بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

وأما الثاني : فيقضى بها لصاحب البينة مطلقا ، وان كان ذا اليد بلا يمين عليه ـ على الأقوى ـ ومعها ان لم يعتبر بينة المنكر.

وأما الثالث : فيبني على تقديم بينة الخارج أو الداخل. والأظهر عندي تقديم بينة الداخل لترجيحها باليد. ويحتمل ـ قويا ـ تقديم بينة الخارج لو كانت مطلقتين لمرجوحية بينة الداخل باحتمال استنادها الى اليد لو قلنا بجواز الشهادة بمفادها ، لما تقدم في (قاعدة اليد) : من أن مرجع تحقق الأمر المنتزع بعد مشاهدة منشأ انتزاعه الى وجود المقتضى وعدم المانع المحرز بالأصل ، ولا يجري الأصل مع بينة الخارج المثبتة لوجود المانع وكون اليد عرضية ، فراجع هناك.

(الصورة الثالثة) : ما لو كانت العين بيد ثالث وادعاها كل منهما فان صدقهما أو صدق أحدهما بعينه ، كان المصدق بحكم ذي اليد ، لقاعدة (من ملك شيئا ملك الإقرار به) فيجري عليه في الأول حكم الأولى بأقسامها الثلاثة ، وفي الثاني حكم الثانية كذلك. نعم لكل منهما أو لغير المصدق منهما إحلافه على نفي العلم بما يدعيه. فيحلف لهما في الأول ، ولغير المصدق منهما في الثاني ، لكونه مدعى عليه على التقديرين. فيتوجه عليه اليمين لذلك ، وحيثما توجه اليمين على المصدق ـ بالكسر ـ : فان حلف والا غرم بالنكول أو الحلف بعد الرد ، للحيلولة بينه وبين ما يدعيه بتصديقه ، فيغرم لكل واحد منهما بدل النصف لو صدقهما وبدل الكل لغير المصدق بالفتح ـ ان صدق أحدهما. ولو أقر لواحد منهما لا بعينه أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه بالقرعة قضى بها له بيمينه لانكشاف كونه ذا اليد بها ، وليست القرعة للكشف عن المالك حتى يقضى له بمجردها بعد الكشف بها عنه ، كيف ولا يزيد الإقرار على الوجدان لو كان في يد أحدهما ، فإنه ـ كما عرفت ـ يقضى له بيمينه ، وغاية الإقرار أن

٤٠١

المقر له بحكم ذي اليد. ولو قال في الجواب : ليست لي ولا أعرف لمن هي ، كان كما لو لم تكن في يد أحد لسقوط يده باعترافه وعدم نسبته إلى يد أصلا ، ولو بنحو الإجمال وحكمه حينئذ حكم الصورة الآتية. ولو كذبهما وان ادعاها لنفسه توجه اليمين لكل منهما عليه لكونه منكرا بالنسبة إلى كل منهما ان لم تكن لهما بينة : فان حلف لهما قضى بها له ، وان نكلهما أو نكل أحدهما بنى على القضاء بالنكول أو بعد الرد. وان كانت بينة وكانت لأحدهما قضي بها لصاحب البينة. وان كانت لهما وأقاماها سقطت اليد ، وكانت العين كما لا يد عليها لتوافق البينتين في مدلولهما الالتزامي ، وان تعارضتا في مدلولهما المطابقي ، بناء على طريقية البينة. ولو قلنا بسببيتها للحكم بمؤداها ، كان من تعارض السببين الموجب لتساقطهما من البين ، كما لو وقع البيع من كل من الوكيلين في زمان واحد لبطلان كل منهما بالآخر لاستحالة الترجيح بلا مرجع ، فتبقى اليد سليمة عما يوجب سقوطها. وحيث قلنا بها من باب الامارة ـ كما هو الأقوى ـ تعين العمل بالراجح منهما بما هو المنصوص به من المرجحات كالأعدلية والأكثرية لأن كون الشي‌ء مرجحا ككونه حجة يتوقف على الدليل ، ومع فقد المرجح أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه بالقرعة أحلف وقضي بها له بعد يمينه.

هذا وما ذكرناه : هو مقتضى الجمع بين الاخبار وترجيح طائفة منها على الأخرى ، لأنها بين مصرحة بالتنصيف من غير تقييد بالتحالف ، وبين مصرحة به بعده ، وبين ما دل على الترجيح بالأكثرية أو استشعر منه الترجيح بالأعدلية ، وبين ما نص مع التساوي والاعتدال على القرعة والقضاء لمن خرج اسمه بها من غير تقييد بالحلف ، وبين مقيد لها به بعدها.

ولنورد الروايات لتقف على اختلاف مفادها

٤٠٢

فمنها : رواية تميم بن طرفة : «ان رجلين أدعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما بينة فجعله أمير المؤمنين عليه السلام بينهما» (١).

ومنها ـ رواية غياث : «عن أبي عبد الله (ع) أن أمير المؤمنين عليه السلام ، اختصم اليه رجلان في دابة كلاهما أقاما البينة أنه أنتجها فقضى بها للذي هي في يده ، وقال : لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» (٢)

ومنها ـ رواية إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام» : أن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (ع) في دابة في أيديهما وأقام كل منهما البينة أنها نتجت عنده فأحلفهما علي (ع) ، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف ، فقيل : فلو لم يكن في يد واحد منهما وأقاما البينة؟

قال : أحلفهما فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين» (٣).

ومنها ـ صحيح داود عن أبي عبد الله (ع) : «في شاهدين شهدا على أمر واحد ، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا ، واختلفوا؟

قال : يقرع بينهم فأيهم قرع فعليه اليمين ، وهو أولى بالقضاء» (٤).

ومنها ـ موثقة سماعة عن أبي عبد الله (ع) : «ان رجلين اختصما إلى علي عليه السلام في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت على مذوده

__________________

(١) الوسائل : كتاب القضاء ، باب ١٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، حديث (٤).

(٢) المصدر الآنف الذكر ، حديث (٣).

(٣) مرّ ـ آنفا ـ من المصنف ذكره ، ومنا تخريجه.

(٤) المصدر الآنف الذكر ، حديث (٦) ، والمقصود من داود : ابن سرحان.

٤٠٣

وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد ، فأقرع بينهما سهمين ، فعلم السهمين كل واحد منهما بعلامة ، ثم قال : اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم : أيهما كان صاحب الدابة ، وهو أولى بها ، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه ، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها» (١).

ومنها ـ رواية البصري المصححة في (الفقيه) المضعفة في (الكافي) عنه أيضا : «قال : كان علي (ع) إذا أتاه رجلان يختصمان ، شهود عدلهم سواء وعددهم سواء ، أقرع بينهم على أيهما يصير اليمين؟ قال : وكان يقول : اللهم رب السماوات السبع أيهم كان له فأده اليه ، ثم يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف» (٢).

ومنها ـ ما أرسله في (كشف اللثام) عن علي عليه السلام : في

__________________

(١) المصدر الآنف الذكر ، حديث (١٢).

(٢) المصدر الآنف ، حديث (٥) والمقصود من البصري : عبد الرحمن بن عبد الله.

(٣) المصدر الآنف الذكر ، حديث (١) : أنه سأل الصادق (ع) عن الرجل ..

٤٠٤

البينتين تختلفان في الشي‌ء الواحد يدعيه الرجلان : أنه يقرع بينهما فيه إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما وليس في أيديهما» (١).

وأنت خبير بما تقتضيه الصناعة في الجمع والتنافي بين هذه الأخبار المختلفة في المفاد ، فإنها قاضية بتقديم ما دل على الترجيح بالعدد على ما دل بإطلاقه على التنصيف أو القرعة لأنه أخص منهما فليقيد به ، مضافا الى الإجماع المحكي على اعتبار التساوي عددا وعدالة في الحكم بالتنصيف ، والى النص باشتراط التساوي فيهما في اعمال القرعة ، وبتقييد إطلاق كل مما دل على التنصيف أو القرعة بما دل على التحالف في الأول وإحلاف من خرج اسمه بالقرعة في الثاني جمعا بين ما دل عليهما بالإطلاق وما دل عليه بعد الحلف أو التحالف (لا يقال) : أن الترجيح بالأعدلية غير منصوص عليه في النصوص وانما المنصوص اشتراط القرعة بالتساوي في العدالة ، وهو غير الترجيح بالأعدلية مع ذهاب الأكثر إليه ، بل المحكي عن بعضهم تقديمها على الترجيح بالأكثرية (لأنا نقول) : ما دل على اعتبار التساوي من جهتها في القرعة دل بمفهومه على عدمها عند عدمه ، وحينئذ فأما : أن يحكم فيه بالتنصيف والمفروض اشتراطه بالتساوي إجماعا ، أو تقديم المرجوح وهو باطل ، فتعين العمل بالراجح. وقد تبين ـ ولو بمعونة النصوص أنها من المرجحات نعم النسبة بين أخبار التنصيف بعد تقييدها بالتساوي والتحالف ، وبين أخبار القرعة بعد تقييدها به وبالحلف : هو التباين اللازم فيه التماس المرجح وهو لاخبار القرعة من وجوه.

بقي الكلام في وجه الإحلاف بعد القرعة ، فإنها : ان كانت لتعيين المالك كما هو ظاهر بعض النصوص وجب الدفع اليه بعد تعينه بها من

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب القضاء ، المقصد الرابع في متعلق الدعاوي المتعارضة ، الفصل الأول في دعوى الأملاك.

٤٠٥

دون حلف ، لأنه من دفع المال الى مالكه ، وان كانت لتعيين البينة الصادقة منهما المشتبهة بغيرها فلا يمين أيضا ، لأن المأخوذ بها مأخوذ بالبينة التي لا يمين معها ، وان كانت لتعيين من عليه اليمين كما نص عليه في خبر البصري ، فأي وجه لوجوب إحلاف أحدهما حتى يلزم تعيينه بالقرعة.

اللهم الا أن تكون القرعة لتقديم أحدهما على الآخر بعد الحصر فيهما تقديما لا ينافي توجه الدعوى عليه من الآخر ، فيكون منكرا أو بحكم المنكر في خصوص توجه اليمين عليه فأشبه ذا اليد في تقديم قوله في الجملة مع سماع الدعوى عليه وإلزامه باليمين ، وحينئذ فيصرف ظاهر قوله في بعض النصوص : صاحب الدابة وأولى بها وكونه له ، بإرادة ذلك في مرحلة الظاهر دون الواقع بقرينة النص في قوله عليه السلام في خبر البصري «على أيهم يصير اليمين» تقديما للنص على الظاهر ، وبمثل ذلك يمكن أن يجاب عن وجه إحلاف من قدمت بينته ، بأحد المرجحين كما في خبر أبي بصير المتقدم ، يكون الترجيح موجبا لتقديم قوله ، تقديما لا ينافي توجه اليمين عليه كالمنكر ، لا موجبا لسقوط بينة الآخر عن الحجية بحيث يكون وجودها كالعدم.

توضيح ذلك : أن تزاحم البينتين موجب لتساقطهما بحسب القاعدة الأولوية بمعنى كون المزاحمة تمنع الأخرى عن كونها ميزانا للفصل والقضاء فيجب الفصل حينئذ بميزان اليمين بعد حصر القضاء بها وبالبينة ، وحينئذ ان اشتملت احدى البينتين على المزية من الأعدلية أو الأكثرية فيحتمل أن تكون المزية موجبة لتقديم ما اشتمل عليها في كونه ميزانا للفصل أو تكون موجبة لتقديم قول صاحبها في توجه ميزان اليمين عليه ، والقدر المتيقن منه هو الثاني ، إذ ليس هنا ما يدل بإطلاقه على الأخذ بذي المزية حتى يكون ظاهرا في جعله ميزانا ، بل المستفاد تقديمه المجمل الدائر بين الاحتمالين

٤٠٦

اللازم حينئذ العمل فيه بالقدر المتيقن ، فتكون المزية فيما اشتمل عليها كالقرعة عند التساوي في تقديم قوله من حيث توجه اليمين عليه كالمنكر كما عليه غير واحد من الأصحاب ، فيكون الفصل في جميع شقوق المسألة ـ سواء اشتملت إحداهما على مزية أولا ، وسواء قلنا بالقرعة بالتساوي أو بالتنصيف ـ انما هو بميزان اليمين لا بالبينة ، غير أن القضاء في غير الأخير بالحلف ، وفيه بالتحالف.

(الصورة الرابعة) : ما لو تداعيا مع التقارن عرفا عينا لا يد عليها ففي سقوط الدعوى منهما ، أو القضاء بالنصف بينهما من غير يمين ، أو معها ، أو القرعة لأنها لكل أمر مشكل وجوه :

للأول : استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد (وفيه) : مع استلزامه بقاء الخصومة المنجرة غالبا الى الفساد أو قطعها بلا ميزان لحصره في البينة واليمين ، مع كون دعوى كل منهما سببا لقبول قوله ، لأن السبب هو دعوى من لم يكن له معارض ، وأما المزاحمة بمثلها فهي ساقطة عن السببية لا عن تأثير السبب كما تقدم في محله في قاعدة اليد.

وللثاني : إعمال كل من السببين ـ في الجملة ـ ولو في بعض مؤداه كاليدين ونحوها بعد أن كان سقوطهما مخالفا لما دل على سببية كل منهما ولا يمين لأنها ميزان في حق المنكر الذي لا يصدق على كل من المدعيين وان صدق عليه كونه مدعيا لعدم الملازمة بين العنوانين في الوجود ، وان لم ينفك دعوى المدعى عن إنكار كونه لغيره مع عدم صدق المنكر عليه عرفا ، لأنه لازم دعواه الذي لا عبرة به في صدق المنكر عليه (وفيه) :

ما عرفت من عدم سببية كل من الدعويين بعد اختصاص السبب بالدعوى التي لا معارض له فيها ، وقياسها باليد قياس مع الفارق ، لأن اليد وان كانت مزاحمة تفيد الملكية الا أنها ـ في الجملة ـ لا مطلقا ، ضرورة أن

٤٠٧

اليد : ان كانت مستقلة تفيد الملكية المستقلة ، وان كانت مزاحمة تفيد الملكية في الجملة ، بخلاف الدعوى على ما لا يد لأحد عليه ، فإنها لا تفيد الاختصاص والملكية أصلا إلا حيث لا تكون مزاحمة بمثلها.

وللثالث : سقوط الدعويين بالتعارض والرجوع الى التحالف في قطع الخصومة عند عدم البينة ، لحصر ميزان القضاء بالبينة واليمين ، وله وجه وان كان الأوجه في المقام هو القرعة ، لأنها لكل أمر مشكل ، الصادق في المقام بعد أن كانت اليمين وظيفة المنكر المنتفي صدقه على كل منهما.

وفي توجه اليمين على من خرج اسمه بالقرعة كالبينتين المتعارضتين وعدمه؟ وجهان ، وجه الثاني : عدم قابلية الدعوى المعارضة لقبول قوله حتى يستكشف بالقرعة ، لما عرفت من اختصاص سببيتها له فيما لم تكن معارضة بمثلها ، بخلاف البينة المزاحمة بمثلها فإنها لا تسقط عن الحجية أصلا غير أن القرعة لتعيين إحداهما في تقديم قول صاحبها حتى يكون بحكم المدعى عليه في توجه اليمين عليه ووجه الأول : انحصار الفصل وقطع الخصومة في البينة واليمين ، وحيث لا بينة فيتعين اليمين إذ القرعة ليست بنفسها ميزانا للفصل ، بل لتعيين تقديم من يقدم قوله منهما ـ كما عرفت ـ فتأمل.

هذا ان لم تكن لهما بينة ، والا : فإن كانت لأحدهما قضى بها لصاحب البينة ، وان كانت لهما وأقاماها فالحكم في هذا القسم هو الحكم في تعارض البينتين في الصورة الثالثة بعد إلغاء اليد بالبينة من الترجيح بالمنصوص ومع التساوي فالقرعة والقضاء لمن خرج اسمه بها بعد يمينه وفي صحيحتي داود البصري المتقدمتين دلالة على ذلك هذا كله حيث تكون الدعويان متقاربتين عرفا ليتحقق عنوان التداعي ، والا فلو ترتبا قدم قول الأول منهما وكان مدعى عليه ليس إلا ، لأن الثاني ادعى حينئذ على من كانت العين له

٤٠٨

ظاهرا ، وان لم تكن في يده بمقتضى دعواه التي كانت سليمة عن العارض فإنه كمن ادعى على من كانت العين في يده والمدار في الترتيب والتقارن على ما يصدق عليه أحدهما في العرف فلا تقدير له بحسب الزمان حتى يكون هو المرجع ، بل المرجع فيه هو الصدق العرفي.

والله العالم

٤٠٩

رسالة

في القرض

٤١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة في القرض. وفيه أجر عظيم وثواب جسيم ، حتى أن في بعض الأخبار ـ كما ستعرف ـ : الدرهم منه بضعف درهم الصدقة ، وفي بعضها بأكثر.

ويدل عليه بخصوصه : من الكتاب قوله تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (١) وقوله تعالى : «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً» (٢) بناء على إرادة إقراض بعضهم بعضا كما عن بعض التفاسير. وأما على إرادة إقراض الله سبحانه وتعالى تنزيلا له تعالى منزلة المقترض كما يقال : المعاملة مع الله للاسترباح منه بما أعد من الثواب عليه ، فيكون دالا عليه بالعموم نحو : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» (٣) وقوله تعالى «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ» (٤) بناء على تفسير المعروف بالقرض في المروي عن الصادق عليه السلام ـ كما عن بعض المفسرين.

ومن السنة أخبار كثيرة نحو المروي عن الشيخ مرسلا : «ان

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ـ ٢٤٥.

(٢) سورة الحديد ، آية ـ ١٨.

(٣) سورة المائدة ، آية ـ ٢.

(٤) سورة النساء ، آية ـ ١٤٤.

٤١١

القرض أفضل من الصدقة بمثله في الثواب» (١) وقوله (بمثله) يحتمل أن يكون متعلقا بأفضل ، فيكون دالا على مساواته للصدقة. ويحتمل ـ كما لعله الظاهر ـ تعلقه بالصدقة ، فيكون ساكتا عن مقدار الأفضلية غير معارض لما دل على أكثرية ثوابه من الصدقة. ومثله فيما ذكرنا ما روي عن ابي عبد الله عليه السلام في (ثواب الأعمال) : «لأن أقرض قرضا أحب إليّ من أن أتصدق بمثله» (٢) وما روي عنه عليه السلام : «انه كان يقول من أقرض قرضا وضرب له أجلا فلم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثواب في كل يوم يتأخر من ذلك الأجل بمثل صدقة دينار واحد في كل يوم» (٣) وما روي عن أبي عبد الله (ع) : «ما من مسلم أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله إلا حسب له أجرها كحساب الصدقة حتى يرتجع اليه» (٤) وظاهره أنه كحساب الصدقة في كل آن من آنات تأخيره ، فيكون ثوابه أضعاف ثوابها ، وان كان بالنظر الى ثواب ذاته ضعف ثواب الصدقة ، كما في المروي عنه أيضا : «القرض الواحد بثمانية عشر وان مات حسبتها من الزكاة» (٥) لأن درهم الصدقة بعشرة تزيد على أصلها بتسعة ، والقرض بثمانية عشر ، فكان ربحه في الثواب ضعف ربح الصدقة ، وان تأخر زاد عنها بحسب التأخير أضعافا مضاعفة ، وما روي عنه : «أنه قال : قال رسول الله (ص) : من أقرض مؤمنا قرضا

__________________

(١) في الوسائل ، باب ٦ من أبواب الدين والقرض ، وفي باب ٤٩ من أبواب المستحقين للزكاة بهذا المضمون روايات كثيرة.

(٢) الوسائل : كتاب التجارة باب ٦ من أبواب الدين والقرض حديث (١).

(٣) الوسائل : كتاب التجارة باب ٦ من أبواب الدين والقرض حديث (١).

(٤) المصدر المذكور حديث (٢).

(٥) المصدر المذكور حديث (٤).

٤١٢

ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه» (١) وما روى عنه (ص) في حديث قال فيه : «ومن أقرض أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور (سينا) حسنات ، وان رفق به في طلبه تعدى به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حسبا ولا عذاب. ومن شكى إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرّم الله تعالى عليه الجنة يوم يجزي المحسنين» (٢) الى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار. وقد عرفت وجه الجمع فيما اختلف منها في كمية الثواب ، بل الإجماع ـ بقسمية ـ عليه ، والعقل مستقل بحسنه ، لما فيه من سد الخلة واغاثة الملهوف ، ومعونة المحتاج ، فهو من المستقلات العقلية : من قبح الظلم وحسن الإحسان.

هذا وتنقيح مهمات مسألة القرض يتم في ذكر مسائل :

(المسألة الأولى) : في حقيقة القرض. وهو عقد يفيد التمليك بالضمان. أي مضمون على المقترض بغرامة بدله فبالتمليك تخرج الضمانات التي لا تمليك فيها كالأعيان المضمونة على من هي في يده مع بقائها على ملك مالكها. ومعنى ضمانها حينئذ كونها في عهدته بحيث يجب ردها لكونها ملكه ، ورد بدلها بعد تلفها. وبالضمان تخرج التمليكات المجانية والمعاوضات أيضا ، إذ المقصود منها التبديل لتعلق غرض كل منهما بما في يد الآخر. وليس الغرض من القرض إلا محض الإحسان وعدم الخسران بحيث يكون بحكم عود ماله إليه مع الإحسان بقضاء الحاجة ، ولذا ورد : «أن درهم القرض يعود ، ودرهم الصدقة لا يعود» فهو من التمليك بالتعويض لا بالمعاوضة» فيكون معنى كونها مضمونة حينئذ : أي لا مجانا ، وإلا

__________________

(١) المصدر المذكور ، حديث (٣).

(٢) المصدر المذكور ، حديث (٥).

٤١٣

فلا معنى لكون العين المملوكة ولو بالقرض في عهدة مالكها.

هذا وحيث كان التضمين من كيفيات التمليك توقف التملك على القبض ، إذ لا ضمان إلا بعد الاستيلاء بعدية بالطبع والمعلولية لا بالزمان فلا يملك بمجرد العقد لعدم انفكاك ملكيته عن الكيفية الخاصة التي لا تحصل إلا بالقبض ، فإذا الملكية الخاصة التي هي مفاد القرض معلولة للعلة المركبة من العقد والقبض معا ، وفي قرض المقبوض يتحقق الملك بالعقد لتقدم ما به يتحقق الضمان ، فلا يحتاج إلى مضي زمان بعده يمكن فيه القبض لو لم يكن مقبوضا ، وفي معاطاته قام القبض مقام العلة المركبة في إفادتها الملكية المتزلزلة. وقيل بتوقف الملك على التصرف ، وهو متجه ، ان قلنا بأن مفاد القرض هو الإباحة بالعوض كالمعاطاة بناء على إفادتها الإباحة ، إلا أنك قد عرفت أن مفاده التمليك بالضمان لا الإباحة بالعوض حتى يملك بالتصرف ولو بدخوله في الملك آنا ما قبله.

(المسألة الثانية) : اختلفوا في كون القرض من العقود الجائزة ، أو اللازمة على قولين : المشهور : هو الأول ، بل الإجماع محكي عليه ، وهو الحجة لهم ، سيّما بعد اعتضاده بالشهرة العظيمة وذهب بعض المتأخرين الى الثاني ، وهو الأقوى ، لعموم الأمر بالوفاء ، خرج منه ما لو علم جوازه ، وبقي غيره داخلا في العموم.

نعم ربما يقال : ان جواز الرجوع في العقد الجائز انما هو لبقاء علقة الملكية السابقة للأول ، وان انتقل الى الثاني. فهو من آثار السلطنة السابقة ومن شئونها لان العقود الناقلة للملك : (منها) ما يوجب قطع علقة الملكية بالكلية و (منها) ما يوجب نقل الملك مع بقاء العلقة للمالك ولو في الجملة بحيث يكون زمام الملك بعد بيده على وجه لو شاء الرجوع اليه لرجع ، ولا سبيل الى تعيين أحدهما بالأصل لو شك في كون العقد من أيهما ، والشبهة مصداقية ولا يجوز

٤١٤

التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، فاللازم حينئذ الرجوع الى استصحاب الكلي الثابت ولو في ضمن المرتبة الضعيفة ، ولو أضعف مراتب علقة الملكية وهذا القسم هو المتيقن من جريان استصحاب الكلي.

توضيح ذلك : ان لاستصحاب الكلي أقساما :

منها : ما لو تيقن وجود شي‌ء كالحيوان مثله في ضمن فرد متيقن الزوال مع الشك في قيام غيره من أفراده مقامه.

ومنها : ما لو علم وجود حيوان في ضمن فرد مردد بين ما يعيش مدة وما لا يعيش في تلك المدة.

ومنها : ما لو علم وجود شي‌ء في مرتبة شديدة وشك في زوالها بالكلية أو بقاء شي‌ء منها ، كالسواد الشديد إذا شك في زواله أو زوال شدته مع بقاء مرتبة الضعيف منه.

لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول ، للقطع بزوال المتيقن والشك في حدوث غيره ، فالمتيقن معلوم الزوال ، والمشكوك غير متيقن الحدوث. والأقوى جريان استصحاب الكلي في الثاني بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الكلي دون الآثار المترتبة على خصوص أحد الفردين بخصوصه ، لعدم تعيين أحدهما بخصوصه بثبوت الكلي. وأقوى منه جريانه في القسم الأخير ، لعدم كونه من تبديل فرد بفرد. ولا من الترديد بين أحد الفردين ، بل المشكوك بقاؤه كان متيقنا حدوثه ولو في ضمن الأشد.

وما نحن فيه هو من القسم الأخير الذي لا شك في جريان الاستصحاب فيه ، ولا يعارض استصحابه باستصحاب بقاء الملك للثاني بعد رجوع الأول عليه ، لأنه من الاستصحاب في السبب المقدم على الاستصحاب في المسبب.

هذا ولكن فيه : إن ذلك لا يتم إلا بدعوى تنويع العام في الأمر بالوفاء بالعقود ، وهي ممنوعة ، فلا بأس بالتمسك بالعام فيما شك في

٤١٥

خروجه عنه ، كما في المقام ، والإجماع على الجواز لم نتحققه إن أريد به الجواز بالمعنى المصطلح ، كيف وثمرة الجواز جواز إلزام المقترض برد العين ما دامت باقية ، والمشهور يمنعونه ، مع أنه هو الثمرة بين القولين.

نعم للمقترض ردّ العين لكونها أحد مصاديق ما عليه من الحق ، وليس للمقترض الامتناع عن قبولها. وان أريد به ـ كما هو الظاهر ـ جواز المطالبة بحقه متى شاء ولو في مجلس القرض خلافا لبعض العامة حيث منعوا عن ذلك قبل قضاء وطره منها ، بل لعله الظاهر من دعوى الإجماع على جوازه ، فمسلم ولكن لا دخل له بحل العقد واسترداد العين بإبطال ملكية المقترض الذي هو محل الكلام.

(المسألة الثالثة) المعروف عند الأصحاب : عدم لزوم شرط الأجل في عقد القرض ، بل قيل بعدم وجدان الخلاف فيه قبل الكاشاني. نعم احتمله في (المسالك) بناء على ما ذكره سابقا من لزوم عقده ، ولعله لبنائهم على جواز هذا العقد ، فلا يجب الوفاء به حتى يجب الوفاء بالشرط في ضمنه والا فليس الشرط ـ مخالفا بناء على اللزوم ـ المقتضى العقد وحقيقته حتى يبطل ، بل هو مخالف لإطلاقه الذي له المطالبة بحقه متى شاء ، وكل شرط كان كذلك فهو صحيح ، وحيث قوينا لزوم العقد فلا جرم نقول بلزوم الشرط فيه ، مؤبدا بما أشعرت به مضمرة الحسين بن سعيد : «سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمىّ ثم مات المستقرض : أيحل مال القارض بعد موت المستقرض منه أم لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال : إذا مات فقد حل مال القارض» (١) بعد تنزيلها على اشتراط الأجل دون مجرد الوعد به المعلوم عدم وجوب الوفاء بالوعد المشعر

__________________

(١) الوسائل ، كتاب التجارة باب ١٢ من أبواب الدين والقرض حديث (٢) والرواية عن الامام الصادق (ع).

٤١٦

بأنه كالدين في الحلول بعد الموت.

وتحقيق المسألة : هو أن الشرط : إما أن يكون في عقد القرض أو في غيره من العقود اللازمة. وعلى التقديرين : فأما أن نقول بجواز العقد أو بلزومه.

أما الأول : فإن قلنا بجوازه كان الشرط تابعا له ، لما عرفت من عدم وجوب الوفاء بعقده حتى يجب الوفاء بشرطه ، وان قلنا بلزومه استتبع لزومه لزوم الشرط لأنه من تمام مقتضاه الذي يجب الوفاء به.

وأما على الثاني ، فيلزم الشرط مطلقا على الأقوى ، كما عليه المشهور سواء قلنا بلزوم عقد القرض أو جوازه. أما على الأول فواضح.

وأما على الثاني فيلزم الشرط فيه أيضا لعموم الأمر بالوفاء بتمام مقتضى العقد الذي منه الشرط مطلقا ، سواء أريد بالشرط مجرد أن لا يرجع بالمال إلى الأجل ، أو أريد به أن لا يتمكن من الرجوع لسقوط السلطنة عليه بالشرط ، بناء على الفرق بينهما برد العين لو استردها ، وان أثم بالاسترداد على الأول ، وعدم الرد لو استرد على الثاني. ولا يتوهم منافاة الشرط سيما على الثاني وان كان في العقد اللازم لحقيقة القرض ، بناء على جوازه لعدم منافاة سلب السلطنة بسبب من الأسباب في وقت خاص لصدق الجواز على العقد ، وان هو الا كشرط تأجيل الثمن في البيع ، بل المنافي له ـ لو سلم ـ هو سلب مطلق السلطنة لا السلطنة الخاصة.

وكيف كان ، فظهر أن الأقوى لزوم الشرط مطلقا ولو كان في عقد القرض ان قلنا بلزومه ، والا فلا يلزم في عقد القرض ، ويلزم فيما لو كان في غيره من العقود اللازمة ، والله العالم.

(تنبيه) لو رهن عينا في عقد قرض إلى أجل ، فالأجل للرهن دون القرض ، فله المطالبة بالدين قبله وان اختص الاستيفاء من الرهن بحلول الأجل ما لم يصرح بكونه له ، فان صرح به بني على لزوم القرض وجوازه.

٤١٧

هذا وربما استدل على بطلان الأجل في القرض بما دل على استحبابه الظاهر في كونه مستحبا ابتداء واستدامة إلى حصول الوفاء ، وهو ينافي وجوب الإنظار إلى الأجل.

وفيه : ان استحباب القرض من حيث هو قرض لا ينافي عروض الوجوب عليه بسبب الشرط لعموم «المؤمنون عند شروطهم» (ودعوى) أن عموم (المؤمنون عند شروطهم) الشامل لما لو كان الشرط في عقد القرض وغيره معارض لعموم ما دل على استحباب القرض الشامل لصورتي وقوع الشرط فيه وعدمه معارضة العامين من وجه ، فيرجح في القرض المشروط بالأجل ـ وهو مورد التعارض ـ عموم أدلة القرض باعتضاده بالشهرة المستفيضة (يدفعها) أن إطلاقات القرض مسوقة لاستحبابه من حيث هو قرض غير ناظرة إلى كيفيته من حيث اشتراط الأجل فيه وعدمه ، فهي من هذه الحيثية مهملة لا عموم فيها حتى يعارض عموم ما دل على الوفاء بالشرط فيبقى عموم (المؤمنون) سليما عن المعارض. وبذلك ظهر ضعف ما عليه شيخنا في (الجواهر) من بطلان شرط الأجل في القرض مع اختياره لكون عقده من العقود اللازمة مستدلا عليه بذلك.

هذا ولا يخفى عليك ان النزاع في جواز عقد القرض ولزومه غير النزاع في لزوم شرط الأجل فيه وعدمه ، فان النزاع في الأول يرجع الى جواز فسخ الملك والرجوع بالعين وعدمه ، وفي الثاني إلى جواز مطالبة البدل قبل الأجل وعدمه ، وأحدهما غير الآخر ، وهو واضح.

(المسألة الرابعة) : في متعلق القرض وما يصح اقتراضه. وقد ذكروا له ضابطا ، وهو أن كل ما يضبط وصفه وقدره يجوز اقتراضه.

ولا ريب بل لا خلاف ـ كما قيل ـ في طرده بمعنى صحة قرض مضبوط الوصف والقدر ، وانما الكلام في عكسه ، وهو أن كل ما لا يضبط وصفه

٤١٨

ولا قدره لا يجوز قرضه ، لوقوع الخلاف فيه.

وتنقيح المسألة : هو أن ما يقترض : إما مثلي أو قيمي ، والثاني : إما أن يمكن ضبط أوصافه وقدره بحيث يصح بيعه سلما أولا يمكن كالجواهر ونحوها لفرط تفاوت أوصافها وقيمتها ، فهنا أقسام ثلاثة :

لا اشكال ، بل لا خلاف في جواز قرض الأول منها ، وهو المثلي بل الإجماع بقسميه عليه. وكذا يجوز بلا خلاف ـ كما قيل ـ في الثاني وهو الأول من قسمي القيمي الذي يصح السلم فيه.

وأما الثالث ، وهو كالجواهر والقسي ونحوهما مما لا يضبط وصفه وتختلف قيمته ، ففي جواز اقتراضه وعدمه قولان : المنع ، وهو المحكي عن الشيخ في (مبسوطه) والجواز وهو المحكي عن ابن إدريس في (سرائره) ولعله الأشهر. بل المشهور ، مستدلين عليه بالأصل ، وعمومات القرض مع إمكان المناقشة فيه بأن مقتضى الأصل فيه هو البقاء على ملك مالكه وعدم الانتقال منه إلى المقترض. والعمومات لا تنهض لإثبات ما شك في قابليته للقرض لأنها مهملة من هذه الحيثية ، وانما هي في مقام بيان رجحانه وما يترتب عليه من الثواب والأحكام. وعليه فيقوى القول بالمنع عنه ، بل وعن مطلق القيمي ، وان أمكن ضبط وصفه وقدره وصح السلم فيه ، ان لم يقم إجماع عليه ، وإلا فالأقرب في ضمانه ـ كما عن التذكرة ـ هو المثل الصوري ، لأنه أقرب إلى العين المقترضة وأوفق بما هو المقصود من القرض من معونة المحتاج وعود المال اليه ولو بالتنزيل ، ولذا كان درهم القرض على الضعف من الصدقة لتناوب القرض اليه ، بخلاف درهم الصدقة فإنها لا تعود ، وان كان ضمانه في غير القرض من الإتلاف وغيره انما هو بالقيمة ، الا أن الأقوى مع ذلك كله جواز القرض فيه أيضا ، وضبط الغرامة بالقيمة لما هو المعلوم من حكمة شرع القرض لقضاء الحاجة

٤١٩

ومعونة المحتاج التي مقتضاها التعميم فشرّح عقدا لما يكون فيه قضاء الحاجة ومعونة المحتاج المناسب لتعميم نفوذه في جميع موارده ، نظير العموم المستفاد من الحكم بشي‌ء في موارد الامتنان الشامل لجميع موارده لقضية الامتنان به نحو قوله (ص) «خلق الله الماء طهورا» ولعله لذلك صح استدلالهم عليه بالأصل ، وعمومات أدلة القرض ، وإلا فقد عرفت ما فيهما.

ثم ان ضمان المثلي انما هو بمثله‌لأنه أقرب الى العين المقترضة من غيره ، فكان التدارك به أحرى. وأما القيمي فضمانه بقيمته لأنها أضبط فكان أعدل ، وحيثما تعذر المثل في المثلي انتقل ضمانه إلى القيمة إلا أن في انتقاله إليها عند التعذر ، أو المطالبة إن تأخرت عنه ، أو التسليم ان تأخر عنهما أرجها : أوجهها الأخير ، لأنه إنما يخرج به عن عدة المثل الثابت في ذمته إلى حين الوفاء ، وحينئذ فالعبرة بقيمته حين الدفع ، لا حين التعذر أو المطالبة أو أعلى القيمتين ان تفاوتت الأسعار ، ما لم يكن التفاوت لزيادة متصلة كالسمن ونحوه لو نقصت بتلف الزيادة عنده ، والا فلا فيضمنها بقيمتها سمينة لا مهزولة لأنها كالعين المضمونة التالفة في يده ، بل هي منها. وأما القيمي فالعبرة بقيمته مع الاختلاف من حين القرض المتحقق بالقبض لتعيين ما هو مديون به من غرامة العوض القيمي بالاقتراض وقبول القرض إذ ليس في الذمة إلا القيمة الثابتة بالضمان بنفس القرض المتحقق بالقبض حقيقة الذي قد عرفت أن حقيقة التمليك بالضمان ، وليست العين المقترضة في عهدة المقترض إلى المطالبة أو التسليم حتى تعتبر القيمة عنده لأنها ملكه. ولا يضمن المالك ملكه ، ومعنى ضمانها حينئذ ، كما عرفت ، كونها مملوكة بعوض لا مجانا.

ثم إن المضمون بالقيمة لو طالب المقرض بحقه فدفع اليه المقترض العين المقترضة ، ففي وجوب قبولها عليه ، وعدمه ، وجهان : مهنيان على جواز

٤٢٠