بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ليس إلا مصلحة الموقوف عليهم ورعايتهم في إيصال حقوقهم إليهم من دون غرض يتعلق بالولي ، وان جعل له حق التولية عوضا عن المباشرة.

والظاهر ثبوت جعلها للواقف لنفسه أو لغيره بجميع معانيها الثلاثة ، لعموم ما ورد : من أن الوقوف على حسب ما يقفها أهلها (١) ، مضافا إلى أن ذلك من شئون تصرفات المالك في ملكه التي منها إخراجه عن ملكه مكيفا بهذه الكيفية. (ودعوى) كونه تصرفا في غير ملكه أو في ملك غيره بالوقف (مسلمة) لو كان جعل الولاية متأخرا عن تمليك الغير أو إخراجه عن ملكه ، ولو تأخرا بالطبع ، وليس كذلك ، بل هما ـ أي الوقف والولاية ـ مجعولان بجعل واحد من المالك في ملكه ، فالنظارة المجعولة بأحد المعنيين الأولين هي ولاية ، وبالمعنى الأخير الظاهر أنها تولية ، لا ولاية. والفرق بينهما : ان التولية محض تسليط على الشي‌ء وصاحبه مسلط ومفوض عليه ، والولاية سلطنة وصاحبه سلطان وذو سلطنة ، والفرق بين التسليط والتسلطن واضح ، فالتولية والتفويض معنى ، والولاية التي حقيقتها الامارة معنى آخر. فالأولى تشبه الحكم ، والثانية تشبه الحق ، وان كثر إطلاق الولاية على التولية في كثير من مواردها في لسان الفقهاء تسامحا بإرادة الولاية بالمعنى الأعم.

هذا إذا عين الواقف وليا على الوقف. وان لم يعين» (٢) فان كان

__________________

(١) في الوسائل : كتاب الوقوف والصدقات باب ٢ حديث (١ ، ٢) : نص الحديث جواب مكاتبة الى الامام الحسن العسكري سلام الله عليه.

(٢) وان لم يعين الواقف متوليا خاصا في ضمن العقد ، فهل التولية له ، أو للموقوف عليهم ، أو للحاكم الشرعي مطلقا ، أو يفصل بين الوقف الخاص والعام ـ كما في المتن ـ؟ أقوال في المسألة ، ولكل منها أدلة ومؤيدات استعرضتها كتب الفقه في مظانها من أبواب الوقف.

٢٦١

الوقف خاصا كانت الولاية للموقوف عليهم من ولاية الملك ـ بناء على كون العين الموقوفة ملكا لهم ملكية خاصة تباين الملكية المطلقة في كثير من أحكامها : من ضيق دائرة السلطنة ، وتقيدها بالحياة ، واقتضائها الدوام وان انتقلت بالموت ، فالموت في الوقف انتهاء لزمان الملكية. وفي الملك قاطع للملكية وناقل لها الى غيره.

وان كان وقفا عاما فالولاية عليه الحاكم ، لأنها من المصالح العامة إلا أن الظاهر أنه من التولية دون الولاية بالمعنى الأخص ، فليس له الا مباشرة إصلاح الوقف ، وصرف نمائه في مصرفه بنفسه أو بنائية ، بناء على أن النوع أو الجهة مصرف. ولو قلنا ـ كما لعله الأظهر ـ أنه ملك للنوع ولو على جهة خاصة كالأراضي المفتوحة عنوة ـ على الأقوى ـ من كونها ملكا للمسلمين يصرف نماؤها في مصالحهم العامة (١) كان الأظهر كونها من باب الولاية ، دون التولية.

ومنها ـ ولايته على المال المنتقل إليه بالإرث ممن لا وارث له سواه فإنه على المشهور ـ كما قيل ـ يجب صرفه على مطلق الفقراء ، وان لم يكن من أهل بلده. وقيل باختصاصه بفقراء بلده نظرا إلى أدلة لا تصلح لإثبات الاختصاص بهم (٢) ، وقيل : بحفظه له بدفنه أو الوصية به

__________________

وربما بنيت المسألة على الخلاف في أن العين الموقوفة هل تبقى على ملك الواقف ، أو تنتقل الى الموقوف عليهم أو الى الله تعالى ، أو بالتفصيل بين الخاصة : فالى الموقوف عليهم ، والعامة فإلى الله تعالى.

(١) راجع : الجزء الأول من (البلغة) أوائل الرسالة في الأراضي الخراجية.

(٢) كما هو رأى الشهيد الأول ـ قدس سره ـ قال : في أوائل الفصل الثالث في الولاء من كتاب الميراث من (اللمعة) بعد الكلام

٢٦٢

ـ كما عن الخلاف ـ مدعيا فيه الإجماع عليه (١) الموهون بشذوذ القول به وقيل : بتحليله للشيعة لكونه من الأنفال بناء على أنه حكمها (٢).

ـ ولعل سند المشهور ـ مضافا إلى ظهور بعض النصوص (٣) فيه ـ اجراء

__________________

على ولاء المعتق وضامن الجريرة ـ «ثم الامام عليه السلام. ومع غيبته يصرف في الفقراء والمساكين من بلد الميت» وقال الشهيد الثاني في شرح هذه العبارة : «ولا شاهد لهذا التخصيص إلا ما روي من فعل أمير المؤمنين عليه السلام. وهو ـ مع ضعف سنده ـ لا يدل على ثبوته في غيبته».

(١) قال الشيخ في (الخلاف) كتاب الفرائض مسألة ١٥ :

«كل موضع وجب المال لبيت المال عند الفقهاء للمسلمين. وعندنا للإمام إن وجد الامام العادل سلّم إليه بلا خلاف ، وان لم يوجد وجب حفظه له ـ عندنا ـ كما تحفظ سائر أمواله التي يستحقها ..».

(٢) راجع : الجزء الأول من البلغة ، ص ٢٨٨ المقالة الرابعة في أرض الأنفال.

(٣) منها ـ كما في الوسائل باب ٣ من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة من كتاب الفرائض والمواريث ـ صحيحة : محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : «من مات وليس له وارث من قرابته ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال». ومنها ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) «.. ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال» وغيرهما ـ بنفس الباب ـ روايات أخر بمضمونها.

قال الشهيد الثاني في (المسالك) في كتاب الفرائض ـ في شرح قول المحقق ـ أخر المقصد الثالث في الميراث بالولاء : فاذا عدم الضامن كان الامام وارث من لا وارث له ـ إلخ ـ : «.. وذهب جماعة

٢٦٣

حكم مجهول المالك عليه فيدفع إلى الفقراء صدقة عنه ، لوجود مناطه الذي هو تعذر وصول المال الى صاحبه ، وهو قوي في غير الأراضي منه. وأما هي فقد تقدم الكلام فيها في بحث الأنفال من (رسالتنا الخراجية) (١). ثم انه من المعلوم ان مباشرة الحاكم له هنا من باب التولية دون الولاية التي غير معقول جريانها على هذا الغائب (ع) الذي هو أكمل الأنام ، وله الولاية عليهم بالتمام ، فكيف يكون مولى على مال لمن له الولاية عليه؟

تنبيه : قد عرفت ان للحاكم ولاية على الأيتام ما لم يكن هناك ولي مقدم عليه ، فلو نصب قيما عليهم كانت القيمومة بالنيابة عنه ، ومقتضاها انعزاله بموته أو بخروجه عن الأهلية. وهل له إعطاء ولاية الصغار إليه بحيث تدور سلطنة ولايته عليهم مدار حياة نفسه دون حياة الحاكم؟ الظاهر العدم ، بل هو المتعين ، للأصل ، مع عدم دليل يصلح به الخروج عنه ، وذلك واضح لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

هذا ما وسعني من التعرض لموارد ولاية الحاكم والتعرض لغيرها بالاستقصاء موقوف ـ لكثرتها وتفرقها في أبواب الفقه ـ على مزيد تتبع لا يسعني الآن ذلك (٢).

__________________

منهم المصنف ـ إلى قسمته في الفقراء والمساكين ، سواء في ذلك أهل بلده وغيرهم وهذا هو الأصح. وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، والحلبي عن أبي عبد الله (ع) : أنه من الأنفال وهو دال على جواز صرفه في الفقراء والمساكين ، إن لم يدل على ما هو أعم من ذلك».

(١) وهي الرسالة الخامسة من محتويات الجزء الأول من كتاب : (بلغة الفقيه).

(٢) وقد ذكر الفقهاء رضوان الله عليهم ـ لولاية الفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة موارد كثيرة أخرى متفرقة في مظانها من أبواب

٢٦٤

(المبحث الثاني)

في الولاية بالقرابة وهي ثابتة للأب والجد له (١) من النسب شرعا فلا ولاية للأب رضاعا ، ولا لمن أولده سفاحا.

وثبوتها لهما بالاشتراك بينهما مورد اتفاق النص والفتوى. وان اختص الأول بالذكر في أكثر النصوص (٢) ، الا ان المراد منه ما يشمل الجد

__________________

الفقه كولايته على التصرف في سهم الامام عليه السلام ـ الذي هو نصف الخمس ـ حسب ما يراه من المصلحة ، وكولايته على التصرف بأموال الزكاة وأخذها من الممتنع ووضعها في شئون المسلمين ، وكولايته على التصرف بمجهول المالك والمال الذي لا يمكن إيصاله الى صاحبه لبعض الموانع ، فيتصدق به على الفقراء بثواب صاحبه الواقعي ـ كما سيأتي من الماتن. وكولايته على التصرف في الأراضي المفتوحة عنوة في زمان الامام (ع) ـ كما هو الظاهر ـ وكولايته على من لا ولي له في الدماء والفروج والأموال المحترمة ـ على ضوء الأصلح ـ وغير ذلك كثير من الموارد الخاصة والعامة وموارد الحسبة التي سيذكر بعضها سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ فراجع.

(١) وعليه عامة الفقهاء الإمامية ، إلا ابن أبي عقيل ـ من القدماء ـ فإنه لا يرى ولاية التزويج إلا الى الأب دون غيره من الأولياء

(٢) في (التهذيب) كتاب النكاح باب ٣٢ في أولياء العقد روايات كثيرة بهذا المضمون ، كقول الامام الباقر عليه السلام ـ كما في رواية زرارة ورواية محمد بن مسلم ـ : «لا ينقض النكاح إلا الأب».

٢٦٥

ولو بقرينة ما تضمن لفظه منها (١) ، بل وتقدم عقده على عقد الأب مع المعارضة (٢) ، بل وإطلاقها يقتضي اشتراك الجد مطلقا وان عدّ مع الأب في الولاية. وأنه لا ترتيب في العوالي من الأجداد ـ كما عن الأكثر ـ خلافا لما عن بعض ـ كما في الحدائق والمفاتيح ـ فذهبوا إلى الترتيب بين الأجداد : يختص بها الأدنى منهم ، فالأدنى (٣). واختاره (المسالك

__________________

(١) ففي التهذيب بنفس الباب الآنف حديث (٣٦) «بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل وبريد جدها أن يزوجها من رجل آخر؟ قال : الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا ، ان لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجد».

(٢) كالرواية الآنفة عن المصدر الآنف وفيه أيضا : رواية محمد بن مسلم عن أحدهما (ع) قال : إذا زوج الرجل بنت ابنه فهو جائز على ابنه ، ولابنه أيضا أن يزوجها ، فقلت : فإن هوى أبوها رجلا وجدها رجلا؟ فقال : الجد أولى بنكاحها» ،

(٣) في الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني ، كتاب النكاح ، أخريات المسألة العاشرة قوله : «وهل يتعدى الحكم هنا إلى أب الجد وجد الجد وإن علا مع الأب أو مع من هو أدنى منه حتى يكون أبو الجد أولى من الجد وجد الجد أولى من أب الجد ـ الى قوله ـ : قد عرفت مما قدمناه في غير مقام ، قوة القول الثاني .. وحينئذ ، فيقدم عقد الأعلى في الصورة التي فرضتها». أما المفاتيح فلعله يريد به مفاتيح الملا محسن الفياض القاشاني المتوفى في قاشان والمدفون فيها سنة ١٠٩١ ه‍ طبع القسم منه وبقي الآخر مخطوطا ، رأينا نسخته الخطية الكاملة في مكتبة

٢٦٦

في كتاب الوصية) (١).

ومن الغريب ما وقع من الفاضل (الجواد) في شرح اللمعتين (٢) حيث توهم منه القول بالترتيب حتى بين الأب والجد له الأدنى حيث قال ـ بعد أن نسب الى ظاهر الأكثر اشتراك الأب والجد في الولاية ، ونقل الخلاف في ترتيب الأجداد عن المفاتيح والحدائق ما لفظه : «بل عن الفاضل الشارح في وصايا المسالك : أن الولاية للأب ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية : الأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، ومقتضاه الترتيب بين الأب والجد الأدنى أيضا ، وهو غريب لمنافاته ما فرضوه من الخلاف في تقديم عقد الأب أو الجد مع التعارض ، بل الرجحان في ذلك لعقد الجد على الأظهر لفحوى ما دل عليه في عقد النكاح من الرواية والإجماع ومنافاته لما اختلفوا فيه : من أن ولاية الجد مشروطة بحياة الأب أولا ، وفرعوا عليه تقديم وصي الأب على الجد ، وان كان الأظهر عموم ولاية

__________________

الحجة للشيخ علي آل كاشف الغطاء حفظه الله ، ولم نجد هذا الموضوع في مظانه من هذه النسخة المخطوطة. والله العالم.

(١) راجع ذلك في (مسالك الأفهام) في شرح شرائع الإسلام ، للشهيد الثاني : كتاب الوصايا ، آخر الفصل الخامس في الأوصياء قوله : في شرح قول المحقق (وكذا لو مات إنسان ولا وصي له ..) : «اعلم أن الأمور المفتقرة إلى الولاية : إما أن تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان الأول ، فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه ثم لمن يليه من الأجداد على الترتيب الولاية للأقرب منهم الى الميت فالأقرب».

(٢) أشرنا ـ غير مرة في هذا الكتاب ـ الى أن المراد من (شرح اللمعتين) : شرح الروضة للشيخ الجواد المعروف بملإ كتاب ، والتثنية للتغليب والكتاب لا يزال من نفائس المخطوطات.

٢٦٧

الجد» انتهى.

وأنت خبير بأن مراده من الأب هو أب الميت ، فيكون هو الجد الأدنى لأطفاله. وقوله (ثم لمن يليه من الأجداد) : جد الميت ، فهو منه قول بالترتيب بين الأجداد ، لا بين أب الطفل وجده. وبذلك عليه صريح قوله : (الأقرب منهم الى الميت فالأقرب). ويشهد له ذكر الفرع في الوصية التي موضوعها لو مات وله أطفال فالولاية لأبيه ، أي لأب الميت الذي هو الجد الأدنى لأطفال ابنه دون أبيه الذي هو الجد الأعلى ، فهو منه قول بالترتيب بين الأجداد. لا بين الأب والجد الأدنى ـ كما توهمه الفاضل المتقدم ذكره.

هذا : ومن اعتبر الترتيب في الأجداد : ان استند في ذلك الى دعوى انصراف الجد إلى الأدنى منه دون الأعلى فلا يشاركه في الولاية ، وهو ، وان كان يجري مثله في الأب ، بل هو فيه أظهر منه في الجد ـ لو سلم شموله للجد حقيقة ـ إلا أن الجد منصوص عليه مستفيضا في النكاح وغيره حتى قيل بتقدم عقده على عقد الأب لو اتحد زمانهما ، بل قيل ـ كما تقدم ـ باشتراط ولايته بحياة الأب ، ومقتضى ذلك كله المشاركة معه في الولاية ولم تثبت مشاركة العوالي من الأجداد في الولاية مع الأدنى بعد اختصاصه به بالانصراف ، بل مقتضى الأصل هو العدم (ففيه) : ان انصراف الجد إلى الأدنى ـ لو سلم ـ كان مقتضاه عدم الولاية للأعلى أصلا ، ولو مع فقد الأدنى للأصل ، دون الترتيب بينهما.

وان استند في ذلك الى آية «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» الدالة على كون القريب أول بقريبه من البعيد أولوية تعيين ، لا أولوية تفضيل مع الاشتراك في المبدء ، ومقتضاه ، وان كان الترتيب بين الأب والجد الأدنى أيضا ، الا أنه خرج عنه بالنص والإجماع على الاشتراك بينهما

٢٦٨

فيبقى الباقي داخلا في العام ، وعدم الأولوية في غيرهم من الأرحام من السالبة بانتفاء الموضوع ، لعدم الولاية لهم ، لا لعدم الأولوية بينهم.

(ففيه) : ان نصوص ولاية الجد الشاملة بإطلاقها للقريب والبعيد أخص مطلقا من عموم أولوية الأرحام بعضهم ببعض في الولاية وغيرها ، المستفاد من حذف المتعلق ، فليكن مقدما عليه تقديما للخاص على العام أو المقيد على المطلق ، مضافا الى وجود مناط اشتراك الجد القريب مع الأب في البعيد أيضا معه من نحو : «الولد وما يملك لأبيه» (١) وغيره. فإذا الأقوى ما عليه المشهور.

فظهر من ذلك كله حكم المسألة بجملة صورها الثلاثة.

الأولى : اشتراك الأجداد مطلقا مع الأب في الولاية على أطفاله ، وهو المنسوب إلى الأشهر ، بل المشهور. ويقابله القول بالترتيب في الأجداد

__________________

(١) في الوسائل ، كتاب النكاح باب ١١ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث (٥) : «وعن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي المغراء عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إلي لذات يوم عند زياد بن عبد الله إذا جاء رجل يستعدي على أبيه ، فقال : أصلح الله الأمير ، إن أبي زوج ابنتي بغير إذني ، فقال زياد لجلسائه الذين عنده : ما تقولون فيما يقول هذا الرجل؟ فقالوا : نكاحه باطل. قال : ثم أقبل عليّ ، فقال : ما تقول يا أبا عبد الله؟ فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه ، فقلت لهم : أليس فيما تروون أنتم عن رسول الله (ص) : إن رجلا جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا ، فقال له رسول الله (ص) : أنت ومالك لأبيك؟ قالوا : بلى ، فقلت لهم : فكيف يكون هذا ـ وهو ماله لأبيه ـ ولا يجوز نكاحه؟ قال : فأخذ بقولهم ، وترك قولي».

٢٦٩

فلا يشترك مع الأب في الولاية إلا أبوه الذي هو الجد الأدنى للطفل.

الثانية : لو فقد الجد الأدنى قام الأعلى مقامه في الاشتراك مع الأب في الولاية بناء على الترتيب. والظاهر أنه مما لا خلاف فيه ، لثبوت الولاية لهم ـ في الجملة ـ غير أن القريب منهم يمنع البعيد عندهم بما دل على الترتيب.

الثالثة : لو فقد الأب فهل تختص الولاية بأبيه الذي هو الجد الأدنى ، بناء على الترتيب ، أو يشاركه أبوه حينئذ كما كان هو يشارك ابنه؟ وجهان : من ثبوت اشتراك الولد مع والده في الولاية ، وهو هنا منه ، ومن أن الثابت خروجه عن الترتيب أب الطفل وجده الأدنى ، وجريان الحكم في ـ غيرهما قياسا بهما ـ لا نقول به.

ولا ولاية لغير الأب وآبائه من قبل الأب من الأقارب ـ مطلقا ـ بالنص والإجماع (١). والقول بثبوتها لبعض منهم ـ كما عن بعض ـ شاذ لا يلتفت اليه (٢).

__________________

(١) أما النص فقد ورد بمضامين كثيرة تخص الولاية بالآباء من طرف الآباء ، كمفهوم قوله (ع) : «ان كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم ـ كما في الوسائل باب ٦ من أبواب عقد النكاح ـ وأما دعاوي الإجماع في المسألة فقد تواردت على ألسنة عامة الفقهاء في كتبهم كما عن الشيخ في (تبيانه) في تفسير قوله تعالى «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» : «لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجد على البكر غير البالغ فأما من عداهما فلا ولاية له» ومثله غيره من عموم الفقهاء.

(٢) كالقول من بعض أصحابنا بثبوتها للام وآبائها وللأخ ، لروايات ـ مع ضعف سندها ـ محمولة على التقية ، وكالقول من بعض العامة بثبوتها للعصبة والمعتق والابن بالنسبة الى أمه. كل ذلك شاذ ، ولا دليل معتبر عليه.

٢٧٠

ثم الظاهر نفوذ تصرفهما مطلقا ، فيما يتعلق بالطفل وماله ، نكاحا كان أو غيره الا الطلاق ، فإنهما لا يملكانه بالنص وفي إلحاق الفسخ وهبة ما بقي من أجل المتعة به ، وجهان : والأقوى : العدم ، اقتصارا على المنصوص في الخروج عما لهما الولاية عليه وهو الطلاق.

وهل يعتبر في تصرفهما رعاية المصلحة له ، أو يكفي عدم المفسدة أولا يعتبر شي‌ء منهما؟ وجوه ـ بل أقوال ـ : وسطها أوسطها ، لما دل على جواز الإقراض من مال الطفل ، وتقويم الجارية على نفسه ، وغير ذلك المعلوم خلوة بمجرده عن مصلحة تعود اليه. وعود الأجر والثواب الأخروي له لكونه مالكا للمال ، ليس من المصلحة التي عليها المدار ، بناء على اعتبارها في تصرف الولي ، مضافا إلى خلو أخبار تزويج الأب والجد للطفل عن اعتبارها ، مع أولوية الفروج بالاحتياط من غيرها ولو لا أدلة نفي الضرر فيما اشتمل على مفسدة ، واشعار بعض النصوص بعدمها لكان القول بعدم اعتبارها أيضا قويا ، إلا أن الذي يظهر من عبارات بعض ، سيما القدماء ، ان اشتراط التصرف بالمصلحة من المفروغ عنه عندهم ، وأنه المسلم فيما بينهم ، فعن (المبسوط) قال : «ومن يلي أمر الصغير والمجنون خمسة : الأب والجد للأب ووصي الأب والجد والحاكم ومن يأمره ـ ثم قال ـ : وكل هؤلاء الخمسة لا يصح تصرفهم الا على وجه الاحتياط والحظ للصغير لأنهم إنما نصبوا لذلك ، فاذا تصرف فيه على وجه لا حظّ فيه ، كان باطلا ، لأنه خلاف ما نصب له». وعن : (السرائر) : «لا يجوز للولي التصرف في مال الطفل الا بما يكون فيه صلاح المال ، ويعود نفعه إلى الطفل دون المتصرف فيه ، وهذا الذي تقتضيه أصول المذهب» انتهى. وهو المحكي عن صريح المحقق ، والعلامة ،

٢٧١

والشهيدين ، وثاني المحققين (١) وعن (شرح الروضة) للفاضل الهندي (٢) ان المتقدمين عمموا الحكم باعتبار المصلحة من غير استثناء. وعن (مفتاح الكرامة) : أنه استظهر من عبارة (التذكرة) في باب الحجر نفي الخلاف في ذلك بين المسلمين.

وربما يستدل له في الجد مع فقد الأب بعموم قوله تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (٣) الشامل للجد ، ويتم في الأب بعدم القول بالفصل.

وفيه : ـ بعد تسليم ـ عمومها أنه مخصص بما دل على ولاية الجد وسلطنة الظاهر في أن له أن يتصرف في مال طفل بما ليس فيه مفسدة له.

هذا : ويحتمل ـ غير بعيد ـ التفصيل بين ما لو كان تصرف الأب لحاجة به وضرورة له أدت إليه فيكون له ذلك ما لم تستلزم المفسدة ، وان كان لأمر يرجع إلى الطفل اعتبرت المصلحة فيه. فولاية الأب برزخ بين ولاية السيد وبين ولاية الحاكم ، فهي أقوى منها ، ولذا كان مقدما عليه في الولاية على ولده المنزل منزلة المملوك له في الاخبار.

ثم المدار في المصلحة ـ حيث اعتبرناها في التصرف ـ على وجودها في الواقع ، فلو تصرف بناء عليها فانكشف العدم لم ينفذ لانتفاء المشروط

__________________

(١) يريد به المحقق الثاني الكركي العاملي المتوفى سنة ٩٤٠ ه‍ في كتابه (جامع المقاصد في شرح القواعد للعلامة) راجع : هذا الموضوع في باب شروط المتعاقدين من الكتب التي أشار إليها الماتن ـ قده.

(٢) واسمه (المناهج السرية في شرح الروضة البهية) يقع في مجلدات أربعة ، لا تزال مخطوطة ، راجع : (الذريعة للمحقق الطهراني باب الميم).

(٣) وتكملة الآية «حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» سورة الانعام ـ ١٥٢.

٢٧٢

بانتفاء شرطه ، ولا كذلك لو تصرف بما فيه الصلاح فبان وجود الأصلح وقلنا بتقديم الأصلح على ما فيه الصلاح ، لوضوح الفرق بين التقديم مع المزاحمة الموقوف على الالتفات إلى وجود المزاحم ، وبين مبغوضية التصرف من أصله ، وبذلك يظهر ضعف احتمال كون الحسن حينئذ داخلا في عموم المستثنى منه المنهي عنه في آية «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» والغفلة إنما تمانع تنجز النهي لا نفسه. ولو انعكس الأمر بأن تصرف بانيا على عدم المصلحة ، فظهر وجودها صح تصرفه ، وان توهم النهي عنه لوجود ما هو شرط في الصحة نعم يجري عليه قبح التجريّ وهو غير البطلان.

(المبحث الثالث)

في ولاية الوصي المنصوب من الموصى قيما على أطفاله ، وهي ثابتة له بالنص والإجماع ، لكن بحسب ما هو مجعول له منه من حيث الإطلاق والتقييد. فإن أطلق فلا إشكال في نفوذ ما يتولى من مصالحهم في حفظ نفوسهم وأموالهم وأخذ الحقوق الراجعة إليهم من غيرهم وإلى غيرهم ، منهم وغير ذلك من بيع وإجارة ومزارعة ومساقاة ونحو ذلك مما يتعلق بإصلاح أموالهم ، كما لا إشكال في المنع عن فعل بعض ما كان للأب جوازه من حيث الأبوة القائمة بذلك الأب لعدم قابلية الانتفال حينئذ منه إلى غيره. ومع الشك فيه يرجع إلى الشك في القابلية التي لا يمكن إحرازها بالأصل وعمومات الوصية ولعل من ذلك جواز تزويج الصغير والصغيرة لغير الأب والجد له ، وان كان قيما ، فإن الأصحاب اختلفوا في ثبوت ولاية التزويج للوصي مطلقا ، أو مع نص الموصي له عليه أو

٢٧٣

نفيها مطلقا على أقوال : أشهرها ـ كما في (المسالك) (١) ، بل المشهور كما عن غيره ـ : هو الأخير ، للأصل مع الشك في قابليتها للانتقال عنه بعد الموت ، واستغناء الصغيرة عن الحاجة الى النكاح وعموم مفهوم الصحيحين في تزويج الصبي للصبية : «ان كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز» (٢) وخصوص الصحيح المضمر : «سأله رجل عن رجل مات وترك أخوين وبنتا والبنت صغيرة فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه ، ثم مات أب الابن المزوج ، فلما أن مات قال الآخر : أخي لم يزوج ابنه ، فزوج الجارية من ابنه ، فقيل للجارية : أي الزوجين أحب إليك : الأول أو الأخير؟ قالت : الأخير ، ثم ان الأخ الثاني مات وللأخ الأول ابن أكبر من الابن المزوج ، فقال للجارية : اختاري أيهما أحب إليك الزوج الأول أو الزوج الأخير؟ فقال : الرواية فيها أنها للزوج الأخير ..» (٣) الخبر وهي وان كانت مضمرة الا أنها بالشهرة العظيمة منجبرة.

__________________

(١) قال : الشهيد الثاني في المسالك في باب أولياء العقد من كتاب النكاح ـ في شرح قول المحقق : ولا ولاية للوصي وان نص له الموصي على النكاح ـ : «اختلف الأصحاب في ثبوت ولاية التزويج للوصي مطلقا أو مع نص الموصي له عليه أو نفيها مطلقا على أقوال أشهرها الأخير».

(٢) إشارة إلى صحيحي محمد بن مسلم عن الامام الباقر عليه السلام ، المتقدمين المذكورين في أبواب عقد النكاح وأولياء العقد من كتاب النكاح من الوسائل وغيره من كتب الأخبار.

(٣) نفس الخبر باختلاف بسيط في بعض كلماته في الوسائل ، كتاب النكاح باب ٨ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث (١) هكذا : «محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سأله رجل .. إلخ.

٢٧٤

واستدلوا على الأول بصحيحة ابن مسلم وأبي بصير : «عن أبي جعفر عليه السلام ، سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال : هو الأب والأخ والموصى اليه» (١). وخبر أبي بصير عن الصادق عليه السلام : «(الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو الأب والأخ والموصى اليه» (٢) وهما ـ مع ندرة القول بمضمونهما ـ كما في الرياض وغيره ـ وخلوهما عن ذكر الجد وتضمنهما لولاية الأخ الذي لا يقول به أحد ـ لا يكافئان ما تقدم ، فيحملان على استحباب الإطاعة له. وعليه يحمل ذكر الأخ أيضا.

ومنه يظهر ضعف القول بالتفصيل بين ما لو نص عليه وعدمه بالثبوت في الأول وعدمه في الثاني ، تنزيلا لإطلاق كل من الأخبار المتعارضة على ذلك ، جمعا بينها ، وهو حسن لو كان له شاهد عليه وكذا القول بثبوتها له فيما لو بلغ سفيها مع الحاجة اليه واستثناء هذه الصورة من النفي مطلقا كما عن بعض منهم المحقق والعلامة ضعيف أيضا ، لعدم الدليل عليه.

(ودعوى) : كون ذلك للأب فكما له أن يدفع الضرر بالتزويج عن ولده أو بلغ سفيها لو اضطر اليه ، كذلك الوصي القائم مقامه له ذلك أيضا حيث يكون مضطرا إليه (فاسدة) لثبوت ولاية التزويج للأب على صغاره المستصحبة إلى البلوغ وإيناس الرشد ولا كذلك الوصي حيث قلنا يعدم ولايته على الصغير مطلقا ، فلا متيقن حتى يستصحب. وحدوث الولاية له عليه عند البلوغ سفيها مع كونه منفيا بالأصل لا دليل عليه ، فالولاية حينئذ للحاكم يتولاه إذا كان له به حاجة وكذا للوصي الولاية على مال الموصي فيما له الوصية به من الثلث ، فله التصرف حسب الوصية له من.

__________________

(١) الوسائل ، كتاب النكاح ، باب ٨ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، إلا ان فيها (والرجل يوصى اليه) بدل (والموصى إليه)

(٢) الوسائل ، كتاب النكاح ، باب ٨ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، إلا ان فيها (والرجل يوصى اليه) بدل (والموصى إليه)

٢٧٥

باب الولاية ، لا من باب التولية ، لأنها في الحقيقة إعطاء سلطنة له من المالك الموصي فيما كان له من السلطنة على ماله ، غير أنها مقصورة على الثلث ، لأنه القدر الثابت من الأدلة في جواز انتقالها منه اليه بعد الموت.

(المبحث الرابع)

في ولاية المقاصّة والأخذ بالتقاص. وهي ـ في الجملة ـ ثابتة بالكتاب نحو قوله تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (١) «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (٢) «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (٣) «فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» (٤) «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (٥) ونحو ذلك بالسنة عموما : «نحو لا ضرر ولا ضرار» (٦)

__________________

(١) سورة البقرة ـ ١٩٤. وأول الآية (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).

(٢) سورة البقرة ١٧٩. وأخر الآية (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

(٣) سورة البقرة ١٩٤ ، وأول الآية (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).

(٤) سورة النحل ـ ١٢٦. وأول الآية (وَإِنْ عاقَبْتُمْ).

(٥) سورة الشورى ـ ٤٠ ، وتكملة الآية (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

(٦) الكلام حول هذه القاعدة المستلة من الحديث النبوي ـ بايجاز ـ من جهات : في مدرك حجيتها ، وفي المعنى اللغوي للكلمتين ، وفي المقصود الشرعي من ذلك.

أما الجهة الأولى ـ فإنها من الأحاديث النبوية المسلمة الورود من العامة والخاصة ، والمتواترة النقل ـ إجمالا ـ من الطرفين بأسانيد وصور بعضها صحيح وبعضها موثق بحيث يقطع بصدور البعض منها ـ على الأقل

٢٧٦

وخصوصا بالغا فوق حد الاستفاضة كما تشير الى بعضها ، وبالإجماع محصلا ومنقولا كذلك ،

__________________

ولقد طبقها النبي (ص) ـ ككبرى كلية ـ على موارد عديدة جاءت في بعضها خالية من الملحق ، وفي بعضها بإلحاق كلمة (في الإسلام) وفي الآخر بإلحاق كلمة (على مؤمن). والظاهر أن منطلق هذه القاعدة من قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري المتواترة النقل في كثير من المصادر العامة والخاصة بلا زيادة ، كما يرويها الكليني في الكافي ـ في كتاب المعيشة باب الضرار حديث (٢) بطريق عبد الله بن بكير عن زرارة عن الامام الباقر (ع) حيث يقول النبي (ص) للأنصاري ـ بعد مساومته المتصاعدة لسمرة في بيع نخلته الكائنة في بستان الأنصاري ، وتضرر الأنصاري بكثرة تردد سمرة إلى نخلته من طريق بيته وعدم استئذانه منه ـ يقول له : اذهب فاقلعها وإرم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار». وفي تاج العروس للزبيدي ـ في شرح القاموس بنفس المادة يشير الى الحديث بلا زيادة أيضا. حيث يقول ـ في عرض تفسيره لفقرتيه : «وبه فسر الحديث : لا ضرر ولا ضرار» ومثلهما غيرهما من عامة كتب الأخبار واللغة والفقه.

وجاءت بزيادة كلمة (على مؤمن) في الرواية الثانية للكليني في نفس الباب حديث (٨) من طريق عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ـ ففي آخر الحديث المذكور : «فقال رسول الله (ص) لسمرة : انك رجل مضار ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ..» كما جاءت القاعدة بزيادة (في الإسلام) في نهاية ابن الأثير الجزري ، وفي (مجمع البحرين للطريحي) ـ بنفس المادة ـ أثناء تفسيرهما لفقرتي الحديث ونحوهما في بعض كتب الحديث والفقه واللغة. وعلى كل فاختلاف الحديث في وروده بإحدى الزيادتين أو بدونهما لا يوهن تحقق التواتر الإجمالي

٢٧٧

وتفصيل المسألة : هو أن يقال : ان الحق الذي يراد أن يقتص عنه ببدله : أما عقوبة كالقصاص ، أو مال ، وهو : إما عين ، أو دين.

__________________

أو المعنوي في نقله ـ بعد ما كان التسالم من الجميع على أصل بنته الأصيلة المتكونة من فقرتي الضرر والضرار المنفيين ـ وذلك كاف في مقام الوثوق بمدرك القاعدة.

وأما الجهة الثانية ـ فالضرر : اسم مصدر. والمصدر : الضر ـ بالضم وقد يفتح ـ وهو ضد النفع : ومعناه : إحداث النقص بالنفس أو المال أو العرض أو أي شأن من شئون المتضرر نفسه ، والضرار ـ على فعال ـ : إيقاع الإضرار بالغير ـ بذلك المعنى ـ والذي يتراءى من كلمات اللغويين كابن الأثير في النهاية ، والزبيدي في تاج العروس شرح القاموس وغيرهما ـ في تفسير الضرر بأنه : ضد النفع أو النقص الداخل على الشي‌ء أو فعل الواحد ونحو ذلك : ان المقابلة بين الضرر والنفع من باب التضاد لا من باب العدم والملكة ـ كما قيل ـ بدليل انتفائهما معا في مثال البيع برأس المال ـ مثلا ـ : ولو كان التقابل بينهما بنحو العدم والملكة لما خلا الواقع من أحدهما ، كما أن الذي يتراءى من كلمات اللغويين أيضا في مقام التفريق بين الضرر والضرار بأن الضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين ـ على حد تعبير النهاية والتاج واللسان وغيرها : أن المقصود من فعل الاثنين ليس معناه ـ كأبواب المفاعلة قيام المعنى أو صدوره من اثنين بل معناه صدور الفعل من واحد وقيامه بالآخر ، فأحدهما يحدث الضرر والآخر يتأثر به.

وأما الجهة الثالثة ـ فقد قيل في تفسير هذه الجملة عدة معان ، في بعضها إبقاء الاستعمال على حقيقته من نفي الطبيعة ، وفي بعضها يصرف عن المعنى الحقيقي إلى التجوز المناسب.

٢٧٨

فان كان الأول ففي جواز استيفاء حقه بنفسه ـ كما عن جماعة بل في (الرياض) عليه أكثر المتأخرين بل عامّتهم (١) ـ أو وجوب رفعه الى الحاكم ـ كما عن جماعة أيضا ، بل عن (الخلاف) : لا ينبغي أن

__________________

فمن ذلك ـ حمل النفي على النهي ، فيكون المراد تحريم الإضرار بالنفس أو الغير ـ بعامة شئونهما ـ على غرار قوله تعالى «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ» وقوله (ص) : «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل» ـ على بعض التفاسير ـ وذلك لصحة قيام المصدر مقام الفعل في الاستعمال ، فيكون المراد : لا تضر نفسك ولا غيرك.

ومن ذلك ـ أن يكون المراد نفي الحكم ـ حقيقة ـ بلسان نفي الموضوع ، بمعنى أن ليس في عالم التشريع حكم مجعول يستلزم ضررا على النفس أو على الغير ، فالسالبة بانتفاء الموضوع تكوينا ، من قبيل قوله (ع) : «لا سهو في السهو».

ومن ذلك ـ أن يكون المنفي هو الضرر أو الإضرار غير المتداركين شرعا ، إذ المتدارك منهما ليس ضررا ولا إضرارا في نظر الشرع ، كما هي النظرة العرفية والعقلائية كذلك. فالذي تستلزم القاعدة ـ بناء على هذا المعنى وجوب تدارك الضرر الحاصل إذا حدث ، حيث أن ذلك المعنى أقرب المجازات بعد رفع اليد عن نفي الحقيقة.

ولعل القول الثاني أقرب الثلاثة إلى مذاق الشريعة وابتنائها على المنة والمصلحة واللطف ، وأبقى للنفي والمنفي على حقيقتهما ـ بلا تجوز ـ (هذا ، وللتفصيل مراجعة مظان القاعدة من كتب الأخبار واللغة والفقه الموسعة من الفريقين).

(١) راجع : أوائل كتاب كتاب القصاص منه ، القسم الأول في القود.

٢٧٩

يقتص بنفسه لأن ذلك للإمام أو من يأمره بلا خلاف (١) ، بل عن (الغنية) : دعوى الإجماع عليه. فان تم كان هو الدليل ، لا ما قيل : من عظم خطره والاحتياط في إثباته ، ولأن استيفائه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة وزجر الناس ، لأن إطلاق السلطان للولي وتسلط الناس على استيفاء حقوقها وغير ذلك يقتضي عدم اعتبار الرفع الى الحاكم مع فرض معلومية الحال وإقرار الخصم ، كما أنه يقتضي مباشرته لا خصوص الحاكم؟ قولان : وقد عرفت مستندهما (٢). ولعل الأول هو الأقوى ، وان كان الأحوط هو الثاني.

وان كان الثاني ، وكان موجودا جاز له استردادها بنفسه من غير توقف على إذن الحاكم ، وان تمكن من إثبات حقه عنده ، ما لم ينجر إلى فتنة توجب الكف عنه ، فيرفع أمره حينئذ إليه ، حسما للفساد ، وان لم يتمكن من الاسترداد أو كانت تالفة وهو مماطل أو جاحد وأمكنه التقاص ببدله ، اقتص به عنه مستقلا ، وان كان من غير جنسه ، لإطلاق ما دل عليه من الأخبار كصحيحتي داود بن رزين ، وابن زربي قال ـ في إحديهما ـ : «قلت لأبي الحسن موسى (ع) : إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ، ثم يقع لهم عندي المال ، فلي أن آخذه؟ فقال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه» (٣)

__________________

(١) راجع هذه العبارة في كتاب الجنايات من الخلاف مسألة (٨).

(٢) أي من عرض القولين في صدر المسألة ، وهو دعوى الإجماع من الطرفين.

(٣) في الوسائل ، كتاب التجارة. باب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ذكر نص الحديث الأول ، وأشار الى الثاني بروايته عن الصدوق. وفي (التهذيب للشيخ الطوسي) كتاب المكاسب ، أحاديث النقاص حديث (٩٩) «.. عن داود بن زربي قال قلت لأبي الحسن موسى ..» إلخ.

٢٨٠