الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الملك بعد قتل ابن الزبير ، ثمّ على أولاده الأربعة : الوليد ، فسليمان ، فيزيد ، فهشام.

وتخلّل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين ، والثاني عشر الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، اجتمعوا عليه لمّا مات عمّه هشام ، فولي نحو أربع سنين ، ثمّ قاموا عليه فقتلوه ، وانتشرت الفتن من يومئذ ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك ؛ لوقوع الفتن بين من بقي من بني اميّة ، ولخروج المغرب الأقصى من العباسيين بتغلّب المروانيّين على الأندلس إلى أن تسمّوا بالخلافة ، [وانفرط] (١) الأمر إلى أن لم يبق [من] (٢) الخلافة إلّا الاسم) (٣).

وقيل : المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم يتولّوا. ويؤيده قول أبي الخلد (٤) : كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد.

فعليه المراد بالهرج : الفتن الكبار كالدجال وما بعده ، وبالاثني عشر : الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز. وقيل : يحتمل أن يضمّ إليهم المهدي العباسي ، لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الامويين ، والطاهر العباسي أيضا ؛ لما اوتيه من العدل. ويبقى الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي ، لأنه من أهل بيت المصطفى) (٥) انتهى كلام صاحب (الصواعق).

وقال القاضي نور الله الشوشتري في كتاب (الصوارم المهرقة) بعد ردّه لاحتمالاته المذكورة : (ولقد أنصف حيث شهد بما ذكرنا المولى العلّامة فصيح الدين الاستيباضي (٦) الذي كان استاذ الأمير علي شير (٧) المشهور ، في رسالته

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : انقرض.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : في.

(٣) فتح الباري ١٥ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) في المصدر : أبي الجلد.

(٥) الصواعق المحرقة : ٢٠ ـ ٢١.

(٦) في «ح» : الاستيباطي.

(٧) في «ح» : شير علي ، بدل : علي شير.

٣٤١

الموسومة بـ (إلجام العصاة وإلزام الغلاة) ، حيث قال : (وقد اشكل على مفهوم الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش» (١) ، وفي رواية : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٢).

وقال في شرح (المشارق) و (المصابيح) : يريد بـ «هذا الأمر» : الخلافة.

وأمّا العدد فقيل : إنّه ينبغي أن يحمل على العادلين منهم ، فإنّهم إذا كانوا على سنن الرسول وطريقته يكونون خلفاء ، وإلا فلا ، ولا يلزم أن يكون على الولاء.

هذا ما قالوه ، ولكن لا مقنع فيه ، والله أعلم بما المراد منه) انتهى كلام الفصيح ، وكفى به نصح النصيح لمن سلك الاعوجاج الفضيح.

وممّا ينبغي أن ينبّه عليه أن قوله : (ولكن لا مقنع فيه) ، قد وقع على سبيل رعاية الأدب مع أصحابه ، وإلّا فبطلانه ظاهر جدا كما عرفت.

والحاصل أنه إن اعتبر خلافة الاثني عشر على الولاء يلزم أن يكون معاوية الباغي وجروه الغاوي ، والوليد الزنديق المريد المستهدف للمصحف المجيد (٣) ، وأمثالهم من الخلفاء والأئمّة الذين يكون بهم الإسلام عزيزا ، وهذا ممّا لا يتفوّه به مسلم.

وأيضا يلزم أن تكون الأحكام المنوطة على آراء الخلفاء ـ خصوصا على مذهب الشافعي ـ معطلة بعد انقضاء هؤلاء الاثني عشر إلى يوم الدين ، وإن لم يعتبر ذلك واعتبر انتخاب العادلين منهم ، فمع لزوم خطئهم في بعض الانتخاب يلزم خلوّ الأزمنة الفاصلة بين الخليفتين العادلين منهم من الخليفة والإمام ، مع

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٤ / ١٨٢١.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١٨٢١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٤٠ ، تاريخ الخميس ٢ : ٣٢٠ ، حياة الحيوان ١ : ١٠٣.

٣٤٢

ما يلزم ذلك من تعطيل الاحكام كما مرّ) انتهى كلامه زيد مقامه.

وبذلك يظهر (١) أن لا محمل لهذه (٢) الأخبار إلّا على الأئمّة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، فإنه لا تعتريه شبهة الإيراد ، ولا يزاحمه الفساد.

وأمّا ما ذكره صاحب كتاب الردّ على كتاب (كشف الحق ونهج الصدق) ، حيث قال بعد أن ادّعى عدم جواز الحمل على الأئمّة الاثني عشر : (لأنه إن اريد بالخلافة وراثة العلم والمعرفة وإيضاح الحجة والقيام بإتمام منصب النبوة ، فلا مانع من الصحة ، ويجوز هذا المحمل بل يحسن ، وإن اريد به الزعامة الكبرى والإيالة (٣) العظمى فهذا أمر لا يصحّ ، لأن من الأئمّة الاثني عشر اثنين كانا هما [صاحبي] (٤) الزعامة الكبرى ، وهما علي والحسن ـ رضي‌الله‌عنهما ـ والباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى.

ولو قال الخصم : إنّهم كانوا خلفاء ولكن منعهم الناس من حقهم.

قلت (٥) : سلّمت أنّهم لم يكونوا خلفاء بالفعل ، بل بالقوة والاستحقاق ، وظاهر مراد الحديث أن يكونوا خلفاء قائمين بالزعامة والولاية ، وإلّا فما الفائدة في خلافتهم في إمامة الدين؟ وهذا ظاهر ، والله أعلم) ـ انتهى كلامه ـ فيرد عليه :

أولا : أنّ الخلافة والإمامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا (٦) نيابة عن النبي ، وفعليتها إنّما تكون بالنص والتعيين من الله سبحانه ورسوله ، فكلّ من حصل النص عليه كان الخليفة والإمام ، سواء مضى حكمه وتصرّفه في الخلق أم لا. هذا

__________________

(١) في «ح» بعدها : لك.

(٢) من «ع» ، وفي «ق» : من ، وفي «ح» على هذه.

(٣) الإيالة : السياسة. الصحاح ٤ : ١٦٢٨ ـ أول.

(٤) في النسختين : صاحب.

(٥) في «ح» : قلنا.

(٦) من «ح».

٣٤٣

عند الإمامية (١) ، وعند أهل السنة (٢) أنّها كذلك أيضا ، إلّا إنّها منوطة باختيار الامّة ، فكلّ من اختاروه وقدّموه فيها كان خليفة ، سواء نفذ حكمه وتمّ تصرّفه أم لا.

فحصول الملك والإيالة ونفوذ الأمر والنهي لا مدخل له في حقيقتها على المذهبين ؛ أمّا على مذهب الإماميّة فظاهر ، وأمّا على مذهب أهل السنّة فلأنّه لو لم يكن كذلك للزم ألّا يكون أبو بكر خليفة لمّا امتنع الأعراب من أداء الزكاة إليه ولو بالنسبة إليهم (٣) ، ولما كان عثمان وقت محاصرته خليفة أيضا ، ولما كان علي عليه‌السلام خليفة عند خروج الفرق الثلاث عليه ولو بالنسبة إليهم ، مع أن الأمر عند أهل السنّة ليس كذلك اتفاقا.

وثانيا : أنّه لو كانت الخلافة منوطة بالملك والرئاسة والتصرف بالفعل للزم ذلك في جانب النبوة ؛ إذ هي نائبة عنها وحالّة محلّها ، وبه يلزم بطلان نبوة الأنبياء كلّهم أو جلّهم ولو في بعض الأوقات ؛ لتكذيب قوم كلّ نبي له واستكبارهم عن طاعته.

ولله در الوزير السعيد الأربلي في كتاب (كشف الغمة) ، حيث قال ـ بعد نقل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحسن والحسين عليهما‌السلام : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» ـ ما صورته : (ولا يقدح في مرادنا كونهم منعوا الخلافة والمنصب الذي اختاره الله لهم واستبد غيرهم به ؛ إذ لم يقدح في نبوة الأنبياء عليهم‌السلام تكذيب من كذّبهم ، ولا وقع الشكّ فيهم لانحراف من انحراف عنهم ، ولا شوّه وجوه محاسنهم تقبيح من قبحها ، ولا نقّص شرفهم خلاف من عاداهم (٤) ونصب لهم العداوة وجاهرهم بالعصيان.

__________________

(١) شرح الأخبار في فضائل الأئمَّة الأطهار ٢ : ١٢٢ ، كشف الغمة ١ : ٥٩.

(٢) انظر شرح المواقف ٨ : ٣٤٥.

(٣) انظر الملل والنحل ١ : ٣٣ ، فتح الباري ١ : ١٠٨.

(٤) في المصدر : عاندهم ، وفي «ح» : عنادهم.

٣٤٤

وقد قال علي عليه‌السلام : «وما على المؤمن من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتابا في يقينه» (١).

وقال عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه : والله لو ضربونا حتّى [يبلغونا] (٢) سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وأنّهم على الباطل. وهذا واضح لمن تأمله) (٣) انتهى.

وحينئذ ، فقول ذلك القائل ـ في جواب ما أورده من جانب الخصم ـ : (قلنا :سلّمت أنّهم لم يكونوا خلفاء بالفعل بل بالقوة) مغالطة لا تروج إلّا عند ناقصي الأذهان من البلّه والنساء والصبيان.

وثالثا : أنّ ما زعمه من له انتفاء الفائدة في خلافتهم مع عدم تصرفهم ؛ فإن فيه ما ذكره أفضل المحقّقين في (التجريد) بقوله : (ووجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وعدمه (٤) منّا) (٥) يعني أن وجود الإمام لطف ، سواء تصرف أم لا.

ويعضده ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إمّا ظاهر مشهور ، أو خائف مغمور ؛ لئلا تبطل حجج الله وبيّناته» (٦).

ويعضده أيضا ما رواه أحمد بن حنبل في (المسند) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النّجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» (٧).

وبالجملة ، فإنّ منعهم من التصرّف لا يمنع من اللطفيّة (٨) المقصودة من إيجادهم وإمامتهم.

__________________

(١) في المصدر : بيقينه ، بدل : في يقينه.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : بلغونا.

(٣) كشف الغمة ١ : ٥٩.

(٤) في المصدر : غيبته ، غير أن في نسخة كشف المراد : ٣٦٢ ، ونسخة شرح القوشجي : ٤٠٠ وردت العبارة بلفظ : عدمه.

(٥) تجريد الاعتقاد : ٢٢١.

(٦) نهج البلاغة : ٦٨٦ ـ ٦٨٧ / الكلام : ١٤٧.

(٧) مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٣٩٩.

(٨) من «ح» ، وفي «ق» : اللطيفة.

٣٤٥

ورابعا : أن ما ذكره من قوله : (إن اريد بالخلافة وراثة العلم) ـ إلى آخره ـ إنّما هو قول باللسان ، وإلّا فلو كان ذلك عن صحة واعتقاد فكيف عدلوا عن علوم اولئك الأئمّة الأمجاد إلى العمل بالقياس والاستحسان والأخذ عن غيرهم ، بل لم يساووهم بغيرهم ، ولم ينقلوا عنهم حكما من الأحكام في حلال ولا حرام ، كما هو بحمد الله سبحانه ظاهر لذوي الأفهام؟

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن هذه الأخبار التي قدّمناها وإن كانت مجملة ـ كما عرفت ـ إلّا إن هاهنا أخبارا مستفيضة من طرق القوم أيضا ، صريحة في المراد ، سالمة من الإيراد ، فمنها ما يدلّ صريحا وتفصيلا على أسامي الأئمّة الأمجاد ، ومنها ما يدلّ إجمالا ولكن لا كذلك الإجمال ، بل هي صريحة في الاختصاص بهم عليهم‌السلام من حيث التعبير فيها بلفظ (العترة) و (الذرية) ونحوهما ممّا لا يدخل فيه غيرهم.

فمنها ما رواه صدر الأئمّة أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي في كتابه قال : حدّثنا فخر القضاة نجم الدين أبو منصور محمد (١) بن الحسين بن محمّد البغدادي فيما كتب إلي من همدان قال : أنبأنا الإمام الشريف نور الهدى أبو طالب الحسن بن محمّد الزبيبي قال : أخبرنا إمام الأئمّة محمد بن أحمد (٢) بن شاذان قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ قال : حدّثنا محمد بن سنان الموصلي عن أحمد بن محمّد بن صالح عن سلمان بن محمّد عن زياد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سلامة عن أبي سليمان (٣) راعي [إبل] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ليلة اسري بي إلى السماء

__________________

(١) في النسختين بعدها : بن محمّد ، وما أثبتناه وفق الطرائف.

(٢) حدّثنا فخر القضاة .. محمد بن أحمد ليس في المصدر.

(٣) في المصدر : أبي سلمى.

٣٤٦

قال لي الجليل جلّ جلاله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (١). فقلت : والمؤمنون. قال : صدقت يا محمّد ، من خلّفت في أمتك؟ [قلت] (٢) : خيرها. قال : علي ابن أبي طالب؟ قلت : نعم. قال : يا محمد ، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسما من أسمائي ، فلا اذكر في موضع إلّا ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمّد. ثمّ اطّلعت ثانية فاخترت منها عليّا وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا الأعلى وهو علي.

يا محمّد ، إنّي خلقتك وخلقت عليّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولده من [سنخ] نور من نوري ، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض ، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين ، ومن جحدها كان عندي من الكافرين.

يا محمّد ، لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي ، ثمّ أتاني جاحدا لولايتكم ، ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم.

يا محمّد ، أتحبّ أن تراهم؟ قلت : نعم يا ربّ. فقال لي : التفت عن يمين العرش.

فالتفت ، فإذا علي (٣) وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي ومحمد بن الحسن (٤) المهدي في ضحضاح من نور ، قيام يصلّون وهو في وسطهم ـ يعني المهدي ـ كأنّه كوكب درّي.

وقال : يا محمّد ، هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك ، وعزّتي وجلالي إنه الحجة الواجبة لأوليائي ، المنتقم من أعدائي» (٥).

__________________

(١) البقرة : ٢٨٥.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : قال.

(٣) في المصدر : فإذا أنا بعلي ، بدل : فإذا علي.

(٤) محمّد بن الحسن ، ليس في المصدر.

(٥) مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧ / ٢٣.

٣٤٧

إلى الحسن بن علي الموصلي إلى أبي سليمان (١).

وبالإسناد عن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان قال : حدّثنا محمد بن علي ابن الفضل عن محمد بن القاسم عن عبّاد بن يعقوب عن موسى بن عثمان عن الأعمش قال : حدّثني أبو إسحاق عن الحرث وسعيد [بن] (٢) بشير عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا واردكم [على الحوض] وأنت يا علي الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الآمر ، وعلي بن الحسين الفارط ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السائق ، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمبغضين وقامع المنافقين ، وعلي بن موسى مزيّن المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في (٣) درجاتهم ، وعلي بن محمد خطيب شيعته ومزوّجهم الحور العين ، والحسن بن علي سراج أهل الجنة يستضيئون به ، والمهدي شفيعهم يوم القيامة ، حيث لا يأذن الله إلّا لمن يشاء ويرضى». انتهى ما في كتاب الخطيب المذكور. وقد وقفت على الرواية الاولى والثانية أيضا بالسند واللفظ المذكورين هنا في كتابه المشتمل على مقتل الحسين (٤) وأخذ ثاره وجملة من الفصول في الفضائل.

ومنها ما رواه الكنجي الشافعي في كتاب (كفاية الطالب) ـ وهو من أجلّة علماء القوم ومحدّثيهم ـ قال : حدّثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد ، وحدّثنا أبو محمد هارون بن موسى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، وحدّثنا أبو علي محمد بن أشعث بن همام ، وحدّثنا عامر بن كثير البصري : قال هارون : حدّثنا جرير بن نعيم السمرقندي قال : حدّثنا أبو النظر محمد بن مسعود العياشي

__________________

(١) عنه في بحار الأنوار ٣٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / ١٨ ، وفيه : عن علي بن سنان الموصلي عن أحمد بن محمد الخليلي عن محمد بن صالح الهمداني عن سليمان بن أحمد.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : عن.

(٣) ليست في المصدر.

(٤) انظر في الحديث الأوّل مقتل الحسين ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧ / ٢٣ ، وفي الحديث الثاني مقتل الحسين ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥ / ٢١.

٣٤٨

عن (١) يوسف بن إسحاق البصري عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر بن هشام بن زيد عن الحسين بن محمّد عن أبي شعيب عن مسكين بن بكير أبي بسطام عن شعبة بن سعد بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال :

كنت أنا وأبو ذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ دخل الحسن والحسين ، فقبّلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقام أبو ذر فأكبّ عليهما وقبّل يديهما ورجع فقعد معنا ، فقلنا له سرا : يا أبا ذر ، ما رأينا شيخنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم إلى صبيّين من بني هاشم فينكبّ عليهما ويقبّلهما ويقبّل يديهما؟ فقال : نعم ، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر ممّا فعلت. فقلنا : وما سمعت فيهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : سمعته يقول لعلي ولهما : «والله لو (٢) أن عبدا صلّى وصام حتّى يصير كالشن البالي إذن ما نفعه صلاته وصومه إلّا بحبكم والبراءة من عدوّكم. يا علي ، من توسل إلى الله بحقكم فحقّ على الله ألّا يردّه خائبا ؛ يا علي ، من أحبّكم وتمسّك بكم فقد تمسّك بالعروة الوثقى».

قال : ثمّ قام أبو ذر فخرج ، فتقدّمنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلنا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرنا أبو ذر بكيت وكيت ، فقال : «صدق أبو ذر ، والله ما أظلّت الخضراء ولا (٣) أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خلقني الله سبحانه وتعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف عام ، ثمّ نقلنا في صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات».

قلت : يا رسول الله ، وأين كنتم وعلى أيّ شأن كنتم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنّا أشباحا من نور تحت العرش نسبّح الله ونقدّسه».

__________________

(١) في «ح» بعدها : أبو.

(٢) من «ح».

(٣) أظلت الخضراء ولا ، من «ح».

٣٤٩

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لمّا عرج بي إلى السماء وبلغت إلى سدرة المنتهى ردّ عنّي جبريل ، فقلت : يا حبيبي جبرئيل ، في مثل هذا المقام تفارقني؟ فقال : يا محمد إنّي لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي».

ثم قال : «فزجّ بي من النور إلى النور ما شاء الله تعالى ، فأوحى الله تعالى إليّ : يا محمّد ، إنّي اطلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها وجعلتك نبيا. ثمّ اطّلعت ثانيا فاخترت منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك وإماما بعدك ، واخرج من أصلابكم الذرّية الطاهرة والأئمّة المعصومين خزّان علمي ، ولولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنّة ولا النار. أتحبّ أن تراهم؟ فقلت : نعم يا ربّ. فنوديت : ارفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر ابن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمّد والحسن ابن علي والحجة بن الحسن يتلألأ من بينهم كأنّه كوكب درىّ.

فقلت : يا ربّ ، من هؤلاء ومن هذا؟ فقال سبحانه : هؤلاء الأئمّة من بعدك المطهّرون من صلبك ، وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، ويشفي صدور قوم مؤمنين».

فقلنا : بآبائنا وامهاتنا أنت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد قلت عجبا! قال : «وأعجب من هذا أن قوما يسمعون هذا من امتي ثمّ يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ، ويؤذونني فيهم ، لا أنالهم الله شفاعتي» (١).

وقال صاحب كتاب (مقتضب الأثر) : ومن أعجب الروايات في أعداد الأئمّة وأساميهم من طريق المخالفين ما أسنده عبد الصمد بن كرم الطشي إلى داود بن كثير الرقي قال : دخلت على الصادق فقال : «ما أبطأك يا داود؟». قلت : عرضت

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٣٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ / ١٤٠

٣٥٠

حاجة بالكوفة قال : «ما رأيت بها؟» قلت : رأيت زيدا يدعو إلى نفسه قال : «يا سماعة ، ايتني بتلك الصحيفة» فجاءه بها فدفعها إليه ، وقال : «هذه ممّا أخرج إلينا أهل البيت ، بشّر به كابر عن كابر من لدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». فقرأتها فإذا هي فيها سطران : «لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله» ، والسطر الثاني (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والخلف منهم الحجة لله ، أتدري يا داود أين كان؟ ومتى كان مكتوبا؟» قلت : الله ورسوله أعلم وأنتم. فقال : «قبل خلق آدم ، فأين يتاه بزيد ويذهب به» (٢) الحديث.

هذا ما يدلّ من الأخبار على ما قدّمنا من ذكر أسمائهم عليهم‌السلام تفصيلا.

وأما ما يدلّ على ذلك إجمالا فأخبار كثيرة لا يأتي عليها قلم الإحصاء في المقام ، إلا إنّا نذكر ما تيّسر ؛ إقامة للحجة وإظهارا للمحجة ، فمنها ما ذكره الخطيب الخوارزمي في كتاب (المناقب) على أثر الحديثين المتقدّمين ، وعلّق إسناده على ما في سند الأوّل منهما ، قال : وبالإسناد السابق عن ابن شاذان قال : حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد (٣) العلوي الطبري عن أحمد بن أبي عبد الله (٤) ، حدّثني جدّي أحمد بن محمد عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن عمر (٥) بن اذينة قال : حدّثنا أبان بن عيّاش (٦) عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان المحمدي قال : دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا الحسين على فخذه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه ، وهو

__________________

(١) التوبة : ٣٦.

(٢) عنه في الصراط المستقيم ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٣) في المصدر : علي ، بدل : محمد.

(٤) في المصدر : عبد الله ، بدل : أبي عبد الله

(٥) في المصدر : عمرو.

(٦) في المصدر : أبي عياش ، بدل : عياش.

٣٥١

يقول : «أنت سيد ابن سيّد أبو السادة ، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمّة ، أنت حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك ، تاسعهم قائمهم» (١).

ومثله روى في كتاب (المقتل والفضائل) (٢) الذي قدّمنا الإشارة إليه.

ومنها ما رواه الخطيب في كتاب (المقتل والفضائل) المذكور بسنده فيه إلى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا ميزان [العلم] ، وعليّ كفتاه ، والحسن والحسين خيوطه ، وفاطمة علاقته ، والأئمّة من امتي عموده ، يوزن فيه أعمال المحبّين لنا والمبغضين لنا» (٣).

وروى في الكتاب المذكور بسنده فيه إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بهجة قلبي (٤) ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمّة من ولدها امناء ربي وحبله الممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم هوى» (٥) ، ثمّ قال : (وذكر محمد بن شاذان هذا) (٦).

ورواه أيضا الزمخشري في (الفائق) (٧) عن محمد بن أحمد بن شاذان ، إلى آخر السند والمتن الذي نقله الخطيب.

وروى الخطيب أيضا في الكتاب المذكور بسنده فيه إلى الحسين عليه‌السلام قال : «سمعت جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي ويدخل

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام : ٢١٢ / ٧.

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ٢١٢ / ٧.

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ١٦٠ / ٦٠.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : منّي.

(٥) مقتل الحسين عليه‌السلام (الخوارزمي) ١ : ٩٩ / ٢١.

(٦) مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ٩٩ / ٢٢ ، كذا في النسخة المحققة من المقتل ، حيث وضع هذه العبارة في أول كل حديث يراد ان تكون في الحديث الذي قبله ، والظاهر أنه اشتباه من المحقق ؛ إذ الأوفق أن تلحق هذه العبارة بالحديث السابق لها لا أن توضع في أوّل الحديث التالي لها كما فعله المحقق في عامّة الكتاب.

(٧) عنه في بحار الأنوار ٢٣ : ١١٠ / ١٦.

٣٥٢

الجنة التي وعدني ربي فليتولّ علي بن أبي طالب وذرّيته الطاهرين ، أيمة الهدى ومصابيح الدجى ، فإنّهم لن يخرجوك من باب الهدى إلى باب الضلالة».

إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المطّلع على كتبهم المصنّفة في المناقب. والعجب كلّ العجب من ناقلي هذه الأخبار كيف أغمضوا عمّا فيها من الدلالة الصريحة على إمامة الأئمّة المعصومين ، وبما ذا غدا يجيبون بين يدي ربّ العالمين؟

والظاهر أن السبب في ذلك هو ما روي عندهم من الأخبار التي وضعتها الاموية في فضائل الخلفاء ، وتقديم العمل بتلك الأخبار ، وارتكاب التأويل في جانب هذه. وعسى أن نذكر ذلك في بعض درر الكتاب إن شاء الله تعالى ، والله الهادي لمن يشاء.

٣٥٣
٣٥٤

(٦٤)

درّة نجفية

في خطبة فاطمة عليهما‌السلام في مطالبتها بفدك وعند الموت

خطبتها عليها‌السلام لما منعت ميراثها

خطبة سيدتنا وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام لمّا منعت ميراثها قد ذكرها جملة من علماء الخاصة والعامة (١) ، وقد نقلها ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة وفدك) وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقيب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن أبي الحديد : (وأبو بكر هذا عالم محدّث كثير الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنّفاته وغير مصنّفاته (٢)) (٣).

أقول : ورواها عن الجوهري أيضا الوزير السعيد علي بن عيسى الأربلي في (كشف الغمة) (٤) ، ورواها الطبرسي ـ من علمائنا ـ في (الاحتجاج) (٥) ، ورواها أيضا محمد بن عمران المرزباني ـ من أعاظم المؤرخين ونقلة الأخبار ـ عن عروة عن عائشة (٦) ، ورواها الشيخ أسد بن سقروه في (الفائق) عن الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه بسنده إلى الزهري عن عروة عن عائشة.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) وغير مصنّفاته ، ليس في المصدر.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢١٠.

(٤) كشف الغمة ٢ : ١٠٨ ـ ١١٤.

(٥) الاحتجاج ١ : ٢٥٣ ـ ٢٨٤ / ٤٩.

(٦) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٤٩.

٣٥٥

ونحن ننقلها برواية ابن أبي الحديد (١) عن الجوهري في كتاب (السقيفة) (٢) ، قال أبو بكر : فحدثني محمد بن زكريا ، قال : حدّثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال : حدّثني أبي عن الحسين بن صالح بن حي قال : حدّثني رجلان من بني هاشم ، عن زينب بنت علي بن أبي طالب.

قال : وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عليه‌السلام.

قال أبو بكر : وحدّثني عثمان بن عمران العجيفي ، عن نايل بن نجيح عن عمرو (٣) بن شمر ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام.

قال أبو بكر : وحدّثني أحمد بن محمد بن يزيد ، عن عبد الله بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد الله بن حسن بن الحسن.

قالوا جميعا : لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار ، فضرب بينها وبينهم ريطة (٤) بيضاء ـ وقال بعضهم : قبطية ـ ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ، ثمّ أمهلت طويلا حتّى سكنوا من فورتهم ، ثمّ قالت : «أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطّول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر بما ألهم ، والثناء (٥) بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها وسبوغ آلاء أسداها

__________________

(١) يشار إلى أن ابن أبي الحديد لم ينقلها بتمامها. انظر الهامش : ٧ ، من هذه الصفحة.

(٢) السقيفة وفدك : ٩٨ ـ ١٠٢.

(٣) في المصدر : عمير.

(٤) الريطة : الملاءة إذا كانت قطعة واحدة. مختار الصحاح : ٢٦٦ ـ ريط.

(٥) من قولها : والثناء ، إلى قولها الآتي : إخلاصا للربوبية ، الآتي في الصفحة : ٣٥٩ ، ليس في شرح نهج البلاغة ، بل فيه بدله : وذكر خطبة طويلة جيدة ، قالت في آخرها : فاتقوا الله .. ، وقد ورد هذا الكلام في الاحتجاج ١ : ٢٥٣ ـ ٢٨٤ / ٤٩ ، وكشف الغمّة ٢ : ١٠٩ ـ ١١٤ ، وقد ضبطنا بعض ألفاظ الخطبة على الاحتجاج.

٣٥٦

وإحسان (١) منن أولاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنّى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأنار في الفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام الإحاطة به (٢).

أبدع الأشياء لا من شي‌ء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيّته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها إلّا تثبيتا لحكمته وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته ، وتعبّدا لبريّته ، وإعزازا لدعوته. ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته.

وأشهد أنّ أبي محمد بن عبد الله عبده ورسوله ، اختاره قبل أن يجتبله ، واصطفاه قبل أن يبتعثه (٣) ، وسمّاه قبل أن يستجيبه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله بمآل الامور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة (٤) بمواقع المقدور. ابتعثه إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه (٥) ، فرأى الامم فرقا في أديانها ، عابدة لأوثانها ، عكّفا على نيرانها منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلمها ، وفرّج عن القلوب بهمها ، وجلا عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى

__________________

(١) في «ح» : وتمام.

(٢) في «ح» : كيفيته ، بدل : الإحاطة به.

(٣) في «ح» : يبعثه.

(٤) في «ح» بعدها : منه.

(٥) من «ح» والاحتجاج ، وفي «ق» : حكمه ، وفي كشف الغمة : حقه.

٣٥٧

الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم (١).

ثمّ قبضه الله قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تعب هذه الدار ، موضوعا عنه أعباء الأوزار ، محفوفا بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، وجوار الملك الجبار ، فصلّى الله على أبي ـ نبيّه و (٢) أمينه بالوحي وخيرته من الخلق ورضيّه ـ ورحمه‌الله وبركاته».

ثمّ التفتت إلى أهل المجلس و (٣) قالت : «وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة كتاب الله ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الامم حولكم (٤) ، لله فيكم عهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله بيّنة بصائره ، وآي (٥) منكشفة سرائره ، متجلّية ظواهره ، قائد إلى الرضوان أتباعه ، ومؤدّ إلى النجاة استماعه ، فيه تبيان حجج الله المنيرة ، ومواعظه المكرّرة ومحارمه المحذورة ، وأحكامه الكافية ، وبيّناته الجالية ، وجمله الشافية ، وشرائعه المكتوبة ، ورخصه الموهوبة.

ففرض الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم من الكبر ، والزكاة تزييدا لكم في الرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسكا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزّا للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر (٦) ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والبر بالوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة (٧) في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخسة ، واجتناب

__________________

(١) وقام في الناس .. المستقيم ، من «ح».

(٢) أبي نبيّه و، من «ح».

(٣) ثم التفتت إلى أهل المجلس و، من «ح».

(٤) في «ح» : وزعمتم حق لكم ، بدل : حولكم.

(٥) شطب عنها في «ح».

(٦) على استيجاب الأجر ، من «ح» ، وفي «ق» بدله : للاستيجاب.

(٧) النّسأة : التأخير. الصحاح ١ : ٧٦ ـ نسأ.

٣٥٨

قذف المحصنات حجابا من اللعنة ، والانتهاء عن شرب الخمور تنزيها من الرجس ، ومجانبة السرقة إيجابا للعفّة ، والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستيثار بفيئهم إجارة من الظلم ، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية ، والتبري من صفة الشرك إخلاصا للربوبية (١).

فاتقوا الله حقّ تقاته ، وأطيعوه فيما أمركم به فـ (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) واحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة ، ونحن وسيلته في خلقه ، ونحن خاصّته ومحل قدسه ، ونحن حجته في غيبه ، ونحن ورثة أنبيائه».

ثمّ قالت : «أنا فاطمة بنت محمد ، أقول عودا على بدء ، وما أقول ذلك سرفا ولا شططا ، فاسمعوا (٣) بأسماع واعية ، وقلوب راعية ، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤) فإن (٥) تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، فبلّغ الرسالة صادعا بالنذارة ، مائلا عن سنن المشركين ، آخذا بأكظامهم ، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يهشم الأصنام ، ويفلق الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وحتّى تعرّى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقائق الشياطين ، وتمّت كلمة الإخلاص ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، نهزة الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ؛ أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، حتّى أنقذكم الله برسوله (٦) ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا

__________________

(١) من قولها عليها‌السلام السابق : والثناء بما قدّم المار في الصفحة : ٣٥٦ إلى هنا ليس في شرح نهج البلاغة.

(٢) فاطر : ٢٨.

(٣) في «ح» بعدها : إليّ.

(٤) التوبة : ١٢٨.

(٥) من هنا إلى قولها : ووخز السنان في الحشا ، الآتي في الصفحة : ٣٦٠ ، وردت في شرح النهج : ١٦ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٦) من «ح» ، وفي «ق» : ورسوله.

٣٥٩

اللهُ) (١) ، أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها. فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، وأنتم في رفاهية آمنون فاكهون وادعون.

حتّى إذا اختار الله لنبيّه دار الأنبياء ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم ، فدعاكم وألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين. ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، واوردتم غير شربكم. هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل.

زعمتم خوف الفتنة ، (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢).

فهيهات! وأنّى بكم وأنّى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ؛ زواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ، وأوامره واضحة. أرغبة عنه تريدون ، أم بغيره (٣) تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤).

ثمّ لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ، ثمّ أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، تسرّون حسوا في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ، ووخز السنان في الحشا (٥) ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا؟ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٦).

يا بن أبي قحافة ، أترث أباك ولا أرث أبي؟ (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) التوبة : ٤٩.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : لغيره.

(٤) آل عمران : ٨٥.

(٥) من قولها عليها‌السلام : فإن تعزوه تجدوه أبي ، المار في الصفحة : ٣٥٩ إلى هنا ، ورد في شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٦) المائدة : ٥٠.

٣٦٠