الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(٥٨)

درّة نجفية

في حكم استبراء المرأة إن مات ولد لها من غير زوجها

قال شيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب (أزهار (١) الرياض) : (روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب (قرب الإسناد) عن السندي بن محمّد البزاز عن أبي البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : أن عليّا عليه‌السلام كان ينهى الرجل إذا كان له امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها أن يمسّها حتّى تحيض حيضة وتستبين ، أحامل هي أم لا؟ (٢).

قال جامع الكتاب ـ عفا الله عنه ـ : سألت عن هذا الخبر شيخنا المحقّق صدر جريدة الأماجد الشيخ محمّد بن ماجد ـ روّح الله روحه ـ سنة خمس ومائة وألف من الهجرة ، فأطال التفكر فيه ثمّ قال رحمه‌الله ـ وكان في غاية بعيدة من الورع والإنصاف ـ : (لم يظهر لي معناه).

ثمّ بعد موته ـ عطّر الله مرقده ـ وجدت من طرق المخالفين نحوه ، كما رواه الشيخ الحموي في (فرائد السمطين) عن ابن عباس قال : كنّا في جنازة ، فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لزوج أمّ الغلام : «أمسك عن امرأتك». فقال عمر : ولم يمسك

__________________

(١) من «ع» ، وفي «ق» : أنوار ، وفي «ح» : اظهار.

(٢) قرب الإسناد ١٤١ / ٥٠٤ ، مسندا عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام.

٢٨١

عن امرأته؟ أخرج ما جئت به. قال : «نعم يا أمير المؤمنين ، نريد أن يستبرئ رحمها لا يلقي فيه شيئا فيستوجب به الميراث من أخيه ولا ميراث له». فقال : أعوذ بالله من معظلة لا عليّ لها (١).

وفي (المناقب) للشيخ الجليل رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني عن [عمر بن داود] (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : «كان لفاطمة عليهما‌السلام جارية يقال لها : فضّة ، فصارت بعدها إلى عليّ عليه‌السلام ، فزوّجها من أبي ثعلبة الحبشي فأولدها ابنا ، ثمّ مات عنها أبو ثعلبة ، وتزوّجها من بعده سليك (٣) الغطفاني ، ثمّ توفي ابنها من أبي ثعلبة ، فامتنعت من سليك (٤) أن يقربها ، فاشتكاها إلى عمر ـ وذلك في أيامه ـ فقال لها عمر : ما يشتكي سليك (٥) منك يا فضة؟ فقالت : أنت تحكم في ذلك وما يخفى عليك.

قال عمر : ما أجد لك رخصة. قالت : يا أبا حفص ، ذهبت بك المذاهب ، إن ابني من غيره مات فأردت أن أستبرئ نفسي بحيضة ، فإذا أنا حضت علمت أن ابني قد مات ولا أخ له ، وإن كنت حاملا كان الذي في بطني أخاه. فقال عمر : شعرة من آل أبي طالب أفقه من عديّ» (٦).

وبهذين الخبرين اللذين ذكرناهما ظهر معنى الخبر الأوّل ، إلّا إنه إنما يتجه على مذاهب العامة ، والخبر هاهنا خارج مخرج التقيّة ، أو مطّرح لموافقة العامة ، مع أن راوية أبا البختري من الكذّابين كما ذكره الخاصة (٧) والعامّة (٨). وليت الشيخ كان حيّا فأهدي ذلك إليه واوقفه على ما غاب عنه وذهب عليه) (٩) انتهى كلام شيخنا المذكور ، [متّعه] (١٠) الله تعالى بالبهجة والحبور.

__________________

(١) فرائد السمطين ١ : ٣٤٨ / ٢٧٢.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : عمران.

(٣) في المصدر : أبو مليك.

(٤) في المصدر : أبو مليك.

(٥) في المصدر : أبو مليك.

(٦) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٧) رجال النجاشي : ٤٣٠ / ١١٥٥.

(٨) لسان الميزان ٧ : ٣٤٤ ـ ٣٤٩ / ٩١٤٧.

(٩) أزهار الرياض : ١٧٠ ـ ١٧١.

(١٠) في النسختين : منحه.

٢٨٢

أقول : روى شيخ الطائفة قدس‌سره في كتاب (التهذيب) عن الحسن (١) بن محمّد (٢) ابن سماعة عن محمّد بن زياد عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة كان لها زوج ولها ولد من غيره وولد منه ، فمات ولدها الذي من غيره ، فقال : «يعتزلها زوجها ثلاثة أشهر حتى يعلم ما في بطنها ولد أم لا». قال : «فإن كان في بطنها ولد ورث» (٣).

وروى فيه أيضا عنه ـ يعني عن ابن سماعة ـ عن وهيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تزوّج امرأة ولها ولد من غيره فمات الولد وله مال ، قال : «ينبغي للزّوج أن يعتزل المرأة حتى تحيض حيضة تستبرئ رحمها ، أخاف أن يحدث بها حمل فيرث من لا ميراث له» (٤).

قال في (التهذيب) ـ بعد نقل الحديث الأول ـ ما صورته : (قال أبو علي : هذا خلاف الحقّ ليس يعمل به) (٥).

وقال أيضا بعد نقل الحديث الثاني : (قال أبو علي : وهذا أيضا خلاف الحقّ لا يؤخذ به ، وإنّما الميراث لام الميّت) (٦).

والشيخ قد أورد ذلك في باب الزيادات من كتاب الميراث في (التهذيب) ، والعجب أن شيخنا المذكور لم يقف عليه ، وليته كان حيّا فأهديه إليه.

والمراد بأبي علي في كلام الشيخ هو الحسن بن محمد بن سماعة ، فإنّها كنيته

__________________

(١) الحسن بن محمد ، من «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» بعدها : عن.

(٣) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩٤ / ١٤٠٤ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١٥٠ ـ ١٥١ ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، ب ١ ، ح ١٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩٤ / ١٤٠٥ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١٥١ ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، ب ١ ، ح ١٥.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩٤ / ذيل الحديث : ١٤٠٤ ، وفيه : يؤخذ ، بدل : يعمل.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٩٤ / ذيل الحديث : ١٤٠٥.

٢٨٣

كما ذكره الشيخ في أصحاب الإمام الكاظم من كتاب (الرجال) (١). وقد حمل في (الاستبصار) (٢) هذين الخبرين على التقيّة.

قال في (الوافي) بعد نقل ذلك عنه : (وأجاد. والوجه فيه أنه على تقدير تشريك الإخوة والأخوات مع الام في الإرث ـ كما هو مذهبهم ـ إنّما يرث منهم من كان موجودا حين الموت ولو كان في البطن ، لا من سيوجد فيه بعد ذلك) (٣) انتهى. وهو جيّد.

وبالجملة ، فإنه لا ريب في أنّ هذه الأخبار مخالفة لأصول المذهب ، فلا يعمل عليها ولا يلتفت إليها ، فبقي الكلام فيما تحمل عليه ، وقد ذكر شيخنا المقدّم ذكره ، والشيخ في (الاستبصار) ـ واستجوده المحدّث المشار إليه ـ حملها على التقيّة.

وأنت خبير بأن إجراء هذا الحمل في قضيّة فضّة المروية في كتاب ابن شهر آشوب ، وكذا في الرواية العامية المنقولة عن الحموي ، لا يخلو عن الإشكال (٤) ؛ لكون ما تضمّنه الخبران من الحكم المذكور في زمان عمر وخلافته ، وهو وإن كان أصل البدع والإحداث في الدين ومنشأ التقيّة أولا وآخرا ، لكن الخبران صريحان في كونه كان جاهلا بالحكم المذكور جهلا ساذجا ، كما يدلّ عليه قوله في الحديث العامي أولا : (ولم يمسك عن امرأته؟ أخرج ما جئت به). وقوله ثانيا : (أعوذ بالله من معضلة لا علي لها) ، وقوله في الحديث الآخر ـ بعد أن نبهته فضة على المسألة ـ : (شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي).

وحينئذ ، كيف يحمل كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام على التقية؟ وممّن اتقى والحال

__________________

(١) رجال الطوسي : ٣٤٨ / ٢٤.

(٢) الاستبصار ٤ : ٨٤٨ / ذيل الحديث : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٣) الوافي ٢٥ : ٧٤٨.

(٤) في «ح» : إشكال.

٢٨٤

كما ترى ، وفضة التي هي جارية أمير المؤمنين وحاضرة في بلده يومئذ ، ممّن اتقت حتى فعلت مع زوجها هذا الفعل الذي شكاها به إلى عمر ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام موجود عندها وحاضر لديها؟ ومن الظاهر الاحتمال أنها إنما فعلت لذلك لأخذها ذلك عنه.

وبالجملة ، فإنّ الحمل على التقية في هذين الخبرين لا أعرف له وجها وجيها ؛ لما عرفت ، وإن أمكن إجراؤه في الأخبار الباقية لإجمالها.

والعجب أن شيخنا المشار إليه آنفا قد نقل هذين الخبرين وجعلهما مفسّرين لخبر وهب بن وهب ، وحمله كذلك على التقية ، ولم يتفطن لما في ذلك من الإشكال الذي ذكرناه.

ولا يخفى أن هذه الأخبار قد اشتملت على ما يخالف القواعد الشرعية المتفق عليها بين الإماميّة من وجهين :

أحدهما : من حيث الحكم بميراث الأخ مع وجود الام.

وثانيهما : من حيث توريث الحمل قبل وجوده وحياته في بطن امه ، بل بمجرد كونه نطفة وإن صار بعد ذلك ولدا.

ويمكن الجواب عن الأول بحمل الام على ما إذا كانت أمة ؛ فإنّها لا ترث.

وأمّا الإشكال الثاني فلا يحضرني الآن الجواب عنه ، والحمل على التقيّة قد عرفت ما فيه ، والله العالم.

٢٨٥
٢٨٦

(٥٩)

درّة نجفية

في الفرق بين المجتهدين والأخباريين

اعلم ـ أيّدك الله تعالى بتأييده ـ أنه قد كثرت الأسئلة من الطلبة عن الفرق بين المجتهدين والأخباريّين ، وأكثر المسؤولون من وجوه الفروق في ذلك ، حتى إنّ شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله ابن الحاج صالح البحراني قدس‌سره في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) (١) قد أنهاها إلى ثلاثة وأربعين ، حيث كان من عمد الأخباريّين المتصلّبين.

وقد كنت في أوّل الأمر من الجارين على هذه الطريقة ، وقد أكثرت البحث في ذلك مع بعض مشايخنا المعاصرين من المجتهدين ، وقد أودعت كتابي الموسوم بـ (المسائل الشيرازية) مقالة مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية المتعلّقة بذلك والمؤيدة لما هنالك.

إلّا إنّ الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام ، وإمعان النظر في تلك الفروق التي ذكرها اولئك الأعلام ، هو سدّ هذا (٢) الباب ، وإرخاء الستر دونه والحجاب وإن كان قد فتحه أقوام ، وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام.

أمّا أولا : فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين ، والإزراء بفضلاء الجانبين ، كما

__________________

(١) منية الممارسين : ٩٠ ـ ١١٢. وقد عدّ منها أربعين وجها.

(٢) من «ح».

٢٨٧

قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر ، بل ربّما انجرّ إلى القدح في الدين ، ولا سيّما من الخصوم المعاندين ، كما شنّع عليهم به الشيعة في انقسام مذهبهم ودينهم إلى المذاهب الأربعة ، بل شنّع به كلّ من أرباب المذاهب الأربعة على الآخر.

وأمّا ثانيا : فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين ، وجعلوه مائزا بين الطائفتين ، جلّه ، بل كلّه ـ عند التأمل بعين الإنصاف ، وتجنّب جانب التعصّب والاعتساف ـ لا يوجب فرقا على التحقيق ، كما سنوضح لك ذلك في المقام بأوضح بيان تشتاقه الطباع السليمة والأفهام.

ولقد كان العصر الأول مملوءا من المحدّثين والمجتهدين ، مع أنه لم (١) يرتفع بينهم صيت هذا الاختلاف ، ولم يطعن منهم أحد على الآخر بالاتّصاف بهذه الأوصاف ، وإن ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل ، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل ، بل كما هو شأن العلماء من كلّ قبيل ، والأمر الدائر بينهم جيلا بعد جيل.

وحينئذ ، فالأولى ، والأليق بذوي التقوى ، والأحرى في هذا المقام والأقوى ، هو أن يقال : إن علماء الفرقة المحقّة ، وفضلاء الشريعة الحقة ـ رفع الله تعالى درجاتهم ، وألحقهم بساداتهم ـ سلفا وخلفا إنّما يجرون على مذهب أئمتهم المعصومين وطريقتهم التي أوضحوها لديهم ؛ فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور ، بل المتواتر على ممرّ الأيام والدهور ، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة القويمة والطريقة المستقيمة ، ولكن ربّما حاد بعضهم ـ أخباريا كان أو مجتهدا ـ عن الطريق ؛ غفلة أو توهّما أو لقصور اطلاع أو

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : لا.

٢٨٨

قصور فهم ، أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو لا يوجب تشنيعا ولا قدحا في أصل الاجتهاد.

وجميع تلك الامور التي جعلوها مناط الفرق إنّما هي من هذا القبيل ، فإمّا أن تكون من جملة المسائل التي اختلفت فيها الأنظار ، وتصادمت فيها الآراء والأفكار ، أو أنّ ذلك القول كان ناشئا عن بعض هذه الأشياء المذكورة ، أو نحو ذلك ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

وأنت تعلم أن كلّا من المجتهدين والأخباريّين يختلفون في آحاد المسائل ، بل وربّما خالف أحدهم نفسه ، مع أنه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الأخباريّين الصدوق رحمه‌الله إلى جملة من المذاهب الغريبة (١) ، بل (٢) النادرة التي لم يوافقه عليها أخباري ولا مجتهد ، مع أنه لم يوجب ذلك طعنا عليه ولا قدحا في علمه وفضله.

ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا ارتكاب هذا الاعتساف إلّا من زمن (٣) صاحب (الفوائد المدنية) ـ سامحه الله تعالى وعامله برحمته المرضيّة ـ فإنه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ، وهو وإن أصاب الصواب في بعض ما ذكر في ذلك الكتاب ، إلّا إنّها لا تخرج عمّا ذكرناه من سائر الاختلافات ، بل هي داخلة فيما ذكرناه من التوجيهات.

__________________

(١) منها تشنيعه على من زاد في الأذان : أشهد أن عليا ولي الله (مرتين). انظر الفقيه ١ : ١٨٨ / ذيل الحديث : ٨٩٧.

ومنها نسبته السهو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. انظر الفقيه ١ : ٢٣٤ / ذيل الحديث : ١٠٣١.

ونسب الأول وإنكار الثاني إلى ابتداع المفوّضة.

(٢) من «ح».

(٣) من «ح».

٢٨٩

وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنّهم ـ رضوان الله عليهم ـ لم يألوا جهدا في إقامة الدين وإحياء شريعة سيّد المرسلين ، ولا سيّما آية الله العلّامة الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة (١) ، فإنه بما ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين ـ حتى آمن بسببه الجمّ الغفير ، ودخلوا في هذا الدين الكبير والصغير ، والشريف والحقير ، وصنّف من الكتب المشتملة على غوامض العلوم والتحقيقات ، حتى إنّ من تأخر عنه لم يلتقط إلّا من درر نثاره ، ولم يغترف إلّا من زواخر بحاره ـ قد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحق به الثناء الجميل ، ومزيد التعظيم والتبجيل ، لا الذم والنسبة إلى تخريب الدين ، كما اجترأ به قلمه عليه وعلى غيره من المجتهدين.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ ما ذكره شيخنا الصالح المتقدّم ذكره من الفروق ، وأطال به من الشقوق ، كثير منه بل أكثره تطويل بغير طائل ، وترديد لا يرجع إلى حاصل. ونحن نذكر هنا ما هو المعتمد عندهم والأقوى ، بما صرّح به هو (٢) وغيره في دليل تلك الدعوى ، وهو وجوه :

أحدها : أنّ أدلة الأحكام الشرعيّة عند المجتهدين أربعة : (الكتاب) ، والسنّة ، والإجماع ، ودليل العقل. وأمّا عند الأخباريّين فليس إلّا (الكتاب) والسنّة ، بل اقتصر بعضهم (٣) على السنّة ، بناء على أن (الكتاب) لا يجوز تفسيره والعمل بما فيه إلّا بما ورد التفسير عن أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وهذا الوجه من أقوى وجوه الفروق عندهم.

__________________

(١) الفوائد المدنية : ٦٣ ، ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) منية الممارسين : ٩٠ ـ ١١٢ ، وبخصوص الوجه الأول ، انظر : هداية الأبرار : ٢٥٨.

(٣) منية الممارسين : ٨٩.

٢٩٠

والجواب أنه لا يخفى أن المجتهدين وإن عدّوا الإجماع في الأدلة الشرعيّة في كتب الاصول ، وربّما استسلفوه في الكتب الاستدلالية أيضا ، إلّا إنّ المحقّقين منهم في مقام التحقيق والبحث في المسائل بالفكر الدقيق ينازعون في تحقيق الإجماع المذكور غاية النزاع ، ويطعنون فيه ويمزّقونه تمزيقا لا يرجى له الاجتماع ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم الاستدلالية ، ككتاب (المعتبر) (١) و (المسالك) (٢) و (المدارك) (٣) و (الذكرى) (٤) و (الذخيرة) (٥) للفاضل الخراساني ، وغيرها. وهذا بحمد الله تعالى ظاهر لمن تتبع الكتب المذكورة.

وحينئذ فليس مسألة الاحتجاج بالإجماع وجعله دليلا شرعيا إلّا من جملة المسائل الخلافية بين العلماء ، مجتهدا كان أو أخباريّا ، فلا يصلح لأن يكون فرقا في المقام.

وأمّا دليل العقل الذي هو عبارة عن البراءة الأصليّة والاستصحاب ، فالخلاف في حجيّته بين المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم على منعه.

وقد فصّل المحقّق في أوّل كتاب (المعتبر) (٦) ، والمحقّق الشيخ حسن في كتاب (المعالم) (٧) ـ وغيرهما في غيرهما ـ الكلام في البراءة الأصلية والاستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا الباب. وبعض ـ كالسيد السند في (المدارك) ـ جوّز العمل بالبراءة الأصلية (٨) ، ومنع العمل على الاستصحاب. وسيأتيك ما فيه تأييد الكلام في المقام.

وحينئذ ، فهذه المسألة أيضا من جملة المسائل الخلافية بين العلماء ، فلا

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣١.

(٢) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٩.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٢٧٥.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ـ ٥٢.

(٥) ذخيرة المعاد : ٥٠.

(٦) المعتبر ١ : ٣١ ـ ٣٢.

(٧) معالم الاصول : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٨) مدارك الأحكام ١ : ٤٣.

٢٩١

تصلح لأن كون وجه فرق في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

وثانيها : أنّ الأشياء عند الأخباريّين مبنية على التثليث حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. وأمّا عند الاصوليّين فليس إلّا الأوّلان.

والجواب أنّ فيه :

أولا : أنّ هذا الاختلاف متفرّع على جواز العمل على البراءة الأصلية وعدمه ، فمن اعتمد عليها وقال بها فالأشياء عنده إمّا حلال ، أو حرام. ومن منع العمل عليها اتّجه عنده القول بالتثليث. فهذا الوجه راجع إلى الوجه الأوّل ، فليس فيه إلّا تكثير الأعداد وإضاعة المداد.

وثانيا : أنه قد تقدّم في الدرّة (١) الموضوعة في مسألة البراءة الأصلية أنّ مذهب الشيخ وشيخه مفيد الطائفة الحقّة ورئيس الفرقة المحقّة ـ كما تقدّم نقله عن كتاب (العدة) (٢) ـ هو القول بالتثليث كما هو المنقول عن الأخباريّين ، وهذان الشيخان عمدتا المجتهدين ، ومثلهما أيضا المحقّق في (المعتبر) (٣) كما تقدّم نقله ثمّة. وحينئذ ، فلا يكون هذا القول مختصّا بالأخباريّين.

وكلام الصدوق ـ في كتاب (الاعتقادات) صريحا ، وفي كتاب (من لا يحضره الفقيه) (٤) ظاهرا ـ ممّا ينادي بالقول بالتثنية كما هو المنقول عن الاصوليّين.

قال في كتاب (الاعتقادات) : (باب الاعتقاد في الحظر والإباحة. قال الشيخ رضي‌الله‌عنه : اعتقادنا في ذلك أنّ الأشياء كلّها مطلقة حتى يرد في شي‌ء منها نهي) (٥) انتهى.

فالأشياء عنده إمّا حلال ، أو حرام. والصدوق هو عمدة الأخباريّين

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرّة : ٦.

(٢) العدة في اصول الفقه ٢ : ٧٤١ ـ ٧٤٢.

(٣) وفيه إشارة إلى ذلك ، المعتبر ١ : ٣٢.

(٤) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧.

(٥) الاعتقادات (المطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٥ : ١١٤.

٢٩٢

ومستندهم في هذه الطريقة. وبذلك يظهر لك أن هذا الوجه لا يصلح لأن يكون فرقا ، بل هو من المسائل الخلافية بين العلماء كما قدّمنا ذكره.

وثالثها : أن المجتهدين يوجبون الاجتهاد عينا أو تخييرا ، والأخباريين يحرّمونه ، ويوجبون الأخذ بالرواية ، إمّا عن المعصوم ، أو من روى عنه وإن تعددت الوسائط. كذا قرّره شيخنا الصالح المشار إليه آنفا في كتابه المذكور (١).

والجواب أنه لا ريب أنّ الناس في وقت الأئمّة عليهم‌السلام مكلّفون بالرجوع إليهم والأخذ عنهم مشافهة أو بواسطة أو وسائط ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين كافة العلماء من أخباري ومجتهد. وأمّا في زمان الغيبة ـ كزماننا هذا وأمثاله ـ فإنّ الناس فيه إمّا عالم أو متعلّم. وبعبارة اخرى : إمّا فقيه ، أو متفقّه. وبعبارة ثالثة (٢) : إمّا مجتهد ، أو مقلّد.

وقد حقّقنا في الفائدة الرابعة (٣) من الفوائد التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة (٤) أنّ هذا العالم والفقيه الذي يجب على من عداه الرجوع إليه لا بدّ أن يكون له ملكة الاستنباط للأحكام الشرعيّة من الأدلة التفصيلية ؛ إذ ليس كلّ أحد من الرعية والعامة ممن يمكنه تحصيل الأحكام من تلك الأدلة واستنباطها منها ـ كما هو ظاهر لكلّ ناظر ـ كما حقّقناه في الموضع المشار إليه.

والاجتهاد الذي أوجبه المجتهدون إنّما هو عبارة عن بذل الوسع في تحصيل الأحكام من أدلتها الشرعيّة واستنباطها منها بالوجوه المقررة والقواعد المعتبرة ، ولا ريب أن من كان قاصرا عن هذه المرتبة العلية والدرجة السنية فلا يجوز الأخذ عنه ولا الاعتماد على فتواه. وبذلك يظهر لك ما في قوله : إن الأخباريّين

__________________

(١) منية الممارسين : ٩٠.

(٢) من «ح».

(٣) انظر الدرر ١ : ٢٦٢ ـ ٢٨٨.

(٤) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

٢٩٣

يوجبون الأخذ بالرواية ، فإنه على إطلاقه ممنوع ؛ لما عرفت من التفصيل ؛ إذ أخذ عامة الناس بالرواية في زمن الغيبة أمر ظاهر البطلان وغني عن البيان.

وكيف لا ، والروايات على ما هي عليه من الإطلاق والتقييد والإجمال والاشتباه متصادمة في جملة الأحكام ، واستنباط الحكم الشرعي منها يحتاج إلى مزيد قوة وملكة راسخة (١) قدسية ، كما ذكرناه في الموضع المشار إليه آنفا؟ فأنّى للعامي باستعلام ذلك؟ فلا بد البتة من الرجوع إلى عالم له تلك الملكة المذكورة.

نعم ، بقي الكلام في أمر آخر وهو أن ذلك الفقيه إن استند في استنباطه الأحكام إلى (الكتاب) والسنّة فهذا ممّا وقع الاتفاق على الرجوع إليه ، وإن كان إنّما استند إلى أدلة اخرى من إجماع أو دليل عقل أو نحوهما ، فهذا هو (٢) الذي منعه الأخباريون وشنّعوا به على المجتهدين.

وحينئذ فيرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول ، وليس في عدّه وجها على حدة إلّا مجرّد [التهويل] (٣) بتكثير الأعداد وإضاعة المداد.

على أنك قد عرفت في جواب الوجه الأوّل الخلاف بين المجتهدين في الأدلة الزائدة (٤) على (الكتاب) والسنّة ، وأنّ ذلك لا يصلح لأن يكون وجها فارقا بين الفرقتين ، بل هو من سائر المسائل الخلافية الجارية في البين.

ورابعها : أنّ المجتهدين يجوّزون أخذ الأحكام الشرعية بالظنّ ، والأخباريّين يمنعونه ولا يقولون إلّا بالعلم ؛ والعلم عندهم : قطعيّ وهو ما وافق نفس الأمر ، وعاديّ وأصلي وهو ما وصل عن المعصوم ثابتا ، ولم يجوّزوا فيه الخطأ عادة ،

__________________

(١) من «ح».

(٢) من «ح».

(٣) في النسختين : التهوير.

(٤) في «ح» : أدلة الزائد ، بدل : الأدلة الزائدة.

٢٩٤

وأنّ الشارع وأهل اللغة والعرف يسمّونه علما. وأنّ الظن ما كان بالاجتهاد والاستنباط بدون رواية ، وأنّ الأخذ بالرواية لا يسمّى ظنّا. ولهم بالمنع من العمل بالظن أدلة من (الكتاب) والسنّة.

والاعتراض بأنّ العامل بالأخبار لا يخرج عن العمل بالظن ممنوع ؛ لأنه لا يسمّى ظنا لغة ولا عرفا ولا شرعا ، وتجويز احتمال النقيض (١) فيه لا يخرجه عن ذلك ؛ لأن العلم الشرعي إنّما هو ما لا يجوز احتمال النقيض فيه عرفا وعادة لا مطلقا ؛ لورود الإذن بالأخذ من الرواة ، مع النهي عن الظنّ ، والتناقض في كلامهم غير جائز. هكذا قرّره شيخنا المشار إليه في كتابه المذكور آنفا (٢).

والجواب عمّا ذكره هنا يؤخذ ممّا حققناه في الفائدة الخامسة عشرة (٣) من الفوائد التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة ، ومن الدرة الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) في هذه المسألة ، فلا حاجة إلى الإطالة هنا بإعادته ، فارجع إليه يتضح لك ما في هذه الدعوى ، ويظهر لك ما هو الأرجح والأقوى.

وخامسها : أنّ المجتهدين ينوّعون الأحاديث إلى أربعة أنواع : صحيح ، وحسن ، وموثّق ، وضعيف ، والأخباريّين إلى صحيح ، وضعيف. والتحقيق : أن غير الصحيح من الحسن والموثّق إن جاز العمل به فهو صحيح ، وإلّا فهو ضعيف. فالاصطلاح مربع لفظا ، ومثنّى معنى.

وسادسها : أن المجتهدين يفسّرون الصحيح بما رواه الإمامي العدل الثقة عن مثله إلى المعصوم ، والحسن : ما كان رواته أو أحدهم إماميّا ممدوحا غير منصوص عليه بالتوثيق. ثم ذكر قسم الموثّق والضعيف باصطلاحهم.

__________________

(١) في «ح» بعدها : هو.

(٢) منية الممارسين : ٩٠ ـ ٩١.

(٣) انظر الدرر ١ : ٣١٥ ـ ٣٢٦.

٢٩٥

إلى أن قال : (والأخباريّين يفسّرون الصحيح بما صحّ عن المعصوم وثبت ، ومراتب الصحة [والثبوت] تختلف ، فتارة بالتواتر ، وتارة بأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن التي تشهد بصحة الخبر) (١). ثم ذكر القرائن الموجبة لصحة الأخبار كما ذكره الشيخ في (العدّة) (٢) وغيره.

والجواب عن هذين الوجهين أنه وإن جعلهما وجهين لتكثير العدد ، إلّا إنّ مرجعهما إلى أمر واحد كما لا يخفى على المتأمل ، ومع هذا فيرد عليه :

أولا : أن هذا الاصطلاح باتّفاق الكل إنّما حدث من عصر العلّامة ـ عطّر الله مرقده ـ فهو اصطلاح محدث من مجتهدي المتأخرين (٣) ، وأمّا مجتهدو المتقدّمين ـ كالشيخ الطوسي ، وشيخه المفيد ، والسيد المرتضى ، وأضرابهم وأتباعهم إلى عصر العلّامة ـ فطريقهم في الأخبار بالنسبة إلى الوجهين المذكورين إنّما هو طريق الأخباريّين. فكيف يصلح هذا وجها فارقا بين المجتهدين مطلقا والأخباريّين ، وأساطين المجتهدين المعتمدين لم يروا هذا الاصطلاح (٤) ولم يذكره بالكلّية؟ ما هذا إلّا خلط واضح وعثار فاضح.

ولو تمّت هذه الدعوى بالنسبة إلى بعض المجتهدين لجاز للخصم أن يغلّبها عليه ، فيقول : إن المجتهدين والأخباريين متفقون على عدم هذا الاصطلاح.

وبطلان ما يتفرّع عليه باعتبار ما عليه متقدّموهم الذين عليهم المعوّل.

وثانيا : أن أصحاب هذا الاصطلاح وإن صرّحوا به كما نقل ، إلّا إنك ترى أكثرهم في كتب الاستدلال لا يخرجون من كلام المتقدمين من العمل بالأخبار الضعيفة باصطلاحهم ، ويتسترون عن مخالفة ذلك الاصطلاح بأعذار ؛ منها قبول

__________________

(١) منية الممارسين : ٩٣.

(٢) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٤٣ ـ ١٥٥.

(٣) انظر مشرق الشمسين : ٣١ ـ ٣٢.

(٤) ليست في «ح».

٢٩٦

مراسيل ابن أبي عمير ومثله ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، فإنهم لا يرسلون إلّا عن ثقة.

ومنها تصحيح الحديث المشتمل على بعض مشايخ الإجازة وإن لم ينصّ عليه بتوثيق.

ومنها كون الخبر مرويا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) ، بناء على ما ضمّنه صاحبه في صدر كتابه (١).

ومنها كون ذلك الرجل الذي به ضعف الحديث من أصحاب الاصول.

ومنها كون الحديث مجبورا بالشهرة.

ومنها كونه متفقا على العمل بمضمونه.

وأمثال ذلك ممّا يقف عليه المتتبع لكلامهم.

وبالجملة ، فإنّك إذا تتبعت كلامهم وجدت أنهم لا يخرجون عن طريقة المتقدّمين إلا نادرا. وحينئذ فمجرّد ذكرهم هذا التقسيم والاصطلاح كما شنّع به ـ مع كون عملهم على ما ذكرناه ـ لا يوجب فرقا معنويا حقيقيا.

وبالجملة ، فكلامه قدس‌سره هنا ممّا لا محصّل له عند ذوي التحصيل إلّا مجرّد تكثير القال والقيل.

وسابعها (٢) : أن المجتهدين يحصرون الرعية في صنفين : مجتهد ، ومقلّد ، والأخباريّين يقولون (٣) : إن الرعيّة كلّها مقلّدة المعصوم ولا مجتهد أصلا.

الجواب أنك قد عرفت في جواب الوجه الثالث أن الناس في زمن الغيبة لا يخرجون عن القسمين المذكورين ، سواء عبّر عن ذينك القسمين بلفظ (مجتهد)

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣.

(٢) منية الممارسين : ٩٣ ـ ٩٤.

(٣) سقط في «ح».

٢٩٧

و (مقلّد) ، أو لفظ (عالم) و (متعلّم) ، أو لفظ (فقيه) و (متفقّه) ؛ إذ لا مشاحّة في التسمية إذا كان المعنى واحدا. وإنما يظهر (١) الخلاف والنزاع فيما إذا كان العالم والفقيه والمجتهد يستند في استنباط الأحكام إلى غير (الكتاب) والسنّة ، وإلّا فمتى كان أدلته التي يستنبط منها الأحكام مخصوصة بهذين الدليلين فهو ممّا لا خلاف في وجوب اتباعه إذا استكمل باقي الشروط من [العلم] (٢) والتقوى والزهد ونحوها ، إن سمّيته مجتهدا أو سمّيته أخباريا. وحينئذ فمرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول كما لا يخفى.

وأمّا قوله : (إن الرعية كلّها مقلّدة المعصوم) ، فهو على إطلاقه محلّ نظر ؛ لأن التقليد ـ كما عرّفوه ـ عبارة عن قبول قول الغير من غير دليل (٣) ، وهذا المعنى لا يتمّ بالنسبة إلى العامي ، بل بالنسبة إلى الفقيه الأخباري فيما إذا احتاج الحكم إلى استنباط ومزيد تأمّل في الأدلة ؛ لما حققناه في الدرة (٤) الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) من تفاوت الأفهام في مراتب الإدراك ، وأن جلّ الاختلافات بين العلماء إنّما نشأت من ذلك ؛ ولهذا اختلف الأخباريون في المسائل كما قد اختلف المجتهدون ، كما فصّلنا جملة من ذلك في الدرة المشار إليها.

وحينئذ ، فالعامي إنما أخذ بقول هذا الأخباري الذي أفتاه بناء على ما فهمه من الأخبار ، وأن الحكم في تلك المسألة كذلك ، فكيف يكون مقلّدا للإمام ، والأخباري الآخر يفتي بخلافه باعتبار ما أدّى إليه فهمه ووصل إليه إدراكه؟

وحينئذ ، فكيف يمكن أن يقال : إن هؤلاء العلماء الأخباريين مع اختلافهم

__________________

(١) من «ع» ، وفي النسختين : مظهر.

(٢) في النسختين : العمل.

(٣) الوافية : ٢٩٩ ، الإحكام في اصول الأحكام ٤ : ٤٤٥ ، تقريب الوصول إلى علم الاصول : ١٥٨.

(٤) انظر الدرر ٢ : ٧ ـ ٣٢ / الدرّة : ١٩.

٢٩٨

كلّهم (١) مقلّدون للإمام ، وأتباعهم أيضا مقلّدون للإمام؟ ما هذا إلّا تعسف ظاهر.

وثامنها : أن المجتهدين يقولون : طلب العلم في زمن الغيبة بطريق الاجتهاد ، وفي زمن الحضور بالأخذ من المعصوم ولو بالوسائط ، ولا يجوز الاجتهاد حينئذ ، وهو طريق الأخباريّين ، والأخباريين لا يفرّقون بين زمن الغيبة والحضور ، بل «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (٢) لا يكون غيره ولا يجي‌ء غيره ؛ كما في الحديث.

والجواب أن هذا الوجه أيضا يرجع إلى الاختلاف في الأدلة ، فإنّه متى كان ذلك العالم ـ إن سمّي مجتهدا أو أخباريّا ـ إنّما استند في الأحكام الشرعية إلى (الكتاب) والسنّة ، فإنه لا خلاف في صحّة ما بنى عليه ، ولا خلاف في جواز الأخذ عنه والعمل بقوله.

وأمّا أن زمن الغيبة وزمن الحضور واحد بالنسبة إلى الرعية فهو غلط محض ؛ لما عرفت في جواب الوجه الثالث. والإيراد بالحديث المذكور إنّما يتجه لو قلنا بجواز الاجتهاد على طريق العامّة من الاستناد إلى الآراء والأقيسة والعقول ؛ لاختلافها واضطرابها.

نعم ، ربّما يتفق ذلك أيضا مع الاستناد إلى (الكتاب) والسنّة في مقام اختلاف الأفهام وتفاوت الأنظار ، كما هو الواقع بين العلماء في جملة الأمصار ؛ من مجتهد وأخباري ، كما أوضحنا ذلك في الدرة (٣) الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) ، وإن كان الأخباريّون ينكرون ذلك ، ويدّعون أن الاختلاف الواقع بينهم إنّما نشأ من اختلاف الأخبار ، إلّا إنّا قد أوضحنا في الدرة المشار

__________________

(١) في النسختين : فكلهم.

(٢) الكافي ١ : ٩ ، وسائل الشيعة ٣٠ : ١٩٦ / الفائدة السادسة.

(٣) انظر الدرر ٢ : ٧ ـ ٣٢ / الدرّة : ١٩.

٢٩٩

إليها ما يردّ هذه الدعوى ، وبيّنا أن الاختلاف الواقع بينهم على حسب الاختلاف الواقع بين المجتهدين ، من أنه ربّما نشأ من اختلاف الأخبار ، وربّما نشأ من اختلاف الأفهام ، الذي هو السبب التام في أكثر الأحكام.

وبالجملة ، فإن كلامه يدور في جميع هذه الوجوه على الاجتهاد بمعنى الأخذ بالآراء والظنون المستندة إلى غير (الكتاب) والسنّة ، وهو حق لو كان إطلاق الاجتهاد مخصوصا بهذا المعنى ، وإلّا فالاجتهاد ـ على ما عرّفوه ـ إنّما هو عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الأحكام من أدلتها الشرعيّة (١).

والخلاف بين المجتهدين والأخباريين هاهنا ـ في التحقيق ـ يرجع إلى تلك الأدلة ، فالأخباريّون يخصّونها بـ (الكتاب) والسنّة ، أو بالسنّة (٢) وحدها على رأي بعضهم (٣). والمجتهدون يفسّرونها في الاصول بالأربعة المشهورة ، وإن كانوا في الكتب الاستدلالية يناقشون فيما عدا (الكتاب) والسنّة ، كما تقدم ذكره في المقام وفي غير موضع من الدرر المتقدّمة في هذا الكتاب.

وحينئذ ، فتعريف الاجتهاد صادق على من اقتصر في استنباط الأحكام على (الكتاب) والسنّة وإن كان الأخباريون يتحاشون عن التعبير به ؛ للطعن على المجتهدين ، وهو في غير محلّه كما لا يخفى على المنصف.

وكيف كان ، فمع فرض خروج بعض المجتهدين في بعض جزئيّات الأحكام عن الأخذ بـ (الكتاب) والسنّة والعمل بالاستنباطات الظنّية المحضة ، فهو لا يوجب طعنا في أصل الاجتهاد بالمعنى الذي ذكرناه ، كما أن بعض الأخباريّين لو خرج في فهمه الخبر عن كافة أفهام العلماء الأعلام ، بحيث يصير ذلك غلطا

__________________

(١) معارج الاصول : ١٧٩ ، مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، الوافية : ٢٤٣.

(٢) في «ح» : السنة.

(٣) منية الممارسين : ٨٩.

٣٠٠