الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

ظاهرا لجميع ذوي الأفهام ، فإنّه لا يوجب طعنا على طريقة أهل الأخبار ، كما وقع للصدوق قدس‌سره في غير موضع من الأحكام (١) ، والله العالم.

__________________

(١) منها في خطبة الجمعة ، حيث ذهب إلى أن محلّها بعد صلاة الجمعة وأن تقديمها بدعة عثمانية (١). وهذا ممّا لم يذهب إليه أحد من المتقدمين ولا المتأخّرين ، وبدعة عثمان إنما هي في صلاة العيدين ، كما في الأخبار (٢) ، وعليه اتفاق علمائنا ، رضوان الله عليهم.

ومنها منعه أولاد الأولاد الميراث إذا اجتمعا مع الأبوين أو أحدهما (٣).

ومنها قوله في إرث الولاء بأن المعتق يرث من أعتقه ، وكذا بالعكس ، فيجعل ميراث الولاء مثل ميراث النسب في التوارث (٤) من الطرفين. وهذا مما لم يذهب إليه أحد سواه. إلى غير ذلك من المذاهب الشاذة النادرة. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

١ ـ الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٣ ، علل الشرائع ١ : ٣٠٩ / ب ١٨٢ ، ح ٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ٤٦٠ / ٣ ، باب صلاة العيدين والخطبة فيهما ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٨٧ / ٨٦٠ ، وسائل الشيعة ٧ : ٤٤٠ ـ ٤٤١ ، أبواب صلاة العيد ، ب ١١ ، ح ١ ـ ٢.

٣ ـ الفقيه ٤ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ب ١٤١.

٤ ـ الفقيه ٤ : ٢٢٤ / ب ١٥١.

٣٠١
٣٠٢

(٦٠)

درّة نجفية

في بيان حديث أنّ للصلاة أربعة آلاف حدّ أو باب

روى المشايخ الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ عن الصادق عليه‌السلام في الصحيح من (الكافي) (١) و (التهذيب) (٢) ، ومرسلا في (الفقيه) (٣) قال : «الصلاة لها أربعة آلاف حدّ».

وروى الصدوق في (الفقيه) (٤) مرسلا ، وفي (العيون) (٥) ، و (العلل) (٦) مسندا عن الرضا عليه‌السلام قال : «الصلاة لها أربعة آلاف باب».

وقد قيل في بيان هذه الحدود والأبواب المنطبقة على هذا العدد وجوه من الاحتمالات وضروب من المقالات ، منها ما صرّح به شيخنا الشهيد ـ رفع الله درجته ـ في رسالته (النفلية) حيث قال : (أمّا بعد ، فإني لمّا وقفت على الحديثين المشهورين عن أهل بيت النبوّة). ثمّ ذكر الحديثين المذكورين ، ثمّ قال : (ووفق الله سبحانه لإملاء (الرسالة الألفية) في الواجبات ، ألحقت بها بيان المستحبات ، وأفردت منها ما يزيد على ثلاثة آلاف ؛ تيمّنا بالعدد تقريبا وإن كان المعدود لم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧٢ / ٦ ، باب فرض الصلاة ، وفيه : للصلاة أربعة آلاف حدّ.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٤٢ / ٩٥٦ ، وفيه ما في الكافي.

(٣) الفقيه ١ : ١٢٤ / ٥٩٩.

(٤) الفقيه ١ : ١٢٤ / ٥٩٨.

(٥) عيون أخبار الرضا ١ : ٢٥٥ / ٧.

(٦) لم نعثر عليه في (علل الشرائع) ، وهو موجود بهذا السند في الخصال : ٦٣٨ / ١٢ ، حديث أربعمائة.

٣٠٣

يقع في الخلد تحقيقا ، فتمّت الأربعة من نفس المقارنات ، واضيف إليها سائر المتعلّقات) (١). إلى آخر كلامه ، زيد في مقامه.

وفي ثبوت جميع ما ذكره قدس‌سره ، أو استفادته من النصوص إشكال ، كما لا يخفى على من راجع الرسالتين.

ومنها أن المراد : الفرائض والآداب والسنن فعلا وتركا ، كما ذكر ، إلّا إن التعبير بهذا العدد إنّما خرج من باب الكناية عن الكثير ، فإن التعبير عن الشي‌ء الكثير بالألف شائع ، فكما أن الصلاة فرائض ونوافل ، ولها محرّمات ومكروهات ، وهي حدودها وأبوابها ، فلها أربعة آلاف حدّ باعتبار كثرة كلّ من هذه الأربعة المذكورة. ذكر ذلك المحدّث الكاشاني في كتابه (الوافي) (٢) ، وهو محتمل غير بعيد.

ومنها أن المراد بالحدود والأبواب : المسائل المتعلّقة بالصلاة ، قيل : وهي تبلغ أربعة آلاف بلا تكلّف. نقله شيخنا المجلسي (٣) عن والده قدس‌سرهما.

أقول : هذا الوجه راجع في الحقيقة إلى الوجه الأوّل المنقول عن شيخنا الشهيد رحمه‌الله.

ومنها أن المراد : أسباب الربط إلى جناب قدسه تعالى ، فإنه لا يخفى على العارف أنه من حين توجهه إليه تعالى وشروعه في مقدّمات الصلاة إلى أن يفرغ منها يفتح له من أبواب المعارف ما لا يحصيه إلّا الله سبحانه. وهذا الوجه أيضا نقله شيخنا المتقدّم ذكره (٤) عن والده ، ولا يخفى بعده ، بل الحديث الآتي يردّه.

ومنها أن المراد بالحدود : المسائل ، وبالأبواب : أبواب الفيض والفضل ؛ فإن

__________________

(١) الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية : ٦ ـ ٧ (المتن).

(٢) الوافي ٨ : ٨٢٧ ـ ٨٢٨.

(٣) بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٣.

(٤) بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٣.

٣٠٤

الصلاة معراج المؤمن (١). نقله شيخنا المشار إليه (٢) أيضا عن والده ، ولا يخفى بعده.

ومنها أن المراد بالأبواب : أبواب السماء التي ترفع منها إليها الصلاة كلّا من باب ، أو الأبواب (٣) على التعاقب ، فكلّ صلاة تمرّ على كلّ الأبواب. ذكره شيخنا (٤) المشار إليه احتمالا في الخبر ، ولا يخفى بعده.

ومنها أن أقل المراتب من المفروض ألف ومن المسنون ألف ، ويتبع الأول ألف حرام والأخير ألف مكروه ، على ما ذكره غير واحد من المحقّقين (٥) أن كلّ واجب ضدّه العام حرام ، وكلّ مندوب ضدّه العام مكروه ، فيكمل نصاب العدد حينئذ.

ذكره العلّامة العماد المير محمد باقر الداماد (٦).

واورد عليه : أن الأمر الواحد لا يعدّ مرّتين باعتبارين.

ومنها أن مسائل أبواب العبادات من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفروعها تبلغ ذلك المبلغ وتجاوزه على التضاعف ، وجميع العبادات قد نيط بها قبول الصلاة ، من قبلت صلاته قبلت سائر أعماله ، ومن ردّت عليه صلاته ردّت عليه سائر أعماله (٧) ، فقد رجع جميع ذلك إلى حدود الصلاة. ذكره العلّامة الداماد أيضا (٨).

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ٢٤٨ ، ٣٠٣ / ٢ ، و ٨١ : ٢٥٥.

(٢) بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٣.

(٣) في «ح» : كل باب من الابواب ، وفي المصدر : من كل باب أو الأبواب.

(٤) بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٥) ذكرى الشيعة ٣ : ١٢٩ ، مسالك الأفهام ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، روض الجنان : ١٦٥.

(٦) عنه في بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٤.

(٧) الفقيه ١ : ١٣٤ / ٦٢٦ ، وسائل الشيعة ٤ : ٣٤ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٨ ، ح ١٠.

(٨) عنه في بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

٣٠٥

ولا يخفى بعده ؛ فإن المتبادر من الخبرين المتقدّمين أن المراد من تلك الأبواب والحدود : ما يكون له مدخل في صحة الصلاة وتمامها وكمالها ، والأمر هنا بالعكس ، بمعنى أن قبول تلك الأعمال متوقف على قبول الصلاة ، فهي لا مدخل لها في كمال الصلاة ، بل كمال الصلاة مكمّل لها كما عرفت.

ومنها أن أبواب الصلاة هي أبواب عروجها وطرق صعود الملائكة الموكّلة عليها بها ، وهي السماوات إلى السماء الرابعة ، والملائكة السماوية في كلّ سماء بوّابون وموكّلون على الرد والقبول ، وهم كثيرون لا يحصيهم كثرة إلّا الله سبحانه كما في التنزيل (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلّا هُوَ) (١) ، فالتعبير عن ملائكة كلّ سماء ـ وهم أبواب نقد الصلاة الصاعدة إليهم والتفتيش عنها ـ روم لبيان التكثير لا تعيين للمرتبة العددية بخصوصها. وهذا الوجه أيضا ذكره العلّامة (٢) المشار إليه ، ولا يخفى بعده.

ومنها ما نقله السيّد ذو المناقب والمفاخر رضي الدين بن طاوس في كتاب (فلاح السائل ونجاح المسائل) عن الكراجكي في كتاب (كنز الفوائد) (٣) قال : (جاء الحديث أن أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا على يد الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، فقال رجل يقال له : رزام مولى خالد بن عبد الله : من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أمير المؤمنين على يده؟ فقيل له : هذا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق. فقال : إنّي والله ما علمت ، لوددت أن خدّ أبي جعفر موضع لنعل (٤) جعفر.

__________________

(١) المدّثّر : ٣١.

(٢) عنه في بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٣) لم نعثر عليه في نسخة كنز الفوائد التي بين أيدينا ، وقد ورد في ذيل النسخة المطبوعة ٢ : ٢٢٣ (ضمن نصوص مفقودة من هذه النسخة) نقلا عن الأنوار البهية للشيخ عباس القمي.

(٤) في المصدر : نعل ، بدل : موضع لنعل.

٣٠٦

ثمّ قام فوقف بين يدي المنصور فقال له : أسأل يا أمير المؤمنين؟ فقال له المنصور : سل هذا ، فقال : إني اريدك بالسؤال ، فقال له المنصور : سل هذا ، فالتفت رزام إلى الإمام جعفر بن محمد عليهما‌السلام فقال له : أخبرني عن الصلاة وحدودها ، فقال له الصادق عليه‌السلام : «للصلاة أربعة آلاف حدّ ، لست تؤاخذ بها».

فقال : أخبرني عمّا لا يحلّ تركه ولا تتمّ الصلاة إلّا به.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تتمّ الصلاة إلّا لذي طهر سابغ ، وتمام بالغ ، غير نازغ ولا زائغ ، عرف (١) فوقف ، وأخبت فثبت ، وهو واقف بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع ، كأن الوعد له صنع ، والوعيد به وقع ، بذل عرضه ويمثّل (٢) غرضه ، وبذل في الله المهجة ، وتنكّب إليه المحجّة ، غير مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام بغير (٣) من له قصد وإليه وفد ومنه استرفد ، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي [بها] امر وعنها اخبر ، وأنها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر».

فالتفت المنصور إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله ، لا نزال من بحرك نغترف ، وإليك نزدلف ، تبصّر من العمى ، وتجلو بنورك الطّخياء ، فنحن نعوم في سبحات قدسك وطامي بحرك) (٤).

وهذا الخبر وإن كان مجملا بالنسبة إلى بيان تلك الأربعة آلاف ، إلّا إنه صريح في كونها من الآداب والسنن ، وليس ممّا يتعلّق عليها صحة الصلاة ولا قبولها.

وهذا الخبر يدلّ على بطلان جميع الوجوه المتقدمة كما لا يخفى.

بيان : «غير نازغ» مأخوذ من قوله عزوجل (وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) في المصدر : تمثل ، وهو ما سيشير إليه المصنف بعد قليل من أن في بعض النسخ : تمثل.

(٣) في المصدر : بعين ، وهو ما سيشير إليه المصنف من أنه على بعض النسخ. على أن المصنف في شرح ألفاظ الحديث أشار إليها بلفظ (بعين) والظاهر أنها هنا تصحيف من الناسخ ، وأن مراد المصنف : بعين.

(٤) فلاح السائل ٢٣ ـ ٢٥.

٣٠٧

نَزْغٌ) (١) ، أي وسوسة. قال في (القاموس) : (نزغه ـ كمنعه ـ : طعن فيه واغتابه ، وبينهم : أفسد وأغرى ووسوس) (٢).

«ولا زائغ» ، مأخوذ من قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (٣) ، أي ميل عن الحق.

«عرف» ، أي عرف الله حقّ معرفته «فوقف» ، أي بين يديه ، أو المراد : فوقف على المعرفة وثبت على مقتضاها ، «وأخبت» ، أي خشع ، «فثبت» ، أي على خشوعه.

«بذل عرضه» ، في بعض النسخ بالباء بصيغة الماضي ، وفي بعضها بالياء المثناة بصيغة المستقبل. وفي (القاموس) : (العرض ـ بالتحريك ـ : حطام الدنيا ، وما كان من مال والغنيمة ، والطمع ، واسم لما لا دوام له) (٤).

ويحتمل أكثر تلك الوجوه ، وبأن يكون العرض : الإعراض عن تلك الأغراض الدنيويّة ، وأن يكون بضمّ الأول وفتح الثاني جمع (عرضة) وهو بمعنى المانع ، أي ما يمنعك من الحضور والإخلاص. وكونه جمع العارض ـ بمعنى الخدّ ـ بعيد لفظا ، وأن يكون بكسر الأوّل وسكون الثاني بمعنى الجسد أو النفس ، أو بالمعنى المعروف ، وبالتحريك بأحد معانيه أنسب.

«ويمثّل غرضه» ، أي يجعل مقصوده من العبادة نصب عينيه.

وفي بعض النسخ (٥) : «تمثّل» بصيغة الماضي ، و «عرضه» بالعين المهملة ، أي تمثّل في نظره معروضه وما يريد أن يعرضه به من المقاصد. والأول أظهر.

«وتنكّب إليه المحجّة» ، التنكب إذا عدّي بـ (عن) فهو بمعنى التجنّب (٦) ، وإذا

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٠.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ١٦٦ ـ نزغه.

(٣) آل عمران : ٧.

(٤) القاموس المحيط ٢ : ٤٩٣ ـ عرض.

(٥) كما هي نسخة المصدر التي بين أيدينا.

(٦) مختار الصحاح : ٦٧٨ ـ نكب.

٣٠٨

عدّي بـ (الى) فهو بمعنى الميل ، في (النهاية) : (في حديث حجة الوداع : فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس ، أي يميلها إليهم) (١) انتهى.

ويحتمل أن يكون «إليه» متعلّقا بـ «المحجة» ، أي تنكب في السبيل إليه عمن سواه.

«غير مرتغم بارتغام» ، المراغمة : الهجران والتباعد والمغاضبة ، أي لا يكون سجوده وإيصال أنفه إلى الرغام على وجه يوجب بعده من الملك العلّام ، أو على وجه السخط وعدم الرضا فقوله عليه‌السلام : «يقطع علائق الاهتمام» مستأنف ، أي الاهتمام بالدنيا ، ويحتمل أن يكون صفة لـ «ارتغام» ، فالمراد : الاهتمام بالعبادة.

«بعين (٢) من له قصد» ، أي يعلم أنه مطّلع عليه. وفي بعض النسخ : «بغير من له قصد» فهو متعلّق بالاهتمام ، أي يقطع علائق الاهتمام بغيره تعالى.

والاسترفاد : طلب الرفد والعطاء. والازدلاف : القرب. والطخياء : الليلة المظلمة ، ومن الكلام : ما لا يفهم. والعوم : السباحة.

و (سبحات قدسك) ، أي أنواره ، أو محاسن قدسك ؛ لأنك إذا رأيت الشي‌ء الحسن قلت : سبحان الله.

وطما الماء : علا ، والبحر : امتلأ. كذا أفاده شيخنا غوّاص (بحار الأنوار) (٣) ، ألحقه الله بأئمته الأطهار.

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ : ١١٢ ـ نكب.

(٢) كذا في النسختين ، وقد مرّ أنه في الحديث : بغير.

(٣) بحار الأنوار ٨١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٣٠٩
٣١٠

(٦١)

درّة نجفية

في حكم المتطهّر من الحدث وعلى بدنه نجاسة

لو توضأ أو اغتسل وعلى بدنه نجاسة فهل يصحّ غسله والحال هذه ـ أعمّ من أن يكون قد زالت النجاسة بماء الطهارة أم لم تزل ـ أم لا؟

ظاهر المشهور ـ سيّما بين المتأخرين ـ أنه لا تصحّ الطهارة ، بل لا بدّ من إزالة النجاسة الخبثيّة أولا ، ثمّ الطهارة بعد ذلك.

وقال الشيخ في (المبسوط) بالأول ، وتبعه بعض المتأخرين (١) ، وهذه صورة عبارته في (المبسوط) : (وإن كان على بدنه نجاسة أزالها ثمّ اغتسل ، وإن (٢) خالف واغتسل أولا ارتفع حدث الجنابة ، وعليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل [بالغسل] ، وإن زالت بالاغتسال فقد أجزأه عن غسلها) (٣) انتهى.

وهو كما ترى يدلّ على أمرين :

أحدهما : أن طهارة المحلّ ليست شرطا في الغسل.

الثاني : أن الغسل الواحد يجزي عن رفع الحدث والخبث معا.

واستظهر هذا القول الفاضل المحقق الخونساري في شرحه على (الدروس) ، واستدلّ له بالنسبة إلى الأول بأن الأمر بالاغتسال مطلق ، والتقييد بطهارة المحلّ

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٨٢.

(٢) في المصدر : فإن.

(٣) المبسوط ١ : ٢٩.

٣١١

خلاف الظاهر. ثمّ قال : (نعم ، لا بدّ من وصول الماء إلى البشرة ، فيجب ألّا يكون للنجاسة عين تمنع من الوصول ، فأمّا إذا لم يكن لها عين أو كان ولم تكن مانعة فلا دليل على البطلان وإن لم يطهر بصبّ الماء للغسل ، كما إذا كان لها عين غير مانع ولم تزل ، أو لم يكن لها عين لكن لا بدّ من الصبّ مرتين مثلا.

والظاهر أن مراد الشيخ من عدم زوالها بالغسل ما ذكرنا ، لا أن يكون عين النجاسة مع منعها عن الوصول باقية ؛ إذ لا شك في اشتراط وصول الماء إلى البشرة).

واستدلّ له بالنسبة إلى الثاني بمثل ذلك أيضا من (أن الأمر بالاغتسال مطلق وكذا الأمر بالتطهير ، فإذا صبّ الماء على العضو فقد امتثل الأمرين ، فلو كانت النجاسة ممّا يكفيه صبّ واحد فقد ارتفع الحدث والخبث معا وإن لم يكفها صبّ واحد (١) ، كما إذا كانت بولا يجب فيه المرّتان فيجب صبّ آخر ، ولكن النجاسة الحكمية ارتفعت بالصبّ الأول) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

وبذلك يظهر لك ما في كلام العلّامة في (المختلف) ، حيث قال بعد نقل عبارة (المبسوط) : (والحق عندي أن الحدث لا يرتفع إلّا بعد إزالة النجاسة ؛ لأنّ النجاسة (٣) إذا كانت عينية ولم تزل عن البدن لم يحصل إيصال الماء إلى جميع البدن فلا يزول حدث الجنابة ، وإن كانت حكميّة زالت بنيّة غسل الجنابة) (٤) ـ انتهى ـ فإن صحة الغسل مع بقاء النجاسة لا ينحصر في بقاء عين النجاسة على البدن لاصقة به مانعة من وصول ماء الغسل إليه ، حتى إنه قدس‌سره يمنع من (٥) ارتفاع الحدث إلّا بعد ارتفاع النجاسة ؛ من جهة أن النجاسة إذا كانت عينيّة .. إلى آخر

__________________

(١) فقد ارتفع .. واحد ، من «ح» ، والمصدر.

(٢) مشارق الشموس : ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) لأنّ النجاسة ، من «ح» والمصدر.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٧٤ / المسألة : ١٢١.

(٥) ليست في «ح».

٣١٢

ما ذكره ، بل من الممكن ما فرضه ذلك الفاضل المتقدم من بقاء النجاسة على وجه لا تكون مانعة من إيصال ماء الغسل ، وحينئذ فيطهر البدن من النجاسة الحدثية وإن بقيت الخبثية.

وقال الشهيد في (الدروس) : (ولو قام على مكان نجس غسل ما نجس ، ثمّ أفاض عليه الماء للغسل ، ولا يجزي غسل النجاسة عن رفع الحدث على الأصحّ) (١) انتهى.

وقال المحقق الثاني في (الرسالة الجعفرية) : (ولو قام المغتسل على مكان نجس طهّر المتنجس ، ثمّ أفاض عليه الماء للغسل) (٢).

قال الشارح الجواد (٣) في شرح الرسالة في تعليل ذلك ما صورته : (ليرد الغسل على محلّ طاهر). ثم قال : (وكأن إفراد المصنّف هذا البحث مع ذكره في حكم الوضوء ـ حيث اشترط طهارة المحل فيه في الغسل ـ متابعة للشهيد في (الدروس) ، وللتنصيص على الحكم) انتهى.

أقول : والظاهر أنه أشار بالنص إلى صحيحة حكم بن حكيم ، حيث قال عليه‌السلام فيها : «وأفض على رأسه وجسدك فاغتسل ، وإن (٤) كنت في مكان نظيف فلا يضرّك ألّا تغسل رجليك ، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك» (٥).

وهو ظاهر الدلالة في عدم الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية ، بل لا بدّ من إزالتها أولا ثمّ اجراء ماء الغسل.

ويمكن أن يقال : إنّه ليس بصريح ، بل ولا ظاهر في وجوب تقديم إزالة

__________________

(١) الدروس ١ : ٩٧.

(٢) الرسالة الجعفرية (ضمن رسائل المحقق الكركي) ١ : ٩٠.

(٣) من «ح».

(٤) في المصدر : فإن.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ١٣٩ / ٣٩٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، أبواب الجنابة ، ب ٢٧ ، ح ١.

٣١٣

الخبثية كما يدّعونه ، بل غايته الدلالة على وجوب غسل آخر. ومن المحتمل أن يكون ذلك بعد كمال الغسل أولا ، بأن لم تزل النجاسة الخبثية به ، فيجب الغسل ثانيا لإزالتها ، كما تدلّ عليه عبارة (المبسوط).

وقال المحقق المشار إليه أيضا في بحث الوضوء : (ويشترط طهارة المحلّ خاصة) (١).

قال الشارح الجواب : (أي محلّ الطهارة من الأعضاء ، فلا يكفي غسل واحد للعضو من النجاسة الخبثية والحدثية ، لتغاير السبب وأصالة عدم التداخل ، ولأن الماء إذا ورد على النجاسة تنجّس بها فلا يقوى على رفع الحدث عن ذلك المحل ، فلا بدّ من طهارته أولا ؛ ليرد الماء على محلّ طاهر فيرتفع به الحدث) انتهى.

وقال أبو الصلاح في كتابه (الكافي) : (ويلزم مريد الغسل الاستبراء .. وغسل ما على الجسم من النجاسة) (٢).

وقال الشهيد في رسالته (الألفيّة) : (التاسع : طهارة الماء وطهوريّته وطهارة المحلّ) (٣).

قال الشارح الشهيد الثاني : (وهو الأعضاء المغسولة والممسوحة من الخبث ، بمعنى طهارة كلّ عضو وجزء منه قبل الشروع في غسله للوضوء ، فلا يكفي غسل واحد [لهما] (٤) لتغاير السبب) (٥) انتهى.

وقال العلّامة في (القواعد) : (لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من

__________________

(١) الرسالة الجعفرية (ضمن رسائل المحقق الكركي) ١ : ٨٨.

(٢) الكافي في الفقه : ١٣٣.

(٣) الألفية في الصلاة اليومية : ٣٢.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : لها.

(٥) المقاصد العلية : ١٠٦ ، وفيه : أو جزء ، بدل : وجزء.

٣١٤

الجنابة ، بل يجب إزالة النجاسة أولا ، ثمّ الاغتسال ثانيا) (١).

واستدلّ له المحقق الشيخ علي في الشرح بأنه (إنّما وجب ذلك لأنهما سببان ، فوجب تعدد حكمهما ؛ لأن التداخل خلاف الأصل ، ولأن ماء الغسل لا بدّ أن يقع على محلّ طاهر ، وإلّا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ولانفعال الماء القليل ، وماء الطهارة يشترط أن يكون طاهر إجماعا) (٢) انتهى.

واورد عليه : (أنّا لا نسلّم أن اختلاف السبب يقتضي تعدّد المسبّب ؛ لأن مقتضى التكليف وجود المسبّب عند حصول السبب ، أمّا كونه شيئا مغايرا للأمر المسبب عن السبب الآخر فتكليف زائد يحتاج إلى دليل ، والأصل عدمه. فما ذكر من أن التداخل خلاف الأصل ضعيف) (٣) انتهى ، وهو كلام متين.

واورد عليه ـ بالنسبة إلى ما ذكره من أن ماء الغسل لا بدّ أن يقع على محلّ طاهر ـ أنه ممنوع ، وما استدلّ به عليه من لزوم إجزاء الغسل مع بقاء عين النجاسة ، إن أراد مع بقائها بحيث يكون مانعة من وصول الماء فبطلان الثاني مسلّم ، لكن الملازمة ممنوعة ؛ لجواز وقوع الغسل على محلّ النجس بشرط عدم المنع ، كما تقدم.

وما ذكره من انفعال الماء القليل واشتراط طهارة الماء إجماعا ؛ فإن اريد به الإجماع على طهارته قبل الوصول إلى العضو فمسلّم ، لكن لا ينفعه ، وإن اريد به الإجماع على الطهارة حال الوصول فممنوع. على مذهب العلّامة [من] أنه حال الوصول أيضا طاهر ، وإنّما ينجس بعد الانفصال.

وقال العلّامة في (النهاية) في تعداد سنن الغسل : (الرابع : البدأة بغسل ما على جسده من الأذى والنجاسة ؛ ليصادف ماء الغسل محلّا طاهرا فيرتفع الحدث. ولو

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢١١.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٢٧٩.

(٣) ذخيرة المعاد : ٥٧.

٣١٥

زالت النجاسة به طهر المحل قطعا ، والأقرب حصول رفع الحدث أيضا إن كان في ماء كثير. ولو أجرى الماء القليل عليه ، فإن كان في آخر العضو فكذلك ، وإلّا فالوجه عدمه ؛ لانفعاله بالنجاسة) (١) انتهى.

وقد اورد على العبارة المذكورة مناقشات ليس في التعرض لها كثير فائدة. إلّا إنّ المحقق الشيخ علي بعد أن نقلها في (شرح القواعد) قال : (والتحقيق أن محل الطهارة إن لم تشترط طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع الصور ، ولا حاجة إلى التقيّد بما [ذكره] (٢) ، خصوصا على ما اختاره من أن القليل الوارد إنما ينجس بعد الانفصال. وإن اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة ؛ لفقد الشرط. والشائع على ألسنة الفقهاء هو الاشتراط ، فالمصير إليه هو الوجه) (٣) انتهى.

وأنت خبير بأن غاية ما اعتمد عليه في هذا المقام هو مجرّد الشهرة ، ولا يخفى ما فيه من المجازفة.

ويمكن أن يستدل على ما ذكره الأصحاب من الاشتراط بما ورد في روايات الغسل من الأمر بإزالة النجاسة أولا ، كقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن حكيم : «ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ، ثمّ اغسل فرجك وأفض على رأسك» (٤) الحديث.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة يعقوب بن يقطين : «ثمّ يغسل ما أصابه من أذى ، ثمّ يصبّ على رأسه» (٥).

وقوله في صحيحة محمّد بن مسلم : «ثمّ تغسل فرجك ، ثمّ تصب على رأسك

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ١٠٩.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : ذكروه.

(٣) جامع المقاصد ١ : ٢٨٠.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ١٣٩ / ٣٩٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، أبواب الجنابة ، ب ٢٧ ، ح ١.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ١٤٢ / ٤٠٢ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٤٦ ، أبواب الجنابة ، ب ٣٤ ، ح ١.

٣١٦

ثلاثا» (١). ونحوها غيرها من الروايات الكثيرة الواردة في المقام.

وربّما يقال : (إنه يشكل الاعتماد في ذلك على هذه الأخبار ؛ لتضمّنها جملة من المستحبّات كغسل اليدين والاستنشاق ونحوهما ، فحمل الأمر فيها على الوجوب في هذا الحكم غير متيقّن إلّا بدليل من خارج ، وليس فليس.

على أن القائلين بوجوب الإزالة لا يقولون به قبل غسل جميع الأعضاء (٢) ، وإنّما يقولون [به] في كلّ جزء اريد غسله ، فلا يمكنهم حمل الأوامر المذكورة على الوجوب ؛ ولهذا صرّح العلّامة في (النهاية) ـ كما تقدّم في عبارته ـ بأن ذلك من مستحبات الغسل.

ثمّ لو سلّم الدلالة على الوجوب فالدليل أخص من المدّعى ، والتعدي عن موضع النص إلى غيره يحتاج إلى دليل).

وفيه نظر من وجوه :

أحدها : قوله : (إنّ هذه الأخبار قد تضمنت جملة من المستحبّات) ؛ فإنّ فيه : أنها أيضا قد تضمنت جملة من الواجبات.

فإن قال : إن هذه الواجبات قام الدليل على وجوبها من خارج.

قلنا : هذه المستحبات أيضا قد قام الدليل على استحبابها من خارج ، ونحن إنّما قلنا بالوجوب في المقام من حيث الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب عندهم ، وإخراجه عن حقيقته يحتاج إلى دليل ، فالاستحباب هو المحتاج إلى الدليل لا الوجوب كما زعمه هذا القائل.

وثانيها : قوله : (على أن القائلين بوجوب الإزالة) ـ إلى آخره ـ فإنّ فيه أن وجوب الإزالة عندهم من قبيل الواجب الموسّع ، وإنّما يتضيق في الصورة التي

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣ / ١ ، باب صفة الغسل .. ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٢٩ ، أبواب الجنابة ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٢) في «ح» : الأجزاء.

٣١٧

ذكرها ، وعلى ذلك يحمل حكم العلّامة في (النهاية) بالاستحباب ؛ فإنّ الاستحباب إنّما هو من حيث التقديم وإن كان واجبا من حيث اشتراط طهارة المحل قبل الغسل.

وثالثها : قوله : (إنّ الدليل أخص من الدعوى ، وإن التعدي عن موضع النص يحتاج إلى دليل) ، فإن فيه أنه من المقرّر في كلامهم في أمثال هذا المقام وغيره من الأحكام هو التعدية بطريق تنقيح المناط القطعي ، إلّا أن يعلم الخصوصية في ذلك الحكم فيخصّ بموضعه. والخصوصيّة هنا غير معقولة كما لا يخفى ؛ فيجب التعدية.

وأما ما ذكره بعض محققي متأخري المتأخرين بعد أن احتمل الاستدلال على ذلك بالأخبار المشار إليها ، حيث قال ما لفظه : (ولقائل أن يقول : كثير من الأخبار الواردة في بيان كيفيّة الغسل خال عن هذا ، وحمل هذه الأخبار على الاستحباب الشائع في الأخبار ، أو الحمل على الغالب من عدم حصول إزالة المني بالغسلة الواحدة ، أهون من ارتكاب التقييد في الأخبار الكثيرة. ويرجّح الأول الأصل وقرب التأويل ، والثاني وجوب تحصيل البراءة اليقينية من التكليف الثابت.

وبالجملة ، المقام محلّ التردد ، والاحتياط في تقديم التطهير) (١) ـ انتهى ـ [فـ] فيه (٢) أن خلوّ الأخبار الواردة في بيان كيفية الغسل عن إزالة النجاسة التي هي خارجة عن الكيفيّة لا يدل على عدم توقف صحّة الغسل على الإزالة بمفهوم ولا منطوق ، إلّا بمفهوم اللقب ، وهو ليس بحجة عند هذا القائل (٣) ، بل ولا عند

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٥٨.

(٢) في النسختين : وفيه.

(٣) ذخيرة المعاد : ٢٨٠.

٣١٨

أحد من أصحابنا (١) ؛ إذ لا دليل عليه. وبذلك يظهر أن الأخبار الدالة على إزالة النجاسة قبل الغسل ليست مقيدة للأخبار الدالة على كيفية الغسل الخالية عن ذكر إزالة النجاسة ، ويظهر ضعف ما توهمه من لزوم ارتكاب التقييد في الأخبار الكثيرة لو لا الحمل على ما ذكره.

إذا عرفت ذلك ، فالتحقيق في هذا المقام أن يقال : إن ما ادّعوه من وجوب إزالة النجاسة الخبثية أولا ، ثمّ إجراء ماء الغسل بعد ذلك ، وأن ماء الغسل لا يجزي لرفعهما معا لا دليل عليه ، وما علّلوه به من أن اختلاف السبب يقتضي اختلاف (٢) المسبّب ، وأن الأصل عدم التداخل ، فكلام شعري لا يجدي نفعا في مقام التحقيق. وقد حققناه في مسألة تداخل الأغسال من كتابنا (الحدائق الناضرة) (٣) ما يقطع حجة الخصم في ذلك.

نعم ، وجه الإشكال في ذلك هو أنّهم قد أجمعوا إلّا الشاذ منهم على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، وعليه دلّت الأخبار المستفيضة كما حققناه في رسالتنا (قاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل). والمشهور بينهم أيضا القول بنجاسة الغسالة.

ولا ريب أنه بناء على هاتين المقدّمتين متى اغتسل وعلى بدنه نجاسة لم تزل عينها بالغسل (٤) وإن كانت لا تمنع وصول الماء للجسد ، أو زالت عينها واضمحلت من ذلك الموضع الذي هي فيه ولكن تعدّت غسالتها إلى موضع آخر من الجسد طاهر قبل ذلك ، ولم تنفصل من موضع النجاسة إلى خارج البدن ، فالقول بصحة الغسل هنا مشكل جدّا بناء على ما قلناه ، وذلك أن الماء بملاقاته

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٢١٦ ، مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٤٥٣ ، مشارق الشموس : ٢٧٣ ، هداية الأبرار : ٢٩٦.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : خلاف.

(٣) الحدائق الناضرة ٢ : ١٩٦ ـ ٢٠٥.

(٤) في «ح» : بماء الغسل ، بدل : بالغسل.

٣١٩

النجاسة فلا إشكال في تنجّسه كما هو الأشهر الأظهر. وحينئذ ، فالماء وإن طهّر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة ـ إذ لا منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة وتطهيره ذلك الموضع ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في رسالتنا المشار إليها آنفا ـ إلّا إنّه بعد التعدي عن ذلك الموضع إلى موضع آخر خال من النجاسة يكون نجسا منجّسا لما يلاقيه ، والماء النجس لا يرفع حدثا مع العمد نصا (١) واتفاقا.

وعلى هذا تحمل (٢) الأخبار الواردة في كيفية غسل الجنابة ، وذلك ، فإنّ المفروض فيها كون الغسل من تلك الأواني الصغار المستعملة يومئذ ، وأنه يغسل كلّا من جنبيه بثلاثة أكفّ (٣) أو أربعة أكفّ (٤) ، كما تضمّنته جملة من تلك الأخبار.

ومن الظاهر أن الغسل على هذا التقدير إنّما هو بإجراء اليد بالماء المغسول به من موضع إلى آخر. وحينئذ ، فلو كان هناك نجاسة للزم تنجّس ذلك الماء بها ، وتعدي النجاسة إلى سائر ما لاقاه ذلك الماء واليد المصاحبة له ، فمن ثمّ أمروا عليهم‌السلام احترازا عن ذلك (٥) بإزالة النجاسة أولا.

ومن ذلك يظهر أن هذه الأخبار لا تقوم حجة على الاشتراط مطلقا ، فالظاهر الذي ينبغي العمل عليه في هذه المسألة هو القول بصحة الغسل والوضوء في الصورة المفروضة ؛ لعدم دليل يدل على وجوب تقديم الإزالة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١٣.

(٢) في «ح» : الحمل.

(٣) الكافي ٣ : ٤٣ / ٣ ، باب صفة الغسل .. ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٣٠ ، أبواب الجنابة ، ب ٢٦ ، ح ٢ ، تهذيب الأحكام ١ : ١٣٧ / ٣٨٤ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢٤١ ، أبواب الجنابة ، ب ٣١ ، ح ٦.

(٤) لم ترد رواية الأربعة الأكف في كيفية غسل الجنابة ، بل وردت في استحباب النضح لمن اغتسل بالماء القليل وخشي عودة الغسالة إلى الماء ، انظر وسائل الشيعة ١ : ٢١٦ ـ ٢١٨ ، ب ١٠.

(٥) في «ح» بعدها : الماء.

٣٢٠