الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الْأَنْفُسِ) (١) قال قتادة : أي بجهد الأنفس).

وحينئذ ، فإذا كانت المشقّة عبارة عن هذا المعنى الذي ذكروه ، وهو : ما يصعب تحمّله ويشتدّ على الإنسان قبوله والقيام به ويبلغ به الجهد ، فكيف لا يكون مستلزما للأذى ، وهل يشكّ عاقل في أن من وقع في شدّة وأمر صعب لا يتأذّى به؟ على أن الأذى لغة إنّما هو الضرر اليسير كما صرّح به في (القاموس) (٢) ، وكما في قوله سبحانه (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلّا أَذىً) (٣) أي ضررا يسيرا ، مثل التهديد (٤) ونحوه.

وعلى هذا فيكون الأذى إنّما هو أقل مراتب المشقّة ، فكيف لا يكون لازما لها؟ ولكن من منع ذلك إنّما بنى على مقتضى هواه وعقله بغير ارتياب من غير مراجعة لكلام العلماء الأعلام في هذا الباب ، فضلّ عن سواء الطريق وأوقع من سواه في لجج المضيق.

لا يقال : إن هذا الخبر قد روته العلماء في كتبهم ، واطّلعت عليه الفضلاء منهم ، ولم يصرّحوا بما دلّ عليه من هذا الحكم في محرّمات النكاح من كتبهم الفروعيّة ، وأعرضوا عن التعرّض له بالكليّة ، ولو كان ذلك حقا لذكروه ، وفي مصنّفاتهم سطّروه.

لأنّا نقول : هذا القائل إمّا أن يسلّم ما ذكرنا من صحّة الحديث وصراحته ، [أو] (٥) لا. فعلى الثاني يكون الكلام معه في الدليل ، وإثبات صحّته وصراحته ، وكلامه لا وجه له حينئذ ، وعلى الأوّل ، فكلامه هنا مردود بما صرّح به غير واحد من أجلّاء المحقّقين ، منهم شيخنا الشهيد الثاني في مواضع من (المسالك)

__________________

(١) النحل : ٧.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٤٣١ ـ أذي.

(٣) آل عمران : ١١١.

(٤) الكشاف ١ : ٤٠١.

(٥) في النسختين : أم.

٦١

منها في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصيّة ، حيث قال ـ ونعم ما قال بعد الطعن في الإجماع ـ ما هذه صورته : (وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخّر لغيره من المتقدّمين في كثير من المسائل التي ادّعوا فيها الإجماع ، إذا قام الدليل على ما يقتضي خلافهم. وقد اتّفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلّة المتقدّم [مسامحة] (١) بين الناس دون المتأخّر) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

وحينئذ ، فإذا جاز مخالفتهم في المسائل التي ادّعوا فيها الإجماع حتى قام الدليل على خلافه ، مع أن الإجماع عندهم أحد الأدلّة الشرعيّة ، فكيف لا يجوز القول بما لم يصرّحوا به نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل عليه؟

ومجرّد رؤيتهم الدليل وروايتهم له في كتب الأخبار مع عدم ذكر حكمه في كتب الفروع الاستدلاليّة ، لا يدلّ على ردّ (٣) الخبر وضعفه ، مع عدم تصريحهم بالردّ والتضعيف. وكم خبر رووه ولم يتعرّضوا لذكر معناه في الكتب الفروعيّة ، وهل هذا الكلام إلّا مجرّد تمويه على ضعيفي العقول ، ومن ليس له رويّة في معقول أو منقول؟

على أنه لا يشترط عندنا في الفتوى في الأحكام تقدّم قائل بها ، كما صرّح به جملة من محقّقي أصحابنا وإن ادّعاه [شذّاذ] (٤) منهم (٥).

نعم اشترطوا عدم مخالفة الإجماع على ما عرفت فيه (٦) من النزاع ، وكيف ، ولو تمّ هذا الشرط لما اتّسعت دائرة الخلاف وتعدّدت الأقوال في الأحكام الشرعيّة على ما هي عليه الآن ، حتّى إنّك لا تجد حكما من الأحكام غالبا إلّا وتعدّدت فيه أقوالهم إلى خمسة أو ستة أو أزيد أو أنقص ، وكلّها تتجدّد بتجدّد العلماء؟

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : متسامحة.

(٢) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٩.

(٣) يدل على رد ، من «ح» ، وفي «ق» : يرد.

(٤) في النسختين : شذوذ.

(٥) منية الممارسين : ١٠٧.

(٦) في «ح» : به.

٦٢

وقد نقل بعض مشايخنا انحصار الفتوى في زمن الشيخ قدس‌سره فيه ، وكذا ما بعد زمانه ، ولم يبق إلّا حاك عنه وناقل ، حتّى انتهت النوبة إلى ابن إدريس ، ففتح باب الطعن على الشيخ والمخالفة له ، ثم اتّسع الباب وانتشر الخلاف إلى ما ترى. فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف استجاز هذا القائل المنع من الفتوى بشي‌ء لم يتعرّض له الأصحاب نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل الشرعي عليه.

هذا ، وممّن جرى على هذا المنوال ـ الذي يستبعده من قصر حظّه عن العروج إلى معارج الاستدلال ـ جملة من علمائنا الأبدال منهم المحدّث المحسن الكاشاني قدس‌سره ، فإنّه صرّح في (المفاتيح) (١) بتحريم كتابة (القرآن) على المحدث ؛ لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام أنه سأله عن الرجل أيحلّ له أن يكتب (القرآن) في الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : «لا» (٢). مع اعترافه قدس‌سره بأنه لم يجد به قائلا.

وهذه الرواية نظير ما نحن فيه من التعبير بلفظ «لا يحل» ، وهي بمنظر ومرأى من العلماء قبله ، مع أنه لم يذهب إلى القول بها أحد لا على جهة التحريم ولا الكراهة ، ولم نر ما ذكره هذا القائل مانعا لمن قال بالتحريم عملا بها ، ولا موجبا للطعن والردّ عليه عند أحد ممّن تأخّر عنه ، بل ربما يتّبعونه في ذلك.

وهذا المحدّث الأمين الأسترآبادي صاحب (الفوائد المدنية) في حواشيه على كتاب (المدارك) ـ على ما رأيته بخطّه ـ حيث صرّح بعدم العفو عن نجاسة دم الغير وإن كان أقل من درهم ، إلحاقا له بدم الحيض ؛ لمرفوعة البرقي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٣٨ / المفتاح : ٤٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ١٢٧ / ٣٤٥ ، وسائل الشيعة ١ : ٣٨٤ ، أبواب الوضوء ، ب ١٢ ، ح ٤.

٦٣

بأس ، وإن كان دم غيرك قليلا كان أو كثيرا فاغسله» (١).

ولم يقل بمضمون هذه الرواية أحد قبله ، مع أن الرواية مرويّة في كتب الأصحاب.

ومنهم : شيخنا البهائي (٢) وشيخنا المجلسي (٣) ـ عطّر الله مرقديهما ـ حيث ذهبا إلى تحريم التقدّم حال الصلاة على قبر الإمام عليه‌السلام ؛ لصحيحة الحميري ، مع أنه لم يذكر هذا الحكم أحد قبلهما ، والرواية بذلك موجودة في (التهذيب) (٤). وقد تبعهما في الحكم المذكور الجمّ الغفير ممّن تأخّر عنهما. إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع الماهر ، والخبير الباهر.

فإن قيل : إن عمومات الآيات ـ مثل قوله سبحانه (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٥) ، وقوله سبحانه (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (٦) ، وكذا قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٧) ـ وكذا عمومات السنّة مخالفة لهذا الخبر ، وهو قاصر عن معارضتها ، فالعمل عليها أرجح ، والقول بها أولى.

قلنا : هذا القائل أيضا إمّا أن يوافقنا على صحّة الخبر وصراحته في ما ندّعيه ، [أو] (٨) لا. وعلى الثاني ، فكلامه هنا لا وجه له ، بل الأولى أن يقول : إن هذا الخبر غير صحيح ، أو غير دالّ على المدّعى ، ويكون محلّ البحث معه هنا ، وعلى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٩ / ٧ ، باب الثوب يصيبه الدم والمدّة ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٢١ ، ح ٢.

(٢) الحبل المتين (ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين) : ١٥٩.

(٣) بحار الأنوار ٨٠ : ٣١٦.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٨ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦٠ ـ ١٦١ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ١ ـ ٢ ، بحار الأنوار ٨٠ : ٣١٥ / ٧.

(٥) النساء : ٢٤.

(٦) النور : ٣٢.

(٧) النساء : ٣.

(٨) في النسختين : أم.

٦٤

الأوّل ، فكلامه أيضا ساقط ؛ لاتّفاق أجلّة الأصحاب (١) ومعظمهم ـ قديما وحديثا ـ على تخصيص عمومات (الكتاب) والسنّة ، وتقييد مطلقاتهما بالخبر الصحيح تعدّد أو اتّحد. وها نحن نتلو عليك منها جملة من المواضع إجمالا ؛ لكسر سورة الاستبعاد الذي لا يصرّ عليه إلّا من أقام على العناد ، فمنها مسألة التخيير في المواضع الأربعة بين القصر والإتمام ، مع دلالة الآية (٢) وجملة من الأخبار (٣) على وجوب القصر على المسافر مطلقا.

ومنها منع من ثبت له الإرث بالآيات والروايات من الولد والوالد والزوجة ونحوهم ، بالموانع المنصوصة من القتل والكفر والرقيّة واللعان ، فإنّه لا خلاف في منعهم.

ومنها مسألة الحبوة ، ودلالة الآيات والروايات على أن ما يخلّفه الميت يقسّم على جميع الورثة على (الكتاب) والسنّة ، مع استثناء أخبار الحبوة لتلك الأشياء المخصوصة واختصاص أكبر الولد بها (٤).

ومنها ميراث الزوجة غير ذات الولد على المشهور ، ومطلقا على المختار ؛ لدلالة الآيات المتضافرة على أن لها الثمن أو الربع من جميع التركة من منقول أو غيره (٥) ، مع دلالة الأخبار على حرمانها من الربع (٦) ، على التفصيل المذكور في محلّه.

ومنها قولهم بعدم نشر حرمة الرضاع بين الأجنبيتين إذا ارتضعتا من امرأة مع

__________________

(١) مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٤٨.

(٢) النساء : ١٠١.

(٣) انظر وسائل الشيعة ٨ : ٤٥١ ـ ٤٥٦ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ٩٧ ـ ١٠٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٣.

(٥) النساء : ١٢.

(٦) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ٢٠٥ ـ ٢١٢ ، أبواب ميراث الأزواج ، ب ٦.

٦٥

تعدّد الفحل ، للأخبار الدالّة على ذلك (١) ، مع أن آية (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) (٢) ، وجملة من الأخبار قد دلّت على نشر الحرمة بذلك (٣).

ومنها ميراث زوجة المريض إذا طلّقها في مرضه ، وخرجت من العدّة ، فإنّها ترثه إلى سنة ، مع أن الروايات (٤) والآيات (٥) متّفقة على أن الميراث لا يكون إلّا بسبب أو نسب ، وهذه أجنبيّة.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

وهذه المواضع منها ما هو إجماعي ومنها ما فيه خلاف ، إلّا إن معظم الأصحاب على القول بما ذكرنا.

وحينئذ ، فإذا ثبت جواز تخصيص عمومات (القرآن) وإطلاقاته بالخبر متى كان صحيحا صريحا ، كما في جميع هذه المواضع ونظائرها ، فليكن هذا الموضع منها ؛ لما حقّقناه من صحّة الخبر وصراحته في المدّعى. وجميع ما ذكرناه ظاهر بحمد الله سبحانه لمن أخذ بالإنصاف ، وجانب جادّة الاعتساف.

تحقيق مقام وكلام على كلام بعض الأعلام

قد وقفت على كلام لبعض السادة الأجلّاء والفضلاء النبلاء في هذه المسألة ، حيث قد سأله بعض عن الحديث الوارد في هذه المسألة ، وعلى ما يدلّ عليه من التحريم ، أو الكراهة ، فكتب له في الجواب ما هذه صورته : (هذا الحديث وإن كان

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٨٨ ـ ٣٩٣ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب ٦.

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) انظر : تهذيب الأحكام ٧ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ / ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٩١ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب ٦ ، ح ٩.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ٦٣ ـ ٦٨ ، أبواب موجبات الإرث ، ب ١.

(٥) النساء ٧ ، ١٢.

٦٦

باعتبار السند الوارد في (العلل) (١) وظهور لفظة «لا يحلّ» في الحرمة يوهم جواز تخصيص عمومات الآيات والأخبار ، وتقييد إطلاقهما به كما في نظائره ، إلّا إن في التعليل (٢) الوارد فيه نوع إشعار بالكراهة ، كما ورد أمثاله في أمثلة من المكروهات ؛ لأنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ لفرط شفقتهم على الناس يعلّلون المكروهات بعلل منفّرة للطباع عن فعلها ، مرغبة في تركها ، حتّى تهتم بالترك ، ولا تستهين بالفعل ، كما يذكرون في المستحبات أيضا ما يوجب رغبة الطباع من العلل الباعثة على الفعل ، الصارفة عن الترك.

ومعلوم أنه يشق على نفوسهم القدسيّة السليمة ، ويصعب عليها مخالفة الأمّة لهم في فعل المكروهات وترك المستحبات ، كما يشق ويصعب عليهم المخالفة في ارتكاب المحرمات وترك الواجبات. ففي الاكتفاء في مقام التنفير بهذه العلّة المشتركة وعدم الترقي في التعليل إلى ما يفرض الترقّي ، دليل للمتتبّع الفطن على الكراهة.

فظهر أن كون أمر شاقا عليهم ـ صلوات الله عليهم ـ لا يستلزم الأذيّة المحرّمة حتّى يقال : إنّه كنّى به في الحديث عنها. فبمجرّد ورود مثل هذا الخبر المحتمل للكراهة إن لم يكن ظاهرا فيها الحكم بحرمة الجمع ثم بالتفريق بعده ، وطرح العمومات والإطلاقات في الآيات والروايات ، ومخالفة ظاهر جلّ الأصحاب ، مشكل عندي.

ولعلّهم ـ رضوان الله عليهم ـ ظهر لهم جواز الجمع من تقرير أئمّتهم ـ صلوات الله عليهم ـ لأن وقوع الجمع ـ كما ترى الآن ـ كان غير نادر في الأمصار والأقطار سيما في عصرهم وزمنهم ؛ لأنه كان موجبا لمزيد المجد والشرف

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٣١٥ / ب ٣٨٥ ، ح ٣٨.

(٢) في «ق» بعدها : فراغ مقداره كلمة ، وقد ملئ بكلمة (جواز) وذيل بالرمز ص ، أي (صح).

٦٧

والافتخار ، فلو كان محرّما لكانوا ـ صلوات الله عليهم ـ يمنعون الناس عنه (١) أشد المنع أوّلا ، ثم يأمرون بالتفريق ثانيا ، ولكانت الفاطميّات عنه يتأبّين كالجمع بين الاختين ؛ لأن أهل البيت أدرى بما في البيت. ولو كان كذلك لكان مشهورا بين القدماء مذكورا في ألسنة الفقهاء ، مسطورا في كتب الاستدلال والفتوى ، ولكان يوصل إلينا وما يخفى هذا الخفاء ؛ لتعظيم الكلّ أمر الفروج كالدماء.

ومع ما في هذا التعليل من أنّه لو كان كذلك لكان جمع الفاطميّات مع غير الفاطميّة أشق عليها ـ صلوات الله عليها ـ أو مثله كما يتراءى ، مع أني لم أر قائلا فيه بالكراهة فضلا عن القول بالحرمة. ومع ذلك كلّه ، فـ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ، لأنّ أحدا على ترك الجمع لا يعيبك ، والله يعلم حقائق الأحكام) انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى على ذوي الأفهام وأرباب النقض والإبرام ما في هذا الكلام من اختلال النظام ، وانحلال الزمام ، والبناء على مجرّد التخرصات الوهميّة ، والتخريجات الظنيّة من غير دليل يركن إليه ، ولا وجه يعتمد عليه سوى مجرّد الدعاوى العريّة عن البرهان ، التي لا توصل في مقام التحقيق إلى مكان. وها نحن بحمد الله سبحانه نوضّح لك زيادة على ما قدّمناه في المسألة من الإيضاح ، ونفصح عنه أيّ إفصاح ، فنقول : إن وجه النظر يتوجّه إليه في مقامات :

مناقشة المصنّف رحمه‌الله لهذا القائل بالكراهة

الأوّل : قوله : (وظهور لفظ «لا يحلّ» في الحرمة) فإن فيه أن دلالة «لا يحلّ» على التحريم إنّما هي بالنصّ الصريح ؛ وذلك لما حقّقه علماء الاصول من أن دلالة اللفظ في محلّ النطق ـ وهي الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة ـ تسمّى صريح

__________________

(١) في «ح» : عنه الناس ، بدل : الناس عنه.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٥٤.

٦٨

المنطوق ، ولا ريب أن دلالة «لا يحلّ» على الحرمة دلالة مطابقية ؛ لأنّها المعنى الحقيقي لهذا اللفظ بدليل التبادر الذي هو أمارة الحقيقة ، كما حقّقه علماء الاصول (١).

وبذلك يظهر لك ضعف قوله : (يوهم جواز تخصيص عمومات الآيات) ، فإن الدلالة متى كانت صريحة مع صحّة الخبر ـ كما هو ظاهر كلامه ـ جاز تخصيص العمومات به اتّفاقا كما قدّمنا ذكره ، لا أن ذلك وهم كما توهّمه. على أنه مع تسليم كون دلالة هذا اللفظ ظاهرة في الحرمة يكفينا في المقام ، فإن مدار الاستدلال ـ كما لا يخفى على من شرب بكأس مائه العذب الزلال ـ إنّما هو على النصّ أو الظاهر ، ولا يلتفت في مقابلتهما إلى مجرّد الاحتمال كما حقّقناه سابقا ، إلّا أن تقوم هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة صارفة عن مقتضى ظاهر اللفظ ، فيجب العدول إلى ما دلّت عليه القرينة ، وصرف اللفظ عن ظاهره أو صريحه.

وما نحن فيه ليس كذلك ؛ إذ لا قرينة توجب صرف اللفظ عن ظاهره كما علمت وستعلم ؛ فيجب الوقوف على ما دلّ عليه بظاهره حينئذ.

الثاني : قوله : (إلّا إن في التعليل نوع إشعار بالكراهة) ؛ فإنّه :

أوّلا : مجرّد دعوى عارية عن الدليل ، وهي مردودة عند ذوي التحصيل ، وليس فيها وفي ما فرّعه عليها إلّا مجرّد التطويل والتسجيل بما لا يشفي العليل ، ولا يبرد الغليل. وكيف لا ، ولفظ المشقّة ـ كما حقّقناه سابقا ـ صريح في استلزام الأذى؟ وكان الواجب عليه إيضاح هذه الدعوى بالدليل ، وبيانها على وجه لا يداخله القال والقيل.

وثانيا : أن مقتضى اعترافه أوّلا بكون «لا يحلّ» ظاهرا في الحرمة ، وقوله ثانيا :

__________________

(١) انظر مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ٨٠.

٦٩

(إن في التعليل نوع إشعار بالكراهة) يؤذن بكون قرينة المجاز عنده الموجبة لإخراج لفظة (١) «لا يحلّ» عن ظاهرها (٢) ـ وهو الحرمة ـ إلى الكراهة ، هو التعليل المذكور. ولا ريب أنه من المقرّر في كلام العلماء الأعلام وأرباب النقض والإبرام ، أن القرينة الموجبة لصرف اللفظ عن حقيقته ما لم تكن صريحة الدلالة ، واضحة المقالة ، فإنّه لا يجوز صرف اللفظ بها عن حقيقته ، ولا إخراجه عن طريقته. وغاية ما ادّعاه هنا أن في التعليل نوع إشعار بالكراهة.

ولا يخفى ما في دلالة الإشعار من الضعف ، ويتأكّد بقوله : (نوع) فهو في معنى إشعار (٣) ، كما هو الجاري في ألسنة الفصحاء ، ومحاورات البلغاء. وحينئذ ، فبمجرّد هذا الإشعار الضعيف لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره ، ولا إخراجه عن حقيقته.

الثالث : قوله : (لأنّهم لفرط شفقتهم على الناس) ـ إلى آخره ـ فإنه مردود ، بأنه لا يتمّ حتّى يثبت أوّلا الكراهة التي ادّعاها في التعليل المذكور في الخبر. ونحن لا نمنع أنهم ـ صلوات الله عليهم ـ يفعلون ما ذكره ، ولكن كون ما نحن فيه من ذلك القبيل يتوقّف على الدليل ، وإلّا فهو مجرّد تطويل لا اعتماد عليه ولا تعويل.

على أن كلامه هذا غير منطبق على أصل المدّعى ، ولا موافق لموضوع المسألة ، لأن موضوع المسألة وأصل المدّعى هو إطلاق ما ظاهره التحريم ـ كما اعترف به ـ وإرادة الكراهة منه بالقرينة كما زعمه.

وما سجّله وأطال به في المقام ، غير منسجم على هذا الكلام ؛ لأنّه إنّما ذكر ما هو معلوم الكراهة أو الاستحباب ، بحيث لا يحتمل غيرهما في الباب ، ولكنّهم عليهم‌السلام علّلوها بالعلل المنفّرة عن الفعل في الأوّل ، والموجبة للترغيب في

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : ظاهره.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : إشعار ما.

٧٠

الثاني. وأين هذا ممّا نحن فيه.

ومقتضى سياق الكلام المنطبق على ما ادّعاه ، هو أن يقول : إنّهم عليهم‌السلام كثيرا ما يعبّرون عن المكروهات بالألفاظ الموضوعة للمحرمات ، وعن المستحبات بالألفاظ الموضوعة للوجوب ، زجرا في الأوّل عن الفعل ، وتأكيدا وتشديدا وحثّا على الإتيان به في الثاني ، وذلك مثل حديث العانة (١) المتقدّم ، حيث عبّر بلفظ : «لا يحلّ» الذي هو موضوع للتحريم ، ومثل التعبير بلفظ الوجوب في غسل الإحرام وغسل الجمعة (٢) ونحو ذلك.

هذا مقتضى السياق الذي عليه يقع الانطباق ، لا ما ذكره. وكيف كان ، فقرائن الاستحباب فيما ذكرناه من هذه الأفراد واضحة ، دون ما هو محلّ البحث كما عرفت.

الرابع : قوله : (ومعلوم أنه يشق على نفوسهم) ـ إلى آخره ـ فإنّه من قبيل ما تقدّم من الدعاوى العارية عن البرهان ، المحتاجة إلى مزيد تحقيق وبيان ، ومن أين حصل هذا العلم له ، وفي أي حديث ورد ، وعلى أي دليل فيه اعتمد ، وما أراه زاد في كلامه على مجرّد الدعوى (٣) التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف أدنى رجوع ؛ إذ الأدلة على خلافه ظاهرة ، والحجج متضافرة ؛ فإنّه لا يخفى على من تطلّع في الأخبار وكلام الأصحاب ؛ أنّه كثيرا ما يرد في الخبر ما يؤذن بفعل الإمام عليه‌السلام للمكروه وتركه للمستحب المتّفق على كراهته واستحبابه ، فيحملون الخبر على بيان الجواز ، بمعنى أن فعله عليه‌السلام أو

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٠٦ / ١١ ، باب النورة ، الفقيه ١ : ٦٧ / ٢٦٠ ، وسائل الشيعة ٢ : ١٣٩ ، أبواب آداب الحمام ، ب ٨٦ ، ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤١٧ / ٤ ، باب التزين يوم الجمعة ، وسائل الشيعة ٣ : ٣١٧ ، أبواب الأغسال المسنونة ، ب ٧ ، ح ١.

(٣) في «ح» : الدعوات.

٧١

تركه إنما هو لبيان أن الأوّل غير محرم والثاني غير واجب.

وهذا ممّا لا يكاد يجسر على إنكاره إلّا من لم يتطلّع في كتب الأخبار ولا كلام الأصحاب ، فإذا كان الأئمّة عليهم‌السلام يفعلون ذلك أحيانا ، فكيف يجوز أن يدّعي أن ذلك يشقّ عليهم لو وقع من شيعتهم؟

ويزيدك بيانا لما قلناه وإيضاحا لما أجملناه ما رواه في (الكافي) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ للقلوب إقبالا وإدبارا ، فإذا أقبلت فتنفلوا ، وإذا أدبرت فعليكم بالفرائض» (١).

وما رواه الصدوق قدس‌سره في (الفقيه) في الصحيح عن معمّر بن يحيى قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول : «إذا جئت بالصلوات الخمس لم تسأل عن صلاة ، وإذا جئت بصوم شهر رمضان لم تسأل عن صوم» (٢).

وما رواه في (التهذيب) عن معمّر بن يحيى ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه سمعه يقول : «لا يسأل الله عبدا عن صلاة بعد الفريضة ، ولا عن صدقة بعد الزكاة ، ولا عن صوم بعد شهر رمضان» (٣).

ومثل ذلك رواية ثالثة لمعمّر بن يحيى (٤).

وهذه الأخبار كما ترى مرخّصة للشيعة في ترك النافلة ، وكيف يتّفق هذا مع كون ترك المستحبات ليشقّ عليهم كما ادّعاه في المقام.

ويوضّح ما قلناه أيضا رواية عائذ الأحمسي قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وأنا اريد أن أسأله عن صلاة الليل ، فقلت : السلام عليك يا بن رسول الله. فقال عليه‌السلام :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥٤ / ١٦ ، باب تقديم النوافل وتأخيرها .. ، وفيه : «بالفريضة» بدل : «بالفرائض».

(٢) الفقيه ١ : ١٣٢ / ٦١٤ ، وفيه : «بالخمس الصلوات» بدل : «بالصلوات الخمس».

(٣) تهذيب الأحكام ٤ : ١٥٣ / ٤٢٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٤ : ١٥٤ / ٤٢٨.

٧٢

«وعليك السلام ، إي والله إنّا لولده ، وما نحن بذوي قرابته» ، ثلاث مرّات قالها ، ثم قال من غير أن أسأله : «إذا لقيت الله بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عمّا سوى ذلك» (١).

فإن ظاهر الخبر أن السائل كان غرضه السؤال عن صلاة الليل ، أي (٢) عن تركها تهاونا وتثاقلا ، وخاف المؤاخذة بذلك ، فأجاب عليه‌السلام بما يندفع به وهمه وخوفه. فإن هذا هو الذي ينطبق عليه الجواب.

وبالجملة ، فهذه الأخبار واضحة في الترخيص في الترك للمستحبات كما ذكرناه ؛ إذ لا غرض من إلقاء هذا الكلام ، ولا أثر يترتب عليه في المقام غير ما ذكرنا ، وإلّا فكلّ أحد يعلم أن المستحب لا يسأل عنه المكلّف ؛ لأنه غير مفروض عليه ، فلو لم يحمل على ما ذكرناه لكان إلقاء هذا الكلام منه عليه‌السلام يجري مجرى العبث الذي تجلّ عنه مرتبته في كلّ مقام.

وأمّا ما ورد من الأخبار المستفيضة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ بإحراق قوم لم يحضروا الجماعة في المسجد (٣) ، وما في صحيحة زرارة الواردة في عدد الفرائض اليوميّة ونوافلها ، حيث قال عليه‌السلام في آخرها : «إنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض ، إنّ تارك الفريضة كافر ، وإنّ تارك هذا ليس بكافر ، ولكنّها معصية» (٤).

وما في موثقة حنان بن سدير ، حيث قال الراوي ـ بعد عدّه عليه‌السلام سنة النوافل التي كان يصلّيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : [إن كنت أقوى على أكثر من هذا] أيعذّبني الله

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٨٧ / ٣ ، باب نوادر كتاب الصلاة.

(٢) عن صلاة الليل أي ، سقط في «ح».

(٣) الفقيه ٣ : ٢٥ / ٦٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٢ ، كتاب الشهادات ، ب ٤١ ، ح ١.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٧ ـ ٨ / ١٣ ، وسائل الشيعة ٤ : ٥٩ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ١٤ ، ح ١.

٧٣

على كثرة الصلاة (١)؟ قال عليه‌السلام : «لا ، ولكن يعذّب على ترك السنّة» (٢).

ونحو ذلك ممّا يدلّ بظاهره على ترتّب العقاب على ترك المستحبات ، فإنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن تحمل هذه الأخبار على ظاهرها ، ويحمل الترك على حدّ يؤذن بالتهاون بالدين وقلة المبالاة بكمالات الشرع ، والاستخفاف بالوظائف الدينيّة ، فيكون عصيانا موجبا للمؤاخذة ، كما ورد من أنه لو أصرّ أهل مصر على ترك الأذان حاربهم الإمام (٣). وحينئذ ، فتكون هذه الرواية حجّة لنا ، بناء على ما زعمه هذا القائل ؛ لأن الترك على هذا الوجه يكون شاقا عليهم ، ويترتّب عليه العقاب والعذاب.

وثانيهما : الحمل على مجرّد التأكيد والتغليظ ؛ لئلا يتهاون الناس بتركها وإهمالها. ولا يخفى على المتتبّع للأخبار وما يلقونه عليهم‌السلام لشيعتهم في أمثال هذا المقامات أنهم يوقفونهم دائما على الجادة الوسطى بين طريقي الخوف والرجاء ؛ فيرخّصون لهم تارة ؛ ويشدّدون عليهم اخرى كما في هذا المقام ، فإنّهم تارة يلقون إليهم أن الله سبحانه لا يسأل عن شي‌ء بعد الفرائض ، وتارة يقولون : إن ترك النوافل معصية وإنه يعذّب عليها.

__________________

(١) يريد : هل يعذب الله على ترك كثرة الصلاة؟ كما يقال : هل يعذب الله على الصوم؟ أي على تركه.

(٢) الكافي ٣ : ٤٤٣ / ٥ ، باب صلاة النوافل ، تهذيب الأحكام ٢ : ٤ / ٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ٤٧ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ١٣ ، ح ٦.

(٣) الحبل المتين (ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين) : ١٣٣ ، ونسبه للأصحاب ، المبسوط (السرخسي) ١ : ١٣٣ ، ونسبه لمحمد ، والظاهر أنه الماتن محمد بن أحمد المروزي ، والسرخسي إنما هو شارح لمختصر (المبسوط) لا مؤلفه كما أشار إلى ذلك في مقدّمة كتابه ، حيث إن المبسوط هو جمع لما فرّعه أبو حنيفة. انظر المبسوط ١ : ٣ ـ ٤.

٧٤

والمراد من ذلك أنهم لو تركوها أحيانا حسب الترخيص فلا ينبغي لهم الإهمال بالكليّة على وجه يؤذن بالتهاون وقلّة المبالاة والاستخفاف بالوظائف الدينيّة. والغرض من ذلك تأديب شيعتهم وهدايتهم إلى ما فيه مصالحهم دينا ودنيا ، وأن تأكيدهم في ذلك ؛ لأنه يدخل عليهم مشقّة في ترك السنن والمستحبّات ، ألا ترى أنه ورد أيضا : ملعون من بات وحده في بيت ، وملعون من سافر وحده ، وملعون من أكل زاده وحده (١) ، مع أن هذه الأشياء امور مباحة لا يترتّب على فعلها ولا تركها إثم ولا ثواب ، ولا يدخل عليهم مشقّة بسببها؟ وليس الغرض منها إلّا تأديب الشيعة وتعليمهم وتكميلهم.

وبالجملة ، فما ذكره من هذا الكلام ناقص العيار ، ساقط عن درجة الاعتبار كما لا يخفى على ثاقبي الأفهام والأنظار.

الخامس : قوله : (ففي الاكتفاء في مقام التعليل) ـ إلى آخره ـ فإنّه مبنيّ على ذلك الأساس الذي قد آل بما ذكرناه إلى الانطماس والاندراس ، وكان الواجب عليه بيان [أن] دلالة لفظ (المشقّة) على الكراهة دلالة ظاهرة توجب صرف لفظة «لا يحلّ» عن ظاهرها ؛ ليتمّ له ما ادّعاه ويبني عليه ما بناه. وهو إنّما ادّعى ـ مع الإغماض عن كونها دعوى عارية عن الدليل أيضا ـ كون نوع إشعار في التعليل (٢) ، وقد عرفت ما في (٣) هذه العبارة من ضعف الدلالة ، فإن قولهم : (نوع إشعار) يعني : إشعار ما. وما في هذا الموضع للتقليل كما صرّحوا به ، أي إشعار قليل.

__________________

(١) انظر : مكارم الأخلاق ٢ : ٣٢٤ / ٢٦٥٦ ، بحار الأنوار ٧١ : ٢١ / ٣ ، ٧٤ : ٥١ / ٣.

(٢) في «ح» : في التعليل نوع إشعار ، بدل : نوع إشعار في التعليل.

(٣) في النسختين بعدها : دلالة.

٧٥

ثم إن قوله : (إن العلة مشتركة) ـ يعني : بين التحريم والكراهة (١) ، فلا يصلح لأن تكون قرينة صارفة للفظ «لا يحلّ» عن حقيقته التي هي التحريم كما عرفت ؛ لأن القرينة التي توجب صرف اللفظ عن حقيقته يجب (٢) أن تكون صريحة أو ظاهرة فيما يوجب صرف ذلك اللفظ ، فيكون الواجب حينئذ هو إبقاء «لا يحلّ» على معناه الحقيقي وهو التحريم ؛ لعدم مخرج له عنه ، ويجب حمل هذا المشترك ـ كما زعمه ـ على الحرمة ، التي هي أحد معنييه ـ بزعمه ـ لينطبق التعليل على المعلّل.

وأيضا فإنّه بمقتضى ما ادّعاه هنا من اشتراك المشقّة بين التحريم والكراهة ، وما ذكره سابقا من أن دلالته على الكراهة إنّما هو بنوع إشعار ، يلزمه أن يكون المعنى الآخر الذي هو التحريم هو المعنى الظاهر من لفظ المشقّة. ولا ريب أن الواجب حينئذ في مقام الاستدلال ـ كما لا يخفى على من خاض تيار ذلك البحر الزلال ـ هو الحمل على المعنى الظاهر دون الضعيف البعيد القاصر. وبذلك يظهر لك ما في (٣) بقية الكلام من القصور الظاهر ، كالنور على الطور لكلّ ناظر ؛ لابتنائه على ذلك الأصل المتزعزع الأركان ، فبتزعزعه ينهدم ما عليه من البنيان ، كما هو بحمد الله سبحانه ظاهر لثاقبي الأفكار والأذهان.

السادس : قوله : (فبمجرّد ورود مثل هذا الخبر) ـ إلى آخره ـ فإنّه من ذلك القبيل الذي ليس فيه إلّا مجرّد التطويل ، مع خلوّه عن الحجيّة والدليل ؛ فإن دعواه الكراهة من الخبر الذي هو الأساس لهذا الكلام والتطويل في المقام يحتاج إلى الإثبات بالدليل الصريح والبيان الفصيح ؛ ليصحّ له أن يرتّب عليه أمثال هذه الدعاوى ، وإلّا فمن يعجز عن الدعوى بمجرّد اللسان من غير حجّة ولا برهان؟

__________________

(١) في «ح» بعدها : ظاهر في الردّ عليه ؛ لأنه متى كانت العلة ـ وهي : المشقة ـ مشتركة بين التحريم والكراهة.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : فيجب.

(٣) من «ح».

٧٦

ونحن بحمد الله سبحانه قد أوضحنا لك التحريم في المقام بالأدلّة التي لا يحوم حولها نقض ولا إبرام ، حسب ما قرّره العلماء الأعلام من القواعد المقرّرة في الاستدلال ، والضوابط المحرّرة التي لا يعتريها الإشكال.

السابع : قوله : (ومخالفة ظاهر جلّ الأصحاب) ، فإنّه من أعجب العجاب ، ولكن سيأتي ما هو أعجب منه في الباب ؛ إذ المخالفة إنّما تطلق لغة وعرفا في مقام السلب والإيجاب والإثبات والنفي ، بأن يثبت مثبت حكما وينفيه آخر أو بالعكس ، لا في مقام السكوت عن الحكم وعدم التعرّض له بنفي ولا إثبات ؛ إذ من الظاهر البيّن أن أحدا من الأصحاب سابقا لم يتعرّض لذكر هذه المسألة بنفي ولا إثبات ؛ فكيف تحصل مخالفتهم لمن قال بها وأثبتها؟

ويلزم على كلام هذا القائل ، أنّه لو فعل أحد فعلا ، أو لبس ثوبا ، أو أكل شيئا ولا يعلم عن الأئمّة عليهم‌السلام فيه نفيا ولا إثباتا ، أنّه خالف الأئمّة عليهم‌السلام. على أنّا قد أوضحنا سابقا تصريح محقّقي الأصحاب بجواز المخالفة لما ادّعي فيه الإجماع منهم ، إذا قام الدليل للفقيه على خلافه ، فكيف ما لم يذكروه بالكليّة بنفي ولا إثبات؟

وقد ذكرنا أيضا ما ذهب إليه المحدّثان المتأخّران وشيخنا البهائي (١) والمجلسي (٢) ـ قدس الله أرواحهم وطيّب مراحهم ـ ممّا هو من قبيل ما نحن فيه ، ولم أره ولا غيره يطعن في ذلك ، بل ربّما يتبعهم ويسلك معهم في تلك المسالك ، لكنّ الأمر كما قاله شيخنا الشهيد الثاني ـ كما قدّمنا من كلامه ـ من أن زلّة المتقدّم متسامحة بين الناس دون المتأخّر (٣).

الثامن : قوله : (ولعلّهم رضوان الله عليهم) ـ إلى آخره ـ فإن فيه :

__________________

(١) الحبل المتين : ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار ٨٠ : ٣١٦.

(٣) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٩.

٧٧

أوّلا : أن هذا الكلام إنّما يصحّ لو كانوا صرّحوا بجواز الجمع في هذه المسألة ، وإلّا فسكوتهم عن الحكم وعدم ذكرهم له بنفي ولا إثبات لا يدلّ على قولهم بجوازه وحكمهم بصحّته ، حتّى يفرّع عليه هذه التفريعات ، ويطوّل به هذه التطويلات. ولم نر أحدا عدّ السكوت دليلا على الجواز والرضا ، إلّا في استئذان البكر البالغ في التزويج ، فإنّهم جعلوا سكوتها إقرارها ، فإن كان هذا قياسا على هذا فيمكن تمشية هذا الكلام ، وكفى به وهنا وضعفا لا يخفى على أحد من (١) الأنام.

وثانيا : أنّه لو جاز ردّ النصوص بمثل هذه التخرّصات البعيدة ، والتمحّلات الغير السديدة لتعطّلت الأحكام في كثير من الموارد و (٢) المواضع ، واتّسع الخرق فيها على الراقع (٣) ؛ إذ مثل هذه التخرّصات غير عزيزة الوجود لكلّ قائل ، ولا صعبة الحصول على المجادل ؛ إذ التخرّص بـ (لعلّ) ممكن في كلّ حكم قلّ أو جلّ.

ومن أين علم أن وقوع الجمع كان غير نادر في عصر الأئمّة عليهم‌السلام؟ أبحديث بلغه؟ أم بتواتر اتّصل به؟ وما رأينا أعجب من أن يقول الصادق عليه‌السلام : لا يحلّ الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ، ثم يتجاسر متجاسر بعد سماعه هذا الكلام ويقول : إن الجمع في زمانهم عليهم‌السلام كان جائزا ، وأنّهم لم يمنعوا عنه ، ويجزم بذلك ويفتي به بمجرّد هذه التخرّصات والترهات من غير دليل شرعي يبني عليه ، ولا معتمد قطعي يلجأ إليه. إن هذا لمن أعجب العجاب عند ذوي الأذهان والألباب ،

__________________

(١) أحد من ، ليس في «ح».

(٢) الموارد و، ليس في «ح».

(٣) إشارة إلى البيت الذي يقول :

لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الخرق على الراقع

وقد اختلف في قائله ، وهو من البحر السريع. كتاب سيبويه ٢ : ٢٨٥ / ٣٠٩ ، اللمع (ابن جني) : ١٠٩ ، الأمالي النحوية (ابن الحاجب) ٢ : ١٢٤ / ٨٦ ، شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ١ : ١٥١ ، شرح شذور الذهب : ٨٧ : ٣٣ ، لسان العرب ٩ : ٣٨ ـ عتق.

٧٨

وهل هو إلّا ردّ لكلامه عليه‌السلام ومقابلة لنصّه بالاجتهاد الذي هو ظاهر الفساد بين جملة العباد.

وليت شعري ، أين ما دلّت عليه الزواجر القرآنيّة والأخبار النبويّة من المنع في الحكم ، والفتوى بمجرّد الظنّ والتخمين ، ووجوب البناء فيهما على العلم واليقين المستند إلى آية قرآنيّة ، أو سنّة معصوميّة حتّى يجوز التعويل في الأحكام الشرعيّة على مثل هذه التخرّصات في مقابلة النصوص الواضحة؟

وبذلك يظهر لك ما في قوله : (ولو كان محرّما لكانوا يمنعون الناس أشدّ المنع) ، فإنّه موقوف على إثبات أنّه وقع الجمع في زمانهم عليهم‌السلام بأمرهم ورضاهم (١) ، أو باطّلاعهم ، وهذا ممّا لم يقم عليه دليل. ثم أيّ منع أشدّ من أن يقول عليه‌السلام : لا يحلّ لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ، ويعلّل ذلك زيادة في التأكيد والتشديد بكونه يبلغها عليها‌السلام ويشقّ عليها ـ بمعنى يصعب عليها تحمله ـ كما عرفته من معنى هذا اللفظ الذي هو زيادة على مجرّد الأذى بمراتب كما عرفت آنفا؟ ولكن الكلام من غير تأمّل في المقام قد يضع صاحبه في مضيق الإلزام.

وبذلك يظهر لك ما في بقيّة الكلام من التطويل بغير طائل (٢) سوى مجرّد إيقاع الناس في المشاكل والمعاضل.

التاسع : قوله : (مع ما في هذا التعليل من أنّه لو كان كذلك) ـ إلى آخره ـ فإنّه عجيب غريب ، كما لا يخفى على الموفّق المصيب ؛ وذلك لأنه قد حقّق المحقّقون من علماء الاصول ، ومن عليهم المعتمد في هذه الأبواب وبهم الوصول أن مرجع مفهوم الأولويّة إلى التنبيه بالأدنى ـ أي الأقل مناسبة ـ على الأعلى أي الأكثر مناسبة ، وهو حجّة إذا كان قطعيّا ، بمعنى قطعيّة العليّة في الأصل ، كالإكرام في

__________________

(١) بأمرهم ورضاهم ، ليس في «ح».

(٢) بغير طائل ، من «ح» ، وفي «ق» بدله : الطائل.

٧٩

منع التأفّف في قوله عزوجل (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) (١) ـ الآية ـ وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء في قوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) ، وكون العلّة أشد مناسبة في الفرع.

وأمّا إذا كان ظنيّا ، فيدخل في باب القياس المنهي عنه ، كما يقال : يكره جلوس الصائم المجبوب في الماء ، لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة ، لعدم علم كون علة الكراهة للمرأة هو جذب الفرج الماء.

وحينئذ ، فبمقتضى هذا التقرير يتوقّف الحكم بالأولوّية هنا على بيان العلّة في المشقة الحاصلة بالجمع بين اثنتين من أولادها ؛ ما هي؟ وأنّها عبارة عن ما ذا؟ ثم بعد ذلك لا بدّ من القطع والجزم بكونها هي العلّة على الخصوص ، لا بالظنّ والتخمين ، وإلّا لكان من قبيل القياس الذي عليه اتّباع الوسواس الخناس. وأنت خبير بأن العلّة هنا غير معلومة لنا على اليقين ، كما في الآيتين المشار إليهما آنفا ، فلا يتمشّى الحكم بالأولويّة.

على أن كلامه هنا إذا تأمّلته بعين التحقيق ، ونظرته بالنظر الدقيق ، وجدته ردّا على الإمام عليه‌السلام ؛ إذ لا اختصاص له بالقول بالتحريم كما نذهب إليه دون الكراهة كما يقول به هو في هذا المقام ، فإن الأولويّة لو وجدت وثبتت لترتّبت على كلّ من القولين ، بمعنى أنّه إذا حرم الجمع بين اثنتين من ولدها عليها‌السلام حرم بطريق الأولى الجمع بين واحدة [منهن] (٣) وبين غير الفاطميّة ، وإن كره الجمع بين الاثنتين من ولدها كره بطريق الأولى بين واحدة منهنّ وعاميّة.

فحاصل كلامه حينئذ أنّه لا يجوز تعليل المنع من الجمع سواء كان على جهة التحريم أو الكراهة بالمشقّة ؛ لما يلزم منه من أولويّة التحريم أو الكراهة في

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٣) في النسختين : منهم.

٨٠