الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(٥٥)

درّة نجفية

في اشتراط الدخول في تحريم أمّ المعقود عليها على العاقد

المشهور بين كافة العلماء من الخاصة والعامّة أن الام تحرم بمجرّد العقد على ابنتها ومن غير اشتراط بالدخول بها.

وذهب ابن أبي عقيل رحمه‌الله (١) منّا ونقل (٢) عن الشافعي (٣) من العامة في أحد وجهيه إلى اشتراط التحريم بالدخول كالبنت ؛ فإنها لا تحرم إلّا بالدخول بامّها إجماعا.

والظاهر عندي هو القول المشهور ، وأنا أذكر في هذه الدرّة ما يتعلّق بهذه المسألة من الأدلّة كتابا وسنّة ، واذيّل كلّ دليل بما يوضح معناه المراد وما يتضمّنه من صحّة أو فساد ، واشبع الكلام في ذلك ما استطعت من الإشباع ؛ ليظهر للناظر (٤)

__________________

(١) عنه في مختلف الشيعة ٧ : ٤٨ / المسألة : ١٣.

(٢) الخلاف ٤ : ٣٠٣ / المسألة : ٧٥ ، المبسوط (السرخسي) ٤ : ١٩٩ ، ويلاحظ أن السرخسي ذكر في مقدمة كتابه هذا أن كتابه شرح لمختصر المبسوط الذي هو من تأليف محمد بن الحسن الشيباني حيث جمع فيه ما فرّعه أبو حنيفة. أما المختصر فهو من تأليف أبي الفضل محمد بن أحمد المروزي. ثم ذكر الداعي لاختصاره وشرحه. انظر المبسوط ١ : ٣ ـ ٤.

(٣) الأمّ ٥ : ٢٤.

(٤) ليظهر للناظر ، من «ح» ، وفي «ع» : لينظر الناظر.

٢٢١

الطالب للحقّ ما هو الأحق بالاتباع ، فإن بعضا (١) من محققي متأخّري المتأخّرين (٢) قد استشكل في المسألة غاية الاستشكال ، وبعضا آخر (٣) لذلك أيضا قد جعلها ممّا يرجأ حكمه حتى يظهر الحقّ لما فيها من الإعضال.

فأقول ـ وبالله سبحانه التوفيق لبلوغ المأمول ـ : من الأدلّة المتعلّقة بهذه المسألة (٤) الآية الشريفة وهي قوله عزوجل في تعداد المحرّمات (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) (٥). وجه التقريب فيها أن ظاهر قوله سبحانه (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُ‌كُمُ اللّاتِي) ـ في تعداد المحرّمات المذكورة ـ هو الشمول للمدخول بهنّ وغيرهنّ ، فإن الجمع المضاف يفيد العموم كما قرّر في محلّه. وبهذا المعنى وردت الأخبار في تفسير الآية المذكورة كما سيمرّ بك إن شاء الله تعالى.

ونقل في (المسالك) عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : (أبهموا ما أبهم الله) (٦) ، يعني عمّموا حيث عمّم ، بخلاف الربائب ؛ فإنه قيّدهنّ بالدخول بامّهاتهنّ فيتقيّدن (٧).

وظاهر قوله سبحانه (وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أن قوله (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) نعت للنساء اللواتي هنّ أمّهات الربائب لا غير ،

__________________

(١) هو العلّامة الأوحد السيّد السند صاحب (المدارك) (١) في شرحه على (النافع) (٢). منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) نهاية المرام ١ : ١٣٣.

(٣) الآخر هو شيخنا المحقّق الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن يوسف البحراني قدس‌سره في بعض فوائده ، منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٤) سقط في «ح».

(٥) النساء : ٢٣.

(٦) الكشّاف ١ : ٤٩٥.

(٧) مسالك الأفهام ٧ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

__________________

١ ـ من هامش «ع» ، وفي هامش «ح» : (ن).

٢ ـ نهاية المرام ١ : ١٣٣.

٢٢٢

وعلى ذلك أيضا تدلّ الأخبار الآتية. وبذلك يظهر لك صحّة دلالة الآية بطرفيها على القول المشهور.

وأمّا على تقدير قول ابن أبي عقيل فقد حملت الآية على أن قيد الدخول راجع إلى المعطوف والمعطوف عليه ، وأن يكون قوله (مِنْ نِسائِكُمُ) راجعا إلى الجميع أيضا لا إلى الجملة الأخيرة ، فيكون المعنى بالنسبة إلى تعلّقه بالجملة الاولى (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) (١).

وردّ هذا المعنى :

أولا : بأن الوصف والشرط والاستثناء المتعقّب للجمل يجب عوده للأخيرة كما حقّق في الاصول (٢) ، إلّا مع قيام القرينة الدالّة على رجوعه للجميع.

وثانيا : أن رجوع (مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إليهما معا غير مستقيم ، حيث إن (من) على تقدير التعلّق بالاولى تكون (٣) بيانية لبيان الجنس وتمييز (٤) المدخول بهنّ من غير المدخول بهنّ ، فيكون التقدير ، حرّمت عليكم أمّهات نسائكم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ. وعلى تقدير التعلّق ب (رَبائِبُكُمُ) (٥) تكون ابتدائية لابتداء الغاية ، كما تقول بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خديجة ، رضي‌الله‌عنها. ويمتنع أن يراد بالكلمة الواحدة في الخطاب الواحد معنيان مختلفان (٦).

وثالثا : ما نقلة في كتاب (مجمع البيان) عن الزجّاج من أن الخبرين إذا اختلفا

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٣٦ ، ١٣٨ ، ١٣٩.

(٣) من «ح».

(٤) في «ح» : تميّز.

(٥) في «ح» : بعدها : من.

(٦) انظر مسالك الأفهام ٧ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

٢٢٣

لم يكن نعتهما واحدا قال : (لا يجيز النحويّون : مررت بنسائكم (١) ، وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء) (٢) انتهى.

ونحوه ما نقله بعض مشايخنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين عن أحمد بن محمّد المعري (٣) في كتاب (شرح الوجيز) (٤) للرافعي ، حيث قال ـ بعد كلام في المقام ـ : (وذهب بعض أئمّة المتقدّمين إلى جواز نكاح الام إذا لم يدخل بالبنت) ، وقال : (الشرط الذي في الآية يعمّ الامّهات والربائب. وجمهور العلماء على خلافه ؛ لأن أهل العربيّة ذهبوا إلى أن الخبرين إذا اختلفا لا يجوز أن يوصف الاسمان بوصف واحد ، فلا يجوز : قام زيد وقعد عمرو الظريفان. وعلّله سيبويه (٥) باختلاف العامل ؛ لأن العامل (٦) في الصفة هو العامل في الموصوف.

وبيانه في الآية أن قوله (اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) يعود ـ عند القائل ـ إلى (نِسائِكُمْ) ، وهو مخفوض بالإضافة ، وإلى (رَبائِبُكُمُ) وهو مرفوع ، والصفة الواحدة لا تتعلّق بمختلفي الإعراب ولا مختلفي العامل ، كما تقدّم) انتهى.

ورابعا ـ وهو أقواها وأمتنها وأظهرها وأبينها وإن كانت هذه الوجوه كلّها ظاهرة بيّنة ـ : الأخبار المتعلّقة بتفسير الآية كما ستمرّ بك إن شاء الله تعالى ، حيث إنها فصّلت بين الجملتين ، وصرّحت بأن الجملة الاولى مطلقة (٧) عامّة شاملة للمدخول بها وغيرها ، والثانية مقيّدة وأن القيد المذكور مختصّ بالثانية.

__________________

(١) في المصدر : بنسائك.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٤١.

(٣) في «ح» : العرى ، وفي «ق» : المقري.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٨ : ٣٥ ، وفيه : أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني.

(٥) انظر شرح الرضي على الكافية ٢ : ٢٧٩.

(٦) لأن العامل ، من «ح».

(٧) الاولى مطلقة ، من «ح».

٢٢٤

وبما ذكرنا يظهر صحّة دلالة الآية على القول المشهور ، وأن دعوى دلالتها على القول الآخر في غاية القصور.

فمن الأخبار المشار إليها رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : «إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : الربائب عليكم حرام مع الامّهات اللّاتي قد دخلتم بهنّ في الحجور أو غير الحجور سواء ، والامّهات مبهمات ، دخل بالبنات أم لم يدخل بهنّ ، فحرّموا وأبهموا ما أبهم الله» (١).

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة على القول المشهور ، مشيرة إلى تفسير الآية بالإطلاق في الجملة الاولى ، والتقييد في الثانية ، فإن قوله عليه‌السلام : «والامّهات مبهمات» مأخوذ من : إبهام الباب ، بمعنى إغلاقه ، وأمر مبهم : لا مأتى له.

أو من : أبهمت الشي‌ء إبهاما ، إذا لم تبيّنه ، أو من قولهم : فرس مبهم ، وهو الذي لا يخالط لونه شي‌ء سوى لونه (٢). والمعنى أنها مغلقة في التحريم لا مدخل للحلّ (٣) فيها بوجه.

أو أنّها لم تبيّن وتفصّل وتميز تمييز الربائب بوقوع التقييد بالدخول الذي أوجبه الاستثناء فيها ، فكأنّه لم يخلط صفة حرمتها بحلّ ، فهي كالمصمتة (٤) لا يخالطها لون سوى لونها.

ومنها رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : «إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : إذا تزوّج الرجل المرأة حرم عليه ابنتها إذا دخل بالامّ ، وإذا لم يدخل بالامّ ، فلا بأس أن

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / ٧٧.

(٢) مجمع البحرين ٦ : ٢٠ ـ بهم.

(٣) في «ح» : يدخل ، بدل : مدخل للحل.

(٤) سقط في «ح».

٢٢٥

يتزوّج بالبنت. وإذا تزوّج بالبنت (١) فدخل [بها] أو لم يدخل بها فقد حرمت عليه الامّ» (٢). وهي كما ترى صريحة الدلالة على القول المشهور.

ومنها موثّقة أبي بصير قال : سألته عن رجل تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يدخل بها ، فقال : «تحلّ له ابنتها ، ولا تحلّ له امّها» (٣). وهي أيضا صريحة الدلالة على القول المذكور.

ومنها ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل تزوّج امرأة وطلّقها قبل أن يدخل بها ، أتحلّ له ابنتها؟ قال : فقال : «قد قضى في هذا أمير المؤمنين عليه‌السلام (لا بأس به) ؛ إن الله يقول (وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) (٤). ولكنّه لو تزوّج الابنة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها لم تحلّ له امّها». قال : قلت : أليس هما سواء؟ قال : فقال : «لا ، ليس هذه مثل هذه ؛ إن الله تعالى يقول (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ، لم يستثن في هذه كما اشترط في تلك ، هذه هاهنا مبهمة ليس فيها شرط ، وتلك فيها شرط» (٥).

وهذه الرواية في غاية الصراحة في الدلالة على القول المشهور ، وتفسير الآية بما أشرنا إليه آنفا ممّا تنطبق به على القول المشهور. وبه يظهر ضعف تلك التخرّصات الباردة والتمحّلات الشاردة التي تكلّفوها للقول الآخر.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٣ / ١١٦٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٨ ، ح ٤.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٣ / ١١٦٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٨ ، ح ٥.

(٤) النساء : ٢٣.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ / ٧٤.

٢٢٦

ومن أخبار المسألة صحيحة منصور بن حازم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوّج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها ، أيتزوّج بامّها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قد فعله رجل منّا فلم ير (١) به بأسا». فقلت : جعلت فداك ، ما تفخر الشيعة الّا بقضاء عليّ عليه‌السلام في هذه الشمخية (٢) التي أفتاها ابن مسعود أنه لا بأس بذلك ، ثم أتى عليّا عليه‌السلام فسأله ، فقال له عليّ عليه‌السلام : «من أين أخذتها؟» فقال : من قول الله عزوجل (وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). فقال عليه‌السلام : «إنّ هذه مستثناة وهذه مرسلة ، (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)».

فقال [أبو عبد الله عليه‌السلام] للرجل : «أما تسمع ما يروي هذا عن علي عليه‌السلام؟». فلمّا قمت ندمت وقلت : أيّ شي‌ء صنعت ، يقول هو عليه‌السلام : «قد فعله رجل منّا فلم نر به بأسا» ، وأقول أنا : قضى عليّ عليه‌السلام؟ فلقيته بعد ذلك فقلت : جعلت فداك ، مسألة الرجل إنما كان الذي قلت زلّة منّي ، فما تقول فيها؟ فقال : «يا شيخ ، تخبرني أن عليّا عليه‌السلام قضى فيها وتسألني : ما تقول فيها» (٣).

__________________

(١) في الكافي وتهذيب الأحكام : نر.

(٢) في تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٤ / ١١٦٩ ، وبحار الأنوار ١٠١ : ٢٠ / ٢٢ : السمجية ، وفي العياشي كما سيأتي : الشخينة ، وفي نسخة منه ١ : ٢٥٧ / الهامش : ٢ : الشحينة. قال الفخر الطريحي : (الشمخية .. من ألفاظ حديث مضطرب المتن .. وكأنها من الشمخ وهو العلوّ والرفعة. مجمع البحرين ٢ : ٤٣٦ ـ شمخ.

وقال المجلسي : (يحتمل أن تكون تسميتها بها ؛ لأنها صارت سببا لافتخار الشيعة). ونقل عن والده رحمه‌الله قوله : (إنما وسمت المسألة بالشمخية بالنسبة إلى ابن مسعود ؛ فإنه عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب ابن شمخ ، أو لتكبّر ابن مسعود فيها على متابعة أمير المؤمنين عليه‌السلام. مرآة العقول ٢٠ : ١٧٨.

(٣) الكافي ٥ : ٤٢٢ / ٤ ، باب الرجل يتزوج المرأة فيطلّقها .. ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٤ / ١١٦٩ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٦٢ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٢٠ ، ح ١.

٢٢٧

وروى هذه الرواية أيضا العياشي في تفسيره عن منصور بن حازم ، وفيها : (فقلت له : والله ما يفخر الشيعة على الناس إلّا بهذا ، إن ابن مسعود أفتى في هذه الشمخية أنه لا بأس بذلك) (١) إلى آخره (٢).

أقول : قوله عليه‌السلام : «إن هذه مستثناة» إشارة إلى تحريم الربائب ، ومعنى كونها مستثناة أي مقيّدة ، فإن التحريم فيها مقيّد بالدخول بالأم ، والكلام المقيّد من حيث القيد فيه استثناء لما خرج عن محلّ القيد ، فكأنّه قيل : حرّمت عليكم الربائب إلّا مع عدم الدخول بالأم.

وقوله : «هذه مرسلة» راجع إلى تحريم الامّهات. ومعنى كونها مرسلة أي مطلقة ، مأخوذ من قولهم : دابة مرسلة ، أي غير مربوطة. وهو يقابل التقييد الذي في الاولى. والمراد به أن تحريم الامّهات مع العقد على البنات مطلق ، سواء دخل بالبنت أم لا. فقوله : «وأمّهات نسائكم» بدل من قوله : «وهذه مرسلة» ، والواو من

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٥٧ / ٧٥ ، وفيه : الشخينة ، بدل : الشمخية.

(٢) من أخبار (١) المسألة أيضا ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) عن علي بن مهزيار ، رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل له : إن رجلا تزوّج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة اخرى له ، فقال له ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «أخطأ ابن شبرمة ، حرمت عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، فأمّا الأخيرة [فـ] لم تحرم عليه ؛ لأنها أرضعت ابنته» (٢).

وهذا الخبر ممّا يدلّ على القول المشهور ، حيث إنه عليه‌السلام حكم بتحريم. الامّ الرضاعية في الصورة المذكورة من حيث إنها صارت أمّ الزوجة التي هي محرّمة في النسب مطلقا ، كما هو القول المشهور ، والرضاع يتفرع على النسب ، فهذا التفريع إنّما يتمّ على القول المشهور دون القول الآخر المشترط فيه الدخول بالبنت. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

١ ـ في الأصل : الأخبار.

٢ ـ الكافي ٥ : ٤٤٦ / ١٣ ، باب نوادر في الرضاع ، وفيه : ابنتها ، بدل : ابنته ، وسائل الشيعة : ٤٠٢ ـ ٤٠٣ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب ١٤ ، ح ١.

٢٢٨

الكلام المحكي ، فلا يتوهّم كونها عاطفة.

وهذه الرواية من جملة ما استدلّ بها لابن أبي عقيل (١) ؛ وهي عند التأمّل الصادق في سياقها بالدلالة على القول المشهور أشبه ، وإن عدوله عليه‌السلام [في التعبير] عن الجواب الصريح بالجواز إلى قوله : «قد فعله رجل منّا فلم ير به بأسا» ـ مع احتمال كون الفعل المنفي بالياء (٢) ، وضمير الغائب مجهولا أو معلوما ـ إنما كان لنوع تقيّة.

ويؤيده بأظهر تأييد قول منصور بن حازم ونقله عن علي عليه‌السلام ما نقله ، مع عدم إنكار الإمام عليه‌السلام ذلك ، بل ظاهره تقريره عليه سيّما ما تضمّنه الكلام من افتخار الشيعة بقضاء علي عليه‌السلام في هذه القضيّة ، المؤيّد بما تضمّنته الأخبار المتقدّمة من حكاية ذلك عن علي عليه‌السلام. ونسبته إلى الشيعة على طريق الجزم يشعر باستفاضته يومئذ ؛ إن لم يدّع أنه مجمع عليه أو متواتر ؛ إذ لا يقصر عن قول بعض الفقهاء في كتبهم. وهذا مذهب الشيعة ، فإنهم يجعلونه مؤذنا بدعوى الإجماع ، بل إجماعا حقيقة.

وإن قوله عليه‌السلام أخيرا ـ لمّا اعتذر إليه منصور بن حازم (٣) من تعرّضه عليه ـ : «يا شيخ ، تخبرني أن عليّا عليه‌السلام قضى فيها وتسألني : ما تقول فيها؟» مراد به أن قولي قول علي عليه‌السلام وقضاؤه ، فكيف تسألني بعد علمك بقضاء علي عليه‌السلام فيها؟ وبالجملة ، فسوق الكلام ينبئ عن الإبهام في جوابه عليه‌السلام لذلك الرجل ، ولعلّ وجه الإبهام ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين أنه حيث كان نقل الشيعة عن علي عليه‌السلام في هذه الواقعة خلاف ما نقله العامّة عنه ـ حيث

__________________

(١) مختلف الشيعة ٧ : ٤٨ ـ ٥١ / المسألة : ١٣.

(٢) كما في نسخة المخطوط.

(٣) بن حازم ، من «ح».

٢٢٩

قال العلّامة في (التذكرة) : (ونقل العامّة عن عليّ عليه‌السلام أنه يشترط في تحريم الامّ الدخول بالبنت كالبنت ، وبه قال مجاهد (١) وأنس بن مالك (٢) وداود الأصفهاني (٣) وبشر المريسي (٤)) (٥) ـ كان عدم التصريح بتصحيح ما نقل منصور بن حازم من قضائه عن تقيّة ، وعدم التصريح بجواب أصل المسألة ، رفعا لما يدلّ عليه الجواب عن تصحيح أحد النقلين.

وبالجملة ، فالرواية لما فيها من الإجمال والاحتمال لا تصلح للاستدلال.

ومنها صحيحة جميل وحمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ على ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) (٦) ، والشيخ في كتابيه (٧) ـ قال : «الامّ والابنة سواء إذا لم يدخل بها» ، يعني إذا تزوّج المرأة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها ؛ فإنه إن شاء تزوّج امّها (٨) ، وإن شاء تزوّج ابنتها.

وهذه الرواية أيضا ممّا استدلّ به لابن أبي عقيل ، ولا يخفى أنه لا دلالة فيها صريحا ، بل ولا ظاهرا إلّا بمعونة التفسير المذكور وهو غير معلوم كونه من الإمام عليه‌السلام ، بل الظاهر أنه من بعض الرواة ، وحينئذ فلا يكون حجّة.

وأمّا أصل الرواية مع قطع النظر عن هذا التفسير ، فيحتمل أن يكون المعنى فيها أنه إذا تزوّج الامّ ولم يدخل بها فالامّ والبنت سواء في أصل الإباحة ، فإن

__________________

(١) عنه في رحمة الامة ٢ : ٢١٧.

(٢) عنه في تحفة الفقهاء ٢ : ١٢٢.

(٣) عنه في تحفة الفقهاء ٢ : ١٢٢.

(٤) عنه في تحفة الفقهاء ٢ : ١٢٢ ، المبسوط (السرخسي) ٤ : ١٩٩.

(٥) تذكرة الفقهاء ٢ : ٦٣٠.

(٦) الكافي ٥ : ٤٢١ / ١ ، باب الرجل يتزوّج المرأة فيطلّقها ..

(٧) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٣ / ١١٦٨ ، الاستبصار ٣ : ١٥٧ / ٥٧٢.

(٨) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بأمّها.

٢٣٠

شاء دخل بالامّ ، وإن شاء فارقها وتزوّج البنت. ويؤيّده إفراد الضمير ؛ فإنه راجع إلى الامّ. ويحتمل أن معناه أنه إذا تزوّج الامّ والبنت ولم يدخل بهما فهما سواء في التحريم جمعا لا عينا.

ويؤيد ما ذكرناه من كون التفسير المذكور ليس من أصل الرواية أن صاحب (الوسائل) (١) نقل هذه الرواية في أخبار هذه المسألة من كتاب (النوادر) لأحمد ابن محمّد بن عيسى عارية عن هذا التفسير.

نعم ، روى هذه الرواية الصدوق في (الفقيه) بما هذه صورته : عن جميل بن درّاج أنه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل تزوّج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، أتحلّ له ابنتها؟ قال : «الامّ والابنة في هذا سواء ، إذا لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى» (٢).

وهذه الرواية وإن كانت صريحة الدلالة على القول المذكور ، إلّا إنه من المحتمل قريبا أن قوله عليه‌السلام : «إذا لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى» تفسير بالمعنى من الصدوق قدس‌سره تبعا لما فسّر به في تلك الرواية ؛ لمعلومية تصرّفه في الأخبار على حسب ما يذهب إليه فهمه.

ويؤيّده اختلاف المحدّثين في نقل هذا الخبر ، فبين من نقله عاريا من التفسير بالكلّية ، وبين من نقله بلفظ (يعني) (٣) بتلك العبارة المتقدّمة ، وبين من نقله بما يوهم كونه من أصل الخبر كما نقله في (الفقيه). ومع هذا الاحتمال الذي ذكرناه فلا يتمّ الوثوق والاعتماد على الخبر المذكور.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٦٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٠ ، ح ٣ ـ ٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٦٢ / ١٢٤٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٦٤ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٠ ، ح ٦.

(٣) في «ح» : المعنى ، وهي الواردة في ذيل صحيحة جميل وحماد بن عثمان.

٢٣١

نعم ، نقل الصدوق الخبر بهذه الكيفيّة ، ممّا يؤذن بكونه مذهبا له بناء على قاعدته الّتي ذكرها في صدر كتابه (١) ، إلّا إنّا قد تحرّينا مواضع عديدة من كتابه قد جمع فيها بين الأخبار المنافية التي لا يمكن جعلها جميعا مذهبا له ، ولم يذكر وجه الجمع فيها بما (٢) يوجب رجوع بعضها إلى بعض ، كما لا يخفى على من أمعن النظر في الكتاب المذكور.

ومنها معلّقة محمّد بن إسحاق بن عمّار قال : قلت له : رجل تزوّج امرأة فهلكت قبل أن يدخل بها ، تحلّ له امّها؟ قال : «وما الذي يحرم عليه منها ولم يدخل بها؟» (٣). وهذه الرواية أوضح ما يستدلّ به لهذا القول.

وكيف كان ، فالقول الفصل في هذا المقام أن يقال : إنّه لا ريب في صراحة الروايات المتقدّمة في الدلالة على القول المشهور ، ولا ريب في مطابقتها لظاهر (الكتاب) العزيز ، ولا سيّما مع ورود تفسيره بذلك عنهم عليهم‌السلام كما دريت ، وقد استفاض عنهم عليهم‌السلام عرض الأخبار عند التعارض عليه ، والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه (٤).

وهذه الأخبار الدالة على القول الآخر ـ ظاهرا أو احتمالا ـ مخالفة له ، فيجب طرحها بمقتضى القاعدة المذكورة ، ومع التحاشي عن طرحها بالمرّة ورميها بالكلّية ، فما كان منها قابلا للحمل على ما ترجع به إلى تلك الأخبار المتقدّمة يجب أن يصار إليه تفاديا من ذلك ، وما لا يكون قابلا لذلك يجب حمله على التقيّة التي هي الأصل في اختلاف الأخبار.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣.

(٢) من «ع».

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٥ / ١١٧٠ ، الاستبصار ٣ : ١٥٨ / ٥٧٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٦٤ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٠ ، ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ـ ١٢٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٩ ، ٣٥ ، ٣٧.

٢٣٢

ويؤيّد ذلك شهرة الحكم بالقول المشهور بين الأصحاب سلفا وخلفا ، كما سمعت من صحيحة منصور بن حازم (١) وما أوضحناها به في ذيلها.

وأمّا نسبة هذا القول إلى الصدوق ـ كما ذكره في (المختلف) (٢) ـ ففيه ما عرفت ، ويؤيّده أنه قال في (المقنع) : (إذا تزوّج البنت فدخل بها أو لم يدخل فقد حرمت عليه الامّ. وقد روي أنّ الامّ والبنت في هذا سواء ، إذا لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى) (٣). فأفتى فيه بما هو المشهور ، ونسب القول الآخر إلى الرواية ، ومن المعلوم من حاله أن فتواه لا يختلف في الأحكام في كتبه كغيره من المجتهدين.

وبالجملة ، فهو قرينة ظاهرة فيما قلناه ويعضد أخبار القول المشهور موافقتها للاحتياط الذي هو أحد المرجّحات المنصوصة عند التعارض كما تضمنته مرفوعة زرارة (٤) ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور ، وأنه المؤيد المنصور.

وأمّا من استشكل في هذه المسألة من المحقّقين المتقدّمين ، فإن منشأ ذلك بالنسبة إلى أوّلهما أنه حيث كان من أرباب هذا الاصطلاح المحدث ، ولا يعمل [بشي‌ء] من الأخبار إلّا على الصحيح أو الحسن ، وأخبار القول المشهور ضعيفة باصطلاحه ، وما قابلها صحيح عنده ، لكن حيث إن الشهرة بين الأصحاب في جانب الأخبار الضعيفة ، حصل له الإشكال والتوقف ؛ لمعارضة صحّة روايات القول الآخر بهذه الشهرة المعتضدة بهذه الأخبار.

وهذا الإشكال مفروغ منه (٥) عندنا ؛ حيث إنه لم يقم لنا دليل على صحّة هذا

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٢ / ٤ ، باب ما يحرم على الرجل ممّا نكح ابنه .. ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٧٤ / ١١٦٩ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٦٢ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٢٠ ، ح ١.

(٢) مختلف الشيعة ٧ : ٤٨ / المسألة : ١٣.

(٣) المقنع : ٣١٢.

(٤) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٥) من «ح».

٢٣٣

الاصطلاح ، بل الأدلّة قائمة على أنه إلى الفساد أقرب من الصلاح ، كما تقدّم بيانه في بعض درر هذا الكتاب.

وأمّا ثانيهما ، فإنه قال : (ويمكن ترجيح قول ابن أبي عقيل بأصالة الحلّ ، وقول عليه‌السلام : «وكل شي‌ء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه» (١). وظاهر (الكتاب) لا يأباه ، بحيث إن الخبر المخالف له يعدّ مخالفا لـ (الكتاب) المخالفة الموجبة للرّد ، واحتمال أخبار إطلاق التحريم شدّة الكراهة المقتضي للجمع بين الأخبار الذي هو أولى من العمل بها المقتضي لطرح أخبار الجواز أصلا ورأسا.

والمسألة قويّة الإشكال جدّا).

ثم ساق الكلام إلى أن قال : (وهذه المسألة من المعضلات المأمور فيها بالإرجاء حتّى يظهر الحق) انتهى كلامه ، علا مقامه.

وفيه نظر من وجوه :

الأوّل : أن أصالة الحلّ التي استند إليها ممّا يجب الخروج عنها بعد قيام الدليل على خلافها ، والدليل من (الكتاب) والسنّة موجود كما أوضحناه آنفا.

الثاني : أن ما استند إليه من الخبر مردود بأن الظاهر أن أفراد هذه الكليّة إنما هي معروضات الحكم الشرعي لا نفس الحكم الشرعي ، كما تقدّم إيضاحه في الدرّة (٢) التي في بيان جملة من القواعد المشار إليها في قولهم عليهم‌السلام : «علينا (٣) أن نلقي إليكم الاصول ..» (٤) الحديث.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤ ، وفيهما : كلّ شي‌ء هو لك ..

(٢) انظر الدرر ٢ : ٣٨٣ ـ ٤١٥ / الدرّة : ٤١.

(٣) في «ح» إن علينا.

(٤) السرائر (المستطرفات) ٣ : ٥٧٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٥٢.

٢٣٤

وحينئذ ، فأفراد هذه الكليّة إنّما هي الأفراد المعلوم حلّها ثم يعرض لها ما يوجب الشك في (١) التحريم ، فإنه يجب استصحاب الحكم بحلّها المعلوم أولا حتى يثبت التحريم ، فلا يكتفى في ذلك بالظنّ فضلا عن الشك. والغرض من ذلك بيان سعة الشريعة وسهولتها ودفع (٢) الوساوس الشيطانيّة.

وحينئذ ، فأفرادها الجهل بمعروض الحكم الشرعي ، لا أن (٣) أفرادها الجهل بالحكم الشرعي. ومن أحبّ الوقوف على تحقيق هذا المقام فليرجع إلى الدرّة المشار إليها ، وبذلك يظهر لك عدم اندراج موضع النزاع تحت القاعدة المذكورة.

الثالث : قوله : (وظاهر (الكتاب) لا يأباه) ، فإن فيه ما عرفت سابقا من الوجوه الدالة على بطلان حمل الآية على هذا المعنى ، فظهور هذه (٤) الآية في إباء هذا المعنى ممّا لا يستراب فيه ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيما ذكرناه ، وتأمّل بعين الإنصاف ما حرّرناه ، وبه تكون مخالفتها [موجبة] (٥) للردّ بلا ريب ولا إشكال.

الرابع : قوله : (واحتمال أخبار إطلاق التحريم شدّة الكراهة) ، فإنه بعيد غاية البعد عن سياق تلك الأخبار ، سيّما ما تضمّن منها تفسير الآية ، مع اعتضادها بظاهر الآية ، وعدم صراحة المخالف من الأخبار في المخالفة إلّا الرواية الأخيرة. وما تمسّك به من لزوم طرح المقابل متى عمل على أخبار التحريم مردود بما ذكرنا سابقا من أن الأخبار المقابلة منها ما ليس بصريح في المخالفة ، بل يمكن حمله على تلك الأخبار ، وما [منها] كان صريحا أو ظاهرا يمكن

__________________

(١) الشك في ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : ورفع.

(٣) في «ح» : لأنّ.

(٤) ليست في «ح».

(٥) في النسختين : موجبا.

٢٣٥

حمله على التقيّة فلا يلزم طرحه بالكلّية.

وبالجملة ، فأخبار التحريم مع صراحتها مؤيّدة بـ (القرآن) والشهرة والاحتياط ، فيجب العمل بها بلا إشكال ، والله العالم بحقائق الأحوال (١).

__________________

(١) في «ح» : الامور.

٢٣٦

(٥٦)

درّة نجفية

في المعاد الجسماني

روى الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (من لا يحضره الفقيه) عن عمّار الساباطي أنه قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الميّت هل يبلى جسده؟ قال : «نعم ، حتى لا يبقى لحم ولا عظم ، إلّا طينته التي خلق منها ؛ فإنّها لا تبلى (١) ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق (٢) أوّل مرّة» (٣).

أقول : هذا الخبر ممّا يدلّ بظاهره على أن إعادة المعدوم إنما هي عبارة عن إيجاده بعد انعدامه ـ كما هو أحد القولين (٤) في المسألة ـ لا تأليف أجزائه وجمعها بعد تفرّقها كما هو القول الآخر (٥). وتفصيل الكلام في ذلك مذكور في مطوّلات العلماء ، إلّا إنّا نشير هنا إلى نبذة من القول في ذلك ، فنقول : اختلف العلماء في المعاد الجسماني هل هو عبارة عن إيجاد العالم بعد فنائه ، أو جمعه بعد تفرّقه؟ فأكثر متكلّمي الإمامية (٦) على الثاني ، والظواهر من الطرفين متعارضة وإن كان ما يدلّ على الثاني أكثر. واستدلّ على القول الأوّل بوجوه (٧) :

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : خلقها.

(٣) الفقيه ١ : ١٢١ / ٥٨٠.

(٤) أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٩١.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) قواعد المرام : ١٤٩ ، أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٩١.

(٧) مناهج اليقين : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، شرح المقاصد ٥ : ١٠٠ ـ ١٠١.

٢٣٧

أحدها : قوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١) ، أي في الوجود ، ولا يتصوّر ذلك إلّا بانعدام ما سواه ، وليس بعد القيامة ـ وفاقا ـ فيكون قبلها.

واجيب بأنه يجوز أن يكون المعنى هو مبدأ كلّ موجود وغاية كل مقصود ، أو المتوحّد في الالوهيّة أو صفات الكمال ، كما إذا قيل لك : هذا أوّل من زارك أم آخرهم؟ فتقول : هو الأول والآخر ، وتريد أنه لا زائر سواه.

وبالجملة ، فإنه ليس المراد أنه آخر كلّ شي‌ء بحسب الزمان ؛ للاتفاق على أبديّة الجنّة ومن فيها.

وثانيها : قوله عزوجل (كُلُّ شَيْ‌ءٍ هالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ) (٢) ، فإن المراد بالهلاك : الانعدام.

واجيب بأن المعنى أنه هالك في حدّ ذاته ؛ لكونه ممكنا لا يستحق الوجود إلّا بالنظر إلى العلّة ، أو المراد بالهلاك : الموت ، كما في قوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) (٣). أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله ، كما يقال : هلك الطعام ، إذا لم يبق صالحا للأكل وإن صلح لمنفعة اخرى.

وثالثها : قوله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٤) ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٥) ، والبدء من العدم ، فكذا العود. وأيضا إعادة الخلق بعد إبدائه لا يتصوّر بدون تخلل العدم.

وأجيب بأنا لا نسلّم أن المراد بإبداء الخلق : الإيجاد والإخراج عن العدم ، بل : الجمع والتركيب ، كما يشعر به قوله تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٦) ، ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا ، كقوله سبحانه (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ

__________________

(١) الحديد : ٣.

(٢) القصص : ٨٨.

(٣) النساء : ١٧٦.

(٤) الروم : ٢٧.

(٥) الأنبياء : ١٠٤.

(٦) السجدة : ٧.

٢٣٨

الْخَلْقَ) (١) ، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٢).

ورابعها : قوله عزوجل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٣) ، والفناء هو العدم.

واجيب بالمنع ، بل هو خروج الشي‌ء عن الصفة التي ينتفع به عندها ، كما يقال : فني زاد القوم ، وفني الطعام والشراب. وكذا يستعمل في الموت ، مثل (أفناهم الحرب).

وقيل : معنى الآية : كلّ من على وجه الأرض من الأحياء فهو ميّت (٤).

قال الإمام الرازي : (لو سلّمنا أن الفناء والهلاك بمعنى العدم فلا بدّ في الآيتين من تأويل ؛ إذ لو حملناهما على ظاهرهما لزم كون الكلّ هالكا فانيا في الحال ، وليس كذلك. وليس التأويل بكونه آئلا إلى العدم ـ على ما ذكرتم ـ أولى من التأويل بكونه قابلا) (٥).

وأنت خبير بأن هذا الكلام مبنيّ على ما صرّح به أئمّة العربية من كون اسم الفاعل ونحوه مجازا في الاستقبال ، وأنه لا بدّ من الاتصاف بالمعنى المشتقّ منه.

وإنّما الخلاف في أنه هل يشترط بقاء ذلك المعنى؟ وقد تقدّم تحقيق ذلك في بعض درر هذا الكتاب.

وقد توهّم صاحب (التلخيص) (٦) بأنّه كالمضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، فاعترض بأن حمله على الاستقبال ليس تأويلا وصرفا عن الظاهر. وفيه ما عرفت.

وخامسها : الخبر المذكور ، حيث صرّح بأنّه يبلى جسده «حتّى لا يبقى لحم ولا عظم».

__________________

(١) العنكبوت : ١٩.

(٢) العنكبوت : ٢٠.

(٣) الرحمن : ٢٦.

(٤) بحار الأنوار ٦ : ٣٣٤ / ذيل الحديث : ١٦.

(٥) المحصل : ٥٦٠ ـ ٥٦١.

(٦) تلخيص المحصّل : ٣٩٦.

٢٣٩

وأجاب عنه بعض مشايخنا المعاصرين بأن الإبلاء لا يستلزم العدم ؛ فإن العرب يقولون : بلي الثوب ، يعني : خلق ، وخلق) بمعنى بلي ، فلا يكون الإبلاء (١) إلّا تفرّق الأجزاء وتبدّدها لا عدمها بالمرّة. انتهى.

أقول : الظاهر بعده ؛ فإنه لو كان كذلك للزم مثله في الطينة ، فإنّها تتفرّق أيضا ، مع أنه عليه‌السلام استثناها من البلى ، فالأظهر أن البلى إنّما هو بمعنى الانعدام كما هو ظاهر الخبر ؛ ليتمّ استثناء الطينة من ذلك.

وسادسها : ما رواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن هشام بن الحكم ، في حديث الزنديق الذي سأل الصادق عليه‌السلام عن مسائل ـ وهو طويل ـ حيث قال فيه : أيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه ، أم هو باق؟ قال : «بل هو باق إلى وقت (٢) ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة بين النفختين» (٣). والتأويل ممكن وإن بعد (١).

وسابعها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه المنقولة عنه في كتاب (نهج البلاغة) ؛ «هو المفني [لها] بعد وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتدائها بأعجب من إنشائها واختراعها».

__________________

(١) أقول : يفهم من هذا الخبر بطلان عالم البرزخ [..] (١) ؛ لأن الروح بعد الموت تصير في العالم البرزخي في قالب كقالبه في الدنيا ، يتنعمون ويجلسون ويأكلون ويشربون ، كما صرّحت به الأخبار (٢). وهذا الخبر يدل على بقاء الروح إلى يوم النفخ في الصور ، ثمّ بعد ذلك تبطل جميع الأشياء وتفنى. وقريب منه كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام المذكور بعده. ولم أقف على من تنبّه للتصريح بذلك في هذا المقام نفيا أو إثباتا ، والله العالم. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) في «ح» : البلاء هنا ، بدل : الإيلاء.

(٣) في «ح» بعدها : يوم.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٢٤٥ / ٢٢٣.

__________________

١ ـ كلمتان غير مقروءتين.

٢ ـ انظر الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٦ ، باب آخر في أرواح المؤمنين.

٢٤٠