الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

من أن يحتاج إلى بيان ، لدلالة الآيات الشريفة والأخبار المنيفة على أنه مخلوق من مائهما معا كقوله سبحانه وتعالى (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (١) أي صلب الرجل وترائب المرأة ، وقوله عزوجل (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) (٢) أي مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة.

ودلالة جملة من الأخبار على مشابهة الولد امّه وقرابتها تارة ، ولأبيه وقرابته اخرى باعتبار سبق نطفة كل منهما فإن سبقت نطفة المرأة أشبه الولد امّه ومن يتقرّب بها ، وإن سبقت نطفة أبيه أشبه الأب ومن يتقرب به (٣).

هذا ، وممّن وافقنا على هذه المقالة فاختار ما اخترناه ورجّح ما رجّحناه المحقق المدقق العماد مولانا المير محمد باقر الداماد ، وقد وقفت له على رسالة في خصوص هذه المسألة قد أطال وأكثر من الاستدلال فيها على صحة هذا القول ورد القول المشهور.

ومنهم الفاضل المدقق الملّا محمد صالح المازندراني قدس‌سره في شرحه على اصول (الكافي) حيث قال في شرح حديث أبي الجارود المتقدم عند قوله : (ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما صورته : (أي أبناؤه حقيقة من صلبه ؛ إذ لا نزاع في إطلاق الابن والبنت والولد والذرية على ولد البنت ، وإنّما النزاع في أن هذا الإطلاق من باب الحقيقة أو المجاز ، فذهب طائفة من أصحابنا ومنهم السيد المرتضى رحمه‌الله إلى الأول ، وذهب طائفة منهم ومنهم الشهيد الثاني وجمهور العامة إلى الثاني. وتظهر الفوائد في كثير من المواضع كإطلاق السيد وإجراء أحكام السيادة والنذر لأولاد الأولاد والوقف عليهم.

والظاهر هو الأول ؛ للآيات والروايات ، وأصالة الحقيقة. وضعف هذه الرواية

__________________

(١) الطارق : ٧.

(٢) الدهر : ٢.

(٣) علل الشرائع ١ : ١١٧ ـ ١٢١ ، ب ٨٥.

٤١

بأبي الجارود الزيدي الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية لا يضر ؛ لأن المتمسّك هو الآية ودلالة الآيتين الاوليين على المطلوب ظاهرة ، والثالثة صريحة ، واحتمال التجوّز غير قادح لإجماع أهل الإسلام على أن ظاهر (القرآن) لا يترك إلّا بدليل لا يجامعه بوجه. وما روي عن الكاظم عليه‌السلام ـ وهو مستند المشهور (١) على تقدير صحة سنده ـ حمله على التقية ممكن ، واستناده باستعمال اللغة غير تامّ ؛ لأن اللغة لا تدلّ على مطلوبه. قال في (القاموس) : (ولدك من دمّى عقبيك ، أي من نفست به فهو ابنك) (٢) فليتأمل) (٣) انتهى كلامه ، علت في الخلد اقدامه.

أقول : قد عرفت أن رواية حماد بن عيسى المشار إليها أيضا ضعيفة بالإرسال ولهذا أن شيخنا الشهيد الثاني لم يعتمد عليها في الاستدلال ، وإنما اعتمد على ما ادّعوه من حمل ذلك الاطلاق على المجاز كما عرفت آنفا. وقد عرفت ممّا قدمنا أن ما حكمنا به غير مقصور على هذه الرواية إن كانت باصطلاحهم قاصرة ، بل الآيات والروايات به متظاهرة متضافرة.

وقال شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح (٤) البحراني ـ نوّر الله مرقده ، وقد سئل عن هذه المسألة فأجاب بما ملخصه ، ومن خطه قدس‌سره نقلت إلّا إنه طويل قد كتبته على جهة الاستعجال وتشويش من البال فانتخبنا ملخصه قال ـ : (إنه قد تحقق عندي وثبت لديّ بأدلة قطعية عليها المدار والمعتمد من (كتاب الله) وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكفى بهما حجة ـ مع اعتضادهما بالدليل العقلي أن أولاد البنات أولاد لأبي البنت حقيقة لا مجازا ؛ خلافا للأكثر من علمائنا وفاقا للسيد المرتضى وأتباعه ، وهم جماعة من المتأخّرين كما حققته في (من لا يحضره النبيه في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه) مبسوطا منقحا بحيث لا يختلجني فيه

__________________

(١) في المصدر : الشهيد.

(٢) القاموس المحيط ١ : ٦٥٠ ـ الولد.

(٣) شرح الكافي ١٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

(٤) سقط في «ح».

٤٢

الرين ، ولا يتطرق إليّ (١) فيه المين ، ولكن حيث طلبت بيان الدليل فلنشر الآن إلى شي‌ء قليل).

ثم ذكر آية عيسى عليه‌السلام وأنه من ذرية نوح عليه‌السلام ، وذكر آية (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) (٢) إلى أن قال : (ويدل عليه ما رواه الكليني في (الكافي) في صحيح محمد بن مسلم).

ثم ساق الرواية كما قدمناه ، إلى أن قال : (فقد وضح من هذا أن الجد من الام أب حقيقة لا مجازا).

ثم ذكر آيتي (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٣) ، وقوله (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) (٤) ، وعضدهما بالأخبار التي أشرنا إليها آنفا في مشابهة الولد لأمّه ومن يتقرب بها تارة ، ولأبيه ومن يكون من جهته اخرى ، ثم أضاف إلى ذلك أنه لو اختص الولد بنطفة الرجل لم يكن العقر (٥) من جانب المرأة وإنما يكون من جانب الرجل خاصة مع أنه ليس كذلك ثم قال : (وأما السنة فالأخبار فيها أكثر من أن تحصى ، ومنها ما (٦) سبق ، ومنها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما تواتر عندنا للحسنين عليهما‌السلام : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» (٧) ، وقوله للحسين عليه‌السلام : «ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام» (٨).

وبالجملة فتسميتهما ـ صلوات الله عليهما ـ ابنين ، وكونهما وجميع أولادهما التسعة المعصومين يسمونه صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا ، وخطاب الامة إياهم بذلك من غير أن ينكر أمر متواتر لا شبهة فيه ، ومن أنكره فهو منكر للضروريات.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) الطارق : ٧.

(٤) الدهر : ٢.

(٥) في «ح» : القصر.

(٦) من «ح».

(٧) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٨ ، كشف الغمّة ٢ : ١٥٦.

(٨) كفاية الأثر : ٢٨ ، وفيه : أنت الإمام ابن الإمام وأخو الإمام.

٤٣

والأصل في الإطلاق الحقيقة حتى إنه قد روى الكليني في (الكافي) (١) والصدوق في (الفقيه) (٢) بإسنادهما الصحيح عن عائذ الأحمسي).

ثم ساق الرواية بزيادة (ثلاث مرات) بعد قوله : «والله (٣) إنا لولده وما نحن بذوي قرابته» ، قال : (ولا وجه لتقرير السائل على ما فعله ، وقسمه عليه‌السلام بالاسم الكريم وتكريره ذلك ثلاثا للتأكيد ـ لأنه في مقام الإنكار ونفيه انتسابهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة القرابة ، بل من جهة الولادة ـ دليل واضح وبرهان لائح على أنهم أولاده حقيقة ، وليس كونهم أولاده إلّا من جهة امّهم لا من أبيهم. فما ادّعاه الأكثر من علمائنا ـ من أن تسميته صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم أولادا وتسميتهم عليهم‌السلام إياه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) أبا مجازا ـ لا حقيقة له بعد ذلك.

وقولهم : إن الإطلاق أعمّ من الحقيقة والمجاز كلام شعري لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه بعد ثبوت ذلك. ولو كان الأمر كما ذكروه لما جاز لأئمتنا ـ صلوات الله عليهم ـ الرضا بذلك إذا خاطبهم من لا يعرف كون (٥) هذا الإطلاق حقيقة ولا مجازا ؛ لأن فيه إغراء بما لا يجوز ، مع أنه لا يجوز لأحد أن ينتسب لغير نسبه أو يتبرّأ من نسب وإن دقّ ، فكيف بعد القسم والتأكيد ودفع ما عساه (٦) يتوهم؟ وأما قول الشاعر (٧) :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد (٨)

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٨٧ / ٣ ، باب نوادر كتاب الصلاة.

(٢) الفقيه ١ : ١٣٢ / ٦١٥.

(٣) من «ح».

(٤) إياهم .. إيّاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من «ح».

(٥) ليست في «ح».

(٦) في «ح» بعدها : ان.

(٧) قول الشاعر ، من «ح» ، وفي «ق» : قوله.

(٨) البيت من الطويل. شرح ابن عقيل ١ : ٢٣٣ / ٥١ ، خزانة الأدب ١ : ٤٤٤ / ٧٣.

٤٤

فقول بدويّ (١) لا يتمّ حجة ، ولا يوضح محجة ، فلا يجوز الاستدلال به في معارضة (القرآن) والحديث والدليل العقلي.

أما استدلال بعض فقهائنا بصحة السلب في قول أب الأم لولدها لمن سأله : هذا ابنك أم لا؟ فإنه يصح أن يقول : هذا ليس بابني بل ابن بنتي ، فكلام ساقط عن درجة الاعتبار وخارج عن الأدلّة الواضحة المنار ؛ لأنّه إن كان مراد السائل من كونه ابنه لصلبه بلا واسطة صح السلب ولا ضرر فيه ، وإلّا فهو عين المتنازع.

ونحن نقول : لا يصح سلبه لما أثبتناه من الأدلة مع أنه بعينه جار في ولد الولد الذي لا نزاع فيه. والفرق بينهما لا يمكن إنكاره. وعلى هذا فقد تبين لك الجواب ، وأن من كانت امّه علوية ، أو أمّ أبيه ، أو أمّ أمّ أبيه فقط ، أو أمّ امّه ، أو أمّ أمّ امّه فصاعدا ، وأبوه من سائر الناس ؛ فإنه علوي حقيقة وفاطمي إن كان منسوبا إلى جدّه أو جدته أبا أو امّا إلى فاطمة بغير شك وترتب عليه كل ما (٢) يترتب على السيادة من جواز الانتساب إليهم ـ صلوات الله عليهم ـ والافتخار بهم ، بل لا يجوز إخفاؤه والتبري منه لما عرفت. وعلى هذا فيجوز النسبة لهم في اللباس وغير ذلك.

نعم ، عندي توقّف في استحقاق الخمس لحديث رواه الكليني في الكافي) (٣) وإن كان خبر واحد ضعيف الإسناد محتملا للتقية وأن الترجيح لعدم العمل به للأدلّة الصحيحة الصريحة المتواترة الموافقة لـ (القرآن) المخالفة للعامة ، إلّا إن

__________________

(١) في «ح» بعدها : جاهل.

(٢) كل ما ، من «ح» ، وفي «ق» : كما.

(٣) الكافي ١ : ٥٣٩ ـ ٥٤٠ / ٤ ، باب الفي‌ء والأنفال ، وسائل الشيعة ٩ : ٥١٣ ـ ٥١٤ ، أبواب قسمة الخمس ، ب ١ ، ح ٨.

٤٥

التنزه عن أخذ الخمس أولى خصوصا عند عدم الضرورة ، والعلم عند الله.

وكتب خادم المحدّثين ، وتراب أقدام العلماء والمتعلمين ، العبد الجاني عبد الله ابن صالح البحراني بضحوة يوم الاثنين من الثاني والعشرين من ربيع الثاني [ال] سنة الرابعة والثلاثين بعد المائة والألف ، بالمشهد الحسيني ـ على مشرّفه السلام ـ حامدا مصلّيا مسلما (١)) انتهى.

أقول : ما ذكره قدس‌سره جيد إلّا إن توقفه أخيرا في جواز أخذ الخمس للرواية المشار إليها التي هي مرسلة حمّاد المتقدمة لا وجه له ؛ وذلك لأنه قد علل فيها عدم جواز أخذ الخمس بعدم صحة النسبة بالبنوّة ، كما ينادي به استدلاله بالآية : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (٢) ، وهو قد صرّح في صدر كلامه بأن ثبوت البنوّة قد تحقق عنده وثبت له بالأدلّة القطعية ، واعترف أخيرا بأن هذه الرواية مخالفة لـ (القرآن) وموافقة للعامّة. وبذلك يتعين وجوب طرحها من غير إشكال ولا ريب من هذه الجهة.

نعم ، لو كانت الرواية قد منعت من الخمس بقول مجمل من غير ذكر هذه العلة لأمكن احتمال ما ذكره ، ولكن مع وجود العلة وظهور بطلانها يبطل ما رتب عليها البتة.

على أن هذا الكلام منه خلاف المعهود من طريقته في غير مقام ، بل طريق جملة العلماء الأعلام ؛ فإنه متى ترجّح أحد الدليلين ـ ولا سيما بمثل هاتين القاعدتين المنصوصتين ـ فإنهم يرمون بالدليل المرجوح ، ولا يلتفتون إليه بالكلية ، بل قد يرجّحون بامور استحسانية غير منصوصة ، ويعملون على الراجح

__________________

(١) من «ح».

(٢) الأحزاب : ٥.

٤٦

بذلك ، ويرمون بالمرجوح ، فكيف في مثل (١) هذا المقام؟

وبالجملة ، فكلامه قدس‌سره غير موجّه ، وقد شاع عن شيخنا العلّامة الشيخ سليمان ابن عبد الله البحراني ـ نوّر الله مرقده ـ أنه كان يتوقف في دفع الخمس للمنتسب بالامّ ، ويحتاط بمنعه من الخمس والزكاة ، مع ترجيحه لمذهب السيد المرتضى.

والظاهر أن شيخنا الصالح المشار إليه ، جرى على ما جرى عليه استاذه المشار إليه. وظاهر صاحب (المدارك) (٢) أيضا التوقف في أصل المسألة ، وكذا ظاهر المولى الفاضل محمد باقر الخراساني في (الذخيرة) (٣). ولعمري إن من سرح بريد نظره فيما سطرناه لا يخفى عليه صحة ما اخترناه ، ولا رجحان ما رجحناه وأن خلاف من خالف في هذه المسألة أو توقّف من توقف إنما نشأ عن قلّة إعطاء التأمّل حقه في أدلة المسألة والتدبر فيها ، وإلّا فالحكم أوضح واضح والصبح فاضح.

وممن صرّح بهذه المقالة أيضا السيد المحدّث السيد نعمة الله الجزائري ـ عطر الله مرقده ـ قال في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ ابني هذا سيد» (٤) من كتاب (عوالي اللآلي) ما صورته : (وفي قوله : «إن ابني هذا ..» نص على أن ولد البنت ابن على الحقيقة ، والأخبار به مستفيضة ، وذكر الرضا عليه‌السلام في مقام المفاخرة مع المأمون أن ابنته عليه‌السلام تحرم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٥) ، وإليه ذهب السيد المرتضى ـ طاب ثراه ـ وجماعة من أهل الحديث وهو الأرجح والظاهر من الأخبار ، فيكون من امّه علوية سيدا يجري عليه وإليه ما يكون للعلويّين ، وإن

__________________

(١) من «ح».

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

(٣) ذخيرة المعاد : ٤٨٦.

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٠ / ٢٤.

(٥) النساء : ٢٣.

٤٧

وجد ما يعارض بالأخبار الدالّة على ما ذكرناه فسبيله إمّا الحمل على التقية أو التأويل كما فصّلنا الكلام فيه في شرحنا على (التهذيب) ، و (الاستبصار) ..) انتهى.

وما نسبه للرضا عليه‌السلام مع المأمون إما سهو من قلمه ؛ فإن ذلك كما عرفت إنما هو للكاظم عليه‌السلام مع الرشيد ، أو مضمون خبر آخر اطّلع عليه ، والله العالم.

٤٨

(٤٤)

درّة نجفيّة

الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد فاطمة عليها‌السلام

قد اتفق بعد توطننا في العراق أن بعض السادة من أهل البحرين جمع في نكاحه بين فاطميتين ، فأنكرنا ذلك عليه ، ومنعناه من الجمع بينهما لما استقر عليه رأينا من التحريم في المسألة المذكورة وإن كانت في كتب الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ غير مشهورة ، وشاع الأمر عند علماء العراق فخالفوا في ذلك كملا ومنعوه من الطلاق وأفتوه بالكراهة دون التحريم ، وجوّزوا له المقام على ذلك الأمر الذميم حيث إن المسألة لم تطرق أسماعهم قبل ذلك ، ولم يقفوا عليها في (المدارك) ، ولا (المسالك) ولم يجر لها ذكر في كلام المتقدمين ولا المتأخّرين وإنما تفطن لها [شذاذ] (١) من أفاضل متأخّري المتأخّرين.

فلذا خفي أمرها على أكثر الناس ووقع الإشكال فيها والالتباس ، وقال كثير منهم بالصدّ عما ذكرناه والاستكبار لما عليه جملة من الناس في تلك الأوقات من الابتلاء بهذه المصيبة من غير تناكر ولا إنكار ، وكثر فيها القيل والقال والبحث والسؤال ، وكتب فيها بعض فضلاء الوقت شرحا شافيا بزعمه في رد القول بالتحريم وتأويل الخبر الوارد في المسألة بما يرجع إلى الكراهة الغير الموجبة

__________________

(١) في النسختين : شذوذ.

٤٩

للذم والتأثيم ، فألجأنا الحال إلى أن كتبنا في المسألة رسالة شافية بسطنا فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، وأحطنا بأطراف المقال بما لم يجد به الخصم مدخلا للنزاع في ذلك المجال. ونقلنا كلام ذلك الفاضل وبيّنّا ما فيه ، وكشفنا عن ضعف باطنه وخافيه ، فرجع فضلاؤهم عن ذلك بعد الوقوف على ما قررناه والتأمل فيما سطرنا ، ومنهم الفاضل المشار إليه ، وكتبوا خطوطهم على حواشي الرسالة بالرجوع عما كانوا عليه وها أنا ذاكر هنا صورة الرسالة المذكورة وهي :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد حمد الله سبحانه على مزيد أفضاله ، والصلاة على محمّد وآله ، فيقول الفقير إلى جود ربّه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم ـ وفّقه الله للعمل في يومه لغده ، قبل أن يخرج الأمر من يده ـ : هذه كلمات رشيقة وتحقيقات أنيقة ، قد رقمتها في مسألة قد كثر الكلام فيها في هذه الأيام بين جملة من الأعلام ، فأخطأ من أخطأ ، وأصاب من أصاب بتوفيق من الملك العلّام ، وهي مسألة الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ـ عليها الصلاة والسلام ـ وقد وسمتها بـ (الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد فاطمة).

فأقول ـ وبه سبحانه الاستعانة لإدراك كلّ مأمول ـ : لا يخفى أن هذه المسألة لم يجر لها ذكر في كلام أحد من علمائنا المتقدّمين ولا المتأخّرين ، ولم يتعرّضوا للبحث عنها في الكتب الفروعيّة ، ولا ذكروا حكمها في الكتب الاستدلاليّة ، ولم أقف على قائل بمضمونها سوى شيخنا الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي قدس‌سره ؛ فإنّه جزم بالتحريم في هذه المسألة (١) ، عملا بالخبر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) بداية الهداية : ١٢٤.

٥٠

وكذلك شيخنا الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني ، على ما وجدته بخط والدي قدس‌سره ، نقلا عنه ، حيث قال ـ بعد نقل الحديث الآتي برواية الصدوق ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب (العلل والأحكام) (١) ـ ما صورته : (قد نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني قال قدس‌سره عقيب ذكره ما صورته : (يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ، ولا معارض له ، فيجوز أن يخصّص به عموم (القرآن) ، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين بالنكاح حراما ، والله أعلم) انتهى كلامه قدس‌سره.

وهذا الحديث ذكره الشيخ في (التهذيب) (٢) أيضا ، إلّا إن سنده فيه غير صحيح ، وهذا الشيخ كما ترى قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر ، ولا نعلم من أين أخذه ـ قدس الله روحه ـ ولكن كفى به ناقلا. وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم) انتهى كلام والدي ، طيّب الله ثراه ، وجعل الجنّة مثواه.

وأقول : إنّه (٣) قد أخذه من كتاب (العلل) ، ولكنّ الوالد لم يطّلع عليه ، وليته كان حيّا فاهديه إليه ، والمفهوم كما ترى من كلام الشيخ جعفر المذكور القول بمضمون الخبر.

وأمّا شيخنا علّامة الزمان ونادرة الأوان ، الشيخ سليمان ـ عطّر الله مرقده ـ فقد اختلف النقل عنه في هذه المسألة ، فإني وجدت بخط بعض الفضلاء الموثوق بهم نقلا عن خطّه ـ طاب ثراه ـ بعد نقل الخبر الوارد في المسألة ما صورته : (ومال إلى العمل به بعض مشايخنا. وهو متّجه بجواز تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الصحيح وإن توقّفنا في المسألة الاصوليّة. ولا

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٣١٥ / ب ٣٨٥ ، ح ٣٨.

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٥.

(٣) في «ح» : أقول ، بدل : وأقول إنه.

٥١

كلام في شدّة المرجوحيّة ، وشدّة الكراهة) انتهى.

ونقل شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) عنه التوقّف ، حيث قال ـ بعد ذكر المسألة المذكورة ـ : (وكان شيخنا علّامة الزمان يتوقّف في هذه المسألة ويأمر بالاحتياط فيها ، حتّى إني سمعت من ثقة من أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه ؛ لأنه كان تحته فاطميّتان ، ونقل عنه أنه يرى التحريم ، إلّا إنّي لم أعرف منه غير التوقّف) (١).

ثم قال قدس‌سره بعد كلام في البين : (إلّا إنّي بعد ، عندي نوع حيرة واضطراب ودغدغة وارتياب ، فأنا في المسألة متوقّف ، والاحتياط فيها عندي لازم. وقد سألني بعض الإخوان المتورّعين عن هذه المسألة سابقا وكان مبتلى بها ، حيث إنّه جامع بين فاطميّتين ، فكتب له جوابا يشعر بالتوقّف والأمر بالاحتياط ، فامتثل ما كتبته ، وطلّق واحدة. ولا شكّ أن في هذا الطريق السلامة والسلوك في مسالك الاستقامة. نسأل الله الوقوف عند الشبهات والتثبّت عند الزلّات) (٢) انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.

أقول : أمّا ما نقله عن شيخه العلّامة من التوقّف ، فإنّه لا ينافي النقل عنه بالجزم ، كما نقلناه ، ونقله هو عن ذلك الرجل المذكور ؛ إذ يجوز أن يكون مذهبه صار إلى التحريم بعد التوقّف أوّلا فلا منافاة.

وما ذهب إليه هو قدس‌سره من التوقّف فإنّما أراد به التوقّف في الفتوى بالتحريم وإن كان يقول بالتحريم من حيث الاحتياط ، كما صرّح به في قوله : (والاحتياط عندي فيها لازم) ؛ وذلك أن الأحكام عند أصحابنا الأخباريين ثلاثة : حلال بيّن ،

__________________

(١) منية الممارسين : ٥٥٥.

(٢) منية الممارسين : ٥٦٩.

٥٢

وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، والحكم عندهم في موضوع الشبهة وجوب الاحتياط. فليس الفرق بينه وبين من قال بالتحريم ـ ممّن قدّمنا ذكره ـ إلّا من حيث المستند ، وإلّا فالجميع متّفقون على التحريم في المسألة. والعجب من شيخنا المحدّث الصالح المشار إليه مع تبحره في الأخبار لم يطّلع على حديث (العلل) ، كما يدلّ عليه كلامه في الكتاب المتقدّم ذكره ، ولعلّه لذلك حصل له التوقف.

ثم أقول : والقول بالتحريم أيضا ظاهر شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (العلل) وها أنا اوضّح لك المقام بما ترتاحه الأفهام (١) ، ولا يخفى على المنصف من الأنام ؛ وذلك فإنّه لا ريب في أن إيراد الصدوق للخبر المذكور إنّما هو من حيث اشتماله على تعليل عدم الحليّة في الخبر بالمشقة ، فإن كتابه موضوع لبيان العلل الواردة في الأخبار كما ينبئ عنه اسمه.

ولا يخفى على العارف بطريقة الصدوق قدس‌سره في جملة كتبه ومصنّفاته أنه لا يذكر من الأخبار إلّا ما يعتمده ويحكم بصحّته متنا وسندا ويفتي به ، وإذا أورد خبرا بخلاف ذلك ذيّله بما يشعر بالطعن في سنده أو دلالته ونبّه على عدم قوله بمضمونه ، هذه طريقته المألوفة وسجيّته المعروفة. وهذا المعنى وإن كان لم يصرّح به إلّا في صدر كتابه (من لا يحضره الفقيه) (٢) إلّا إن المتتبّع لكلامه في كتبه ، والواقف على طريقته ، لا يخفى عليه صحّة ما ذكرناه.

وحيث إن هذا الكلام ممّا يكبر في صدور بعض الناظرين القاصرين ، فيقابله بالإنكار والصدّ والاستكبار ؛ لقصور تتبّعه في ذلك المضمار ، فلا بأس لو أرخينا زمام القلم في الجري في هذا الميدان ، وأملينا له في الجري ساعة من الزمان وإن

__________________

(١) في «ح» : توجه بالأفهام.

(٢) الفقيه ١ : ٣.

٥٣

طال به (١) ؛ فإنّه من أهم المهام في جملة من الأحكام ، فنقول : من المواضع التي تدلّ على ما ادّعيناه ما صرّح به في كتاب (العلل والأحكام) في جملة من المواضع ؛ منها في باب العلّة التي من أجلها حرّم على الرجل جارية ابنه وأحلّ له جارية ابنته ، فإنّه أورد خبرا يطابق هذا المضمون ، ويدلّ على جواز نكاح جارية الابنة ؛ لأن الابنة لا تنكح ، ثم قال عقيبه : (قال مؤلّف هذا الكتاب).

وساق الكلام إلى أن قال : (والذي افتي به أن جارية الابنة لا يجوز للأب (٢) أن يدخل بها) (٣).

ومنها في باب علّة تحصين الأمة الحرّ ، فإنّه أورد خبرا يدلّ على أن الأمة يحصل بها الإحصان ، ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي رضي‌الله‌عنه مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته كما جاء في هذا الموضع ؛ لما فيه من ذكر العلّة.

والذي افتي به وأعتمد عليه ما حدّثني به محمّد بن الحسن) (٤) ثم ساق جملة من الأخبار دالة على أن الحرّ لا تحصنه المملوكة.

ومنها في باب علّة شرب الخمر في حال الاضطرار ، فإنّه أورد خبرا يدلّ على أن المضطر لا يجوز له أن يشرب الخمر ، وقال بعده : (قال محمّد بن علي بن الحسين مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا كما أوردته ، وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح) (٥) ، إلى آخر كلامه.

ومنها في باب العلّة التي من أجلها جعلت أيام منى ثلاثة أيام ، فإنّه أورد حديثا يدلّ على أن من أدرك شيئا من أيام منى ، فقد أدرك الحجّ ، ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته في

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : به.

(٢) في «ع» : للرحل للأب ، وما أثبتناه وفق «ح».

(٣) علل الشرائع ٢ : ٢٤٢ / ب ٣٠٣ ، ح ١.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٢٢٦ / ب ٢٨٥ ، ح ١.

(٥) علل الشرائع ٢ : ١٩٠ / ب ٢٢٧ ، ح ١.

٥٤

هذا الموضع ؛ لما فيه من ذكر العلّة ، والذي افتي به وأعتمده في هذا المعنى ما حدّثنا به شيخنا محمّد بن الحسن) (١) ، ثم ساق الخبر بما يدلّ على تخصيص إدراك الحجّ بإدراك المشعر قبل الزوال ، و [إدراك المتعة بإدراك] عرفة قبل الزوال.

ومنها في باب العلّة التي من أجلها تجزي البدنة عن نفس واحدة ، وتجزي البقرة عن خمسة ، فإنّه أورد خبرا بهذا المضمون ، وقال بعده : (قال مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته. كما جاء ؛ لما (٢) فيه من ذكر العلّة.

والذي افتي به وأعتمد عليه أن البدنة والبقرة تجزيان عن سبعة نفر) (٣) إلى آخره.

ومنها في حديث ورد فيه : أن «من برّ الولد ألّا يصوم تطوّعا ولا يحجّ تطوّعا ولا يصلّي تطوّعا إلّا بإذن أبويه .. وإلّا كان قاطعا للرحم» ، ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي مؤلّف هذا الكتاب : جاء هذا الخبر هكذا ، ولكن ليس للوالدين على الولد طاعة في ترك الحجّ تطوّعا كان أو فريضة ، ولا في ترك الصلاة ، ولا في ترك الصوم تطوّعا كان أو فريضة) (٤) إلى آخره.

ونحو ذلك في باب العلّة التي من أجلها لا يجوز السجود إلّا على الأرض ، أو ما أنبتت (٥) ، وفي باب العلّة (٦) التي من أجلها قال هارون لموسى (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (٧).

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع لكتبه. فكلامه ذيل هذه الأخبار أدلّ دليل على أنه متى ذكر خبرا ولم يتعرّض لردّه ولا القدح في دلالته ،

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ١٥٨ ـ ١٥٩ / ب ٢٠٤ ، ح ١.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : لما جاء.

(٣) علل الشرائع ٢ : ١٤٧ ـ ١٤٨ / ب ١٨٤ ، ح ١.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٨٦ ـ ٨٧ / ب ١١٥ ، ح ٤.

(٥) علل الشرائع ٢ : ٣٧ ـ ٣٨ / ب ٤٢.

(٦) علل الشرائع ١ : ٨٧ ـ ٨٨ / ب ٥٨.

(٧) طه : ٩٤.

٥٥

بل تعدّى عنه إلى غيره ، فهو ممّا يفتي به ويقول بمضمونه.

وقال قدس‌سره في كتاب (عيون أخبار الرضا) ـ بعد نقل حديث في سنده محمّد بن عبد الله المسمعي ما صورته : (قال مصنّف هذا الكتاب : كان شيخنا محمّد بن الحسن سيّئ الرأي في محمّد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب ؛ لأنّه كان في كتاب (الرحمة) ، وقد قرأته عليه فلم ينكره ، ورواه لي) (١).

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ صريح الدلالة في أنه لا يخرج شيئا من الأخبار في كتبه إلّا وهو صحيح عنده ، لا يعتريه في صحّته شكّ ولا ريب ، ومتى كان ليس كذلك نبّه عليه ذيل الخبر.

وقال في كتاب (من لا يحضره الفقيه) في باب ما يجب على من أفطر ، أو جامع في شهر رمضان ـ بعد أن أورد خبرا يتضمّن أن من جامع امرأته وهو صائم وهي صائمة أنه إن كان أكرهها فعليه كفارتان وإن كانت طاوعته فعليه كفارة ـ ما صورته : (قال مصنّف هذا الكتاب : لم أجد ذلك في شي‌ء من الاصول ، وإنّما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم) (٢).

وقال في كتاب (الغيبة) ـ بعد أن أورد حديثا عن أحمد بن زياد ـ : (قال مصنّف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا عن أحمد بن زياد بعد (٣) منصرفي من حجّ بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة ديّنا) (٤) إلى آخره.

وقال في الكتاب المذكور ـ بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الورّاق ـ : (قال مصنّف هذا الكتاب : لم أسمع هذا الحديث إلّا عن عليّ بن عبد الله الورّاق ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ ـ ٢٢ / ب ٣٠ ، ح ٤٥.

(٢) الفقيه ٢ : ٧٣ / ٣١٣.

(٣) في المصدر : عند.

(٤) كمال الدين : ٣٦٩ / ذيل الحديث : ٦.

٥٦

ووجدته بخطّه مثبتا فسألته عنه ، فرواه لي عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن إسحاق ، كما ذكرته) (١).

إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ، وهي شاهدة بأفصح لسان ، وناطقة بأصرح بيان بأن جميع ما يرويه في كتبه ، ولا يتعرّض للكلام عليه فهو مقطوع [بصحّته] (٢) عنده ، ومن الاصول المتواترة في زمانه ، ويفتي بمضمونه ، ويعتمد عليه. وبذلك يظهر لك أن هذا الخبر حيث نقله ولم يتعرّض لردّه ولا تأويله ولا الطعن عليه بوجه ، فهو ممّا يفتي به. وبذلك يظهر أنه قائل بالتحريم كما هو صريح الخبر لا تعتريه الشبه ولا الغير ، حسب ما سنوضّحه ونشرحه إن شاء الله تعالى.

وظاهر الشيخ قدس‌سره في كتاب (العدّة) (٣) وأوّل كتاب (الاستبصار) (٤) هو العمل بالخبر المذكور وأمثاله حيث صرّح بأن الخبر إذا لم يكن متواترا وتعرّى عن أحد القرائن الملحقة له بالمتواتر ؛ فإنّه خبر واحد ، ويجوز العمل به إذا لم يعارضه خبر آخر ، ولم تعلم فتوى الأصحاب على خلافه. وهذا الخبر ـ كما ترى ـ ليس له معارض من الأخبار فيما دلّ عليه ، ولم يعلم فتوى الأصحاب على خلافه ، فيجوز العمل به حينئذ ، وهذا ظاهر.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن الخبر الذي يدلّ على هذا الحكم هو ما رواه شيخ الطائفة ـ عطّر الله مرقده ـ في (التهذيب) عن علي بن الحسن بن فضّال عن السندي بن الربيع عن ابن أبي عمير عن رجل من أصحابنا قال : سمعته يقول : «لا يحلّ لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها‌السلام ، إنّ ذلك يبلغها فيشق عليها».

قلت : يبلغها؟ قال : «إي والله» (٥).

__________________

(١) كمال الدين : ٣٨٥ / ١.

(٢) في النسختين : على صحته.

(٣) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٠٠.

(٤) الاستبصار ١ : ٤.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٣ / ١٨٥٥.

٥٧

ورواه شيخنا الصدوق قدس‌سره في كتاب (العلل) عن محمّد بن علي ماجيلويه عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حمّاد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا يحلّ» (١) الحديث.

وأنت خبير بأن الكلام في هذا الخبر من حيث السند مفروغ منه عندنا على أي الروايتين كان ، فإن هذا الاصطلاح المبني عليه تضعيف أخبارنا أصل متزعزع الأركان ، متداعي البنيان ، قد خرج عنه مؤسسوه في غير موضع ومكان ؛ لضيق الخناق وإن أطالوا الكلام فيه وسوّدوا فيه الأوراق ، كما أوضحنا ذلك في جملة من مؤلّفاتنا ، ولا سيما في مقدمات كتاب (الحدائق الناضرة) (٢) وفّق الله تعالى لإتمامه.

فالطاعن في سنده وإن تمّ له في رواية (التهذيب) إلّا إنه لا يتمّ له في رواية (العلل) ؛ لعدّ جملة من أساطين أصحابنا رجال هذا السند في الصحيح. على أنه من الظاهر البيّن الظهور أن الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ إنّما نقل أخبار كتبه من الاصول المحقّقة الثبوت والمعلومة الاتّصال بالأئمّة عليهم‌السلام ، وإنّما يذكر الوسائط في الأسانيد إلى أصحاب الاصول تيمّنا وإخراجا للخبر عن قيد الإرسال ، كما نصّ على ذلك جملة من محقّقي علمائنا الأبدال (٣) ؛ لأن الاصول في زمانه موجودة ، وحينئذ فالكلام في السند لا طائل تحته.

بقي الكلام في متن الخبر ودلالته على التحريم ، فنقول : وجه الاستدلال بذلك أن لفظ «لا يحلّ» صريح في التحريم ؛ فإنّه المعنى المتبادر عند الإطلاق ، والتبادر أمارة الحقيقة ، كما نصّ عليه محقّقو علماء الاصول (٤). ويؤكّده التعليل بالمشقّة

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٣١٥ / ب ٣٨٥ ، ح ٣٨.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٤ ـ ٢٦.

(٣) هداية الأبرار : ٥٥.

(٤) معالم الاصول : ١٢٨ ، الوافية في اصول الفقه : ٦٠.

٥٨

لها ، صلوات الله عليها. ومن الظاهر البيّن أن الأمر الذي يشقّ عليها يؤذيها ، وإيذاؤها محرّم بالاتّفاق ؛ لأنّه إيذاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديث المتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة : «فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها» (١).

فإن قيل : إن لفظ «لا يحلّ» قد ورد بمعنى الكراهة ، فلا يكون نصّا في التحريم ؛ لما رواه الكليني والصدوق ـ رضي‌الله‌عنهما ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما» (٢).

مع أن ذلك غير واجب بالإجماع ، وحينئذ فيحتمل حمل هذا (٣) الخبر على ذلك ، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال كما ذكروه ، ولفظ (المشقّة) ربما لا يستلزم الإيذاء ، وحينئذ فلا ينهض الخبر دليلا على التحريم.

قلنا : لا يخفى على الفطن اللبيب ، والموفّق المصيب ، ومن أخذ من القواعد المقرّرة ، والضوابط المعتبرة بأوفر نصيب ، أن الواجب هو حمل الألفاظ على حقائقها متى اطلقت ، وإنّما تحمل على مجازاتها بالقرائن الحاليّة أو المقاليّة الموجبة للخروج عن تلك الحقيقة ، لا بمجرّد التخرّص والتخمين ، كما هو بيّن لدى الحاذق المكين ؛ إذ لو جاز ذلك لبطلت جملة (٤) القواعد الشرعيّة ، واختلّت تلك الأحكام النبويّة ، ولا قرينة في الخبر من نفسه ، ولا من خارج يؤذن بإخراج لفظ «لا يحلّ» عن حقيقته.

واستعمال «لا يحلّ» في الخبر الذي ذكره المعترض في الكراهة لا يستلزم حمل ما لا قرينة فيه على الكراهة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٣ : ٢٣٤ ، صحيح مسلم ٤ : ١٥١٢ / ٢٤٤٩.

(٢) الكافي ٦ : ٥٠٦ / ١١ ، باب النورة ، الفقيه ١ : ٦٧ / ٢٦٠ ، وسائل الشيعة ٢ : ١٣٩ ، أبواب آداب الحمام ، ب ٨٦ ، ح ١ ، وفيها : «ذلك» ، بدل : «عانتها» ؛ إذ أوّله : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يترك عانته فوق أربعين يوما.

(٣) سقط في «ح».

(٤) من «ح» : وفي «ق» : تلك.

٥٩

وأمّا قوله : (وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال) فهو كلام شعري ، وإلزام جدلي لا يصحّ النظر إليه ، ولا التعريج في مقام التحقيق عليه ، وإلّا لانسدّ بذلك باب الاستدلال ، واتّسعت دائرة الخصام والجدال ؛ إذ لا قول إلّا وللخصم فيه مقال ، ولا دليل إلّا وللمنازع فيه مجال ؛ فإن مجازات الألفاظ لا تعدّ ولا تحصى وإن تفاوتت قربا وبعدا وظهورا وخفاء ، وللزم بذلك انسداد باب إثبات التوحيد والنبوّة والإمامة ، وقامت الحجّة للمخالفين في هذه الاصول بما يبدونه من الاحتمالات في أدلّة المثبتين ، بل الحقّ الحقيق بالقبول كما صرّح به محقّقو الاصول من أن المدار في الاستدلال على النصّ أو الظاهر (١) ، ولا يلتفت إلى الاحتمال في مقابلة شي‌ء منهما.

وأمّا حديث المشقّة واستلزامها الأذى كما ندّعيه ، فإنّه لا يخفى أن المشقّة لغة إنّما هي بمعنى : الثقل والشدّة والتعب ، فيقال : أمر شاق ، أي ثقيل شديد متعب صعب.

قال في كتاب (القاموس) : (شق عليه الأمر شقا : صعب) (٢).

وقال ابن الأثير في كتاب (النهاية) : (وفيه : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة» أي لو لا أن أثقل عليهم. من المشقّة ، وهي الشدّة) (٣).

وقال المفسّرون في قوله سبحانه (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) (٤) : (أي لا أحمّلك من الأمر ما يشتدّ عليك) (٥).

وقال الهروي في كتاب (الغريبين) : (قوله تعالى (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ

__________________

(١) انظر معارج الاصول : ١٨١.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ٣٦٤ ـ شقّة.

(٣) النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ : ٤٩١ ـ شقق.

(٤) القصص : ٢٧.

(٥) ذكره في مجمع البحرين ٥ : ١٩٣ ـ شقق.

٦٠