الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

ويؤكد ما ذكرناه في هذه المواضع ما رواه في (الكافي) عن عمرو بن مروان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن (١) امتي أربع خصال : خطؤها ونسيانها وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا ، وذلك قول الله عزوجل (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا) (٢) ، وقوله (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٣)» (٤). فإنه عليه‌السلام استشهد لرفع هذه الخصال بالآيتين الكريمتين.

(قيل : ظاهر الآية الأولى الدلالة على المؤاخذة والإثم بالخطإ والنسيان وإلّا فلا فائدة في الدعاء بعدم المؤاخذة ، فكيف تكون دليلا على الرفع؟

وأجيب :

أوّلا : بأن السؤال والدعاء قد يكون للواقع ، والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب وعرض الافتقار إليه ، كما قال خليل الرحمن وابنه إسماعيل عليهما‌السلام : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا) (٥) ، مع أنهما لا يفعلان غير المقبول.

وثانيا : بأنّه قد صرّح بعض المفسّرين (٦) بأن الآية تدلّ على أن الخطأ والنسيان سببان للإثم والعقوبة ، ولا يمتنع عقلا المؤاخذة بهما ؛ إذ الذنب كالسمّ يؤدّي إلى الهلاك وإن تناوله خطأ ، وكذلك الذنب ولكنه عزوجل وعد بالتجاوز عنه رحمة وتفضّلا وهو المراد من الرفع ، فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة لها وامتدادا بها) (٧) انتهى.

والجواب الأوضح في ذلك أن يقال : إن هذا السؤال في الآية إنما وقع في مبدأ

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) النحل : ١٠٦.

(٤) الكافي ٢ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣ / ١ ، باب ما رفع عن الامّة.

(٥) البقرة : ١٢٧.

(٦) تفسير البيضاوي ١ : ١٤٧.

(٧) انظر شرح الكافي (المازندراني) ١٠ : ١٩٧.

١٤١

التكليف ؛ لأن التكاليف الشرعيّة إنما كانت تتجدّد شيئا فشيئا ، ولمّا كانت هذه الأشياء ممّا وقع التكليف بها في الامم السالفة خاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على امّته أن يكلّفوا بها مع صعوبتها ومشقتها ، فسأل الله سبحانه رفعها عن امّته ، وألّا يكلّفهم بها كما كلّف الامم الماضية ، فأجابه الله تعالى إلى ذلك.

فالاستدلال بالآية على الرفع في الخبر المذكور مبنيّ على سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابته تعالى وإن كان مطويا في الكلام ؛ لمعلوميّته. ودلالة الآية على المؤاخذة بالخطإ والنسيان كما ذكره المعترض إنما هو بالنسبة إلى من تقدم من الامم لا بالنسبة إلى هذه الامّة ، فالرفع وعدم الرفع بالنسبة إلى هذه الامة قبل هذا السؤال غير معلوم.

ومن أوضح الأخبار في المقام ما رواه الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) عن الكاظم عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث يذكر فيه مناقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسير خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة ، حتّى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى له من الجنّة رفرف أخضر ، وغشي النور بصره ، فرأى عظمة ربّه عزوجل بفؤاده ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينهما وبينه أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى فكان فيما اوحي إليه الآية التي في سورة البقرة ، قوله تعالى (لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ) (١).

وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم ـ على نبيّنا وعليهم‌السلام ـ إلى

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

١٤٢

أن بعث الله تبارك اسمه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرضها على امته فقبلوها ، فلما رأى الله عزوجل منهم القبول [علم] (١) أنهم لا يطيقونها ، فلما أن سار (٢) إلى [ساق] العرش كرر عليه الكلام ليفهمه فقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وعن امّته (٣) : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٤) فقال جل ذكره : لهم الجنّة والمغفرة على أن فعلوا ذلك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا وإليك المصير. يعني المرجع في الآخرة».

قال : «فأجابه الله تعالى جلّ ثناؤه : وقد فعلت ذلك بك وبأمّتك.

ثم قال عزوجل : أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الامم وأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمّتك فحقّ عليّ أن أرفعها عن أمّتك ، وقال (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (٥) من شرّ.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سمع ذلك : أما إذ فعلت ذلك بي وبامّتي فزدني. فقال : سل قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). قال الله عزوجل : لست اؤاخذ امتك بالنسيان أو الخطأ ؛ لكرامتك علي.

وكانت الامم السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك.

وكانت الامم السالفة إذا أخطؤوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ؛ لكرامتك علي.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : على.

(٢) في المصدر : صار ، وفي نسختين اخريين منه : سار. الاحتجاج ١ : ٥٢٢ / الهامش : ٣.

(٣) فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وعن امّته ، من «ح» والمصدر.

(٤) البقرة : ٢٨٥.

(٥) البقرة : ٢٨٦.

١٤٣

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني. فقال الله تعالى له : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، يعني بالإصر : الشدائد التي كانت على من كان (١) قبلنا. فأجابه الله تعالى إلى ذلك ، فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار التي كانت على الامم السالفة ، كنت لا أقبل صلاتهم إلّا في بقاع من الأرض (٢) معلومة اخترتها لهم وإن بعدت ، وقد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجدا وطهورا. فهذه من الآصار التي كانت على الامم قبلك فرفعتها عن امتك.

وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم ، وقد جعلت الماء لأمّتك طهورا. فهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك.

وكانت الأمم (٣) السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته ، فرجع مسرورا ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا ، وقد جعلت قربان أمّتك في بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه أضعفت له ذلك (٤) أضعافا مضاعفة ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، وهي من الآصار التي كانت على الأمم قبلك.

وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار وهي من الشدائد التي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك وفرضت عليهم صلواتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم.

وكانت الامم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار الّتي كانت عليها فرفعتها عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات ، وهي

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) من الأرض ، من «ح» والمصدر ، وهو في المصدر بعد قوله : معلومة.

(٣) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الامّة.

(٤) في «ح» : ذلك له ، بدل : له ذلك.

١٤٤

إحدى وخمسون ركعة ، وجعلت (١) لهم أجر خمسين صلاة.

وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيّئتهم بسيّئة ، وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك ، وجعلت الحسنة بعشرة والسيّئة بواحدة.

وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له ، فإن عملها كتبت له حسنة ، وإن أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة. وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعت ذلك عن امتك.

وكانت الامم السالفة إذا أذنبوا ذنبا كتبت ذنوبهم على أبوابهم ، وجعلت توبتهم من الذنوب أن حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم ، وجعلت عليهم ستورا كثيفة ، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ، ولا اعاقبهم بأن احرّم عليهم أحبّ الطعام إليهم.

وكانت الامم السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا أقبل توبته دون أن اعاقبه في الدنيا بعقوبة ، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن امتك. وإن الرجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر له ذلك كلّه.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم إذ أعطيتني ذلك كلّه فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). قال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بك وبامّتك ، وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم ، وذلك حكمي في جميع الامم ألّا أكلف خلقا فوق طاقتهم.

__________________

(١) سقط في «ح».

١٤٥

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا). قال الله عزوجل : قد فعلت ذلك بتائبي امتك. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). قال الله جل اسمه : إن أمّتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود ، وهم القادرون وهم القاهرون ، يستخدمون ولا يستخدمون ؛ لكرامتك علي ، وحقّ علي أن اظهر دينك على الأديان ، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلّا دينك ، أو يؤدّون إلى أهل دينك الجزية» (١).

أقول : وإنما نقلنا الخبر المذكور بطوله لما فيه من الفوائد التي يرجع إليها في جملة من الموارد.

الرابع : ما لا يعلم

ويجعل جهله جهلا (٢) ساذجا على وجه يكون عادما للتصوّر بالكليّة ، فإن الجاهل بهذا المعنى ممّا لا ريب في معذوريّته وإن أباه كثير من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لعدم قولهم بمعذوريّة الجاهل إلّا في موارد نادرة (٣) ، وهو ضعيف ، لقيام الدليل العقلي على عدم جواز توجّه الخطاب لمن كان كذلك ، فإن تكليف الجاهل بهذا المعنى من قبيل التكليف بما لا يطاق.

وأمّا المتصور له بوجه ـ وإنما يجهل التصديق ـ فهذا ممّا دلّت الأدلّة الشرعيّة على أنه يجب عليه الفحص والسؤال وتحصيل العلم بالحكم ، ومع تعذّر (٤) ذلك فالوقوف على جادة الاحتياط. وعلى هذا الفرد تحمل الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم والتفقه في الدين.

وتفصيل الكلام في هذه المسألة قد مرّ مستوفى (٥) في الدرّة الثانية (٦) من درر

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٥٢١ ـ ٥٢٧ / ١٢٧.

(٢) في «ح» ويجب حمله على ما يجهل ، بدل : ويجهل جهله جهلا.

(٣) الكافي ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥ / ٤ ، باب حجج الله على خلقه.

(٤) من «ح».

(٥) ليست في «ح».

(٦) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩.

١٤٦

الكتاب ، وهذا الفرد ممّا يرجع إلى عدم المؤاخذة.

الخامس : ما لا يطاق

ويدلّ عليه أيضا قوله سبحانه (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (١) ، وقوله سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (٢). والوسع دون الطاقة ، وفي (التوحيد) عن الصادق عليه‌السلام : «ما أمر العباد إلّا بدون سعتهم ، وكل شي‌ء أمر الناس بأخذه فهم متّسعون له ، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم ، ولكن الناس لا خير فيهم» (٣).

ومثله في حديث آخر أيضا في (الكافي) (٤).

وروى الصدوق في كتاب (الاعتقادات) عن الصادق عليه‌السلام مرسلا قال : «والله ما كلّف العباد إلّا دون ما يطيقون ؛ لأنه كلّفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات ، وكلّفهم في السنة صيام ثلاثين يوما ، وكلّفهم في كل مائتي درهم خمسة دراهم ، وكلّفهم حجّة واحدة ، وهم يطيقون أكثر من ذلك» (٥).

وهذا ممّا يرجع إلى عدم التكليف.

السادس : ما اضطرّ إليه

ويدلّ عليه أيضا قوله سبحانه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٦) وهو أعمّ من أن يكون سبب الاضطرار من الله عزوجل كأكل الميتة والتداوي بالمحرّم والإفطار بالمرض (٧) في شهر رمضان ، أو من جهة التكليف أو غيره كمن جرح نفسه أو غيره حتّى اضطرّ إلى الإفطار في شهر رمضان ونحو ذلك.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) التوحيد : ٣٤٧ / ٦.

(٤) الكافي ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥ / ٤ ، باب حجج الله على خلقه.

(٥) اعتقادات الإماميّة (مطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٥ : ٢٨.

(٦) الحجّ : ٧٨.

(٧) من «ح».

١٤٧

السابع : الحسد

والكلام فيه لا يخلو من الإشكال ؛ وذلك لأن هذا الخبر دلّ على رفع المؤاخذة به. ويعضده أيضا جملة من الأخبار منها ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) (١) وغيره في غيره أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه : التفكر في الوسوسة في الخلق ، والطيرة ، والحسد إلّا إن المؤمن لا يستعمل حسده» وفي بعض الأخبار التي لا يحضرني الآن موضعها : «إلّا إن المؤمن لا يظهر حسده» (٢). مع أنه قد استفاضت الأخبار بأن الحسد من الصفات المهلكة (٣). وقد فسّره غير واحد من المحقّقين بأنّه عبارة عن أن يتمنّى الحاسد زوال نعمة المحسود ؛ لكراهته ؛ لاتّصافه بتلك النعمة ، فيتمنّى زوالها لنفسه أو مطلقا (٤).

ومن الأخبار الدالة على ذمّه ما رواه في (الكافي) في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» (٥).

ومثله روى فيه أيضا عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٦).

وروى فيه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله عزوجل لموسى بن عمران : يا بن عمران ، لا تحسد الناس على ما آتيهم من فضلي ، ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ، ولا تتبعه نفسك ؛ فإنّ الحاسد ساخط لنعمتي ، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يكن كذلك فلست منه وليس منّي» (٧).

__________________

(١) الكافي ٨ : ٩٣ ـ ٩٤ / ٨٦ ، وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٦ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٥٥ ، ح ٨.

(٢) بحار الأنوار ٥ : ٣٠٤ / ١٤.

(٣) الكافي ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / باب الحسد ، بحار الأنوار ٧٠ : ٢٣٧ ـ ٢٦٢.

(٤) التبيان ١٠ : ٤٣٤ ، مجمع البيان ١٠ : ٧٢٩ ، الحقائق في محاسن الأخلاق : ٨١.

(٥) الكافي ٢ : ٣٠٦ / ١ ، باب الحسد.

(٦) الكافي ٢ : ٣٠٦ / ٢ ، باب الحسد.

(٧) الكافي ٢ : ٣٠٧ / ٦ ، باب الحسد.

١٤٨

وروى فيه أيضا عنه عليه‌السلام : «اصول الكفر ثلاثة ..» (١) ، وعدّ منها الحسد.

وجمع بعض مشايخنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين بين هذه الأخبار بتقييد هذه الأخبار الأخيرة بالأخبار [الاولى] (٢) ، بمعنى أن المذموم من الحسد هو ما ظهر أثره بقول أو فعل دون ما خطر في القلب (٣) من غير ترتب أثر عليه كما يدلّ عليه قوله في بعض تلك الأخبار : «إلّا إن المؤمن لا يستعمل حسده» (٤) ، أي لا يستعمله قولا ولا فعلا ولا قلبا بالتفكر في كيفية إجرائه على المحسود وإزالة نعمته.

وفي آخر : «إلّا إن المؤمن لا يظهر حسده».

وما في رواية النهدي المتقدّمة نقلا عن (الكافي) : «ما لم يظهر بلسان أو يد» (٥) ، فإن الظاهر تعلقه بالحسد وإن احتمل بعض (٦) تعلّقه بالوسوسة.

ويؤيّد ذلك أيضا ما رواه الشيخ أبو علي ابن شيخنا الطوسي قدس‌سره في أماليه بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عليهما‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم لأصحابه : ألا إنه قد دبّ إليكم داء الامم من قبلكم وهو الحسد ، وليس بحالق [الشعر] لكنه حالق الدين ، وينجي منه أن يكفّ الإنسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن» (٧).

وحينئذ ، فيحمل ما تقدّم من أنه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب على إظهاره بقول أو فعل. واحتمل بعض أصحابنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ أيضا حمل تلك الأخبار الدالّة على ذمّه ، على الترغيب في معالجته ليحصل الإيمان الكامل وإن

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٨٩ / ١ ، باب في اصول الكفر وأركانه.

(٢) في النسختين : الاولة.

(٣) في «ح» : بالقلب.

(٤) الكافي ٨ : ٩٤ / ٨٦.

(٥) الكافي ٢ : ٤٦٣ / ٢ ، باب ما رفع عن الامّة.

(٦) شرح الكافي (المازندراني) ١٠ : ١٩٩.

(٧) الأمالي : ١١٧ / ١٨٢.

١٤٩

لم يكن مؤاخذا به ، وهو قريب أيضا.

ويؤيّده أنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ كثيرا ما يردفون بعض المكروهات بما يلحقها بالمحرّمات تأكيدا في الزجر عنها ، ويردفون بعض المستحبّات بما يكاد يجعلها في قالب الواجبات تأكيدا في الحثّ عليها ، كما لا يخفى على (١) من له انس بالأخبار.

ولا استبعاد في نسبة (٢) الحسد بهذا المعنى إلى الأنبياء ؛ لما رواه الصدوق رحمه‌الله في كتاب (معاني الأخبار) في حديث ابتلاء آدم وحوّاء عليهما‌السلام بالأكل من الشجرة من أن ذلك كان بسبب نظرهما إلى أنوار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وتمنيهما لتلك المنزلة (٣). ولكن الأقرب عندي حمل حديث آدم عليه‌السلام على الغبطة دون الحسد بالمعنى المتقدّم ، والحسد بمعنى الغبطة وإن لم يكن ذنبا يوجب العقوبة ، إلّا إن ذنوب الأنبياء من قبيل (حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) (٤).

الثامن : الطيرة

بفتح الياء ، وزان عنبة : التشؤّم ، وهي مصدر (تطيّر) طيرة كـ (تخيّر) خيرة. قالوا : ولم يأت من المصادر على هذا الوزن غيرهما قال الفيّومي في كتاب (المصباح المنير) : (وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطير وأثارتها لتستفيد هل تمضي أو ترجع؟ فنهى الشارع عن ذلك ، وقال : «لا هام ولا طيرة» (٥).

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) سقط في «ح».

(٣) معاني الأخبار : ١٢٤ ـ ١٢٥ / باب معنى الشجرة التي أكل منها آدم وحوّاء.

(٤) كشف الخفاء ومزيل الإلباس : ٣٥٧ / ١١٣٧.

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٣٤ / ٨٦ ، وفيه : لا طيرة ولا هام ، بحار الأنوار ٦٠ : ١٨ / ١٠ ، وفيه : ولا طيرة ولا هام.

١٥٠

وقال (١) : «اقرّوا الطير في وكناتها» (٢) أي في مجاثمها) (٣).

وقال المارزي : (كانوا يتطيّرون بالسوارح والبوارح (٤) ، وكانوا يثيرون (٥) الطير والظباء ، فإذا أخذت ذات اليمين تبرّكوا ومضوا لحاجتهم ، وإذا أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم ، فكان ذلك يطردهم في كثير من الأوقات عن مقاصدهم. وهذا (٦) أمر وهميّ أبطله الشارع بقوله : «ولا طيرة» ، وأخبر أن ذلك لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرّا) (٧).

أقول : لا ينافي ذلك ما ورد في بعض أخبارنا من التشؤّم ببعض الأشياء كما رواه الصدوق في (الفقيه) (٨) و (الخصال) (٩) والبرقي في (المحاسن) (١٠) عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : «الشؤم للمسافر في طريقه في خمسة : الغراب الناعق عن يمينه ، والكلب الناشر لذنبه ، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه يعوي ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا ، والظبي السانح من يمين إلى شمال ، والبومة الصارخة ، والمرأة الشمطاء يلقى

__________________

(١) لا هام ولا طيرة وقال ، سقط في «ح».

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ : ٢٢٢ ـ وكن ، وفيه : على ، بدل : في.

(٣) المصباح المنير : ٣٨٢ ـ الطائر.

(٤) السوارح والبوارح من «ح» وشرح المازندراني على الكافي ، وفي «ق» السوادح والبوارح. والظاهر أنها السوانح.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : يطيرون ، وفي المصدر : ينشرون.

(٦) في «ح» : هنا.

(٧) عنه في شرح الكافي (المازندراني) ١٢ : ٤٤.

(٨) الفقيه ٢ : ١٧٥ / ٧٨٠ ، وفيه : ستة ، بدل : خمسة ، ويلاحظ أن المعدود سبعة أشياء لا خمسة ولا ستة.

(٩) الخصال ١ : ٢٧٢ / ١٤ ، باب الخمسة ، وقد عدّ سبعة أشياء أيضا.

(١٠) المحاسن ٢ : ٨٤ / ١٢٢٢ ، وقد عدّ سبعة أشياء أيضا.

١٥١

فرجها ، والأتان العضباء ـ يعني الجدعاء ـ فمن أوجس في نفسه منهنّ شيئا فليقل : اعتصمت بك يا ربّ من شرّ ما أجد في نفسي فاعصمني من ذلك». قال : «فيعصم من ذلك» ؛ فإنه مستثنى بالنصّ.

وقد روى ثقة الإسلام في (الكافي) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الطيرة على ما تجعلها شيئا إن هوّنتها تهوّنت ، وإن شددتها تشدّدت وإن لم تجعلها شيئا (١) لم تكن شيئا» (٢) ، وهو محتمل الرجوع إلى كلّ من الفردين المتقدّمين (٣) أو ما هو أعم ، وحاصله الرجوع إلى الاعتقاد بصحّتها وعدمه. وهذا أمر تجريبي ؛ فإن كثيرا من الامور وإن لم تكن في حدّ ذاتها موجبة لنفع أو ضرّ ، إلّا إنه برسوخ الاعتقاد في ترتيب النفع أو الضر عليها يظهر أثره للمعتقد ذلك.

وكذا في بعض الامور الموجبة للنفع مثل الرقيّ والعوذ ونحوها لو استعملها من غير اعتقاد لم يترتّب عليها نفع غالبا ، وكذا الموجب للضرر أيضا. ومن هذا القبيل ما روي عن أبي الحسن الثاني عليه‌السلام أنه كتب إليه بعض البغداديّين يسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا يدور (٤) فكتب عليه‌السلام : «من خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة ، وعوفي من كلّ عاهة ، وقضى الله له حاجته» (٥).

وروى في (الكافي) أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كفّارة الطيرة التوكّل» (٦) ، وهذا الفرد ممّا يرجع إلى عدم ترتّب التأثير عليه.

التاسع : التفكّر في الوسوسة في الخلق

وهو ما يخطر في القلب من تطلب أسرار الأقضية والأقدار ، وأنه كيف يصحّ

__________________

(١) إن هوّنتها .. شيئا ، سقط في «ح».

(٢) الكافي ٨ : ١٦٩ ـ ١٧٠ / ٢٣٥.

(٣) من «ح».

(٤) أي آخر أربعاء من الشهر.

(٥) الخصال ٢ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ / ٧٢ ، باب الخمسة.

(٦) الكافي ٨ : ١٧٠ / ٢٣٦.

١٥٢

خلق هذا الشي‌ء بغير مادّة؟ أو ما الغرض والعلّة في إيجاد الشي‌ء الفلاني؟ ونحو ذلك.

وفي الخبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، هلكت. فقال له (١) : أتاك الخبيث ، فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله ، فقال لك : الله من خلقه؟ فقال : أي والذي بعثك بالحقّ لكان كذا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك والله محض الإيمان» قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنما قال : هذا والله محض الإيمان ، يعني خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض ذلك في قلبه» (٢).

وقد ورد في خبر آخر إنّكم إذا وجدتم مثل ذلك [فـ] قولوا : «لا إله إلّا الله» (٣).

وروي أيضا : «قولوا : آمنّا بالله وبرسوله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله» (٤).

وقال بعض مشايخنا في معنى هذه الفقرة : (إنه يحتمل أن يكون المعنى : التفكر فيما يوسوس الشيطان في القلب في الخالق ومبدئه وكيفية خلقه ؛ فإنه معفوّ عنها ما لم يعتقد خلاف الحقّ وما لم ينطق بالكفر الذي يخطر بباله. أو المراد : التفكر في خلق الأعمال ، ومسألة القضاء والقدر. أو المراد : التفكر فيما يوسوس الشيطان [به] في النفس من أحوال المخلوقين وسوء الظنّ بهم في أعمالهم ، ويؤيّد الأخير كثير من الأخبار (٥)) (٦) انتهى.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٥ / ٣ ، باب الوسوسة وحديث النفس.

(٣) الكافي ٢ : ٤٢٤ / ١ ، باب الوسوسة وحديث النفس.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢٥ / ٤ ، باب الوسوسة وحديث النفس.

(٥) انظر مرآة العقول ٢٥ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٣ : ١٥٢.

(٦) بحار الأنوار ٥ : ٣٠٤ / ذيل الحديث : ١٤.

١٥٣
١٥٤

(٥٠)

درّة نجفيّة

في مشروعيّة نقل الموتى إلى المشاهد المشرّفة

روى الصدوق رحمه‌الله في (من لا يحضره الفقيه) (١) ـ وغيره (٢) ، ورواه غيره (٣) أيضا ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف عليه‌السلام من مصر ، ووعده طلوع القمر» (٤).

وساق الخبر إلى أن قال : «فاستخرجه من شاطئ النيل في صندوق مرمر ، فلمّا أخرجه طلع القمر فحمله إلى الشام».

وورد في عدة أخبار أيضا حمل نوح عظام آدم عليهما‌السلام من الكعبة ودفنها في الغري (٥).

والإشكال في هذه الأخبار من وجهين :

أحدهما : أن ظاهر هذه الأخبار جواز نقل الموتى بعد الدفن إلى المواضع الشريفة ، وظاهر الأصحاب تحريم ذلك حتى قال ابن إدريس : إنه بدعة في

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٢٣ / ٥٩٤.

(٢) الخصال ١ : ٢٠٥ / ٢١ ، باب الأربعة ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / ١٨ ، علل الشرائع ١ : ٣٤٥ / ب ٢٣٢ ، ح ١.

(٣) الكافي ٨ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ١٤٤.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الفجر.

(٥) كامل الزيارات : ٨٩ ـ ٩٠ / ٩١ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢ ـ ٢٣ / ٥١ ، مصباح الزائر : ١١٧ ـ ١١٨ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٢٧ ، ح ١.

١٥٥

شريعة الإسلام ، سواء كان النقل إلى مشهد أو غيره (١).

وقال الشيخ في (النهاية) : (وإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله من موضعه ، وقد وردت رواية بجواز نقله إلى بعض مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام سمعناها مذاكرة) (٢).

وأسند الجواز في (التذكرة) (٣) إلى بعض علمائنا.

ونقل بعض مشايخنا (٤) من متأخّري المتأخّرين عن الشيخ وجماعة أنهم جوّزوا النقل إلى المشاهد المشرّفة ، ولم أقف عليه في كلامه إلّا إن ظاهر عبارة (المبسوط) ذلك. حيث قال بعد ذكر المسألة والإشارة إلى ورود الرواية المذكورة وأنهم سمعوها مذاكرة قال : (والأوّل أفضل) (٥) ؛ فإن ظاهره الجواز وإن كان خلاف الأفضل. ونقل عن ابن حمزة القول بالكراهة (٦).

وقال ابن الجنيد : (لا بأس بتحويل الموتى من الأرض المغصوبة ، ولصلاح يراد بالميّت (٧). وظاهره الجواز من غير كراهة في الصورتين المذكورتين).

وأنت خبير بأنا لم نقف على حجّة على التحريم في المقام أزيد من تحريم النبش ، مع أن الحجّة على تحريم النبش ليس إلّا الإجماع المدّعى بينهم ، وإلّا فلم أقف على خبر يدلّ عليه ، وإثبات الإجماع فيما نحن فيه ، ممنوع ؛ لما عرفت من الخلاف. وما اعتمده صاحب (الوسائل) من الأخبار الدالة على حدّ النبّاش (٨) ، فظنّي أنّها لا تقوم حجّة ، لإمكان حمل الحدّ على ما يتعلّق بسلب الأكفان ، أو تكرر ذلك منه. ودخول ما نحن فيه من النبش لأجل نقل الميّت إلى

__________________

(١) السرائر ١ : ١٧٠ ، مع تقديم وتأخير.

(٢) النهاية : ٤٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٠٢ / المسألة : ٢٤٥.

(٤) بحار الأنوار ٧٩ : ٧٠.

(٥) المبسوط ١ : ١٨٧.

(٦) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٦٩ ، وفيه : استثناء النقل إلى بعض المشاهد المشرفة ، وقد صرّح باستحبابه.

(٧) عنه في بحار الأنوار ٧٩ : ٧٠.

(٨) وسائل الشيعة ٢٨ : ٢٧٨ ـ ٢٨٢ ، أبواب حدّ السرقة ، ب ١٩.

١٥٦

محل شريف يترتّب عليه النفع بالنسبة إليه ممنوع.

فالقول بالجواز في نقل الأموات إلى المشاهد المشرّفة كما صار إليه بعض مشايخنا المعاصرين (١) غير بعيد ، وتكون هذه الأخبار من جملة الأدلّة على ذلك.

وما ذكره الفاضل الخراساني في (الذخيرة) ـ من أن وقوع ذلك في شرع من قبلنا (٢) لا يدلّ على جوازه في شرعنا ـ مردود بأن الظاهر من نقلهم عليهم‌السلام ذلك للشيعة وتقريرهم عليه ، هو جواز ذلك ، كما وقع القول به في جملة من المواضع ؛ منها حديث : «ذكري حسن على كل حال» (٣) الذي جوّزوا به ذكر الله سبحانه في الخلاء ؛ لنقلهم عليه‌السلام عن موسى عليه‌السلام ذلك.

ومنها جواز جعل المهر إجارة الرجل نفسه مدّة ، كما حكاه الله تعالى عن موسى عليه‌السلام في تزويجه بابنة شعيب (٤) ، فإن أكثر الأصحاب على القول بذلك (٥) استنادا إلى الدليل المذكور ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع الخبير.

ويعضد ذلك عموم جملة من الأخبار الواردة في فضل الدفن في المشاهدة المقدّسة ولا سيّما الحائر الحسيني والغري (٦) ، على مشرفيهما أفضل الصلاة والسلام.

ويؤكّده أيضا وقوع ذلك بجملة من فضلاء الطائفة المحقّقة ، وأساطين الشريعة الحقّة مثل الشيخ المفيد فإنه دفن في داره مدّة ثم نقل إلى جوار الإمامين الكاظمين (٧) ـ صلوات الله عليهما ـ والسيّد المرتضى رضي‌الله‌عنه فإنه دفن في داره مدّة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) ذخيرة المعاد : ٣٤٤.

(٣) الكافي ٢ : ٤٩٧ / ٨ ، باب ما يجب من ذكر الله. ، وسائل الشيعة ١ : ٣١٠ ، أبواب أحكام الخلوة ، ب ٧ ، ح ١.

(٤) في الآية : ٢٧ من سورة القصص.

(٥) على القول بذلك ، سقط في «ح».

(٦) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ١ ، ٢ ، باب في أرواح المؤمنين ، ارشاد القلوب ٢ : ٣٤٧ ـ ٣٤٩ ، بحار الأنوار ٩٧ : ٢٣٢ ـ ٢٣٥ / ٢٥ ـ ٢٧.

(٧) رجال النجاشي : ٤٠٣ / ١٠٦٧.

١٥٧

ثم نقل إلى جوار الحسين عليه‌السلام (١) ، ذكر ذلك علماء الرجال. ونقل أيضا مثل ذلك عن الشيخ البهائي فإنه دفن في أصفهان ثم نقل إلى المشهد المقدّس الرضوي (٢) على مشرفه السلام. ومن الظاهر أن وقوع ذلك في تلك الأيام المملوءة بالعلماء الأعلام لا يكون إلّا بتجويزهم وإذنهم.

وبالجملة ، فالظاهر عندي هو جوازه ، بل استحبابه. على أنا لا نحتاج في ذلك إلى دليل بل الأصل الجواز ، وبه نتمسّك إلى أن يقوم الدليل على المنع ، وليس فليس.

وثانيهما : أنه قد ورد في جملة من الأخبار : أن الأنبياء والأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ يرفعون بعد الدفن بأبدانهم من الأرض ، فروى المشايخ الثلاثة ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ عن زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما من (٣) نبي أو وصي نبيّ يبقى في الأرض [بعد موته] أكثر من ثلاثة أيّام حتى يرفع روحه ولحمه وعظامه إلى السماء ، وإنّما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغونهم من بعيد السلام ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب» (٤).

وروى الشيخ في (التهذيب) عن عطيّة الأبزاري قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا تمكث جثّة نبيّ ولا وصيّ نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوما» (٥).

ووجه مدافعة هذين الخبرين الأخبار السابقة ظاهرة ؛ لدلالة هذين الخبرين على أنهم يرفعون بأبدانهم العنصريّة من الأرض ، ودلالة تلك الأخبار على بقائهم

__________________

(١) لم نعثر عليه عند من تقدم على المصنف رحمه‌الله. نعم ، ذكر صاحب منتهى المقال ٤ : ٣٩٨ أن الشهيد الثاني ذكره في حاشيته على الخلاصة ، وقد اشير في هامش تحقيق منتهى المقال إلى أن ذلك ص ٤٦ منه.

(٢) سلافة العصر : ٢٩١.

(٣) سقط في «ح».

(٤) الفقيه ٢ : ٣٤٥ / ١٥٧٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٦ / ١٨٦.

(٥) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٦ / ١٨٥.

١٥٨

فيها ، وأن الأرض تأكل من أبدانهم كما يدلّ عليه تخصيص النقل بالعظام ، مع أنه قد روى الصدوق في (الفقيه) عن الصادق عليه‌السلام مرسلا قال : «إنّ الله عزوجل حرّم لحومنا على الأرض ، وحرّم لحومنا على الدود أن تطعم منها شيئا» (١).

وروى فيه أيضا عنه عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى حرّم لحومنا على الأرض تأكل منها شيئا (٢)» (٣).

وهذان الخبران وإن كانا مجملين بالنسبة إلى الرفع إلّا إنهما صريحان بالنسبة إلى عدم تغيّر أبدانهم بالأرض كسائر الناس.

ولم أقف على كلام شاف وبيان واف في الجمع بين هذه الأخبار إلّا إن شيخنا المجلسيّ قدس‌سره في كتاب مزار (البحار) قال ـ بعد نقل خبري عطية الأبزاري وزياد ابن الحلال (٤) المذكورين ـ ما هذا لفظه : (ثم إن في هذين الخبرين إشكالا من جهة منافاتهما لكثير من الأخبار الدالّة على بقاء أبدانهم في الأرض ، كأخبار نقل عظام آدم عليه‌السلام ونقل عظام يوسف عليه‌السلام ، وبعض الآثار الواردة أنهم نبشوا قبر الحسين عليه‌السلام فوجدوه في قبره (٥) ، وأنهم حفروا في الرصافة قبرا فوجدوا فيها شعيب بن صالح (٦) ، وأمثال تلك الأخبار كثيرة.

فمنهم من حمل أخبار الرفع على أنهم يرفعون بعد الثلاثة ثم يرجعون إلى قبورهم ، كما ورد في بعض الأخبار أنّ كلّ وصيّ يموت يلحق بنبيّه ثم يرجع إلى مكانه (٧).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٢١ / ٥٨١.

(٢) وروى فيه أيضا .. شيئا ، من «ح».

(٣) الفقيه ١ : ١٢١ / ٥٨٢.

(٤) في «ح» : الهلال.

(٥) الأمالي (الطوسي) : ٣٢٦ / ٦٥٣ ، بحار الأنوار ٤٥ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥ / ٢.

(٦) بحار الأنوار ٩٧ : ١٣١.

(٧) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ١٨٧ ، وليس فيه : ثمّ يرجع إلى مكانه.

١٥٩

ومنهم من حملها على أنها صدرت لنوع مصلحة تورية لقطع طمع الخوارج والنواصب الذين كانوا يريدون نبش قبورهم عليهم‌السلام وإخراجهم منها ، وقد عزموا على ذلك مرارا فلم يتيسّر لهم (١).

ويمكن حمل أخبار نقل العظام على أن المراد : نقل الصندوق المتشرّف بعظامهم وجسدهم في ثلاثة أيّام أو أربعين يوما ، وأن الله تعالى يردهم إليها لتلك المصلحة. وعلى هذا تحمل الأخبار الاخر ، والله يعلم) (٢) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

وأنت خبير بما فيه بجميع احتمالاته من البعد الظاهر كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

وقال المحدّث الكاشاني في (الوافي) ـ بعد نقل حديث زياد المتقدّم ـ ما صورته : (حمل هذا الحديث على ظاهره ليس بمستبعد في عالم القدرة وفي خوارق عاداتهم عليهم‌السلام ، مع أنه يحتمل أن يكون المراد باللحم والعظم المرفوعين : المثاليّين منهما أعني : البرزخيّين ، وذلك لعدم تعلّقهم بهذه الأجساد العنصريّة ، فكأنّهم وهم بعد في جلابيب من أبدانهم قد نفضوها وتجرّدوا عنها (٣) ، بعد وفاتهم.

والدليل على ذلك من الحديث قوله عليه‌السلام : «إنّ الله خلق أرواح شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا» (٤) ، فأبدانهم ليست الّا تلك الأجساد اللطيفة المثاليّة.

وأما العنصريّة فكأنها أبدان الأبدان ، ويدلّ على ذلك أيضا (٥) ما يأتي في باب زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالغريّ في حديث المفضّل بن عمر : «إنّ الله أوحى إلى

__________________

(١) الأمالي (الطوسي) : ٣٢٥ ـ ٣٢٩ / ٦٥٢ ـ ٦٥٧ ، بحار الأنوار ٤٥ : ٣٩٤ ـ ٣٩٨ / ٢ ـ ٤ ، ٨.

(٢) بحار الأنوار ٩٧ : ١٣١.

(٣) في «ح» بعدها : فضلا عما.

(٤) الكافي ١ : ٣٨٩ / ٢ ، باب خلق أبدان الأئمَّة عليهم‌السلام .. ، بالمعنى.

(٥) في «ح» بعدها : من الحديث.

١٦٠