الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‌ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) (١).

فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتّباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) (٢) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (٣) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها) (٤) [و] في آيات كثيرة.

فإذا سلب العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) (٥) ـ الآية ـ فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد والأعمال التي لا يقوم بها ، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحجّ والزكاة لما ملّكه من استطاعة ذلك ، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج بقوله (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٦) ، وقوله في الظهار (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) إلى قوله (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (٧) ، كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلّا ما ملّكهم استطاعته بقوة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك. فهذه صحة الخلقة.

تفسير تخلية السرب

وأما قوله : تخلية السرب ، فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمر الله به وذلك (٨) قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولم يهتد

__________________

(١) النحل : ٥ ـ ٧.

(٢) التغابن : ١٦.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥) النور : ٦١.

(٦) آل عمران : ٩٧.

(٧) المجادلة : ٣ ـ ٤.

(٨) في النسختين بعدها : به و، وما أثبتناه وفق المصدر.

٢١

سبيلا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (١) ، فأخبر أن المستضعف لم يخلّ سربه ، وليس عليه من القول شي‌ء إذا كان مطمئن القلب بالإيمان.

تفسير المهلة في الوقت

وأما المهلة في الوقت ، فهو العمر الذي يمنع الإنسان من حد ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم (٢) [إلى أن] يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير ، وذلك قوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) (٣) ـ الآية ـ وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما ، لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره. وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) (٤) ـ الآية ـ فلم يجعل عليهن حرجا في [إبداء] (٥) الزينة [للطفل و] (٦) كذلك لا تجوز عليه الأحكام.

تفسير الزاد والراحلة

وأما قوله : الزاد ، فمعناه الجدة (٧) والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمر الله به ، وذلك قوله (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٨) ـ الآية ـ ألا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق ، وألزم الحجة على كل من أمكنه البلغة والراحة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، [و] كذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقا في مال الأغنياء بقوله (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٩) ـ الآية ـ فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.

__________________

(١) النساء : ٩٨.

(٢) في النسختين بعدها : و.

(٣) النساء : ١٠٠.

(٤) النور : ٣١.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : اثر.

(٦) من المصدر ، وفي النسختين الطفل.

(٧) الجدّ : الحظ والرزق. لسان العرب ٢ : ١٩٨ ـ جدد.

(٨) التوبة : ٩١.

(٩) البقرة : ٢٧٣.

٢٢

تفسير السبب المهيّج

وأما قوله السبب المهيج ، فهو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلب ، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك ، لم يقبل الله منه عملا إلّا بصدق النية ، كذلك أخبر عن المنافقين بقوله (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١) ، ثم أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله توبيخا للمؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) ـ الآية ـ فإذا قال الرجل قولا واعتقد في قوله دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل ؛ وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته ، وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٣) ، وقوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (٤) ، الآية.

فدل القرآن وإخبار الرسول أن القلب مالك لجميع الحواس يصحّح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحّح القلب شي‌ء.

فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليه‌السلام أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين وهما الجبر والتفويض. فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كملا لما أمر الله به ورسوله ، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسب ذلك.

وأما شواهد القرآن على الاختيار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن ذلك قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٥) ، وقال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٦) ، وقال (الم * أَحَسِبَ

__________________

(١) آل عمران : ١٦٧.

(٢) الصفّ : ٢.

(٣) النحل : ١٠٦.

(٤) البقرة : ٢٢٥ ، المائدة : ٨٩.

(٥) محمّد : ٣١.

(٦) الأعراف : ١٨٢ ، القلم : ٤٤.

٢٣

النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١). وقال في الفتن التي معناها الاختبار (وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ) (٢) ـ الآية ـ وقال في قصة قوم موسى (فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ) (٣) وقال موسى (إِنْ هِيَ إِلّا فِتْنَتُكَ) (٤) أي اختبارك ، [فهذه] (٥) الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.

وأما آيات (٦) البلوى [بمعنى] (٧) الاختبار ، فقوله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٨) ، وقوله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (٩) ، وقوله (إِنّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١٠) ، وقوله (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١١) ، وقوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) (١٢) ، وقوله (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (١٣) ، وكل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة ، فهي إثبات الاختبار والبلوى. إن الله جلّ وعزّ لم يخلق الخلق عبثا ولا أهملهم سدى ولا أظهر حكمته لعبا ، بذلك اخبرني قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (١٤).

فإن قال قائل : فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم؟

قلنا : بلى ، قد علم الله ما يكون منهم قبل كونه ، وذلك قوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١٥) ، وإنما اختبرهم ليعلّمهم عدله ولا يعذّبهم إلّا بحجة بعد الفعل ، وقد أخبر

__________________

(١) العنكبوت : ١ ـ ٢. (٢) ص : ٣٤.

(٣) طه : ٨٥. (٤) الأعراف : ١٥٥.

(٥) من المصدر ، وفي «ح» : فمن ، وفي «ق» : واما عن.

(٦) في «ح» : الآيات.

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : لبعض.

(٨) المائدة : ٤٨ ، الأنعام : ١٦٥.

(٩) آل عمران : ١٥٢.

(١٠) القلم : ١٧.

(١١) الملك : ٢.

(١٢) البقرة : ١٢٤.

(١٣) محمّد : ٤.

(١٤) المؤمنون : ١١٥.

(١٥) الأنعام : ٢٨.

٢٤

بقوله : (وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) (١) ، وقوله : (وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢) ، وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٣). فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده وهو قول بين الجبر والتفويض. بهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإن قالوا : ما الحجة في قوله (٤) : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٥) ، وما أشبهها (٦)؟

قيل : مجاز هذه الآية كلها على معنيين :

أما أحدهما ، فإخبار عن قدرته ، أي أنه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب [على] نحو ما شرحناه في الكتاب.

والمعنى الآخر أن الهداية منه تعريفه كقوله : (وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أي عرفناهم (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٧). فلو جبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا ، وليس كلما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّة على محكم الآيات اللواتي امرنا بالأخذ بها ؛ من ذلك قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ـ الآية ـ وقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٨) ، أي أحكمه وأشرحه ، (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩).

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) الإسراء : ١٥.

(٣) النساء : ١٦٥.

(٤) في «ح» : قول الله.

(٥) النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨.

(٦) البقرة : ٢٦ ، النساء : ٨٨ ، الأعراف : ١٥٥.

(٧) فصّلت : ١٧.

(٨) الزمر : ١٧ ـ ١٨.

(٩) آل عمران : ٧.

٢٥

وفقنا الله وإياكم [إلى] (١) القول والعمل لما يحب ويرضى ، وجنّبنا وإياكم المعاصي بمنّه وفضله ، والحمد لله كثيرا كما هو أهله ، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» (٢).

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : من.

(٢) تحف العقول : ٤٥٨ ـ ٤٧٥.

٢٦

(٤٣)

درّة نجفيّة

في أن ولد الولد ولد على الحقيقة أو على المجاز

اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في المنتسب إلى هاشم رضي‌الله‌عنه جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالام خاصة في أن حكمه حكم المنتسب بالأب فتحرم عليه الزكاة المفروضة ويباح له أخذ الخمس أم لا ، بل يجوز له أخذ الزكاة ويحرم عليه الخمس؟ قولان مبينان على أن المنتسب بالام هل يكون ابنا حقيقة أو مجازا؟

ظاهر المشهور الثاني وإلى الأول ذهب جمع أولهم السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه (١) ، وتبعه جملة من أفاضل متأخّري المتأخّرين (٢) ، وهو الحقيق بالاتّباع (٣) وإن كان قليل الأتباع. ونقل (٤) أيضا عن ابن حمزة وابن إدريس (٥) ، ونقله في (المسالك) في بحث ميراث أولاد الأولاد (٦) عن المرتضى ، وابن إدريس ومعين الدين المصري ، ونقله في بحث الوقف على الأولاد (٧) عن جماعة منهم الشيخ المفيد والقاضي ،

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ٢٦٢ ـ ٢٦٥ ، المجموعة الرابعة : ٣٢٨ / ٥.

(٢) شرح الكافي (المازندراني) ١٢ : ٤٢٣ ، الأربعون حديثا (الماحوزي) : ٣١٠ / شرح الحديث : ٢٤.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : الاتباع.

(٤) عنه في الأربعون حديثا (الماحوزي) : ٣١٠.

(٥) السرائر ٣ : ٢٣٨.

(٦) مسالك الأفهام ١٣ : ١٢٥.

(٧) مسالك الأفهام ٥ : ٣٩٣.

٢٧

وابن إدريس ، ونقل بعض أفاضل العجم [١] في رسالة له صنّفها في هذه المسألة واختار فيها ما اخترناه هذا القول عن القطب الراوندي (١) والفضل بن شاذان ، ونقله المقداد في كتاب الميراث من كتابه (كنز العرفان) (٢) عن الراوندي ، والشيخ أحمد ابن المتوج البحراني الذي كثيرا ما يعبّر عنه بالمعاصر.

ونقله في الرسالة المشار إليها أيضا عن ابن أبي عقيل وأبي الصلاح والشيخ الطوسي في (الخلاف) (٣) ، وابن الجنيد وابن زهرة في (الغنية) (٤) ، ونقل عن الملّا أحمد الأردبيلي (٥) الميل إليه أيضا.

ويدل على المشهور قول الكاظم عليه‌السلام في مرسلة حماد بن عيسى : «ومن كانت امه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقات تحل له ، وليس له من الخمس شي‌ء ؛ إن الله تعالى يقول (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (٦)» (٧) ، وهي صريحة في المدعى.

واحتجوا على ذلك أيضا بأن الولد حقيقة إنّما يقال على ابن الابن دون ابن الابنة ، كما ورد عن العرب من قولهم :

__________________

(١) قد وقفت في إجازات بعض الأفاضل وهو الحاج الميرزا محمد باقر [..] (١) على رواية بطريق الإجازة عن الفاضل العالم المحدّث محمد إبراهيم عن أبيه الفاضل [..] (٢) محمد جعفر عن أبيه محمد باقر بن محمد الشريف السبزواري صاحب (الكفاية) و (الذخيرة).

وفيه تحقيق لما ذكرناه من أن صاحب الرسالة المذكورة هو ابن المولى محمد باقر المشار إليه آنفا. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) فقه القرآن ٢ : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، وفيه : ونحن إذا قلنا بخلافه نقول : لو خلينا والظاهر لقلنا بذلك.

(٣) كنز العرفان ٢ : ٣٢٨.

(٤) الخلاف ٤ : ٥٠ / المسألة : ٥٧.

(٥) غنية النزوع ١ : ٣٢٣.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٧) الأحزاب : ٥.

(٨) الكافي ١ : ٥٣٩ ـ ٥٤٠ / ٤ ، باب الفي‌ء والأنفال وتفسير الخمس ، وسائل الشيعة ٩ : ٥١٣ ـ ٥١٤ ، أبواب قسمة الخمس ، ب ١ ، ح ١٠.

__________________

١ ـ كلمة غير مقروءة.

٢ ـ كلمتان غير مقروءتين.

٢٨

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد (١)

احتج السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه على ما نقل (٢) عنه بأن ولد البنت ولد حقيقة وذلك أنه لا خلاف بين الامة في أن بظاهر قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (٣) حرمت علينا بنات أولادنا ، فلو لم يكن بنت البنت بنتا على الحقيقة لما دخلت تحت هذه الآية. قال : (ومما يدل على أن ولد البنت يطلق عليه اسم الولد على الحقيقة أنه لا خلاف في تسمية (٤) الحسن والحسين عليهما‌السلام ابني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وأنهما يفضلان بذلك ويمدحان ، ولا أفضلية ولا مدح في وصف مجازي مستعار. فثبت أنه حقيقة).

ثم قال : (ولا زالت العرب تنسب الولد إلى جدّه إما في موضع مدح أو ذم ولا يتناكرون ذلك ولا يحتشمون منه. ولا خلاف بين الامّة في أن عيسى من بني آدم وولده ، وإنما ينسب إليه بالامومة دون الأبوة).

ثم اعترض على نفسه فقال : (إن قيل : اسم الولد يجري على ولد البنات مجازا وليس كل شي‌ء استعمل في غيره يكون حقيقة). ثم أجاب فقال : (قلت : الظاهر من الاستعمال الحقيقة ، وعلى من ادّعى المجاز الدلالة) (٥) انتهى كلامه زيد مقامه.

واعترض عليه في (المدارك) بـ (الاستعمال كما يوجد مع الحقيقة فكذا يوجد مع المجاز ، فلا دلالة فيه على أحدهما بخصوصه. وقولهم : الأصل في الاستعمال الحقيقة إنما هو إذا لم يستلزم الاشتراك ، وإلّا فالمجاز خير منه كما قرر في محله) (٦) انتهى.

__________________

(١) البيت من الطويل. شرح ابن عقيل ١ : ٢٣٣ / ٥١ ، خزانة الأدب ١ : ٤٤٤ / ٧٣.

(٢) عنه في مختلف الشيعة ٣ : ٢٠٤ / المسألة : ١٠٩.

(٣) النساء : ٢٣.

(٤) في «ح» : نسبة.

(٥) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ٢٦٥ ، عنه في مدارك الأحكام ٥ : ٤٠٢.

(٦) مدارك الأحكام ٥ : ٤٠٢.

٢٩

وأجيب عنه بأن الاستعمال هنا على سبيل الحقيقة لا يستلزم الاشتراك اللفظي الذي يترجّح عليه المجاز لجواز أن يكون استعمال الابن في ولد الابن والبنت على سبيل الاشتراك المعنوي.

أقول : والحق كما قدمنا هو ما ذهب إليه (١) السيد رضي‌الله‌عنه ويدل عليه وجوه :

الأول : الآيات القرآنية الواردة في باب النكاح والميراث فإنها متفقة في صدق الولد شرعا على ولد البنت والابن وصدق الأب على الجدّ منهما ، ولذلك ترتبت عليه الأحكام الشرعية في البابين المذكورين ، والأحكام الشرعية لا ترتب إلّا على المعنى الحقيقي اللفظ دون المجازي المستعار الذي قد يثبت وقد لا يثبت.

وها أنا أتلو عليك شطرا من تلك الآيات الواردة في هذا المجال لتحيط خبرا بأن ما ذهبنا إليه لا تعتريه غشاوة الإشكال ، فمن ذلك قوله عزوجل (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٢) ؛ فإنه لا خلاف في أنه بهذه الآية يحرم على ابن البنت زوجة جدّه من الامّ لكونه أبا له بمقتضى الآية. فهي تدلّ على أن أب الأم أب حقيقة ؛ إذ لو لا ذلك لما اقتضت الآية تحريم زوجة جدّه عليه ، فيكون ولد البنت ولدا حقيقة ؛ للتضايف.

ومن ذلك قوله عزوجل في تعداد المحرمات (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٣) ، فإنه لا خلاف أن بهذه الآية يحرم نكاح الرجل لزوجة ابن بنته ؛ لصدق الابنية عليه في الآية المذكورة.

ومن ذلك قوله تعالى في تعداد المحرمات أيضا (وَبَناتُكُمْ) (٤) ، فإنه بهذه حرمت بنت البنت على جدّها.

ومنه أيضا في تعداد من يحل له النظر إلى الزينة قوله سبحانه :

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) النساء : ٢٢.

(٣) النساء : ٢٣.

(٤) النساء : ٢٣.

٣٠

(أَوْ أَبْنائِهِنَّ) (١) ، فإنه بهذه الآية يحل لابن البنت النظر إلى زينة جدّته لأمّه ، بل زوجة جدّه بقوله (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ) (٢).

ومنه في الميراث في باب حجب الزوجين عن السهم الأعلى ، وحجب الأبوين عما زاد على السدس قوله سبحانه (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ) (٣) ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) (٤) ، (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (٥) فإن الولد في جميع (٦) هذه المواضع شامل بإطلاقه لولد البنت ، والأحكام المذكورة مرتبة عليه بلا خلاف كما ترتبت على ولد الصلب بلا واسطة. ومن الظاهر البين أنه لو لا صدق الإطلاق حقيقة لما جاز ترتب الأحكام الشرعية المذكورة في جملة هذه الآيات ونحوها عليه.

وأما ما أجاب في (المسالك) في بحث الوقف على الأولاد من (٧) دخول أولاد الأولاد بدليل من خارج لا من حيث الإطلاق ، فهو مردود بأن الروايات قد فسرت الآيات المذكورة بذلك ، وأنه قد اريد بها هذا المعنى ، ومنها الروايات الآتية في المقام حيث استدل الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ بالآيات على هذا المطلب ، لا أن (٨) هذا المعنى إنما استفيد من الأخبار خاصة فخص به إطلاق الآيات. فلو لا أن أولاد الأولاد مطلقا داخلون في الإطلاق ومستفادون منه لما صحّ هذا الاستدلال الذي أوردوه عليهم‌السلام.

وبالجملة فكلامه رحمه‌الله (٩) شعري لا (١٠) يعتمد عليه.

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) النور : ٣١.

(٣) النساء : ١٢.

(٤) النساء : ١٢.

(٥) النساء : ١١.

(٦) من «ح».

(٧) في «ح» : على من أن ، بدل : من.

(٨) في «ح» : لان ، بدل : لا أن.

(٩) في «ح» : فكلامهم ـ رحمهم‌الله ـ كلام.

(١٠) من «ح» ، وفي «ق» : بما.

٣١

الثاني : الأخبار الظاهرة المنار ، الساطعة الأنوار ومنها ما رواه ثقة الإسلام وعلم الأعلام ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب روضة (الكافي) بسنده عن أبي الجارود قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : «يا أبا الجارود ، ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهما‌السلام؟». قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : «فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟». قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم عليه‌السلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى) (١) [فجعل] (٢) عيسى بن مريم من ذرية نوح عليه‌السلام. قال : «فأي شي‌ء قالوا لكم؟». قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب. قال (٣) : «فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟». قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) (٤). قال : «فأي شي‌ء قالوا؟». قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول : أبناؤنا.

قال : فقال [أبو] جعفر عليه‌السلام : «يا أبا الجارود ، لأعطينّكها من كتاب الله عزوجل أنّهما من صلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يردها إلّا كافر». قلت : فأين ذلك جعلت فداك؟ قال : «من حيث قال الله عزوجل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) ـ الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى ـ (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٥) ، فسلهم يا أبا الجارود : هل كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فهما ابناه لصلبه» (٦) الحديث.

ولا يخفى ما فيه من الصراحة في المطلوب والظهور والتشنيع الفظيع على من

__________________

(١) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : بجعل.

(٣) من «ح» والمصدر.

(٤) آل عمران : ٦١.

(٥) النساء : ٢٣.

(٦) الكافي ٨ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ٥٠١.

٣٢

قال بالقول المشهور في الخبر كما ترى دلالة واضحة على أن إطلاق الولد في الآيات المتقدمة على ابن البنت على جهة الحقيقة وأنه ولد للصلب حقيقة وإن كانوا بواسطة لا فرق بينه وبين الابن للصلب كما هو متفق عليه بينهم.

ومنها ما رواه في (الكافي) أيضا في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال : «لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول الله عزوجل : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (١) حرم على الحسن والحسين عليهما‌السلام لقول الله تبارك وتعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (٢) ولا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جدّه ، والتقريب فيها ما تقدم عند ذكر الآية المشار إليها.

ومنها ما رواه الطبرسي قدس‌سره في كتاب (الاحتجاج) في حديث طويل عن الكاظم عليه‌السلام يتضمن ذكر ما جرى بينه وبين الخليفة الرشيد العباسي لما ادخل عليه. وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد : لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : يا بن رسول الله ، وأنتم من علي وإنما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جدكم من قبل امكم؟ فقال : «يا أمير المؤمنين ، لو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه؟». فقال : سبحان الله ولم لا اجيبه ، بل أفتخر على العرب وقريش بذلك. فقال : «لكنه لا يخطب إليّ (٣) ولا أزوجه». فقال : ولم؟ فقلت : «لأنّه ولدني ولم يلدك». فقال : أحسنت يا موسى (٤) ، الحديث.

ومرجع الاستدلال بالخبر إلى الآية التي قدمناها في تحريم البنات من قوله سبحانه (وَبَناتُكُمْ).

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

(٢) النساء : ٢٢.

(٣) سقط في «ح».

(٤) الاحتجاج ٢ : ٣٣٨ / ٢٧١.

٣٣

وأنت خبير بما في هذه الروايات :

أولا من الصراحة في أن إطلاق الولد في تلك الآيات على ولد البنت حقيقة لا مجاز.

وثانيا من حيث دلالتها على أن نسبهم ـ صلوات الله عليهم ـ بالبنوّة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة لا مجازا (١) كما يدّعيه الخصم في هذه المسألة.

ولا يخفى عليك أيضا ما في الرواية الأخيرة من الدلالة الصريحة على خلاف ما تضمّنته مرسلة حمّاد المتقدّمة عن الكاظم عليه‌السلام ؛ فإنه عليه‌السلام حكم في تلك المرسلة بأن المرء إنما ينسب إلى أبيه واستدلّ بالآية (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (٢) ، وفي هذه الرواية لمّا أورد عليه الرشيد ذلك ، الموجب لعدم جواز نسبتهم بالبنوّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، احتجّ عليه بعدم جواز تزويج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته ، الموجب لكونه ابنا له صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى الآية المتقدّمة. وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد تحقيق الجواب عن المرسلة المذكورة.

ومنها أيضا ما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) (٣) والصدوق في (الفقيه) (٤) والشيخ (٥) بطرق عديدة ومتون متفاوتة عن عابد (٦) الأحمسي قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا اريد أن أسأله عن صلاة الليل ، فقلت : السلام عليك يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال عليه‌السلام : «وعليك السلام ، إي والله إنا لولده وما نحن بذوي قرابته» الحديث.

أقول : فانظر إلى صراحة كلامه عليه‌السلام في المطلوب والمراد ، وقسمه على ذلك

__________________

(١) ثانيا .. مجازا ، من «ح».

(٢) الأحزاب : ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٤٨٧ / ٣ ، باب نوادر كتاب الصلاة.

(٤) الفقيه ١ : ١٣٢ / ٦١٥.

(٥) الأمالي : ٢٢٨ / ٤٠١.

(٦) في المصدر : عائذ.

٣٤

بربّ العباد ، وأنه ليس انتسابهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمجرد القرابة كما يدّعيه ذوو العناد والفساد وإن تبعهم من حاد في هذه المسألة من أصحابنا عن طريق السداد ؛ حيث حملوا لفظ الابنيّة في حقهم ـ صلوات الله عليهم ـ على المجاز ، وهي صريحة كما ترى في الابنيّة الحقيقية لا مسرح للعدول عنها والجواز.

ومنها ما رواه في (الكافي) في أبواب الزيارات بسنده عن بعض أصحابنا قال : حضرت أبا الحسن الأول عليه‌السلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر وجعفر بن يحيى بالمدينة وقد جاءوا إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هارون لأبي الحسن عليه‌السلام تقدم ، فأبى ، فتقدم هارون فسلم وقام ناحية ، وقال عيسى بن جعفر لأبي الحسن عليه‌السلام : تقدّم. فأبى عليه‌السلام ، فتقدّم عيسى فسلم ووقف مع هارون ، فقال جعفر لأبي الحسن عليه‌السلام : تقدم. فأبى ، فتقدّم جعفر وسلم ، ووقف مع هارون ، وتقدم أبو الحسن عليه‌السلام وقال : «السلام عليك يا أبه ، أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك أن يصلّي عليك». فقال هارون لعيسى سمعت ما قال؟ قال : نعم. قال هارون : أشهد أنه أبوه حقا (١). فانظر أيدك الله إلى شهادة هارون بابوته صلى‌الله‌عليه‌وآله حقا ، وأي مجال للحمل على المجاز كما لا يخفى على من لا حظ قرائن الحال (٢).

وبالجملة ، فإن هذه الأخبار ـ كما ترى ـ صريحة في أن بنوّتهم بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هي بطريق الحقيقة التي لا ينكرها إلّا جاهل عادم الفهم والسليقة ، أو من لم يقف على هذه الأخبار العالية المنار ، كجملة من قال بالقول المشهور من علمائنا الأبرار ، فإنهم لم يعطوا النظر حقه في تتبع الأخبار كما لا يخفى على من راجع كلامهم في المقام بعين الاعتبار.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥٣ / ٨ ، باب دخول المدينة ..

(٢) ومنها ما رواه في الكافي .. قرائن الحال ، من «ح».

٣٥

وحينئذ ، فمتى ثبت ذلك في حقهم عليهم‌السلام ثبت في حقّ (١) غيرهم من أولاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المنتسبين إليه بالام بلا ريب ولا إشكال في المقام ، بل تثبت البنوّة لكلّ من انتسب بالامّ في سائر الأحكام كما لا يخفى على ذوي الألباب والأفهام.

الثالث : أن جملة الأخبار التي وقفت عليها بالنسبة إلى مستحقّي الخمس غير مرسلة حمّاد المتقدّمة إنما تضمنت التعبير عنهم بكونهم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو ذريّته أو عترته أو ذوي قرابته أو أهل بيته ، ونحو ذلك من الألفاظ التي لا تناكر في دخول المنتسب بالأم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها. فإن معنى الآل على ما رواه الصدوق ـ طاب ثراه ـ في كتاب (معاني الأخبار) عن الصادق عليه‌السلام : «من حرّم على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاحه» (٢).

وفي رواية اخرى فسّره بالذرية (٣).

ولا ريب أيضا في صدق الذرية على من انتسب بالامّ ؛ للآية الدالة على كون عيسى من ذرية نوح ، صلوات الله عليهما. ولما في رواية الطبرسي المتقدم نقلها في حديث الرشيد مع الكاظم عليه‌السلام حيث قال له الرشيد أيضا بعد الكلام المتقدم آنفا : كيف قلتم : إنا ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعقب وإنما [العقب] (٤) للذكر لا للأنثى ، وأنتم ولد الابنة ، ولا يكون لها عقب؟

ثم ساق الخبر إلى أن قال : «فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى) (٥) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟». فقال : ليس لعيسى أب. فقلت : «إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم‌السلام من

__________________

(١) سقط في «ح» ، وفي «ق» : حقهم.

(٢) معاني الأخبار : ٩٣ ـ ٩٤ / ١.

(٣) معاني الأخبار : ٩٤ / ٣.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : الصلب.

(٥) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥.

٣٦

طريق مريم عليها‌السلام ، وكذلك الحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل امّنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام (١)» (٢) الحديث.

وحينئذ ، فإذا كان التعبير عن مستحقّي الخمس في الأخبار إنما وقع بأمثال هذه الألفاظ التي لا إشكال في دخول المنتسب بالامّ إليه ـ صلوات الله عليه وآله ـ فيها ؛ فإنه لا مجال لنزاع القوم في هذه المسألة باعتبار عدم صدق البنوّة على من انتسب إلى هاشم بالامّ ؛ لأن علة النسبة إلى هاشم لم نقف عليه إلّا في المرسلة المتقدمة حيث قال فيها : «وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي الذين ذكرهم الله فقال (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٣) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم ؛ الذكر منهم والانثى».

إلى أن قال : «ومن كانت امّه من بني هاشم» إلى آخر ما تقدم ، وكذا في رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو كان عدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم» (٤).

والثاني منهما لا صراحة فيه في المنع ممّا ندّعيه ؛ لأن النسبة إلى هاشم تصدق بكونه من الذرية ، وهي حاصلة بالانتساب إليه بالامّ كما عرفت. فلم تبق إلّا المرسلة المتقدّمة ، وموضع المنافاة فيها ـ وهو الصريح في المنافاة ـ إنما هو في قوله : «ومن كانت امّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له» إلى آخره. وإلّا فتفسيرهم بالقرابة وأنهم بنو عبد المطلب لا صراحة فيه : أما أولا ، فإن ظاهر قوله : القرابة «الذين ذكرهم الله بقوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٤ : ٥٩ / ١٥٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٦ / ١١١ ، وسائل الشيعة ٩ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، أبواب المستحقين للزكاة ، ب ٣٣ ، ح ١.

(٣) الشعراء : ٢١٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٤ : ٥٩ / ١٥٩ ، الاستبصار ٢ : ٣٦ / ١١١ ، وسائل الشيعة ٩ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، أبواب المستحقين للزكاة ، ب ٣٣ ، ح ١.

٣٧

، إنما يتبادر من الموجودين يومئذ كما يؤكده قوله : «وهم بنو عبد المطلب أنفسهم».

وأما ثانيا ، فإنا قد أثبتنا بالآيات والروايات المتقدّمة حصول البنوّة بالامّ ، وتعلق الخصم بعدم صدق الابنيّة الحقيقية. والاستناد إلى ذلك الشعر المنقول في مقابلة ما ذكرنا من المنقول غير معقول عند ذوي الألباب والعقول ، بل هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت (١) ؛ لما شرحناه من صراحة الآيات القرآنية والأحاديث المعصومية.

وما ذكره شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في قرينة المجاز من صحة السلب في قول القائل : (هذا ليس ابني بل ابن بنتي ، أو ابن ابني) مردود :

أوّلا بأنّه غير مسلم على إطلاقه ، فإنا لا نعلم سلب الولدية حقيقة ؛ إذ حاصل المعنى بقرينة الإضراب أن مراد القائل المذكور : إنه ليس بولدي بلا واسطة ، بل ولدي بالواسطة ، فالمنفيّ حينئذ إنما هو كونه ولده من غير واسطة ، والولد الحقيقي عندنا أعمّ منهما. ولو قال ذلك القائل : ليس بولدي من غير الإتيان بالإضراب منعنا صحة السلب.

وبالجملة ، فقد تلخّص ممّا ذكرناه ونتج ممّا حققناه أنه لم يبق هنا شي‌ء ينافي ما ذكرناه إلّا قوله في المرسلة المذكورة : «ومن كانت أمه من بني هاشم» (٢) إلى آخره. ولا ريب أن مقتضى القواعد المقررة عن أهل العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ عرض الأخبار على (القرآن) والأخذ بما يوافقه وطرح ما يخالفه ، وكذا العرض على مذاهب العامة والأخذ بما يخالفها وطرح ما وافقها.

__________________

(١) إشارة إلى الآية : ٤١ من سورة العنكبوت.

(٢) الكافي ١ : ٥٣٩ ـ ٥٤٠ / ٤ ، باب الفي‌ء والأنفال وتفسير الخمس ، وسائل الشيعة ٩ : ٥١٣ ـ ٥١٤ ، أبواب قسمة الخمس ، ب ١ ، ح ١٠.

٣٨

وبمقتضى هاتين القاعدتين يجب طرح هذا الحكم الذي تضمنته هذه المرسلة (١) ؛ أما مخالفته لـ (القرآن) مع الأخبار المتقدمة فقد عرفته ؛ وأما موافقته للعامة فهو أظهر ظاهر ممّا عرفت من الأخبار المتقدمة ولا سيما رواية أبي الجارود ، وكذا رواية الطبرسي ، وما وقع بين الكاظم عليه‌السلام وبين الرشيد في ذلك ، ورواية عابد الأحمسي.

ومما يؤكد ذلك أيضا ما نقله الفقيه محمد بن طلحة الشامي الشافعي في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) ، قال : (وقد نقل أن الشعبي كان يميل إلى آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان لا يذكرهم إلّا ويقول : هم أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذريته. فنقل عنه ذلك إلى الحجاج بن يوسف ، وتكرر ذلك منه وكثر نقله عنه ، فأغضبه ذلك من الشعبي ونقم عليه ، فاستدعاه الحجاج يوما وقد اجتمع لديه أعيان المصرين : الكوفة والبصرة وعلماؤهما وقرّاؤهما ، فلما دخل الشعبي عليه وسلم لم يبشّ له ولا وفاه حقّه من الرد عليه ، فلما جلس قال له : يا شعبي ما أمر يبلغني عنك فيشهد عليك بجهلك؟ قال : ما هو يا أمير؟ قال : ألم تعلم أن أبناء الرجل هل

__________________

(١) أقول : وممّا يؤكد ذلك أيضا أن هذه الرواية قد اشتملت على جملة من الأحكام المخالفة لاتفاق العلماء الأعلام ، منها تصريحها بوجوب الزكاة في حاصل الأرض الخراجية والحال أنها لجملة المسلمين تصرف في مصالحهم ، والاتفاق قائم على أن الزكاة إنما تجب على المكلف البالغ العاقل مثل الصلاة. وأمّا الجهات العامّة ، فلا زكاة فيها.

ومنها تصريحها بأن الإمام بعد إخراج الزكاة من حاصل الأرض الخراجيّة يقسمه على الأصناف الثمانية على جهة البسط بما يغنيهم (١) به في السنة ، ولا قائل به.

ومنها أنها صرحت بأن ما فضل عن مؤنة سنتهم فهو له ، وما أعوز وجب عليه الإتمام من ماله.

وهذا الحكم إنما هو في الخمس لا في الزكاة اتفاقا ، إلى غير ذلك من المخالفات التي يقف عليك من تأمّل الرواية هناك (٢) بطولها حقّ التأمّل. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح» و «ع»).

__________________

١ ـ كلمة غير مقروءة ، وما أثبتناه وفق لسان المرسلة.

٢ ـ من «ع».

٣٩

ينسبون إلّا إليه ، والأنساب لا تكون إلّا بالآباء؟ فما بالك تقول عن أبناء علي : إنهم أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيته؟ وهل لهم اتّصال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بامّهم فاطمة ، والنسب لا يكون بالبنات وإنما يكون بالأبناء؟

فأطرق الشعبي ساعة حتى بالغ الحجاج في الإنكار عليه وقرع إنكاره مسامع الحاضرين ، والشعبي ساكت ، فلما رأى الحجاج سكوته أطمعه ذلك في زيادة تعنيفه ، فرفع الشعبي رأسه فقال : يا أمير ما أراك إلّا متكلما بكلام من يجهل كلام الله تعالى وسنّة نبيّه ، أو من يعرض عنهما. فازداد الحجّاج غضبا وقال : ألمثلي تقول هذا يا ويلك؟ قال الشعبي : نعم ، هؤلاء قرّاء المصرين حملة (الكتاب) العزيز فكل منهم يعلم ما أقول ، أليس قد قال الله تعالى حين خاطب عباده (يا بَنِي آدَمَ) (١) ، وقال (٢) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) (٣) ، وقال عن إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) إلى أن قال (وَعِيسى) (٤) ، فترى يا حجاج اتصال عيسى بآدم وإسرائيل نبي الله وإبراهيم خليل الله بأي آبائه كان؟ أو بأي أجداد أبيه؟ هل كان إلّا بامّه مريم ، وقد صح النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «ابني هذا سيد»؟ فلما سمع منه ذلك أطرق خجلا ثم عاد يتلطّف بالشعبي واشتدّ حياؤه من الحاضرين) (٥) انتهى.

الرابع : أن الظاهر أن معظم الشبهة عند من منع في هذه المسألة من تسمية المنتسب بالامّ ولدا حقيقيا بالنسبة إلى جده من امّه هو أنّه (٦) إنما خلق من ماء الأب. والامّ إنما هي ظرف ووعاء كما سمعته من كلام الرشيد للإمام الكاظم عليه‌السلام في حديث (الاحتجاج). ويومئ إليه أيضا كلام الحجّاج ، وهذا في البطلان أظهر

__________________

(١) الأعراف : ٢٦ ، وغيرها.

(٢) من «ح».

(٣) البقرة : ٤٠ ، وغيرها.

(٤) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥.

(٥) مطالب السؤول : ٢٤.

(٦) من «ح».

٤٠