإن الأدلة المتقدمة كل منها وأف في الدلالة عليه كاف في إثباتها له ، بعد ان كانت إطاعتهم اطاعة الله تعالى :

وأما الجزم بثبوتها بالمعنى الثاني ، ففيه تأمل ، لعدم نهوض تلك الأدلة عليه ، بعد أن كان غير آية «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ» وما بمعناها من السنة كلها واردة في مقام وجوب الإطاعة وحرمة المخالفة الراجعين الى المعنى الأول ، دون الثاني ، وأما هي ، فلا دلالة فيها على المطلوب أيضا ، بناء على تفسيرها بأنه : أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، بعضهم من بعض. نعم بناء على تفسيرها ـ كما هو الظاهر منها ـ بإرادة أنه أولى بكل مؤمن من نفسه على نفسه ، ربما يكون وافيا في إثبات ذلك ، الا أنه للتأمل فيه مجال ، لقوة احتمال أن يكون المراد بيان الأولوية عند التزاحم في التصرف ، وتقدم إرادته عند التخالف في الإرادة بحيث لو أراد الإنسان شيئا وأراد الإمام غيره ، قدمت إرادته على إرادته ، لكونه إنما يأمره بشي‌ء أو ينهاه عنه ليس إلا لمصلحة ملزمة راجعة إليه ، ضرورة أنه في مرتبة المكمل لنقص المولى عليه الذي اقتضى اللطف وجود مكمل له متبوع في أوامره ونواهيه ، بل ولو كان لمصلحة نفسه ، لرجوعها أيضا

٢١٧

إلى مصلحة النوع ، المقدم على مصلحة الشخص ، فيرجع حينئذ إلى معنى الأول المدلول عليه بما سواه من الأدلة ، فلا تكون ناهضة لإفادة المعنى الثاني ، وإذ لا دليل على ثبوتها بهذا المعنى لهم كان مقتضى الأصل عدمه مؤيدا بما هو المعهود من سيرتهم في الناس على حد سيرة بعضهم مع بعض من الاستيذان من البالغة الرشيدة في تزويجها ، وبيع المال عن المالك باذنه ، وعدم التصرف في مال الصغير مع وجود وليه الإجباري ، وعدم التصرف في مال أحد إلا بإذنه الى غير ذلك من الموارد التي يقطع الإنسان بمساواة معاملاتهم بين الناس مع معاملات بعضهم من بعض. وبالجملة ، ليس سلطنتهم على الرعية كسلطنة السيد على مملوكه الجائز له التصرف فيه لمحض التشهي ما لم يكن من أحد الوجوه المحرمة.

هذا والبحث عن ذلك ، وان كان قليل الجدوى ، بل معدوم الثمرة لعدم ظهورها الا فيما عسى أن يتوهم ظهورها في الفقيه زمن الغيبة ، بناء على عموم ولايته ، وأن له ما للإمام حيث شك في تصرف أن له ذلك للشك في كونه للإمام أم لا ، فإن ولاية الفقيه فرع عن ولاية الامام والفرع يتبع أصله ، فلا يزيد عليه بالضرورة. وهو فاسد ، لعدم ثبوتها بهذا المعنى للفقيه بالضرورة بحيث لو تصرف وجب تنفيذه مطلقا ، كما هو للإمام وان قلنا بعموم ولايته ، إذ الثابت له من الأدلة الولاية بالمعنى الثاني ، وهو كون نظره شرطا في التصرف : اما مطلقا أو في الجملة : وأما كون النظر مسببا فيه ، فهو مختص بالنبي وخلفائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ـ كما ستعرف.

وأما الولاية لهما بالمعنى الآخر الذي قد عرفت مرجعه إلى اعتبار اذنه شرطا في تصرف الغير ، فثبوتها لهما ـ في الجملة ـ مما لا شك فيه.

ويدل عليه ـ مضافا إلى ما يدل عليه من الأدلة المتقدمة ـ : ما عن

٢١٨

(العلل) بسنده عن أبي الفضل بن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام : في حديث قال فيه : «فان قال قائل : فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة؟ قيل له : لأنه لما لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعاليا عن أن يرى ، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا ، لم يكن بد لهم من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ، ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذا لم يكن في خلقهم ما يعرفون به وما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم ، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن في مجي‌ء الرسول منفعة ولا سد حاجة ، ولكان إتيانه عبثا بغير منفعة ولا صلاح وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شي‌ء ، فان قال قائل : فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل : لعلل كثيرة :

منها ـ أن الخلق لما وقفوا على حد محدود ، وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم ، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم الا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم ، لأنه ان لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.

ومنها ـ أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشرا وبقوا الا بقيم ورئيس لما لا بد لهم من أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد لهم منه ، ولا قوام الا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيأهم ، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.

ومنها ـ أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنة والأحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه

٢١٩

الملحدون ، وشبهوا ذلك على المسلمين ، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين ، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بينا ، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان ، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين» (١) الحديث.

وانما الكلام في ثبوتها لهما بنحو الكلية التي معناه : توقف كل تصرف على إذنهم ، إلا ما علم عدمه بدليل يخصه أو يدل عليه بنحو العموم أو الإطلاق ، والظاهر عدمه ، لعدم دليل ينهض بإثبات الكلية المزبورة ، وحيث كان الحكم مخالفا للأصل وجب الاقتصار فيما خالفه على ما قام عليه الدليل. وقصارى ما دلت عليه الأدلة لزوم الرجوع إليهم في المصالح العامة التي لا يريد الشارع فعلها من مباشر معين كإقامة الحدود والتعزيرات والقضاء في الناس دفعا للخصومة فيما بينهم ، والتصرف في مال القصّر والمجانين مصلحة لهم ، والإلزام بأداء الحقوق ونحو ذلك.

وبالجملة فما علم بوجوب الرجوع فيه إليهم وتوقف التصرف على إذنهم أو علم عدمه بدليل ، ولو بنحو العموم أو الإطلاق ، فلا كلام فيه. وحيثما شك في مورد ، قيل : يرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول العملية. وفيه : أن الأصل انما يكون مرجعا في مورد الشك مع انسداد باب العلم المفروض انفتاحه في المقام بالرجوع الى الامام أو نائبه الخاص ، (ودعوى) ان الأصل يقتضي توقف كل تصرف على إذنهم إلا ما خرج بالدليل بناء

__________________

(١) ذكر الحديث بكامله ، الشيخ الصدوق ـ قدس سره ـ المتوفى سنة ٣٨١ ه‍. في كتابه عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج ٢ ص ٩٧ طبع النجف الأشرف باب ٣٤ : العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان.

٢٢٠