الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

كان عليها من المفارقة الواقعة قبل طلب عيسى عليه‌السلام؟

فعلمنا من ذلك كلّه أنّ سؤال عيسى وإجابة يحيى عليهما‌السلام وخروجه كلّ ذلك إمّا في عالم الأرواح ، أو عالم المثال. وحينئذ ، فلا يتحقّق التنافي بين الحديثين.

وهذا ما وعدنا به سابقا من قولنا : كما يظهر لك أخيرا ، والله أعلم بالصواب.

وفي الحديثين بحث طويل لا يسع المقام ذكره ، والسلام عليكم.

والمأمول من الألطاف الأحمدية ـ دامت فيوضها ـ أن يجري العبد الكاتب دائما على صفحات باله الشريف وخياله المقدّس

المنيف ، خصوصا عند ظهور لوامع إشراقاته وتأرج نفحات أنفاسه. كتب المحب ـ أقل عباده علما وعملا ـ أحمد بن عبد السلام البحراني) انتهى.

أقول : وهذا الشيخ المجيب كان من أجلّاء فضلاء بلاد البحرين ، وكان هو الخطيب لشيخنا علّامة الزمان الشيخ علي بن سليمان القدمي البحراني يوم الجمعة ؛ لأنه كان خطيبا مصقعا (١) ، وكان الشيخ بعد فراغه من الخطبة يحتاط بالإتيان بخطبة خفيفة ، كما سمعته من والدي ، قدّس الله نفسه ونوّر رمسه.

ثمّ أقول : لا يخفى أن الأخبار الواردة في هذا المقام بالنسبة إلى عيسى ويحيى عليهما‌السلام لا تخلو من تدافع وتناقض لا يكاد يرجى به الالتئام ، وها أنا أنقل لك جملة ما وقفت عليه من الأخبار في هذا الباب ، فمنها ما في كتاب (تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام) ـ في حديث طويل ـ قال : «وأمّا الحسن والحسين [فـ] سيّدا شباب أهل الجنّة ، إلّا ما كان [من] ابني الخالة عيسى ويحيى».

إلى أن قال عليه‌السلام : «قال الله عزوجل (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) يعني نادت زكريا (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) (٢) ، قال :

__________________

(١) مصقع : بليغ. الصحاح ٣ : ١٢٤٤ ـ صقع.

(٢) آل عمران : ٣٩.

٣٨١

(مُصَدِّقاً) ، يعني يصدّق يحيى بعيسى. قال : وكان أوّل تصديق يحيى بعيسى أن زكريا كان لا يصعد إلى مريم في تلك الصومعة غيره ، يصعد إليها بسلّم ، فإذا نزل قفل عليها الباب (١) ، ثمّ فتح لها من فوق الباب كوّة صغيرة يدخل منها الريح. فلمّا وجد مريم وقد حبلت ، ساءه ذلك وقال في نفسه : ما كان يصعد إلى هذه أحد غيري وقد حبلت ، الآن أفتضح في بني إسرائيل ، لا يشكّون أنّي أحبلتها. فجاء إلى امرأته فقال لها ذلك ، فقالت : يا زكريا لا تخف ؛ فإنّ الله لا يصنع بك إلّا خيرا ، وأتني بمريم أنظر إليها وأسألها عن حالها ، فجاء بها زكريا إلى امرأته.

فكفى الله مريم الجواب عن السؤال ، فإنّها دخلت إلى اختها ـ وهي الكبرى ومريم الصغرى ـ فلم تقم إليها امرأة زكريا ، فأذن الله ليحيى وهو في بطن أمّه ، فضرب بيده في بطنها وأزعجها ، ونادى بأنّه تدخل إليك سيّدة نساء العالمين مشتملة على سيد رجال العالمين ، فلا تقومين إليها؟ فانزعجت وقامت إليها ، وسجد يحيى وهو في بطن امّه لعيسى بن مريم ، فذلك أول تصديقه له» (٢) الحديث.

قال أمين الإسلام الطبرسي في كتاب (مجمع البيان) ـ في تفسير قوله عزوجل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ـ : أي مصدقا بعيسى عليه‌السلام ، وعليه جميع المفسرين وأهل التأويل).

إلى أن قال : (وكان يحيى أكبر سنّا من عيسى عليهما‌السلام بستة أشهر ، وكلّف التصديق به ، فكان أوّل من صدّقه وشهد أنه كلمة الله وروحه) (٣) انتهى.

أقول : وفي هذا الخبر ما يؤيد ما ذكره قدس‌سره.

ومنها ما رواه الصدوق في (إكمال الدين وإتمام النعمة) عن محمد بن علي بن

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٥٩ ـ ٦٦١ / ٣٧٤.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٦١.

٣٨٢

موسى عن أبيه عن آبائه عن الحسين عليهم‌السلام ، في حديث طويل قال فيه : واشتدت البلوى على بني إسرائيل حتّى ولد يحيى بن زكريا عليه‌السلام وترعرع ، فظهر وله سبع سنين ، فقام في الناس خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ، وأخبرهم أن محن الصالحين إنّما كانت لذنوب بني إسرائيل وأنّ العاقبة للمتّقين ، ووعدهم الفرج بقيام المسيح عليه‌السلام بعد نيف وعشرين سنة من هذا القول. فلمّا ولد المسيح أخفى الله عزوجل ولادته وغيّب شخصه ؛ لأن مريم لمّا حملته انتبذت به مكانا قصيّا. ثمّ إنّ زكريا وخالتها أقبلا يقصان أثرها حتّى هجما عليها ، وقد وضعت ما في بطنها ، وهي تقول : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فأطلق الله تعالى ذكره لسانه بعذرها وإظهار حجتها» (١) الحديث.

وظاهر هذا الحديث ـ كما ترى ـ هو تقدّم ولادة يحيى على عيسى عليهما‌السلام بمدة مديدة ؛ لأنه عليه‌السلام وقت خطبته كان ابن سبع سنين وعيسى عليه‌السلام لم يولد يومئذ ، وإنّما وعدهم بقيامه بعد نيف وعشرين سنة من وقت ذلك القول. وظاهر الخبر الأول ـ كما حكينا عن أمين الإسلام ـ أن يحيى عليه‌السلام إنّما كان أكبر سنّا من عيسى عليه‌السلام بستة أشهر. وكيف كان ، فالخبر صريح في أنّهما حال دخول مريم عليها‌السلام على أختها فالحمل في بطن كلّ منهما.

ومنها ما رواه الصدوق في (الفقيه) مرسلا قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ رجلا جاء إلى عيسى بن مريم عليه‌السلام فقال : يا روح الله ، إني زنيت فطهّرني ، فأمر عيسى أن ينادى في الناس لا يبقى أحد إلّا خرج لتطهير فلان ، فلمّا اجتمع واجتمعوا [وصار] (٢) الرجل في الحفرة نادى [الرجل] (٣) : لا يحدّني من لله تعالى في جنبه حدّ. فانصرف كلّهم إلّا يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، فدنا منه يحيى فقال له : يا مذنب عظني. فقال : لا تخلّين بين نفسك

__________________

(١) كمال الدين : ١٥٨ / ١٧.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : فصار.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : مناد.

٣٨٣

وهواها فتردى. قال : زدني. قال : لا تعيّرن خاطئا بخطيئته. قال : زدني. قال : لا تغضب. قال : حسبي» (١).

وفي هذا الخبر ـ كما ترى ـ دلالة صريحة على اصطحابهما عليهما‌السلام في أيام الحياة ، وربّما أشعر هذا الخبر بعدم وجود زكريا عليه‌السلام يومئذ.

ومنها ما رواه في (الكافي) في باب : حالات الأئمّة عليهم‌السلام في السنّ ، رواه في الصحيح عن يزيد الكناسي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : أكان عيسى بن مريم عليه‌السلام حين تكلّم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال : «كان يومئذ نبيّا حجة الله غير مرسل ، أما تسمع لقوله حين قال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٢)؟». قلت : وكان يومئذ حجة الله على زكريا عليه‌السلام في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال : «كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلّم فعبّر عنها ، وكان نبيّا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان ، وكان زكريا الحجة لله عزوجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين ، ثمّ مات زكريا ، فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبيّ صغير ، أما تسمع لقول الله عزوجل (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٣) فلمّا بلغ عيسى سبع سنين تكلّم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله إليه ، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين» (٤) الحديث.

أقول : ظاهر هذا الخبر ، بل صريحه أن زكريا عليه‌السلام مات قبل يحيى ، وأن يحيى عليه‌السلام ورث منه الكتاب الذي هو (التوراة) وهو صبي إلى أن بلغ عيسى عليه‌السلام

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤ / ٥٣.

(٢) مريم : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) مريم : ١٢.

(٤) الكافي ١ : ٣٨٢ / ١ ، باب حالات الأئمّة عليهم‌السلام.

٣٨٤

سبع سنين. والمشهور المذكور في القصص والتواريخ ـ بل الظاهر أنه مرويّ أيضا ـ أن يحيى عليه‌السلام قتل في زمن أبيه.

ويعضده ما رواه الصدوق في كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة) في حديث أحمد بن إسحاق وسعد بن عبد الله ، وجواب صاحب الزمان عليه‌السلام وهو صبي ـ وهو طويل ـ قال فيه : قلت : فأخبرني يا بن رسول الله عن تأويل (كهيعص) (١). قال : «هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله عليها عبده زكريا ، ثمّ قصّها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أن زكريا عليه‌السلام سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إياها ، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليّا وفاطمة والحسن سرى عنه همّه وانجلى كربه ، وإذا ذكر الحسين عليه‌السلام خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة ، فقال ذات يوم : إلهي ، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصّته فقال (كهيعص). فالكاف : اسم كربلا ، والهاء : هلاك العترة ، والياء : يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره.

فلمّا سمع بذلك زكريا عليه‌السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيها الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكانت ندبته : إلهي ، أتفجع خير خلقك بولده؟ إلهي أتنزل بلوى هذه المصيبة بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟

ثمّ كان يقول : اللهمّ ارزقني ولدا تقرّ به عيني عند الكبر واجعله وارثا وصيا ، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين عليه‌السلام ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ، ثم افجعني به كما فجعت محمدا حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى عليه‌السلام وفجعه به ، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين عليه‌السلام كذلك» ـ وله قصة طويلة (٢) ـ إلى آخر الحديث.

__________________

(١) مريم : ١.

(٢) كمال الدين : ٤٦١ / ٢١.

٣٨٥

فإن ظاهر الخبر أنّ الفجيعة به كانت في حياة أبيه ، ولا ينافيه قوله : «وارثا وصيا» ؛ لإمكان الحمل على جعله من أصحاب هذه المرتبة ، إلّا إن تطرّق الحمل على كون الفجيعة بعد الموت ممكن قياسا على فجيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسين عليه‌السلام.

وقد يؤيّد (١) ما دلّ عليه الخبر المتقدم بظاهر قوله عزوجل حكاية عن زكريا عليه‌السلام (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي) (٢) ، ولا سيّما على القراءة المشهورة وهي رفع (يَرِثُنِي) وما بعده ، فإنه يتعيّن كونه صفة الولي المسؤول ، ويلزم على تقدير موت يحيى قبله عدم استجابة دعائه عليه‌السلام ، مع أن ظاهر قوله (إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) (٣) ـ إلى آخره ـ دال على الاستجابة.

وكذا تتحقق الدلالة في الجملة على قراءة الكسائي وابي عمرو البصري ، وهو جزم (يَرِثُنِي) ، خلافا لجماعة (٤) ، وذلك لأنّ الفعل حينئذ جواب الدعاء ، وظاهر أنّه يفهم من ذكر الجواب بعد السؤال على النحو المذكور [أنّ] المسؤول هو الولي الوارث. وهذا هو قضية السياق كما لا يخفى على أرباب الأذواق.

ومنها ما رواه الصدوق في (الفقيه) (٥) و (الأمالي) (٦) ، وفيه : «وأوصى آصف إلى زكريا ، ودفعها زكريا إلى عيسى عليه‌السلام ، وأوصى عيسى إلى شمعون بن (٧) حمون الصفا ، وأوصى شمعون إلى يحيى بن زكريا».

وهذا الخبر هو الذي أشار إليه السائل المتقدّم ذكره ، وهو ظاهر في كون زكريا قد دفع الوصية إلى عيسى عليه‌السلام ، مع أن ظاهر صحيحة الكناسي المتقدمة أنه إنّما دفعها إلى يحيى عليه‌السلام ، وأن يحيى عليه‌السلام بعد أن بلغ عيسى عليه‌السلام سبع سنين فوّضها إليه ،

__________________

(١) في «ح» : يؤكد.

(٢) مريم : ٥ ـ ٦.

(٣) مريم : ٧.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٦٤٧.

(٥) الفقيه ٤ : ١٢٩ / ٤٥٣.

(٦) الأمالي : ٤٨٧ ـ ٤٨٨ / ٦٦١.

(٧) شمعون بن ، من «ح».

٣٨٦

لأنّ ظاهر سياق الخبر المذكور أن عيسى عليه‌السلام بعد أن صمت كان الحجة على الناس زكريا عليه‌السلام ، ثمّ مات زكريا عليه‌السلام فورثه ابنه يحيى عليه‌السلام الكتاب والحكمة ، ولا معنى لميراثه الكتاب والحكمة إلّا الوصية ، وأن عيسى عليه‌السلام بقي صامتا إلى أن بلغ سبع سنين (١) ، ثمّ كان بعد ذلك الحجة على يحيى عليه‌السلام وعلى الناس أجمعين.

ولا يخفى ما بين الخبرين من المدافعة والمنافاة ، ويمكن حمل دفع زكريا عليه‌السلام إلى عيسى عليه‌السلام في حديث الصدوق بكون دفعه بواسطة يحيى عليه‌السلام كما في خبر الكناسي ، وأنّ شمعون عليه‌السلام دفعها مرة اخرى إلى يحيى عليه‌السلام. هذا غاية ما يمكن الجمع به بين الخبرين المذكورين.

بقي الكلام في المدافعة التي بين حديث الصدوق المذكور وبين خبر (الكافي) الدال على طلب عيسى عليه‌السلام لإحياء يحيى عليه‌السلام بعد قتله ، ولا مناص عن الجواب بما ذكره الشيخ المتقدم ذكره وإن كان فيه ما فيه.

__________________

(١) من «ح».

٣٨٧
٣٨٨

(٦٦)

درة نجفية

في وضع الأحاديث زمن معاوية

قال الشيخ عز الدين بن أبي الحديد المعتزلي في كتاب (شرح نهج البلاغة) في الجزء الحادي عشر : (روى أبو الحسن (١) علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب (الأحداث) قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليا عليه‌السلام ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة من (٢) فيها من شيعة علي عليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن [سمية] (٣) وضمّ إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة ، وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم من العراق فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية ـ لعنه الله ـ إلى عماله في جميع الآفاق ألّا يجيزوا لشيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل

__________________

(١) في النسختين بعدها : المدائني ، وما أثبتناه وفق المصدر.

(٢) من «ح» المصدر ، وفي «ق» : ما.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : امية.

٣٨٩

ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إلي بكلّ ما يروي كل رجل منهم وباسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع ، في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا.

ثمّ كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وائتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري في هذا المجرى ، حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقي إلى معلّمي [الكتاتيب] (١) فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون (القرآن) ، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنه من شيعة علي وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة اخرى : من اتهمتموه بموالاة القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما الكوفة ، حتّى إن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ،

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : الكتاب.

٣٩٠

ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلّظة ليكتمن عليه.

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء ، والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القرّاء المراؤون المستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل. حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان ، فرووها وهم يظنّون أنّها حق ، ولو علموا أنّها باطل لما رووها ولا تديّنوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن ، فازداد البلاء والمحنة فلم يبق أحد من هذه القبيلة إلا [وهو] خائف على دمه وطريد في الأرض. ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ، وولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة ، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح ببغض علي بن أبي طالب وموالاة أعدائه ، فأكثروا في الرواية من فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، [وأكثروا] (١) من النقص من علي بن أبي طالب (٢) وعيبه والطعن فيه والشنآن له ، حتى إن إنسانا وقف للحجاج ـ ويقال : إنه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به :

أيها الأمير ، إن أهلي عقّوني فسمّوني عليا ، وإني فقير بائس ، وإني إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج ـ لعنه الله ـ وقال : للطف ما توسلت به قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني امية ؛ تقرّبا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنف بني

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» فأكثروا.

(٢) وموالاة أعدائه .. أبي طالب ، من «ح» والمصدر.

٣٩١

هاشم) (١) انتهى كلام ابن أبي الحديد بحروفه وألفاظه.

أقول : انظر إلى هذا الخبر بعين البصيرة ، وتأمّل فيما اشتمل عليه بمقلة غير حسيرة ، يظهر لك ما فيه من العجائب والغرائب التي لا تخفى على الموفق (٢) الصائب. وقد روي نظيره من طريق الشيعة أيضا كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وحينئذ ـ وهو متفق عليه بين الفريقين ـ فلا مجال للطعن فيه.

كيف كان ، فلا بدّ من الإشارة إلى ما في الخبر من الفوائد ؛ فمنها أن فيه ردّا لما ادّعاه جملة من علماء القوم وصرّحوا به من أن مذهب الشيعة لا أصل له قديما ، وإنّما أحدثه ابن الراوندي وهشام بن الحكم ونحوهما من المتأخّرين عن العصر الأوّل ، وما صرّح به الشارح ابن أبي الحديد في (شرح النهج) (٣) من أن المراد بالشيعة في الأخبار التي وردت من طرق أهل السنة بتفضيل (٤) الشيعة ومدحهم ، إنّما هم التفضيلية ، أي القائلين بتفضيل علي بن أبي طالب عليه‌السلام على من تقدّمه ، مع قولهم بإمامة المتقدّمين ، كما هو مذهب جملة من المعتزلة ، منهم الشارح المذكور (٥) ، فإنه لو صحّ ما يدّعونه ، فأي وجه يحمل عليه فعل معاوية وبني امية بالشيعة من هذه الأفعال الشنيعة ، والمجاهرة ببغض علي عليه‌السلام وأهل بيته وسبّهم وثلبهم؟! وهذا بحمد الله ظاهر لا يستره ساتر.

ومنها الدلالة على ما كان عليه معاوية وبنو اميّة من التظاهر ببغض علي وأولاده وأهل بيته ، مع ما ورد في حقهم بروايات أهل السنّة المتفق عليها : أن حب علي إيمان ، وبغضه كفر ونفاق (٦) ، وهي مستفيضة ، مع أن معاوية وبني أميّة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) في «ح» بعدها : المصيب.

(٣) شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ١ : ٧ ـ ٩.

(٤) في «ق» بعدها : أهل ، وما أثبتناه وفق «ح».

(٥) شرح نهج البلاغة ١ : ٩.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ٢٩٢ ، صحيح مسلم ١ : ٨٤ / ١٣١.

٣٩٢

من الخلفاء والأئمّة في الدين عندهم.

ويعضد هذا الخبر ما اتفق عليه أهل السير من مضي معاوية وبني أمية على سب علي عليه‌السلام على المنابر ثمانين [سنة] (١) إلى أن قطعه عمر بن عبد العزيز (٢) ، فانظر في هذه الامور التي يضيق لها متسع الصدور.

ومنها ما كشف عن أحوال أهل السنّة يومئذ من العلماء القضاة والخطباء وأصحاب النسك والورع والولاة ، فضلا عن الرعاة ، من أنّهم باعوا إيمانهم على معاوية بأبخس الأثمان بما سارعوا إليه من إحداث الزور والبهتان ، مع قرب العهد ومعرفتهم بما عليه أهل البيت من الفضائل التي دوّنها متأخرو علمائهم في شأن أهل البيت ، كلّ ذلك في طمع حب الدنيا الدنية. فهذه أحوال السلف منهم الذين قد اتفق من تأخّر عنهم على أخذ الدين عنهم ، ومنعوا من الطعن فيهم والذم لهم ، وجعلوا أقوالهم وأفعالهم حججا شرعية يتعبدون بها ، ويقابلون الله تعالى بها ، نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وقبائح أعمالنا.

ومنها أنه إذا كانت هذه الأخبار الموضوعة في حق الخلفاء الثلاثة والصحابة قد بلغت هذا المبلغ في الكثرة وشاعت هذا الشياع ، حتى انتقلت إلى الديانين الذين لا يستحلّون الكذب ، فتديّنوا بها وصنّفوها في كتبهم وضبطوها واعتنوا بها وصححوها ، واستمرت على هذا الحال الأعصار خلفا بعد سلف في جملة الأمصار ، فلو أن خصماءهم قالوا لهم : إنّه ليس لأولئك الخلفاء والأصحاب شي‌ء من الفضائل والممادح ، وكلّ ما تروونه فإنّما هو من هذا البحر الاجاج المالح ، فأنّى لهم بالجواب؟

ولو ادعوا أن تزوير بني أميّة أخبارا في فضائل الخلفاء والصحابة لا يقتضي ألّا يكون لهم فضائل سواها.

__________________

(١) في النسختين : شهرا.

(٢) تاريخ الخميس ٢ : ٣١٧.

٣٩٣

قيل لهم : ميّزوا لنا الصادق منها من الكاذب ، والصحيح من العاطب ، ليتمّ لكم الاستدلال بها على ما أردتم من المطالب. وكيف وأنى ومتى ، وخبركم هذا قد صرّح بما صرّح ، وأفصح بما أفصح؟

وغاية ما يمكن معرفته عند من أنصف منهم بعض الإنصاف ، وساعف إلى الرجوع إلى الحق بعض الإسعاف هو معرفة بعض الأخبار المشتملة على الغلو في تفضيل بعض اولئك الخلفاء ، كما اعترف به الفيروزآبادي صاحب (القاموس) في كتاب (سفر السعادة) ، حيث قال : (أشهر المشهورات من الموضوعات أن الله يتجلّى للناس عامة ، ولأبي بكر خاصّة ، وحديث : «ما صب الله في صدري شيئا إلّا صببته في صدر أبي بكر» ، وحديث : «أنا وأبو بكر كفرسي رهان» ، وحديث : «إنّ الله لمّا اختار الأرواح اختار روح أبي بكر» ، وأمثال هذا من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل).

وقال أيضا في الكتاب المذكور : إنه لم يصحّ في صلاة الضحى حديث (١).

وقال أيضا في حديث الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر : (إنّه لم يصح فيه شي‌ء) (٢) انتهى.

وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني في كتاب (الدر الملتقط) : (من الموضوعات ما زعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الله يتجلّى للخلائق يوم القيامة عامة ، ويتجلّى لك يا أبا بكر خاصة» ، وأنه قال : «حدّثني جبرئيل عليه‌السلام قال : إنّ الله لمّا خلق الأرواح اختار

__________________

(١) صرّح في الموضع المذكور : ٢٨٢ بأن ذلك في صلاة التسبيح وأنها لم يصح فيها حديث ، أما صلاة الضحى فقد عقد لها بابا نقل فيه أحاديث من صحاح أهل السنة وسننهم ، ولم يشر إلى ضعف هذه الأحاديث كما هي عادته في الإشارة إلى ذلك في بقية الأبواب. انظر سفر السعادة : ٦٩ ـ ٧٣.

(٢) سفر السعادة : ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، ٢٨٢.

٣٩٤

روح أبي بكر من بين الأرواح» (١)) ، وأمثال ذلك كثير.

ثم قال : (وأنا أنتسب إلى عمر وأقول فيه الحق ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قولوا الحق ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» (٢) ، فمن الموضوعات ما روي أن أوّل من يعطى كتابه بيمينه عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ، قيل : وأين أبو بكر؟ قال : سرقته الملائكة. ومنها : «من سبّ أبا بكر وعمر قتل ، ومن سب عليا وعثمان جلد الحد». إلى غير ذلك من الأحاديث المختلفة).

ثمّ ساق جملة من الأحاديث الموضوعة من غير هذا الباب ، مثل حديث (٣) «زر غبّا تزدد حبّا» ، ونحو ذلك.

واعترف الفاضل ابن أبي الحديد في (شرح النهج) : بأنّ حديث : «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر» وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، وأنّ حديث سدّ الأبواب كان لعلي عليه‌السلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر ، وحديث : «ايتوني بدواة وبيضاء (٤) لأكتب لأبي بكر [كتابا] لا يختلف عليه اثنان». ثمّ قال : «يأبى الله والمسلمون إلّا أبا بكر» وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه «ايتوني بدواة وبيضاء (٥) أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبدا» ، فاختلفوا عنده. ونحو حديث :

__________________

(١) المصدر غير موجود لدينا ، لكن ذكر محمد بن حبان في المجروحين : ١٤٣ ، أن راويه أحمد بن محمد اليمامي ، وهو يروي أشياء مقلوبة ، وذكر أنه لا يعجبه الاحتجاج بما ينفرد به. وكذا ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه ٢ : ٣٨٨ مشيرا إلى أنه حديث موضوع وضعه محمد بن عبد بن عامر سندا ومتنا ، وذكر أن له أحاديث مشابهة تدل على سوء حاله. كما ذكره كل من ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ١ : ٤٢٣ / ٨٤٧ والذهبي في ميزان الاعتدال ١ : ٢٨٧ / ٥٥٨ ، وأشارا إلى تجريح الدارقطني وابن عدي له ، ثم رويا الحديث المذكور أيضا.

(٢) شرح الكافي (المازندراني) ٢ : ٣٧٩ ، بحار الأنوار ٣٠ : ٤١٤ ، وقد أورداه ضمن نقلهما لنص كلام الصنعاني هذا.

(٣) من «ح».

(٤) في المصدر : بياض.

(٥) في المصدر : بياض.

٣٩٥

«أنا راض عنك ، فهل أنت عنّي راض» (١) انتهى.

وبذلك يظهر ما في المقام من الإشكال والداء العضال ، فأنّى لهم بإثبات حديث يدّعون صحّته لتقوم به الحجة على خصومهم ، والحال كما ترى؟

ويؤكد ما قلناه أيضا ما نقله ابن أبي الحديد في الشرح المتقدّم ، ذكره عن شعبة إمام المحدّثين ، أنه قال : تسعة أعشار الحديث كذب. وعن الدارقطني أنه قال : (ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).

روايات الخاصة في وضع الأحاديث

هذا ، وأما ما ورد من طريق الشيعة في هذا الباب فهو ما رواه سليم بن قيس في كتابه ـ وكان من أصحاب علي عليه‌السلام (٢) ـ في حديث طويل ، نحن ننقله بطوله لجودة محصوله : (أبان بن عياش عن سليم بن قيس وعمر بن أبي سلمة قالا : قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة ، فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، فسأل عن ذلك ، فقيل : إنّهم محتاجون ليس لهم دواب. فالتفت معاوية إلى قيس ابن سعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ، ما لكم لا تستقبلونني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس ـ وكان سيّد الأنصار وابن سيدهم ـ : أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم يكن لنا دواب. فقال معاوية : فأين النواضح؟ فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم احد وما بعدهما في مشاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون. قال معاوية : اللهم غفرا. قال قيس : أما إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «سترون بعدي إثرة».

ثمّ قال : يا معاوية تعيّرنا بنواضحنا ، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثمّ دخلت أنت

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٩.

(٢) من «ح».

٣٩٦

وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.

فقال معاوية : كأنكم تمنّون علينا بنصركم إيانا ، فلله ولقريش بذلك المن والطول ، ألستم تمنون علينا ـ يا معشر الأنصار ـ بنصركم رسول الله وهو من قريش ، وهو ابن عمنا ومنّا ، فلنا المن والطول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم الله بنا.

فقال قيس : إنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة وإلى الجن والإنس والأحمر والأسود والأبيض ، اختاره لنبوته واختصه لرسالته (١) ، فكان أول من صدّقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب ، وأبوه أبو طالب يذب عنه ويمنعه ، ويحول بين كفار قريش وبين أن يروّعوه ويؤذوه ، وأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب ، وأمر ابنه بموازرته ، فوازره ونصره وجعل نفسه دونه في كلّ شديدة (٢) وكلّ ضيق وكلّ خوف ، واختص الله عليا بذلك (٣) من بين قريش وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ، فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع بني عبد المطلب ، فيهم أبو طالب وأبو لهب ، وهم يومئذ أربعون رجلا ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخادمه علي عليه‌السلام ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر عمه أبي طالب ، فقال : «أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في امتي وولي كلّ مؤمن بعدي؟». فسكت القوم ، حتى أعادها ثلاثا ، فقال علي عليه‌السلام : «أنا يا رسول الله». فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه وقال : «اللهمّ املأ جوفه علما وفهما وحكما» ، ثمّ قال لأبي طالب : «اسمع الآن لابنك وأطع ، فقد جعله الله من نبيّه بمنزلة هارون من موسى». وآخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين علي وبين نفسه.

__________________

(١) في «ح» : برسالته.

(٢) في «ح» : شدة.

(٣) في «ح» : بذلك عليا.

٣٩٧

فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلّا ذكرها واحتج بها (١) ، وقال : منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين ، اختصه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم حمزة سيد الشهداء ، ومنهم فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. فإذا وضعت من قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وعترته الطيبين ، فنحن والله خير منكم يا معشر قريش ، وأحب إلى الله ورسوله إلى أهل بيته منكم. لقد قبض رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثمّ قالوا : نبايع سعدا ، فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته ، وخاصمونا بحقه وقرابته ، فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار أو ظلموا آل محمّد؟ ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام وولده من بعده.

فغضب معاوية وقال : يا بن سعد ، عمّن أخذت هذا؟ وعمّن رويته؟ وعمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم عليّ حقا من أبي. قال : من هو؟ قال : علي بن أبي طالب عالم هذه الامة وصدّيقها الذي أنزل الله فيه (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢) ، فلم يدع آية في علي إلّا ذكرها.

قال معاوية : فإن صدّيقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم (الكتاب) عبد الله بن سلام.

قال قيس : احقّ بهذه الأسماء الذي أنزل الله فيه (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٣) ، والذي نصبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم فقال : «من كنت (٤) أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه». وقال في غزوة تبوك : «أنت منّي بمنزلة

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) الرعد : ٤٣.

(٣) هود : ١٧.

(٤) في «ع» بعدها : مولاه ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

٣٩٨

هارون من موسى ، إلا إنّه لا نبي بعدي».

وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه ، وكتب بذلك نسخة إلى عمّاله : ألا برئت الذمة ممن يروي (١) حديثا في مناقب علي وأهل بيته. وقامت الخطبة على المنابر في كلّ مكان بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه ، والوقيعة في أهل بيته بما ليس فيهم.

ثم إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا إليه غير عبد الله بن العباس ، فقال : يا بن عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة عليّ بقتالي إياكم يوم صفين! يا بن عباس ، إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما.

قال ابن عباس : فعمر قتل مظلوما ، فسلّم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه. قال : إن عمر قتله مشرك. قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟ قال : قتله المسلمون. قال : فذلك أدحض لحجتك وأحلّ لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلّا بحقّ. قال : فإنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس ، واربع على ظلعك (٢).

قال : فتنهانا عن قراءة (القرآن)؟ قال : لا. قال : فتنهانا عن تأويله؟ قال : نعم.

قال : فنقرؤه ولا نسأل عما عنى الله به؟ قال : نعم. قال : فأيما أوجب قراءته أو العمل به؟ قال : العمل به قال : فكيف نعمل حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال : يسأل (٣) عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

قال : إنّما نزل (القرآن) على أهل بيتي ، فاسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس. قال : فقد عدلتني بهؤلاء ، فقال : لعمري ما

__________________

(١) في المصدر : روى.

(٢) في المصدر : نفسك ، ويراد به : ارفق على نفسك فيما تحاوله. والربع : الرفع ، والظلع : العرج.

لسان العرب ٨ : ٢٥٦ ـ ظلع.

(٣) في المصدر : سل.

٣٩٩

أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الامة أن يعبدوا الله بـ (القرآن) وما فيه من أمر أو نهي ، أو حلال أو حرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو محكم أو متشابه. وإن لم تسأل الامة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.

قال معاوية : فاقرؤوا (القرآن) ولا ترووا شيئا ممّا أنزل الله فيكم وما قال رسول الله ، وارووا ما سوى ذلك.

قال ابن عباس : قال الله تعالى في (القرآن) (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١).

قال معاوية : يا بن عباس ، اكفني نفسك وكفّ عني لسانك ، وإن كنت لا بدّ فاعلا فليكن سرا ، ولا يسمعه أحد علانية. ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم ، وفي رواية اخرى : مائة ألف درهم.

ثمّ اشتد البلاء بالأمصار كلّها على شيعة علي وأهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء أهل الكوفة ؛ لكثرة من بها من الشيعة ، واستعمل عليهم زيادا وضمّ إليه البصرة ، وجمع له العراقين ، وكان يتبع الشيعة وهو بهم عالم ؛ لأنه كان منهم قد عرفهم وسمع كلامهم أوّل شي‌ء ، فقتلهم تحت كلّ كوكب ، وتحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم حتى انتزحوا عن العراق ، فلم يبق أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.

وكتب معاوية إلى عماله وولاته في جميع الأرضين والأمصار ألّا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته ولا من أهل ولايته الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة. وكتب إلى عماله : انظروا من قبلكم من شيعة عثمان

__________________

(١) التوبة : ٣٢.

٤٠٠