الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الأوّل : أن ما ذكره في الكلام الأوّل من التردّد في جواز الاستيجار لفقد النصّ مردود (١) :

أوّلا : بما عرفت آنفا من أن فقد النصّ في خصوص الاستيجار للصلاة والصيام لا يصلح للمانعيّة. ومن ذا الذي اشترط وجود نصّ في خصوصيّة كل عمل أو فعل يراد الاستيجار عليه حتى يشترط هنا؟! والنصوص العامّيّة كافية كما في غير الإجارة من المعاملات.

وثانيا : أنه قد روى الصدوق قدس‌سره في (الفقيه) عن عبد الله بن جبلة عن إسحاق ابن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل يجعل عليه صياما في نذر فلا يقوى ، قال : «يعطي من يصوم عنه كلّ يوم مدّين» (٢). وهي صريحة في المطلوب والمراد ، عارية عن وصمة الإيراد.

وثالثا : النقض بالحج أيضا كما سيأتي بيانه.

الثاني : ما ذكره في كلامه الثاني بقوله : (والذي يظهر لي أن ما يعتبر فيه نيّة التقرّب) ـ إلى آخره ـ فإن (٣) فيه :

أوّلا : ما ذكرنا في الوجه الأوّل من ورود النصّ في الصوم وكذا في الحجّ وما اعتذر به في الحجّ ، فسيأتي بيان (٤) بطلانه.

وثانيا : أنه متى كان العلّة في عدم جواز الاستيجار ذلك ؛ فإنه لا يجوز وإن أوصى الميت بذلك ؛ لأن الاستيجار متى كان باطلا لبطلان العبادة والأجير لا يستحق أجرة ، فالوصيّة غير مشروعة ، فتكون باطلة ، مع أنه قد استثنى الوصيّة كما عرفت.

وثالثا : أن لقائل أن يقول : إن الفعل المستأجر عليه هو الصلاة المتقرّب بها إلى

__________________

(١) من «ح».

(٢) الفقيه ٣ : ٢٣٥ / ١١١١.

(٣) من «ح».

(٤) ليست في «ح».

١٠١

الله سبحانه ، فإنّها هي المستقرّة في ذمة المستأجر عنه فالاجرة في مقابلة المجموع لا الصلاة حاصلة ليحصل منافاة الاجرة (١) للقربة. والفرق لطيف يحتاج إلى مزيد تأمّل.

وتوضيحه أن النيّة مشتملة على قيود ، منها كون الفعل خالصا لله سبحانه ، ومنها كونه أداء أو قضاء عن نفسه أو عن غيره تبرّعا أو باجرة. وكل من هذه القيود الأخيرة غير مناف لقيد الإخلاص ، والاجرة فيما نحن فيه إنما وقعت أوّلا وبالذات بإزاء القصد الثاني ـ أعني : النيابة عن زيد مثلا ـ بمعنى أنه استؤجر على النيابة عن زيد في الإتيان بهذه الفريضة المتقرّب بها ، وقيد القربة على حاله ، وفي محله لا تعلق للإجارة به إلّا من حيث كونه قيدا للفعل المستأجر عليه.

نعم ، لو اشترط في النيابة عن الغير التقرب زيادة على التقرب المشروط في صحّة العبادة ، اتّجه منافاة الاجرة لذلك ، إلّا إنه ليس بشرط إجماعا.

وبالجملة ، فإن أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه ، ولكن الحامل عليها والباعث عليها مع التقرّب هو هذا المبلغ الذي قرر له. ولذلك نظائر في الشرع توجب دفع الاستبعاد مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الاستخارة ، وصلاة الحاجة ، وصلاة طلب الولد وطلب الرزق ونحو ذلك ، فإن أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه ، ومتقرب بها إليه ، ولكن الباعث عليها هو أحد هذه الأغراض المفصّلة ، يعني أنه يأتي بالصلاة خالصة لوجهه سبحانه لأجل هذا الغرض الحامل عليها.

فإن قيل : إن هذا ممّا قام الدليل على صحّته وورود الخبر به دون (٢) موضع النزاع.

__________________

(١) في «ح» : والأجرة ، بدل : فالأجرة في مقابلة. الاجرة.

(٢) في «ح» : بخلاف.

١٠٢

قلنا : إن الخصم إنما تمسك بأن الصلاة بالاجرة [منافية] (١) للقربة والإخلاص بها لله سبحانه ، حيث إن الحامل عليها إنما هو الاجرة دون قصد وجهه سبحانه.

وبمقتضى تعليله أنه لا يصحّ شي‌ء من هذه الصلوات بالكلية ، فإن الباعث عليها امور اخر ـ كما عرفت ـ مع أن الشرع قد ورد بصحّتها ، وليس الوجه في ذلك إلّا ما قلناه من أن هذه الأسباب إنما هي أسباب حاملة على الإتيان بالصلاة الخالصة له سبحانه. ومثله يجري في مسألة الإجارة فلا فرق حينئذ.

وبالجملة ، فكما يصحّ أن يكون الحامل على العبادة أحد هذه الامور ، كذلك يجوز أن يكون الحامل استحقاق الاجرة والانتفاع بها.

الثالث : ما ذكره بقوله : (وأما جواز الاستيجار للحجّ مع كونه من القسم الأوّل) ـ إلى آخره ـ ففيه :

أوّلا : أنه من الجائز الواقع أن يكون الاستيجار من الميقات أو من مكة وهو ممّا لا يجري فيه هذا التخرّص الذي ذكره والتمحّل الذي اعتبره ، فلا يكون ما ذكره كليّا مع أن ظاهر النصوص كليّة الحكم ، وهو كاف للخصم في التعلّق به ؛ فإنه لا ينكر صحّة.

وثانيا : أنه يمكن أيضا إجراء ما فرضه في الحج في الصلاة بأن يقبض الأجير (٢) الاجرة ويتصرّف فيها بعد الاستيجار ، ولا يأتي بالصلاة إلّا بعد نفاد الاجرة ؛ إذ الإجارة لا تقتضي الفورية كما هو الأشهر الأظهر. وحينئذ ، فيمكنه التقرّب بها كما لو لم يكن أخذ اجرة ، فهو كالمتطوّع.

وثالثا : أن بقوله : (أو نقول : إن ذلك على سبيل لاسترضاء للمتبرّع) مناف لفرض المسألة أولا ، فإن المفروض الاستيجار للحجّ كما صرّح به في كلامه ،

__________________

(١) في النسختين : مناف.

(٢) ليست في «ح».

١٠٣

فكيف يجعله تبرعا وأن المدفوع من الاجرة على سبيل الاسترضاء ، والفرق بين الأمرين أوضح واضح؟

وبالجملة ، فإنه لو جاز بناء الأحكام الشرعيّة على مثل هذه التخرّصات البعيدة والتمحّلات الغير السديدة لاتّسع المجال ، وكثر القيل والقال ، ولم يبلغ المجتهدون الذين قد أكثر من التشنيع عليهم في رسائله ومصنّفاته إلى مثل هذه التخريجات الواهية الباردة ، والتخرّصات البعيدة الشاردة ، والله العالم.

١٠٤

(٤٦)

درّة نجفيّة

في الجمع بين حديثي : زدني فيك معرفة ، ما ازددت يقينا

قد اشتهر بين الطلبة السؤال عن الجمع بين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم زدني فيك تحيّرا» (١) ، «اللهم زدني فيك معرفة» (٢) ، وبين قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٣). وهذا يدلّ على بلوغه عليه‌السلام في المعرفة غاية لا تتصوّر الزيادة عليها ، فيلزم أن يكون أكمل فيها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو خلاف الإجماع.

وقد اجيب عن ذلك بوجوه :

منها ما نقل (٤) عن شيخنا بهاء الملة والحقّ والدين ـ قدّس الله روحه ـ وهو أن كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام منزّل على امور الآخرة من الجنة والنار والصراط والميزان ، يعني : لو كشف الغطاء عن الامور الاخرويّة لم أزدد فيها يقينا ، كما قال عليه‌السلام : «كأنّي أنظر إلى جهنّم وزفيرها على أهل المعاصي ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة متكئين فيها على أرائكهم» (٥) ، ونحو ذلك.

منها ما نقله السيّد الفاضل المحدّث السيّد نعمة الله الجزائري (٦) ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ عن بعض معاصريه ، وهو أن يكون نصب «يقينا» على المفعول به

__________________

(١) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٧٦.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم : ٥٦٦ / ١ ، شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ٧ : ٢٥٣ ، ١٠ : ١٤٢ ، ١١ : ٢٠٢ ، ١٣ : ٨.

(٤) نور البراهين ٢ : ١٤٦.

(٥) الكافي ٢ : ٥٣ / ٢ ، باب حقيقة الإيمان.

(٦) الأنوار النعمانية ١ : ٣٦ ـ ٣٧.

١٠٥

لـ «ازددت» ، لا على الظرفية والتمييز.

حاصل المعنى أن لي علما ومعرفة بوجود الصانع حتى لو كشف الغطاء لما حصلت علما يغاير ما علمته به ، ككونه في زمان أو مكان ممّا يغاير العلم الأوّل لا أن العلم الذي عندي لا يحصل له الزيادة ؛ لأن العيان أبلغ من المعرفة القلبية (١).

ومنها ما حكاه (٢) قدس‌سره عن العلّامة الحلّي قدس‌سره وهو : (أن مادّة النبوّة أقبل من مادة الإمامة ، فمن ثم قال عليه‌السلام : «لو كشف الغطاء» ، يعني أن ما تقبله مادتي من المعارف قد استكملت. وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ربّ زدني فيك معرفة ..» فهو إشارة إلى أن مادة النبوّة لم يستكمل قبولها بعد) (٣).

__________________

(١) وقال السيد أيضا في كتاب (الأنوار النعمانية) في حكايته القول بعد [أن] ذكر أن «يقينا» منصوب على المفعولية لا على التمييز : (وحاصله أن لي (١) يقينا في مراتب المعرفة لو كشف الغطاء لم أزدد يقينا غير ذلك اليقين بأن يتغيّر علمي ويحدث لي علم يغايره كما هو واقع في علومنا ، وليس المراد أن ذلك اليقين لا يقبل الزيادة والنقصان ، بل هو قابل له غير أنه لا يتغيّر إلى يقين يغايره) (٢) انتهى. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح» و «ع»).

(٢) الأنوار النعمانيّة ١ : ٣٦.

(٣) هكذا نقله شيخنا أبو الحسن سليمان قدس‌سره عن السيّد المشار إليه ، وصورة عبارة السيد التي وقفت عليها نقلا عن كتابه (الأنوار النعمانية) هكذا : (إن عليّا عليه‌السلام لما كانت مادّة استعداده لمراتب المعرفة أنقص من مادّة استعداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكأنه قال : إني وصلت في درجات المعرفة الدرجة التي لا أتعدّاها ، فلو كشف الحجاب وصار ما يدرك (٣) بالبصيرة مدركا بالبصر إلي [لما ازداد] (٤) علمي ويقيني).

ثم قال [بعد ذكره كلامه] (٥) : (وهذا الجواب على ما ترى) انتهى كلامه.

فكأن شيخنا المشار إليه نقل [..] (٦) معناه. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح» و «ع»).

__________________

(١) من «ع» والمصدر ، وفي «ح» : في.

(٢) الأنوار النعمانية ١ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : ما لا يدرك.

(٤) من المصدر ، وفي هامش «ح» و «ع» : إلي لم يزداد.

(٥) عبارة غير مقروءة في هامش «ح» وسقط في هامش «ع» ، والظاهر ما أثبتناه.

(٦) كلمة غير مقروءة في هامش «ح» ، وسقط في هامش «ع».

١٠٦

قال بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ بعد نقله : (ولا يخفى ما فيه من الخفاء والضعف ، وفي نفسي من نسبة مثله إلى جناب آية الله العلّامة شي‌ء) (١) انتهى.

ومنها ما نسبه السيّد المشار إليه إلى نفسه (٢) ، وحاصله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مراتب علومه ومعارفه تتزايد يوما فيوما حتّى إنه ربّما عدّ مرتبته أمس تقصيرا وذنبا بالنسبة إلى مرتبته في يومه ، وعليه نزل قوله عليه‌السلام : «إنّي لأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرة من غير ذنب» (٣) ؛ ولمّا تكامل عمره الشريف تكاملت معرفته اللائقة بالمادة النبويّة.

وقد سلّم تلك العلوم التي حصلت له مدّة عمره الشريف لعليّ عليه‌السلام في ساعة واحدة بحكم قوله : «علّمني ألف باب من العلم ، يفتح من كل باب ألف باب» (٤) ، وكلام علي عليه‌السلام إنما هو بعد موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا منافاة بين طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زيادة المعرفة أيام حياته وكلام عليّ عليه‌السلام بعد مماته ؛ لأنه إنما حصّل هذه المرتبة من ذلك العلم الذي أفاضه عليه ، فلا يلزم زيادة علمه عليه‌السلام على علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

ومنها ما ذكره شيخنا العلّامة الشيخ سليمان البحراني ـ عطّر الله مرقده ـ وهو

__________________

(١) وقال قدس‌سره في كتاب (الأنوار النعمانية) بعد ما ذكر أن هذا المعنى (٥) مما خطر له إنه بعد ذلك رآه في شرح استاذه الأجلّ الشيخ علي ـ أعلى الله شأنه ـ على (شرح اللمعة). والظاهر أن المراد : الشيخ علي ابن الشيخ محمد ابن الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. منه قدس‌سره ، (هامش «ح» و «ع»).

(٢) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٧٨.

(٣) الأربعون حديثا (البهائي) : ٣١٢ / شرح الحديث : ٢٢ ، بحار الأنوار ٢٥ : ٢١٠ ، وليس فيه : من غير ذنب ، صحيح البخاري ٥ : ٢٣٢٤ / ٥٩٤٨.

(٤) الخصال ٢ : ٦٤٢ ـ ٦٤٣ / ٢٢ ، ٦٤٥ / ٢٧ ، ٦٤٥ ـ ٦٤٦ / ٣٠ ، أبواب الألف ، بحار الأنوار ٢٢ : ٥١١ / ٩.

(٥) الأنوار النعمانيّة ١ : ٣٧.

__________________

(١) من «ح».

١٠٧

أن كشف الغطاء إنما هو بعد الموت ، ومعنى قوله : «لو كشف الغطاء» أنه بعد الموت لا تزداد معرفته.

وكشف الغطاء عبارة عن التجرّد عن التعلّق بالبدن والانسلاخ عن ملابسته ، وهذا لا ينافي تزايد معرفته في الدنيا قبل الموت. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ربّ زدني فيك معرفة» إنما أراد بلوغه الغاية الممكنة له في المعرفة في الدنيا. وهذا لا يقتضي زيادة معرفته بعد كشف الغطاء والتجرّد المحض على معرفته الكاملة نهاية مراتب المعرفة الحاصلة في النشأة الدنيوية (١).

أقول : فيه :

أوّلا : أن ظاهر كلامه قدس‌سره تخصيص كشف الغطاء بهذا المعنى الذي ذكره ، والظاهر بعده ، بل المراد ـ والله سبحان وأولياؤه أعلم ـ إنّما هو الكناية عن جواز الرؤية البصريّة ، بمعنى أنه لو جازت الرؤية البصرية لم يزدد يقيني بالمعرفة بالله سبحانه وبصفاته على ما أنا عليه الآن.

وثانيا : أنه على تقدير المعنى الذي ذكره ـ طاب ثراه ـ لا يتمّ أيضا ، وذلك فإن كلامه عليه‌السلام ظاهر في أنه في وقت قوله عليه‌السلام وهذا الكلام قد بلغ مرتبة لا تقبل الزيادة ؛ لأنه إذا كان بعد الموت لا يحصل له زيادة على هذه المرتبة التي هو عليها وقت تكلّمه بهذه الكلمة ، فلو جازت الزيادة في الأيّام الباقية من عمره بعد كلامه بهذا الكلام لحصلت المنافاة في المقام. إلّا أن يقال بتزايد المعرفة في الدنيا زيادة على الآخرة وبعد الموت ، وهو باطل قطعا ، بل الأمر بالعكس.

ومنها ما ذكره شيخنا المشار إليه أيضا قال : (وهو من السوانح أيضا ، وهو أن الإمام عليه‌السلام إنّما قال : «ما ازددت يقينا» ، ولا ينافي ذلك إلّا زيادة (٢) المطلق. كيف ،

__________________

(١) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٧٩.

(٢) إلّا زيادة ، من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : ازدياد.

١٠٨

والزيادة على اليقين إنما هو بعين اليقين ، وهو اليقين كما قرّر في محلّه (١)؟

ومنها ما ذكره أيضا قدس‌سره وهو أن المفهوم من قوله عليه‌السلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أنه بلغ في المعرفة السبحانية غاية لا يتصوّر الزيادة عليها ، وليس فيه أنه بلغ من جميع العلوم والمعارف إلى الحد المذكور.

وحديث : «رب زدني فيك تحيرا.» إنما يقتضي زيادة الحيرة ، وهي الحيرة المحمودة. وليست الحيرة المذكورة نفس اليقين ، ولا يلزم من تزايدها تزايده كما لا يخفى.

وأما حديث : «رب زدني فيك معرفة» ، فيمكن حمله (٢) على ما يوافق هذا ، وهي الحيرة المحمودة. وتسمى معرفة لنشوئها عنها (٣).

ومنها ما ذكره أيضا ـ طاب ثراه ـ وهو أن يحمل اليقين في : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» على التصديق بوجوده تعالى وصفاته الجمالية والجلالية ، والمعرفة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ربّ زدني فيك معرفة» على معارف اخرى تتعلّق به سبحانه وراء ذلك التصديق (٤).

أقول : لا يخفى ما في جميع هذه المعاني المذكورة من التكليف الظاهر والتمحّل الغير الخفي على الماهر ، بل عدم الاستقامة والمطابقة.

أمّا الأوّل ـ وهو المنقول عن شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ ففيه أن هذا المعنى مع كونه خلاف ظاهر اللفظ وتخصيصا له من غير دليل ممّا لا اختصاص له بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث الشاب الذي رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد (٥) ، وهو يخفق ويهوي برأسه

__________________

(١) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٧٩.

(٢) في «ح» : حمل المعرفة فيه ، بدل : حمله.

(٣) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٤) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٨٠.

(٥) ليست في «ح» ، وفي «ق» قبلها : من قوله.

١٠٩

مصفرا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كيف أصبحت يا فلان؟». قال : أصبحت يا رسول الله موقنا. فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : وقال له : «إن لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟». فقال : إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني (١) وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب ، وحشر [الخلائق] لذلك وكأني فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون على الأرائك متكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون يصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : «هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان» (٢) الحديث.

وروى في الكتاب المذكور أيضا حديثا آخر بهذا المضمون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري (٣).

وأنت خبير بأن ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام اختصاص هذه المرتبة به دون سائر الناس ، فإن كلامه في مقام الافتخار ببلوغ هذه المرتبة الّتي لا رتبة أعلى منها ولا يصلها سواه وسوى أبنائه الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

وأمّا الثاني ـ وهو المنقول عن العلّامة ـ فقد عرفت ما فيه ممّا أشار إليه بعض مشايخنا المتقدّم ذكره.

وأمّا الثالث ـ وهو ما ذكره المحدّث السيّد نعمة الله قدس‌سره ـ ففيه :

أوّلا : أن ما ذكره من تزايد معرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما فيوما على الوجه الذي ذكره وإن كان لحديث اطّلع عليه ، وإلا فأخبار الأسرار بظاهرها تردّه ؛ لدلالتها على

__________________

(١) في «ح» : أخوفني.

(٢) الكافي ٢ : ٥٣ / ٢ ، باب حقيقة الإيمان واليقين.

(٣) الكافي ٢ : ٥٣ / ٢ ، باب حقيقة الإيمان واليقين.

١١٠

بلوغه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتبة لا تكاد تقبل الزيادة ، من (١) الاطلاع على عالم الملكوت وأسرار الجبروت ، وما في السماوات من عجائب الصنع وآثار القدرة الباهرة والجنّة والنار وما فيهما ، ومشاهدة أنوار العظمة الإلهيّة ، وقربه كقاب قوسين أو أدنى كما أفصحت به (٢) الآية القرآنية. ومن راجع الأخبار المذكورة وما اشتملت عليه من الأسرار ولا يخفى عليه صحّة ما قلناه.

نعم ، التزايد كان يحصل له باعتبار علوم الحوادث والقضايا ، لا باعتبار المعارف الإلهية.

وثانيا : أن جلّ علمائنا قد صرّحوا بمنع التقليد في المعارف الإلهيّة لسائر الناس ، فكيف يجوز بالنسبة إلى أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ مع أن مرآة نفسه القدسيّة أشرف المرايا وأجلاها لاستشراق أنوار تلك المعارف من الجناب الأقدس ، كما صرّحوا به بالنسبة إلى أصحاب الرياضات ، المستعدين للسلوك ، وهو سيّد المرتاضين وإمام السالكين ومقدام الواصلين؟ فكيف تكون معارفه التي من جملتها هذه المرتبة إنّما هي مأخوذة بالتقليد والتعليم؟

وأما الحديث الذي استند إليه فظاهر الأخبار تدلّ على اختصاصه بعلوم الشريعة وأخبار القصص والملاحم ونحو ذلك ممّا كان أو سيكون إلى يوم القيامة ، لا (٣) بالنسبة إلى المعارف الإلهيّة.

وأمّا الرابع ـ وهو ما ذكره شيخنا المشار إليه آنفا ـ فقد عرفت ما فيه ، وكذلك الوجوه الثلاثة التي ذكرها فإنها لا تخلو من غموض وخفاء وتكلف لا يخفى.

والذي يظهر لي في الجمع بين هذه الأخبار هو أن هذه المرتبة التي ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام هي المرتبة التي طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الزيادة فيها ، فتكون هذه

__________________

(١) في «ح» : مع.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» : و.

١١١

الزيادة هي الفارقة بين مقام النبوّة ومقام الإمامة. فإن أحاديث طلب (١) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الزيادة في المعرفة لا تدلّ على بلوغه مرتبة مخصوصة في ذلك الوقت بحيث تنقص عن مرتبة أمير المؤمنين عليه‌السلام حتّى تحصل المنافاة بين الأخبار المذكورة ، بل هي مطلقة.

وحينئذ ، فيحمل إطلاقها على هذه المرتبة التي عناها أمير المؤمنين عليه‌السلام ممّا لا يبلغ لها (٢) أحد من البشر غيرهما ـ صلوات الله عليهما ـ وابناؤهما الغرر ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بلوغه إيّاها طلب الزيادة فيها تحقيقا لعلوّ مقامه على الباقين.

وهو معنى صحيح لا غبار عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.

لا يقال : إنه ينافي ذلك قوله عليه‌السلام إنه لو كشف له الغطاء لم يحصل له زيادة اليقين على ما علمه أوّلا بأنّه إذا كانت هنا أفراد زائدة للمعرفة على ما بلغ إليه وهي التي ذكرتم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله طلبها ، يلزم أن تكون موجودة بعد كشف الغطاء ، ومنها تحصل زيادة اليقين على ما كان عليه أولا.

لأنّا نقول : إن اليقين بالمعرفة كما يقبل الشدّة والضعف والزيادة والنقيصة قبل كشف الغطاء كذلك بعده ؛ فإن الإحاطة بالشي‌ء والعلم به قد تكون من جميع جهاته ومتعلقاته ومنسوباته ، وقد يكون من أكثرها ، وقد يكون من بعضها ، وهو يتفاوت بتفاوت الاستعدادات والقابلية ، فهي قابلة للشدة والضعف.

وغاية ما يلزم أن هذه الزيادة لا تحصل في علم علي عليه‌السلام بعد كشف الغطاء له وإنما تحصل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ضير فيه ؛ لأنّه قد زاد بها قبل كشف الغطاء ، واختصّ بها فكذلك يختصّ بعده. فلا إشكال بحمد الله الملك المتعال ، والله العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) من «ح».

(٢) ليست في «ح».

١١٢

(٤٧)

درّة نجفيّة

في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نيّة المؤمن خير من عمله

في الحديث : «نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله» (١).

وفي (المحاسن) (٢) : «ونيّة الفاجر» ، بدل : «الكافر».

وقد تكلم علماؤنا ـ رضوان الله عليهم ـ في تأويل هذا الخبر بوجوه ؛ فمنهم شيخنا الشهيد ـ عطّر الله مرقده ـ في قواعده قال قدس‌سره : (روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ نيّة المؤمن خير من عمله» ، وربما روي «ونيّة الكافر شرّ من عمله» ، فورد سؤالان :

أحدهما : أنه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «أن أفضل العبادة أحمزها» (٣) ، ولا ريب أن العمل أحمز من النيّة فكيف يكون مفضولا؟ وروي أيضا أن المؤمن إذا همّ بحسنة كتبت بواحدة ، فإذا فعلها كتبت له عشرا (٤) وهذا صريح في أن العمل أفضل من النيّة وخير.

السؤال الثاني : أنه روي أن النيّة المجرّدة لا عقاب فيها ، فكيف تكون شرّا من العمل؟

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٤ / ٢ ، باب النيّة ، وسائل الشيعة ١ : ٥٠ ، أبواب مقدّمات العبادات ، ب ٦ ، ح ٣.

(٢) المحاسن ١ : ٤٠٥ / ٩١٩.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ١٠٨ / القاعدة : ١ ـ الفائدة : ٢٢.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢٨ / ٢ ، باب من يهم بالحسنة أو السيئة ، وسائل الشيعة ١ : ٥١ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٧.

١١٣

اجيب بأجوبة منها أن المراد : أن نيّة المؤمن بغير عمل خير من عمل بغير نيّة ، حكاه المرتضى رضي‌الله‌عنه (١). وأجاب عنه بأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل بغير نيّة لا خير فيه ، فكيف يكون داخلا في باب التفضيل؟ ولهذا لا يقال : العسل أحلى من الخلّ.

ومنها أنه عامّ مخصوص أو مطلق مقيّد ؛ إذ نيّة بعض الأفعال الكبار كنية الجهاد خير من بعض الأفعال الخفيفة كتسبيحة أو تحميدة أو قراءة آية ؛ لما في تلك النيّة من تحمل النفس المشقّة الشديدة والتعرّض للغمّ والهمّ الذي لا توازنه تلك الأفعال. وبمعناه قال المرتضى ـ نضّر الله وجهه ـ قال : (وأتى بذلك لئلا يظنّ أن ثواب النيّة لا يجوز أن يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال).

ثم أجاب بأنه خلاف الظاهر لأنه (٢) إدخال زيادة ليست في الظاهر (٣).

قلت : المصير إلى خلاف الظاهر متعيّن عند وجود ما يصرف اللفظ إليه ، وهو هنا حاصل ، وهو معارضة الخبرين السالفين ، فتجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وغيره.

ومنها أن خلود المؤمن في (٤) الجنّة إنّما هو بنيّة أنه لو عاش أبدا لأطاع الله أبدا ، وخلود الكافر في النار بنيّة أن لو بقي أبدا لكفر أبدا. قاله بعض (٥) العلماء (٦).

ومنها أن النيّة يمكن فيها الدوام بخلاف العمل ؛ فإنه يتعطّل عنه المكلّف أحيانا ، فإذا نسبت هذه النيّة الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه ، وكذا نقول في نيّة الكافر.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ٢٣٦ (بالمعنى) ، عنه في الأنوار النعمانيّة ٢ : ٣٥.

(٢) في «ح» : لأن فيه.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ١١٠ / القاعدة : ١ ـ الفائدة : ٢٢.

(٤) من «ح».

(٥) من «ح».

(٦) انظر إحياء علوم الدين ٤ : ٣٦٤ ، ونسبه للحسن البصري.

١١٤

ومنها أن النيّة لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ؛ لأنّا نتكلّم على تقدير النيّة المعتبرة شرعا بخلاف العمل ؛ فإنه يعرضه ذلك.

ويرد عليه أن العمل وإن كان معرضا لهما ، إلّا إن المراد به : العمل الخالي عنهما ، وإلّا لم يقع التفضيل.

ومنها أن المؤمن يراد به المؤمن الخالص كالمؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فإن غالب أفعاله جارية على التقيّة ومداراة أهل الباطل ، وهذه الأعمال المفعولة تقيّة ؛ منها ما يقطع فيه بالثواب كالعبادات الواجبة ، ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب كالباقي ، وأمّا نيته فهي خالية عن التقيّة ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ، ونطق بها بلسانه إلّا إنه غير معتقد لها بجنانه ، بل آب عنها ونافر عنها.

وإليه الإشارة بقول أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ و [قد] سأله أبو عمرو الشامي عن الغزو مع غير الإمام العادل ـ : «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» (١) ، وروي مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وهذه الأجوبة الثلاثة من السوانح ، وأجاب المرتضى رضي‌الله‌عنه (٣) أيضا بأجوبة.

ومنها أن النيّة لا يراد بها : التي مع العمل ، والمفضّل عليه هو العمل الخالي من النيّة. وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف مع أنه قد ذكره كما حكيناه عنه.

ومنها أن لفظة «خير» ليست التي بمعنى أفعل التفضيل ، بل هي الموضوعة لما فيه منفعة ، ويكون معنى الكلام : أن نيّة المؤمن من جملة الخير من أعماله (٤) حتى لا يقدّر مقدّر أن النيّة لا يدخلها الخير والشر كما يدخل ذلك في الأعمال.

__________________

(١) المحاسن ١ : ٤٠٩ / ٩٢٩ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ، أبواب مقدمات العبادات ، ب ٥ ، ح ٥.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٣٩٢.

(٣) انظر رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

(٤) من أعماله ، من «ح» والمصدر.

١١٥

وحكي عن بعض الوزراء استحسانه ؛ لأنه لا يرد عليه شي‌ء من الاعتراضات (١).

ومنها أن لفظ أفعل التفضيل قد تكون مجرّدة عن الترجيح كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) ، وقول المتنبّي :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظلم (٣)

قال ابن جني : (أراد : لأنت أسود من جملة الظلم ، كما يقال : حر من أحرار ، ولئيم من لئام ، فيكون الكلام قد تمّ عند قوله : لأنت أسود) (٤) ، ومثله قول الآخر :

وأبيض من ماء الحديد كأنّه

شهاب بدا والليل داج عساكره (٥)

وقول الآخر :

يا ليتني مثلك في البياض

أبيض من اخت بني إباض (٦)

أي أبيض من جملة اخت بني إباض ومن جملة عشيرتها.

فإن قلت : فقضية هذا الكلام أن يكون في قوّة قوله : النيّة من جملة عمله ، والنيّة من أفعال القلوب ، فكيف تكون عملا؟ لأنه يختص بالعلاج.

قلت : جاز أن تسمى عملا كما جاز أن تسمى فعلا أو يكون إطلاق العمل عليها مجازا.

قلت : وقد أجيب أيضا بأن المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير نحو الصدقة

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١١٢ / القاعدة : ١ ـ الفائدة : ٢٢.

(٢) الإسراء : ٧٢.

(٣) البيت من البسيط. شرح ديوان المتنبي (المتن) ٢ : ٣١.

(٤) عنه في القواعد والفوائد ١ : ١١٢ / القاعدة : ١ ـ الفائدة : ٢٢.

(٥) البيت من الطويل. الأمالي (المرتضى) ١ : ٦٤.

(٦) البيت من الرجز. أمالي السيد المرتضى ١ : ٦٣. وبنو إباض جماعة من الخوارج يقال لهم الإباضية ، وهم أصحاب الحارث الإباضي ، ويقال لهم الحارثية أيضا. انظر الانساب ١ : ٧٠ ـ الإباضي.

١١٦

والصوم والحج ، ولعلّه يعجز عنها أو عن بعضها فيؤجر على ذلك لأنه معقود النيّة عليه. وهذا الجواب منسوب إلى ابن دريد.

وأجاب الغزالي (١) بأن النيّة سرّ لا يطّلع عليه إلّا الله تعالى ، وعمل السرّ أفضل من عمل الظاهر. واجيب بأن وجه تفضيل النيّة على العمل أنّها تدوم إلى آخره حقيقة أو حكما ، وأجزاء العمل لا يتصور فيها الدوام ، إنما تتصرّم شيئا فشيئا) (٢) انتهى ما نقله الشهيد ـ نوّر الله مرقده ـ وأفاده في قواعده.

وممن تكلم في ذلك شيخنا البهائي ـ طيّب الله مضجعه ـ في (الأربعون) فإنه ذكر بعض أجوبة شيخنا الشهيد ، وقال بعدها : (ومنها أن المراد بنيّة المؤمن : اعتقاد الحق ، ولا ريب أنه خير من أعماله ؛ إذ ثمرته الخلود في الجنّة ، وعدمه يوجب الخلود في النار بخلاف الأعمال.

ومنها أن طبيعة النيّة خير من طبيعة العمل ؛ لأنه لا يترتّب عليها عقاب أصلا ، بل إن كانت خيرا اثيب عليها وإن كانت شرا كان وجودها كعدمها بخلاف العمل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣) ، فصحّ أن النيّة بهذا الاعتبار خير من العمل.

ومنها أن النية من أعمال القلب وهو أفضل الجوارح فعمله أفضل من عملها ، ألا ترى إلى قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٤) ، جعل سبحانه الصلاة وسيلة إلى الذكر ، والمقصود أشرف من الوسيلة. وأيضا فأعمال القلب مستورة عن الخلق لا يتطرق إليها الرياء ونحوه ، بخلاف أعمال الجوارح.

ومنها أن المراد بالنيّة تأثير القلب عند العمل وانقياده إلى الطاعة وإقباله على

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٤ : ٣٦٦.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ١٠٨ ـ ١١٤ / القاعدة : ٣٩ ـ الفائدة : ٢٩.

(٣) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٤) طه : ١٤.

١١٧

الآخرة وانصرافه عن الدنيا ، وذلك يشتد بشغل الجوارح في الطاعات وكفها عن المعاصي ؛ فإن بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثر كل منهما بالآخر ، كما إذا حصل للجوارح آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب ، وإذا تألم القلب لخوف مثلا سرى أثره إلى الجوارح فارتعدت. والقلب هو الأمير والمتبوع ، والجوارح كالرعايا والأتباع.

والمقصود من أعمالها : حصول ثمرة للقلب ، فلا يظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكّد صفة التواضع في القلب ؛ فإن من يجد في نفسه تواضعا إذا استعان بأعضائه وصوّرها بصورة المتواضع تأكّد بذلك تواضعه ، وأما من يسجد غافلا عن التواضع وهو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من وضع الجبهة على الأرض أثر إلى قلبه ، بل سجوده كعدمه ؛ نظرا إلى الغرض المطلوب منه. فكانت النيّة روح العمل وثمرته والمقصد الأصلي من التكليف به ، فكانت أفضل. وهذا قريب بما تقدّم من كونها من أعمال القلب.

ومنها أن النيّة ليست مجرّد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس : اصلّي أو أصوم أو ادرّس قربة إلى الله ، ملاحظا معاني هذه الألفاظ بخاطرك ، ومتصورّا بقلبك. هيهات إن هذا تحريك لسان وأحاديث نفس ، وإنّما النيّة المعتبرة انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها إمّا عاجلا وإمّا آجلا. وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق بتلك الألفاظ ، وتصوّر تلك المعاني ، وما ذلك إلّا كقول الشبعان : أشتهي الطعام وأميل إليه ، قاصدا حصول الميل والاشتهاء. وكقول الفارغ : أعشق فلان واحبه وأنقاد إليه واطيعه. بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشي‌ء وميله إليه وإقباله عليه إلّا بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب

١١٨

الامور المنافية لذلك المضادّة له ، فإن النفس إنما تنبعث إلى الفعل وتقصده وتميل إليه تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات.

فإذا غلب على قلب المدرس مثلا حب الشهرة وإظهار الفضيلة وإقبال الطلبة عليه وانقيادهم إليه ، فلا يتمكّن من التدريس بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه بنشر العلم وإرشاد الجاهلين ، بل لا يكون تدريسه إلّا لتحصيل تلك المقاصد الواهية والأغراض الفاسدة ، فإن قال بلسانه : ادرّس قربة إلى الله وتصوّر ذلك بقلبه وأثبته في ضميره ما دام لم يقلع تلك الصفات الذميمة من قلبه [فـ] لا عبرة بنيّته أصلا.

وكذلك إذا كان قلبك عند نيّة الصلاة منهمكا في امور الدنيا والتهالك عليها والانبعاث في طلبها ، فلا يتيسر لك توجيهه بكليّته إلى الصلاة وتحصيل الميل الصادق إليها والإقبال الحقيقي عليها ، بل يكون دخولك فيها دخول متكلّف لها متبرّم بها ، ويكون قولك : أصلّي قربة إلى الله ، كقول الشبعان : أشتهي الطعام ، وقول الفارغ : أعشق فلان مثلا.

والحاصل ، أنه لا يحصل لك النيّة الكاملة المعتدّ بها في العبادات من دون ذلك الميل والإقبال وقمع ما يضاده من الصوارف والأشغال ، ولا يتيسّر إلّا إذا صرفت قلبك عن (١) الامور الدنيويّة ، وطهرت نفسك من الصفات الذميمة الدنيّة ، وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكليّة.

ومن هنا يظهر أن النيّة أشقّ من العمل بكثير ، فتكون أفضل منه ، وتبيّن لك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفضل الأعمال أحمزها» غير مناف لقوله عليه‌السلام : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، بل هو كالمؤكد والمقرر له) (٢) انتهى ما ذكره شيخنا البهائي ملخصا.

وهاهنا وجوه اخر ذكرها بعض العامة أيضا وغيرهم :

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : من.

(٢) الأربعون حديثا : ٤٥١ ـ ٤٥٤ / شرح الحديث : ٣٧.

١١٩

ومنها أن نيّة المؤمن بجملة الطاعات خير من عمله (١) ، يعني عملا واحدا ونيّة الفاجر كذلك ، فالنيّة دائمة والعمل مؤقّت ، والدائم خير من المؤقّت.

ومنها أن العمل يوجد بالنيّة (٢) لا النيّة بالعمل.

ومنها أن سبب هذا الحديث ، أن رجلا أنصاريا نوى أن يعمل جسرا كان على باب المدينة قد انهدم فسبقه يهودي فعمله فاغتم الأنصاري لذلك فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، يعني اليهودي (٣).

ومنها أن المراد من النيّة : الإرادة ، بمعنى إرادته وإخلاصه لجميع الأعمال خير من عمله.

ومها أن نيّته ألّا يرجع عن الإيمان خير من عمله ، والكافر على ضدّه.

ومنها نيّة المؤمن على أن يزداد خيرا إن قدر خير من عمله ، وكذا نيّة الفاجر. انتهى.

ولا يخفى أن بعض هذه المعاني يرجع إلى بعض ما سبق وإن كان فيه نوع مغايرة في الجملة.

ومنها ما ذكره بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين وهو أن «خير» و «شر» منصوبان على أنهما مفعولا فيه ، وكأن وجه حذف الألف منهما تبادر كونهما صيغتي تفضيل ، وأنهما خبرا المبتدأين ، فوقع فيهما تحريف ، والمعنى أن المؤمن إذا نوى خيرا وإن لم يفعله كان ذلك محسوبا من جملة أعماله ، والكافر إذا نوى شرا كان ذلك من أعماله فيثاب المؤمن بذلك ويعاقب الكافر به.

وفيه تنبيه على أن هذا من العمل الذي في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٤). وفي تنكير «خير» و «شرّ» في

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٤ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

(٢) الكافي ٢ : ٨٤ / ١ ، باب النية.

(٣) الأنوار النعمانيّة ٢ : ٣٥٢.

(٤) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

١٢٠