الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه» (١).

وفي (الكافي) عن الباقر عليه‌السلام أن الراسخين في العلم «من لا يختلف في (٢) علمه» (٣).

وفي كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال : «ثمّ إن الله عزوجل بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه قسم كلامه ثلاثة أقسام ؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ؛ وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ؛ وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه (٤) والراسخون في العلم.

وإنما فعل ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار بمن ولّاه أمرهم ، فاستكبروا عن طاعته تعززا وافتراء على الله عزوجل ، واغترارا (٥) بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله جلّ اسمه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٦).

قال بعض فضلائنا في شرح له على كتاب (نهج البلاغة) ـ بعد ذكر بعض هذه الأخبار في وجه الجمع بينها وبين كلامه عليه‌السلام في الخطبة المشار إليها ـ ما صورته : (ويمكن الجمع بأن يحمل حكاية قول الراسخين على اعترافهم وتسليمهم قبل أن يعلّمهم الله تأويل ما تشابه من (القرآن) ، وكأنّه سبحانه بيّن أنهم لمّا آمنوا بجملة ما أنزل من المحكمات والمتشابهات ولم يتّبعوا ما تشابه منه كالذين في قلوبهم زيغ بالتعلق (٧) بالظاهر أو تأويل باطل ، فآتاهم الله علم

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٣ / ٢ ، باب أن الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم‌السلام.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) الكافي ١ : ٢٤٥ / ٢ ، باب في شأن (إِنّا أَنْزَلْناهُ ..)

(٤) من «ح» ، وفي المصدر : وامناؤه.

(٥) في «ح» : واعتراضا.

(٦) الاحتجاج ١ : ٥٩٦ / ١٣٧.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» : بالتأول.

١٨١

التأويل وضمهم (١) إلى نفسه في الاستثناء في (٢) الاستبعاد عن مشاركتهم لله عزوجل في ذلك العلم ، وبيان أنهم إنما استحقّوا إفاضة ذلك العلم باعترافهم بالجهل وقصورهم عن الإحاطة بالمتشابهات من تلقاء أنفسهم ، وإن علموا التأويل بوحي إلهي.

وسيجي‌ء في كلامه عليه‌السلام أنه لمّا أخبر ببعض المغيّبات قال له رجل : اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فقال عليه‌السلام للرّجل وكان كلبيّا : «يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلّم من ذي علم» (٣). ويمكن أن يكون إقرارهم وتسليمهم بعد علمهم بالمتشابهات بالتعليم الإلهي نظرا إلى عجزهم عن إدراكها من دون التعلّم ، وما هو شأنهم لو خلّاهم الله وأنفسهم وإن سمّى الله عزوجل ـ رأفة بهم ـ ذلك المستفاد (٤) علما.

ويمكن أن يقال : إن للآية ظهرا وبطنا :

أحدهما : أن يكون المراد بالمتشابه : مثل العلم بكنه الواجب وما استأثر الله بعلمه من صفته وغيرها. والوقف حينئذ على (اللهُ) ، وإليه يشير ظاهر الخطبة.

وثانيهما : أن يراد به : ما علم الراسخون في العلم تأويله ، وإليه الإشارة في الأخبار. والوقف حينئذ على (الْعِلْمِ) ويكون القارئ مخيرا في الوقف على أحد الموضعين.

ويمكن ألّا يكون الإقرار والمدح في الخطبة إشارة إلى ما تضمّنته الآية ، بل إلى إقرارهم بالعجز عن معرفة صفته والغيب المحجوب فيما بينهم وبين الله عزوجل ، ومدح الله سبحانه إيّاهم في الملأ الأعلى ونحوه. فيكون المراد بالمتشابه :

__________________

(١) في «ح» ، وضمه.

(٢) في «ح» بعدها : قوة.

(٣) نهج البلاغة : ٢٤٤ / الكلام : ١٢٨ ، بحار الأنوار ٢٦ : ١٠٣ / ٦.

(٤) في «ح» بعدها : من التعليم.

١٨٢

ما علموا تأويله ، ويكون موضع الوقف في الآية (الْعِلْمِ) وهذه الوجوه وإن كان بعضها لا يخلو من بعد إلّا إنها غاية ما خطر لي (١) في مقام الجمع ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال) انتهى كلامه زيد مقامه.

وأمّا المحدّث الكاشاني في تفسيره (الصافي) (٢) فإنه أورد أولا الأخبار الاولى وفسّر بها الآية ، ثم أورد أخبار الخطبة المشار إليها برواية الصدوق في (التوحيد) والعياشي في تفسيره ، ولم يتعرّض للكلام في ذلك مع ظهور المنافاة كما عرفت بين أخبار الطرفين.

أقول : والذي يخطر ببالي العليل وفكري الكليل أنه لعلّ الأظهر (٣) في الجواب عن هذا الإشكال والجمع بين الأخبار الواردة في هذا المجال هو أن يقال :

أوّلا : إن لفظ (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قد ورد في آية اخرى غير الآية المتقدّمة وهي قوله سبحانه (لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٤) الآية.

ولا ريب أن الرسوخ في العلم ليس منحصرا في مرتبة واحدة ، بل له مراتب متعدّدة كما فصّله شيخنا العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني قدس‌سره في (شرح نهج البلاغة) ، أوّلها مرتبة الّذين اقتصروا في صفات الله تعالى وملائكته وعالم غيبه على ما وقفتهم الشريعة عليه في الجملة ، كما أوصله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) إلى أفهامهم (٦) ، وعلى هؤلاء يحمل كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة ، وإلى هؤلاء الإشارة بهذه الآية المذكورة هنا.

__________________

(١) في «ح» : خطرني ، وفي نسخة بدل منها في هامشها : حضرني.

(٢) التفسير الصافي ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : الأكمل.

(٤) النساء : ١٦٢.

(٥) في «ح» والمصدر : الرسول.

(٦) شرح نهج البلاغة ٢ : ٣٣٥.

١٨٣

وأمّا (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في الآية المتقدّمة التي وردت الأخبار بأنّها مخصوصة بالأئمّة الأطهار دون غيرهم فتحمل على أعلى المراتب المناسبة لحالهم ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار المتقدّمة : «فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم ـ إلى قوله ـ : وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه». ويؤيّده ما استفاض في أخبارهم من أن علوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها صارت إليهم يتوارثونها واحدا بعد واحد (١).

وبالجملة ، فـ (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قد وقع في آيتين ، فوجه الجمع بين أخبار الطرفين حمل أخبار الخطبة على الآية التي ذكرناها والأخبار الاخر على تلك الآية التي وردت تلك الأخبار بتفسيرها. ولا ريب أن كلامهم عليهم‌السلام للناس على قدر ما تحتمله عقولهم ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن أكلّم الناس على قدر عقولهم» (٢).

ومن الظاهر البيّن أن مرتبته صلى‌الله‌عليه‌وآله ومرتبة أوصيائه عليهم‌السلام في المعرفة والرسوخ لا تنسب إلى معرفة ذلك المخاطب ونحوه ممّن يكون الرسوخ في حقهم هو الوقوع على ظاهر الشريعة ، ويمنعون عن البحث عما زاد على ذلك خوفا عليهم من الوقوع في تيه الحيرة.

وأمّا ما يشعر به كلام شيخنا العلّامة الشيخ ميثم قدس‌سره في شرحه من أن المراد بالراسخين في العلم في كلامه عليه‌السلام هم المذكورون في الآية المتقدّمة ؛ وهي قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٣) وأن الوقف فيها حينئذ على

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٣ / ١ ـ ٨ ، باب أن الأئمَّة عليهم‌السلام ورثة العلم.

(٢) الكافي ١ : ٢٣ / ١٥ ، عوالي اللآلي ٢ : ١٠٣ / ٢٨٤ ، كشف الخفاء ومزيل الإلباس ١ : ١٩٦ / ٥٩٢ ، وفي الجميع : امرنا أن نكلم

(٣) آل عمران : ٧.

١٨٤

لفظ (اللهُ). فالظاهر أنه ناشئ عن الغفلة عن الاطّلاع على تلك الأخبار الواردة في تفسيرها كما عرفت.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الشارح ابن أبي الحديد في شرحه على (النهج) قد تكلّم في هذا المكان بما هو أشبه شي‌ء بالهذيان ، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتابنا (سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد). ولا بأس بنقل ذلك في المقام لما فيه من التنبيه على ضلال مثله وإن كان من العلماء الأعلام ، وتعصبهم على الباطل الظاهر لجملة الأنام ، فنقول : قال : (ونحن نبدأ قبل (١) أن نحقّقه ونتكلّم فيه بتفسير قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، فنقول : إن من الناس من وقف على قوله (إِلَّا اللهُ) ، ومنهم من لم يقف على ذلك. وهذا القول أقوى من الأوّل ؛ لأنه إذا كان لا يعلم تأويله إلّا الله لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلّفين به فائدة ، بل يكون كخطاب البهائم ، ومعلوم أن ذلك عبث.

فإن قلت : فما الذي يكون موضع (يَقُولُونَ) من الإعراب؟

قلت : يمكن أن يكون (٢) نصبا على أنه حال من (الرّاسِخُونَ) ، ويمكن أن يكون كلاما مستأنفا ، أي هؤلاء القائلون بالتأويل يقولون (آمَنّا بِهِ).

وقد روي عن ابن عباس أنه تأوّل آية فقال له قائل من الصحابة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، فقال ابن عبّاس (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وإنّا من جملة الراسخين في العلم (٣)).

إلى أن قال الشارح : (فقال عليه‌السلام للسائل بعد غضبه واستحالة لونه وظهور أثر الإنكار عليه : «ما دلّك القرآن عليه من صفته» فخذ به ، فإن لم تجده في (الكتاب) فاطلبه من السنة ومن مذاهب أيمة الحقّ ، فإن لم تجد ذلك فاعلم أن الشيطان

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) في «ح» بعدها : كلاما.

(٣) في العلم ، سقط في «ح».

١٨٥

حينئذ قد كلّفك علم ما لم يكلّف الله. وهذا حقّ ؛ لأن (الكتاب) والسنّة قد نطقا بصفات الله من كونه عالما قادرا حيّا مريدا سميعا بصيرا).

إلى أن قال : (ثم قال عليه‌السلام : إنّ الراسخين في العلم : الّذين عنوا بالإقرار بما عرفوه عن الولوج والتقحم فيما لم يعرفوه ، وهؤلاء هم أصحابنا المعتزلة لا شبهة في ذلك ، ألا ترى أنهم يعلّلون أفعاله بالحكم والمصالح ، فإذا ضاق عليهم الأمر في تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع قالوا : نعلم على الجملة أن لهذا وجه حكمة ومصلحة وإن كنّا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة ، كما يقولون في تكليف من يعلم الله أنه يكفر ، وكما يقولون في اختصاص الحال الّتي حدث فيها العالم بحدوثه دون ما قبلها وما بعدها؟) (١) انتهى المقصود من نقل كلامه.

أقول : انظر ـ أيّدك الله تعالى ـ إلى هذا المحيل والضالّ الضلّيل ، المستحقّ لمزيد الإهانة والتنكيل ، بتحريف الكلم عن مواضعها وتغميض عينه عند مشاهدة أنوار الحق ولا معها ، فإنه لما كان كلامه عليه‌السلام وقوله : «ممّا ليس في الكتاب فرضه ، ولا في سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدى أثره» ، ظاهرا نيّرا في أن مراده عليه‌السلام بأئمّة الهدى هو نفسه وأوصياؤه الأحد عشر ـ صلوات الله عليهم ـ لأنهم هم النقلة الحفظة للسنّة النبويّة ، فما لم يوجد في الكلام (٢) العزيز ولا في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في كلامهم ، فهو ممّا يوكل علمه إلى الله [فغيّر] (٣) العبارة في شرحه ، بل جرحه (٤) ـ حيث كانت ظاهرة في إمامتهم على رغم أنفه ـ تحاملا عليهم وبغضا وعنادا وتعصّبا لأئمّته ، فقال : (فإن لم تجده في (الكتاب) فاطلبه من السنّة ومن مذاهب أيمة (الحقّ ، فغيّر (٥) أيمة الهدى في كلامه عليه‌السلام إلى أصحاب المذاهب من أئمّته ، مع أن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٠٤ ـ ٤٠٦.

(٢) في «ح» : القرآن.

(٣) في النسختين : غير.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : هرجه.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : قصر.

١٨٦

كلامه عليه‌السلام صريح في قصر الأمر على (الكتاب) والسنة خاصة ، لكن السنّة إما أن تؤخذ من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من كلامهم ؛ لكونهم عليهم‌السلام حفظتها ونقلتها.

وهو لنصبه زاد قسما ثالثا ، وهو مذاهب من يدّعي أنهم أئمّة الحقّ التي هي عبارة عن آرائهم وأهوائهم. ثم ما أدري من أئمّة الحقّ الّذين أوجب الله تعالى اتّباع مذاهبهم في أصحابه حتى يفسّر بهم كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ أهم خلفاؤه (١) الثلاثة الجهلة الّذين قد اعترف هو (٢) وأمثاله (٣) بجهلهم في غير مقام ، أم (٤) أصحاب البدع الفظيعة والمناكر الشنيعة بين الخاصّ والعامّ ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مقدمات الكتاب ، أم هم أئمّته الأربعة (٥) الّذين أفسدوا الدين بآرائهم وقياساتهم المبتدعة ، ولا سيّما أبو حنيفة صاحب البدع الكسيفة ، أم هم مشايخ المعتزلة الذين عزلوا الله عزوجل عن ملكه (٦) ، فقالوا في الدين بالتفويض ، وجعلوا له شركاء ، فصاروا مع الجبريّة طرفي نقيض ومع هذا يزعم أنّهم الراسخون في العلم ، لاقتباسهم من أئمّة الإماميّة مسألة تدخل تحت هذه القاعدة الكلية؟ ثم إن ما ادّعاه لأصحابه المعتزلة من أنهم الراسخون في العلم بلا شبهة فيه :

أوّلا : أنه مردود بما استفاض في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام من أنهم هم المرادون بذلك في الآية المذكورة ، وهذا هو المؤيّد بالأخبار المتّفق عليها بين الفريقين من أنهم عليهم‌السلام أحد الثقلين اللذين لا يفارقون (القرآن) ولا يفارقهم إلى يوم القيامة.

__________________

(١) في «ح» : خلفاء.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، و ١٢ : ١٩٥ ـ ٢١٥.

(٣) شرح المقاصد ٥ : ٢٨٢ ، وفيه عرض لما فيه جهله مع تبرير المصنف لذلك.

(٤) من «ع».

(٥) في «ح» : أئمّة.

(٦) عن ملكه ، سقط في : «ح».

١٨٧

ومن الظاهر البيّن أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما قرنهم بـ (القرآن) على الوجه المذكور ، وجعل التمسّك بهم معه منجيا من الضلال من حيث إن عندهم دون غيرهم علم محكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعامّه وخاصّه ، ومطلقه ومقيّدة ، فهم الراسخون في العلم حينئذ دون غيرهم. ويدل على ذلك كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الكتاب في غير موضع كما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى (١).

وثانيا : أن الله سبحانه قد قرن الراسخين في العلم بنفسه في الآية بناء على ما اختاره من التفسير ، وما ذلك إلّا باعتبار العلم بجميع ما نزل في (الكتاب) وادّعاء ذلك للمعتزلة المعزولين عن اللطف الإلهي كذب محض وافتراء بحت.

وأوّل ما فيه أنه لا يخفى مباينة مذاهب المعتزلة وجملة من عقائدهم واصولهم لأئمّة أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وأظهر ذلك مسألة الإمامة وما يتفرّع عليها. والقول بأنهم الراسخون في العلم المرادون من كلام الله تعالى وكلام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوجب تخطئة الأئمّة المعصومين ، والقول بذلك باطل اتّفاقا من المخالف والمؤالف ، وردّ لأخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يرتكبه إلّا زنديق لم يؤمن بالله ولا رسوله.

وثالثا : أن منشأ الشبهة والتوهّم لتخصيصه أصحابه بالراسخين في العلم هو ما ذكره بعد أن اختار عطف (الرّاسِخُونَ) على (اللهُ) من أن جملة (يَقُولُونَ) في موضع نصب على الحال ، أو جملة مستأنفة في موضع الصفة للراسخين (٢).

وفيه أنه لا يخفى أن كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الخطبة (٣) لا ينطبق

__________________

(١) في «ح» : يأتي ، بدل : سيأتي إن شاء الله.

(٢) في موضع الصفة للراسخين ، ليس في المصدر.

(٣) من «ح».

١٨٨

بظاهره على الآية بهذا التأويل الذي ذكره ، وإنما ينطبق عليها (١) على تقدير الوقف على (اللهُ) ، وجعل (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وما بعده جملة مستقلة.

وبيان ذلك أنه متى عطف (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على (اللهُ) ، كما اختاره ـ وذكرنا أنه المروي في أخبارنا ـ يلزم أن يكون (الرّاسِخُونَ) شركاء له تعالى في علم (الكتاب) كملا بتعليمه لهم ذلك محكمه ومتشابهه ؛ إذ هو مقتضى العطف.

وحينئذ فإذا كان الراسخون يعلمون ، فلا معنى لوقوفهم عند المتشابه كما يدلّ عليه كلامه ، وعدم الخوض في تفسيره والاقتصار على قولهم (آمَنّا بِهِ) ، المؤذن بالردّ والتسليم.

وحينئذ ، فلا بدّ في تطبيق كلامه عليه‌السلام على الآية بناء على العطف الذي اختاره من ارتكاب التأويل بأحد الوجوه التي تقدّمت عن بعض أصحابنا ، أو ما اخترناه من الإشارة إلى تلك الآية الاخرى إلّا إنه خارج عن كلامه. وبذلك يظهر أنه لا مجال لما ذكره من افتخاره بأن أصحابه هم الراسخون في العلم المرادون من الآية ومن كلامه عليه‌السلام ، لوقوفه في موضع التشابه والحيرة والعجز عن الدليل (٢) التفصيلي.

ورابعا : أنهم وإن وافقوا في تلك المواضع التي عدّها بناء على ما ذكره إلّا إنهم قد خالفوا في غيرها ممّا أدلّته العقليّة والنقليّة أوضح واضح ، ولا سيّما قولهم بالتفويض ، وعزل الله سبحانه عن ملكه ، ومخالفتهم في الإمامة التي عليها بناء الإيمان والكفر ، كما أوضحناه في الكتاب بأوضح بيان.

وأيضا فاحتجاجه بكلامه عليه‌السلام هنا واستناده إليه لا يجدي نفعا مع تحامله عليه وعلى أولاده الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وإنكار إمامتهم الظاهرة

__________________

(١) من «ح».

(٢) سقط في «ح».

١٨٩

من هذا الكتاب ، ورمي كلماته الواضحة في إمامتهم بالتأويلات السوفسطائية والترّهات الظلمانيّة.

وخامسا : أن الراسخين في العلم لا يقع منهم اختلاف في شي‌ء من مسائل العلم ، والمعلوم منهم خلافه.

إلى غير ذلك من الوجوه الظاهرة في بطلان هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأذهان الثاقبة والأفهام.

١٩٠

(٥٣)

درّة نجفيّة

في معنى قوله عليه‌السلام : إن أصحاب الكهف كانوا صيارفة

روى الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (من لا يحضره الفقيه) بسنده إلى سدير الصيرفي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : حديث بلغني عن الحسن البصري ، فإن كان حقا فإنا لله وإنّا إليه راجعون. فقال : «وما هو؟». قلت : بلغني أن الحسن يقول : لو غلى دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفي ، ولو تفرّث كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماء. وهو عملي وتجارتي وعليه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجّي وعمرتي؟ قال : فجلس عليه‌السلام ، فقال : «كذب الحسن (١) ، خذ سواء وأعط سواء ، [فإذا] (٢) حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلى الصلاة. أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟». يعني صيارفة الكلام ، ولم يعن صيارفة الدراهم (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويل لتجار أمّتي من (لا والله) و (بلى والله) ، وويل لصياغ أمّتي من اليوم وغد» (٤) انتهى.

أقول : هذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار وقد اضطربت في

__________________

(١) كذب الحسن ، من «ح» والمصدر.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين وإذا.

(٣) الفقيه ٣ : ٩٦ / ٣٧٠.

(٤) الفقيه ٣ : ٩٧ / ٣٧١ ، وفيه : صناع ، بدل : صياغ.

١٩١

حلّه الآراء والأفكار ، واختلفت في المعنى المراد منه الأفهام (١) والأنظار ، وقد رواه الشيخان الجليلان ثقة الإسلام في (الكافي) (٢) والشيخ في (التهذيب) (٣) إلى قوله : «أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟» والصدوق قد زاد قوله : (يعني صيارفة الكلام) إلى آخره. وهذه الزيادة قد نسبها بعضهم للإمام عليه‌السلام (٤) ، وبعضهم إلى الراوي (٥) ، وبعضهم إلى الصدوق (٦) ، وهو الظاهر كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المقام بما تنقشع به غشاوة الإبهام.

وعلى أيّ من هذه الوجوه فالمعنى المراد من نسبة الصرف إلى أهل الكهف ممّا قد اختلفت فيه ـ لغموضه ـ الأفهام ، وكثرت فيه احتمالات علمائنا الأعلام ، وها نحن نسوق لك جملة ما وقفنا عليه من كلماتهم في هذا المقام ، ونردفه بما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من أخبارهم عليهم‌السلام ، التي بها ينحلّ بعض الاشتباه في هذا الكلام وما ظهر لنا من المعنى المراد.

قال المحدّث المولى محسن الكاشاني في كتاب (الوافي) ـ بعد نقل الخبر من (الكافي) ، و (الفقيه) ـ ما صورته : (وفي (الفقيه) في آخر الحديث : (يعني صيارفة الكلام ، ولم يعن صيارفة الدراهم) هذا كلامه (٧) ولم أدر ما عنى به) (٨) انتهى.

وظاهر كلامه قدس‌سره حمل هذه العبارة على أنها من كلام صاحب (الفقيه) ، ولكنه لم يهتد إلى ما هو المراد منها ، حيث فهم من الخبر كون أهل الكهف صيارفة

__________________

(١) في «ح» : الأفكار.

(٢) الكافي ٥ : ١١٣ / ٢ ، باب الصناعات.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٦٣ / ١٠٤٠ ، ورواه أيضا في الاستبصار ٣ : ٦٤ / ٢١١.

(٤) انظر الدرر ٣ : ١٩٣ ، ١٩٩ ، وهو ضمن حديث آخر رواه الراوندي في قصص الأنبياء.

(٥) انظر الدرر ٣ : ١٩٤.

(٦) انظر الدرر ٣ : ١٩٢ ، ١٩٤ / الهامش : ٢ ، ١٩٥ ، ١٩٨ ، ٢٠٠.

(٧) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : كلامهم.

(٨) الوافي ١٧ : ١٨٢.

١٩٢

الدراهم كما هو المناسب لسياق الكلام الذي تتبادر إليه الأفهام ، ولم يعلم الحامل للصدوق على هذا التفسير وإخراج الكلام عن ظاهره.

وقال المحقّق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سرهما في حواشيه على الكتاب ما صورته : (غاية ما يوجّه به متن الحديث إن سلم من النقص ، وتوافقت فيه النسخ أن يكون (يعني) ـ بصيغة المفعول ـ وكذا (لم يعن) ، فيكون المراد : أن الحسن وهم (١) في تأويل ما روي في الصيارفة ، فإن المعنيّ بها صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم ، بناء على ما ورد في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من التهديد لمن يصرف الكلام في المواعيد وغيرها) (٢) انتهى.

واقتفاه في هذه المقالة ابنه الفاضل الشيخ محمد ابن الشيخ حسن في حاشيته على الكتاب أيضا ، إلّا إنه اختار جعل الفعلين مبنيين للفاعل ، أي يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ورد منه في ذمّ الصيرفي : صيرفي الكلام كما نبه عليه : (وقال رسول الله) ـ إلى آخره ـ خصوصا على نسخة «الصّياغ» (٣) ـ بالتحتانيّة والمعجمة ـ إن صحّت هذه النسخة ، يعني : أن فيهم ذلك أغلب من غيرهم.

أقول : فظاهر كلاميهما ـ طيّب الله مرقديهما ـ أن هذه الجملة من كلام الإمام عليه‌السلام كما أشرنا إليه آنفا ، وأن قصده عليه‌السلام بها الردّ على الحسن البصري. ولا

__________________

(١) قال : كأن قوله : (يعنى) ابتداء كلام في بيان ما منه وهم الحسن على صيغة المبني للمفعول ، يعني أن يراد بما وقع من شدّة الذم : صيرفي الكلام ، كما قال (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، وعلى البناء للفاعل يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قد (١) ورد عنه في ذمّ الصيرفي : صيرفي الكلام (٢) ، كما قد نبّه عليه إلى آخر ما في الأصل. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح» و «ع»).

(٢) عنه في الدرّ المنثور من المأثور وغير المأثور ١ : ٥٧.

(٣) في «ح» : الضياع.

__________________

١ ـ من «ع».

٢ ـ ورد عنه في ذم الصيرفي صيرفي الكلام ، من «ع».

١٩٣

يخفى ما (١) فيه من البعد الظاهر ، ولزوم التعمية والتعقيد والمنافاة ، لرواية سدير (٢).

وقال بعض الفضلاء في جملة كلامه على كلام الشيخ حسن ـ بعد ما ذكرنا أنه يستلزم التعقيد الشديد ـ : (ثم إن نسبة التوهّم إلى الراوي في فهم ذلك من كلام الإمام عليه‌السلام أو تفسير ذلك على مقتضى اعتقاده أولى من نسبة الكلام المعقد إلى الإمام عليه‌السلام. على أن تزييف مقالة بتزييف دليلها الذي لم يذكره صاحب القول لا يليق بمن له مهارة في علم الجدل ، فكيف بالإمام عليه‌السلام؟

فلعل ما استند إليه الحسن ورد بلفظ (صيارفة الدراهم) ، أو بغير لفظ (الصيارفة) ، إلّا أن يقال : إن الإمام عليه‌السلام علم ذلك بعلم مختصّ بهم عليهم‌السلام. ثم لا حاجة في هذا التوجيه إلى جعل الفعلين مجهولين ، فليكونا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّ انتقال الذهن في مثل ذلك إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب) انتهى ، وهو في محله.

وقال الشيخ علي سبط المحقّق المذكور في كتاب (الدرّ المنظوم والمنثور) ـ بعد نقل كلام جدّه الشيخ حسن المتقدّم ـ ما صورته : (أقول : قد خطر لي وجه آخر وهو أن يكون المراد : أن الصرف الممنوع منه إنما هو باعتبار الزيادة والنقصان ، فإذا أخذ سواء وأعطى سواء فلا منع. وليس ذلك لمجرّد التسمية ـ

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) أقول : قد وجدت في بعض الحواشي على (الفقيه) نسبة هذا الكلام للمحقق الداماد ، وهو كلام طويل ، إلّا إن هذا ملخّصه : وصدر الكتاب الموجود ثمة هكذا : قلت : قوله : (يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم) من كلام الصدوق أبي جعفر بن بابويه رضي‌الله‌عنه ، لا تتمّة الحديث ، والفاعل فيه هو الإمام عليه‌السلام. ومعنى الكلام (١) ، أن مولانا أبا جعفر عليه‌السلام إنما عنى بقوله البليغ : «أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟» : صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم ، فكأنه عليه‌السلام قال لسدير : ما لك؟ إلى آخر ما في الكتاب إلى قوله : رافضة للباطل ، ولم ينقل ما ذكرناه بعد الكلام المذكور. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

(١) في الأصل بعدها : ومعناه الأصل.

١٩٤

وإلّا فأهل الكهف كانوا صيارفة ـ بل باعتبار الفعل المذكور ، وحاصله الردّ على الحسن البصري من حيث إنه توهم المنع من حيث التسمية ، فنبّه عليه‌السلام على أن المنع من الجهة المذكورة. وقوله : (يعني) من كلام الصدوق رحمه‌الله ، والله أعلم) (١) انتهى كلامه وهو جيّد.

وقال الفاضل الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح النجفي قدس‌سره في كتاب (مجمع البحرين) : (وفي الحديث : لو تفرثت كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ، هو من صرفت الدراهم (٢) بالذهب : بعته. واسم الفاعل من هذا (صيرفي) ، و (صرّاف) للمبالغة ، وقوم صيارفة ، الهاء فيه للنسبة ، ومنه : «أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟» قال الصدوق رحمه‌الله : (يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم).

وعن بعض المعاصرين من شراح الحديث : (المعنى : كأن الإمام عليه‌السلام قال لسدير : مالك ولقول الحسن البصري؟ أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة الكلام ونقدة الأقاويل ، فانتقدوا ما قرع أسماعهم ، فاتّبعوا الحق ورفضوا الباطل ولم يسمعوا لما في أهل الضلال وأكاذيب رهط السفاهة؟ فأنت أيضا كان صيرفيّا لما يبلغك من الأقاويل ناقدا (٣) آخذا بالحقّ رافضا للباطل. وليس المراد أنّهم كانوا صيارفة الدراهم كما هو المتبادر إلى بعض الأفهام ؛ لأنهم كانوا فتية من أشراف الروم مع عظم شأنهم وكبر خطرهم) انتهى كلامه.

ويتوجّه عليه أن من الممكن أن يقال : إن قوله : (يعني) ـ إلى آخره ـ ليس هو من كلام الإمام عليه‌السلام وإنما هو من كلام الصدوق رحمه‌الله ، يدلّ على ذلك أن هذه الرواية بعينها ذكرت في (التهذيب) في باب الحرف المكروهة إلى قوله : «إنّ أصحاب

__________________

(١) الدر المنثور من المأثور وغير المأثور ١ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) في المصدر : الدينار.

(٣) من هامش «ح» والمصدر ، وفي «ح» : منقدا ، وفي «ق» : منتقدا.

١٩٥

الكهف كانوا صيارفة» (١) ، بدون الزيادة المذكورة.

وحينئذ ، فلا مانع من حمل الرواية على ظاهرها ، ويكون فيها دلالة على جواز الصرافة المخصوصة ردّا على الحسن حيث اعتقد عدم جواز فعلها كما دلّ عليه قوله (٢) : «كذب الحسن ، خذ سواء وأعط سواء (٣)».

وحينئذ ، فلا ينافي كونها من الحرف المذمومة اتّصاف أهل الكهف بها مع كونهم أشرافا ؛ لأن شرع من تقدّمنا غير شرعنا ؛ فلعلّها فيه لم تكن مكروهة. وإذا كان الأمر كذلك حملنا الصرف على معناه الحقيقي دون غيره ولا حاجة إلى التكلّف) (٤) انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول : أمّا ما نقله عن بعض معاصريه ، فإنه وإن كان جيدا في حدّ ذاته إلا إن سياق الخبر لا ينطبق عليه ؛ لأن الظاهر أن (٥) قوله عليه‌السلام : «أما علمت أن أصحاب الكهف» ـ إلى آخره ـ خرج مخرج الدليل والحجّة على ما ذكره عليه‌السلام أولا من جواز الصرف على الوجه المذكور [و] على ما ذكره هذا الفاضل يكون كلاما منفصلا خارجا عن سياق الحديث (٦) محتاجا إلى تقدير المقدمة التي ذكرها بقوله : مالك ولقول الحسن البصري ، مع أنه لا دليل في الكلام عليها ، بل ولا إشارة إليها.

وأيضا فيه أن قوله : (يعني) و (لم يعن) وقع في البين ؛ إذ لم يعلم الفاعل لهذين اللفظين (٧) ، وكان المناسب على تقدير كلامه وأنه من كلام الإمام عليه‌السلام مفسرا به كون أصحاب الكهف صيارفة أن يقال : (أعني) و (لم أعن).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٦٣ / ١٠٤٠.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» بعدها فإذا حضرت الصلاة فدع ما في يدك وانهض إلى الصلاة.

(٤) مجمع البحرين ٥ : ٧٩ ـ ٨٠ ـ صرف.

(٥) من «ح».

(٦) في «ح» بعدها : أوّلا.

(٧) في «ح» : الفعلين.

١٩٦

وبالجملة ، فإنه بعيد الانطباق على السياق كما لا يخفى على الجهابذة الحذّاق.

وأما ما ذكره الشيخ فخر الدين قدس‌سره ، ففيه :

أوّلا : أنه (١) وإن أصاب في نسبة الزيادة المذكورة إلى الصدوق إلّا إن استدلاله على ذلك بوجود الرواية في (التهذيب) عارية عن هذه الزيادة لا دلالة فيه ؛ إذ لا مانع من أن يروي الراوي الخبر تارة بزيادة على ما رواه [و] مرة اخرى بدونها ، بل هو كثير في الأخبار كما لا يخفى على من [خاض] (٢) تيار تلك البحار ؛ ولهذا صرّح جملة من الأصحاب بجواز العمل بتلك الزيادة ما لم تكن مغيّرة للمعنى المراد من الخبر. وسيتّضح لك إن شاء الله تعالى أن ما دلّت عليه هذه الزيادة هو المعنى المراد من قوله عليه‌السلام : «إن أهل الكهف كانوا صيارفة».

وثانيا : أن (٣) مقتضى كلامه كون أهل الكهف كانوا صيارفة الدراهم ، وأنه لا ينافي شرفهم ؛ إذ لعلّ ذلك لم يكن مذموما في شرعهم كما هو مذموم في شرعنا ، مع أن الأخبار الآتية في المقام إن شاء الله تعالى دالة على أنّهم صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم ترده ، ولكن عذره ظاهر حيث لم يقف عليها.

وثالثا : أنه لا معنى لقول الصدوق رحمه‌الله بناء على كلامه هذا : (يعني صيارفة الكلام) ـ إلى آخره ـ لأنه إذا فرض كون أهل الكهف كانوا صيارفة الدراهم كما عرفت ، فتفسير الصدوق لكونهم صيارفة بمعنى صيارفة الكلام باطل ، ودعوى بغير دليل ، وليس كذلك كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى. ومحلّ الإشكال في هذا المقام إنما نشأ من هذه العبارة ، وإلّا فلو لم توجد لتم الدست (٤) بما ذكره من الكلام.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) في النسختين «ح» : غاص.

(٣) في «ح» بعدها : في.

(٤) الدست : صدر المجلس ، وفي الكلام استعارة. تاج العروس ١ : ٥٤٤ ـ دست.

١٩٧

ونقل بعض مشايخنا المعاصرين عن بعض الأفاضل بل أكثر الناظرين في الكتاب أن هذه الزيادة من كلام سدير الراوي للخبر وإن (١) رواه تارة بدونها.

والظاهر بعده كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

ونقل شيخنا المشار إليه أيضا أنه كتب بعض الفضلاء على قوله : «يعني صيارفة الكلام» ـ إلى آخره ـ ما نصّه : (هذه الزيادة لم توجد في (الكافي) ولا في (التهذيب) فهي من كلام الصدوق رحمه‌الله وقع تفسيرا لقوله : «إنّ أهل الكهف كانوا صيارفة» ، وإنما عدل عن الظاهر استبعادا لكون أهل الكهف كذلك مع ما اشتهر من كونهم من أبناء الملوك.

لكن لا يخفى على المنصف أنه يقتضي تهافت الكلام وانحلال النظام وكون قوله عليه‌السلام : «أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة» غير واقع موقعه ؛ لظهور عدم صلوحيته لتعليل ذمّ صيرفي الدراهم ، والتزام مثل هذه الشناعة وارتكاب هذا المحذور بمجرّد الاستبعاد المذكور (٢) ممّا لا يستحسنه المصنف) انتهى.

أقول : عذر الفاضل في اعتراضه واضح حيث لم يطّلع على مستند الصدوق فيما ذكره من التفسير إلّا إن نسبته له إلى أن الحامل له على هذا التفسير ما ذكره من الاستبعاد رجم بالغيب ورمي في الظلام ، ومن أين علم ذلك حتّى يبني عليه التشنيع في هذا (٣) المقام؟ واعتراضه بعدم صلوحيّة التعليل كما ذكره إنما يتوجّه على الأخبار التي هي مستند الصدوق فيما ذكره لا على الصدوق ، ولكنّه حيث لم يقف على تلك الأخبار (٤) وقع فيما وقع فيه من هذا الكلام الخارج عن جادة الاعتبار ، وكان الأولى الاعتراف بعدم العلم بمراد الصدوق من هذا الكلام ، كما سلف في كلام المحدّث الكاشاني قدس‌سره.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : فان.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» : هذا التشنيع في.

(٤) في «ق» بعدها : التي ، وما أثبتناه وفق «ح».

١٩٨

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد روى الثقة الجليل أبو النصر محمّد بن مسعود العياشي ـ روّح الله روحه ـ في تفسيره في سورة (الكهف) عن درست عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه ذكر أصحاب الكهف فقال : «كانوا صيارفة كلام ولم يكونوا صيارفة دراهم» (١).

وروى الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله الراوندي في كتاب (قصص الأنبياء) بسنده عن الصدوق عن محمّد بن علي ماجيلويه عن محمّد بن يحيى العطّار عن الحسين بن الحسن (٢) بن أبان عن محمّد بن أرومة (٣) عن الحسن (٤) بن محمّد الحضرمي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ وذكر أصحاب الكهف ـ : «لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم ما فعلتم فعلهم (٥)» فقيل له : وما كلّفهم قومهم؟ قال : «كلّفوهم الشرك بالله فأظهروه لهم وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج».

وقال : «إنّ أصحاب الكهف كذبوا فآجرهم الله ، وصدقوا فآجرهم الله (٦)».

وقال : «كانوا صيارفة الكلام ولم يكونوا صيارفة الدراهم».

وقال : «خرج أهل الكهف على غير ميعاد ، فلما صاروا في الصحراء أخذ هذا على هذا وهذا على هذا العهد والميثاق ، ثم قال أظهروا أمركم. فأظهروه فإذا هم على أمر واحد وهو الدين الحقّ».

وقال : «إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر ، وثوابهم على إظهارهم الكفر أعظم منه على إسرارهم الإيمان».

قال ـ : «وبلغ التقيّة بأصحاب (٧) الكهف أن كانوا يشدّون الزنانير ويشهدون الأعياد ،

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٨ / ٧.

(٢) في «ح» : الحسين.

(٣) في «ح» : أورمة.

(٤) في «ح» : الحسين.

(٥) قوله عليه‌السلام : فعلتم فعلهم ، من «ح» والمصدر.

(٦) من «ح».

(٧) في «ح» : ما بلغت تقيّة أحد ما بلغت تقيّة أصحاب ، بدل : وبلغ التقيّة بأصحاب.

١٩٩

فأعطاهم الله أجرهم مرّتين» (١).

أقول : هذان الخبران مستند شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ فيما ذكره من التفسير ، لكنه حيث خفي على القوم ، وقعوا فيما وقعوا فيه من الخبط والاشتباه إلى هذا اليوم ، حتى مدّ بعضهم ـ كما عرفت ـ عليه لسان العتب واللوم ، ولم يعلموا أن هذه عادته ـ طاب ثراه ـ في تفسير الأخبار بعضها ببعض وإن بعد.

وحينئذ ، فيعود الإشكال في الخبر المذكور بحذافيره ، ويتعاظم الخطب فيه ، وتسقط أكثر الاحتمالات التي ذكروها في الجواب عنه.

قال الفاضل المحقّق خليفة سلطان في حواشيه على كتاب (من لا يحضره الفقيه) ـ بعد نقله الخبر الثاني وكلام له قبل نقله ـ ما صورته : (وبعد الاطلاع على هذا الحديث ظهر لنا أن هذه الفقرة من كلام المصنّف مأخوذة من الحديث المذكور أن صرف الكلام في مقام التقيّة أمر ممدوح وإن كان في غيره مذموما.

ومقصود الإمام عليه‌السلام من بيان أنهم كانوا صيارفة الكلام الترغيب في استعمال التقيّة ، وفي قوله عليه‌السلام : «ما فعلتم فعلهم» نوع شكاية من شيعته في الإفتاء وترك التقيّة.

بقي هاهنا أن رواية سدير مناسقة للترغيب في صرف الدراهم ، ولا مدخل في ذلك لكون أهل الكهف صيارفة الكلام ، وغاية ما يمكن أن يقال : إن أمثال هذه التنظيرات موجودة في الأحاديث ، مثل ما روى في (الكافي) في باب الكفالة والحوالة عن حفص البختري قال : أبطأت عن الحجّ فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما أبطأك عن (٢) الحجّ؟». فقلت : جعلت فداك تكفّلت برجل فخفر بي. فقال : «مالك والكفالات؟ أما علمت أنها أهلكت القرون الاولى؟» ثم قال : «إن قوما أذنبوا ذنوبا

__________________

(١) قصص الأنبياء : ٢٥٣ / ٣٢٤.

(٢) في «ح» : أبطأ بك من ، بدل : أبطأك عن.

٢٠٠