الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الفاطميّة وغير الفاطميّة ، وهذا محض الردّ على الإمام عليه‌السلام ، ونسبته في هذا المقام إلى زلّة القلم أولى من نسبته إلى زلّة القدم ، وهي غفلة عجيبة منه ، سلّمه الله.

ومن ذلك يعلم ما في قوله : (مع أني لم أر قائلا بالكراهة) ، فإنّه ردّ عليه ؛ إذ لو كان مفهوم الأولويّة ممكنا هنا للزم كراهة الجمع بين الفاطميّة وغيرها بطريق الأولى ؛ لأنه يدّعي أن لفظ (المشقّة) إنّما يستلزم الكراهة ، فلو كان كذلك للزم بمقتضى مفهوم الأولويّة المترتّب على المشقّة ـ كما زعمه ـ أن يكون الجمع بين الفاطميّة وغيرها مكروها ، مع أنّه لم يصرّح به أحد.

العاشر : قوله : (ومع ذلك كلّه فدع ما يريبك إلى مالا يريبك) ، فإنّه يجب على خصمه في هذا المقام أن يوليه من الثناء التام والتبجيل والإعظام ما لا تحيط به الأقلام ، حيث هداه إلى ما كان غافلا عنه ممّا هو أوضح واضح في الردّ عليه ، وأظهر ظاهر في ضعف ما جنح إليه ؛ إذ لا يمتري ذو مسكة من أرباب العقول في أن الريبة إنّما هي في الجمع بين الفاطميّتين ، لا في عدم الجمع ؛ لأن النصّ قد ورد بالمنع.

غاية الأمر أن بعضا يتمسّك به في التحريم وآخر يتأوّله بالحمل على الكراهة ، فالجمع حينئذ دائر بين التحريم والكراهة ، فهو محلّ الريبة حينئذ.

وأمّا عدم الجمع فلا ريبة فيه بوجه ، فمقتضى الخبر الذي أورده : دع الجمع الذي يريبك إلى عدم الجمع الذي لا يريبك. ويؤيّده تتمّته التي ذكرها أيضا (لأنّ أحدا في ترك الجمع لا يعيبه (١)).

وأمّا في الجمع ، فهو معاب البتة ، أمّا على التحريم فظاهر ، وأمّا على الكراهة أيضا فكذلك وإن كان أقل مرتبة ؛ لأن ارتكاب المكروه عيب ولو في الجملة ،

__________________

(١) كذا في النسختين ، وقد وردت في النصّ أوّلا بلفظ : يعيبك.

٨١

سيّما بناء على ما قدّمه من أنّهم عليهم‌السلام يعلّلون المكروهات بعلل منفّرة للزجر عنها كالمحرمات.

وقد عرفت من كلام مشايخنا المتقدّم نقله في صدر المسألة ما هو صريح في ما ذكرناه ونصّ في ما سطرناه ، ولكنه ـ سلّمه الله تعالى ـ أجرى قلمه في هذا المجال على سبيل الاستعجال من غير اعطاء التأمّل حقه في صحة أو إبطال ، فلزمه ما لزمه من الإشكال.

ومن الأخبار الآمرة بالاحتياط زيادة على هذا الخبر قولهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصراط من عمل بالاحتياط» (١). وقولهم عليهم‌السلام : «احتط لدينك» (٢).

ولخصوص النكاح قول الصادق عليه‌السلام في رواية شعيب الحداد : «هو الفرج ، وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، ونحن نحتاط ، فلا يتزوّجها» (٣).

وقوله عليه‌السلام في رواية العلاء بن سيابة المرويّة في (الفقيه) في امرأة وكلت رجلا أن يزوّجها : «إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه. وهو فرج ، ومنه يكون الولد» (٤).

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن آبائه عليهم‌السلام : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٥).

__________________

(١) ذكره زين الدين الميسي في إجازته لولده ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٢٩ ، وذكره الشيخ محمود بن محمد الأهمالي في إجازته للسيد الأمير معين الدين ابن شاه أبي تراب ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٨٧ ، ولم يورداه على انه حديث.

(٢) الأمالي (الطوسي) : ١١٠ / ١٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٦ ، وفيهما : فاحتط ، بدل : احتط.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٠ / ١٨٨٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١٥٧ ، ح ١.

(٤) الفقيه ٣ : ٤٨ / ١٦٨.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٤ / ١٩٠٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١٥٧ ، ح ٢ ، وفيهما : زياد ، بدل : مسعدة.

٨٢

وبذلك يظهر لك أن من أفتى في هذه المسألة بالحلّ خلافا على الخبر المذكور ، فهو تارك للاحتياط ، ناكب عن سويّ ذلك الصراط.

فهذه وجوه (١) عشرة كاملة ، بردّ ما ذكره هذا الفاضل ضامنة كافلة ، والله سبحانه يعلم أن ليس الغرض من هذا الكلام في هذا الباب سوى تحقيق حقيقة الحقّ والصواب ، وكشف نقاب الشكّ عن هذه المسألة والارتياب (٢) ، وحلّ هذه المعضلة التي أشكلت على أذهان جملة من ذوي الألباب.

تتمّة مهمّة في أن حرمة الجمع تقتضي البطلان أم ترتّب الإثم

قد تحقّق ممّا حقّقناه تحريم الجمع بين الفاطميّتين بما لا يحوم حوله شكّ ولا شبهة في البين. لكن يبقى الكلام في أن التحريم هل يكون مقتضيا لبطلان النكاح ، أو إنّما يترتّب عليه مجرّد الإثم وإن صحّ النكاح؟

وعلى الأوّل ، فهل يختصّ الحكم بالثانية خاصّة ، فيبطل عقدها ، أو يتخيّر في طلاق أيّتهما شاء؟ لم أقف على تصريح صريح لمن تكلّم في هذه المسألة سوى ما يفهم من كلام شيخنا العلّامة أبي الحسن المنقول عنه آنفا ، وتلميذه المحدّث الصالح قدس‌سرهما ـ المتقدّم نقله في صدر المسألة ـ من أمرهما بطلاق واحدة ، ومقتضاه صحّة عقد الثانية ، وأنّه يتخيّر في إمساك أيّتهما شاء. إلّا إن الوجه الثاني من الوجهين الأوّلين ممّا ينبغي الجزم ببطلانه ؛ لأنّه لو تمّ لجرى في نظائر هذه المسألة ممّا يأتي ذكره ، وهو باطل نصّا وإجماعا ؛ ولما سيأتي في كلام شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره.

وأنت خبير بأن الظاهر أن هذه المسألة من قبيل مسألة الجمع بين الاختين ، والجمع بين الزوجات الخمس ، والكلام فيها يجري على حسب الكلام في

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) سقط في «ح».

٨٣

المسألتين المذكورتين حذو النعل بالنعل ؛ لرجوع التحريم في الجميع إلى الجمع ، لا إلى عين الثانية ، كما في المحرّمات النسبيّة. إلّا إن الكلام ولا سيّما في مسألة الجمع بين الاختين لا يخلو من الإشكال أيضا بالنسبة إلى اختلاف الأدلّة ومخالفتها لكلام الأصحاب.

وتحقيق القول فيها أن يقال : لا يخفى أن ظاهر الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ الاتّفاق في المسألتين المذكورتين على بطلان عقد الأخيرة من الاختين أو الخمس لو تأخّر عقدها ، وأمّا لو تزوّج الجميع من الاختين أو الخمس في عقد واحد ، فالمشهور أيضا بطلان العقد من أصله. وعلّله شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في (شرح الشرائع) : (بأن العقد على كلّ واحدة منهما محرّم للعقد على الاخرى ، ونسبته إليهما على السويّة (١) ، فلا يمكن الحكم بصحّته فيهما ؛ لمحذور الجمع ، ولا في إحداهما على التعيين ؛ لأنّه ترجيح بغير مرجّح ، ولا لغير معيّنة ؛ لأن الحكم بالإباحة غير معيّن فلا بدّ له من محلّ جوهريّ معيّن يقوم به ؛ لأن غير المعيّن في حدّ ذاته لا وجود له.

وإذا بطلت هذه الأقسام لزم الحكم بالبطلان فيهما ؛ ولأن العقد عليهما معا منهيّ عنه نهيا ناشئا عن عدم صلاحيّة المعقود عليها على الوجه المخصوص للنكاح وإن كانت صالحة لغير هذه الجهة. والنهي على هذا الوجه يقتضي بطلان العقد وإن لم يكن مطلق النهي موجبا لبطلان العقود) (٢) انتهى.

وقيل في الاختين بصحة العقد ، وإنّه يتخيّر أيّتهما شاء (٣). وعليه تدلّ صحيحة جميل المرويّة في (الفقيه) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تزوّج اختين في عقد

__________________

(١) شبه الجملة خبر لـ (نسبته).

(٢) مسالك الأفهام ٧ : ٣١٣ وفيه : لأنّ العقد ، بدل : بأنّ العقد.

(٣) النهاية : ٤٥٤.

٨٤

واحد ، قال : «يمسك أيّتهما شاء ، ويخلي سبيل الاخرى».

وقال في رجل تزوّج خمسا في عقد واحد : «يخلي سبيل أيّتهن شاء» (١).

إلّا إن الحكم الذي ظاهرهم الاتّفاق عليه من بطلان عقد الاخت الثانية لو سبق عقد أحدهما ممّا قد اختلفت الأخبار فيه ، فمنها ما يدلّ على صحّة عقد الثانية والتخيير في إمساك أيّتهما شاء ، كحسنة أبي بكر الحضرمي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل نكح امرأة ثم أتى أرضا فنكح اختها وهو لا يعلم. قال : «يمسك أيّتهما شاء ويخلّي سبيل الاخرى» (٢).

وحملها الشيخ في (التهذيبين) ـ بناء على الإجماع الذي تقدّم نقله عنهم في المسألة ـ على أنّه (إذا أراد إمساك الاولى فليمسكها بالعقد الأوّل ، وإذا أراد الثانية فليطلّق الاولى ، ثم يمسك الثانية بعقد مستأنف) (٣) انتهى.

ولا يخفى بعده من سياق الخبر.

ومنها ما يدلّ على ما ذهب إليه الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ وهو موثقة زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل تزوّج بالعراق امرأة ، ثم خرج إلى الشام فتزوّج امرأة اخرى ، فإذا هي اخت امرأته التي بالعراق. قال : «يفرّق بينه وبين المرأة التي تزوّجها بالشام ، ولا يقرب العراقيّة حتّى تنقضي عدّة الشاميّة (٤)» (٥).

وروى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدس‌سره في (الكافي) في الصحيح عن

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٦٥ / ١٢٦٠.

(٢) الكافي ٥ : ٤٣١ / ٢ ، باب الجمع بين الاختين ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ / ١٢٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١٦٩ / ٦١٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٥ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٦ / ذيل الحديث : ١٢٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١٦٩ / ذيل الحديث : ٦١٨.

(٤) في «ح» : الثانية.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٦٤ / ١٢٥٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٦ ، ح ١.

٨٥

محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في اختين نكح إحداهما رجل ثم طلّقها وهي حبلى ، ثم خطب اختها فجمعها قبل أن تضع اختها المطلّقة ولدها ، فأمره أن يفارق الأخيرة حتّى تضع اختها المطلّقة ولدها ، ثم يخطبها ويصدقها صداقا مرّتين» (١).

قال المحدّث الكاشاني في (الوافي) ـ بعد نقل هذه الرواية ـ ما صورته : (بيان : «فجمعها» كذا في أكثر النسخ ، والصواب (فجامعها). وربّما يوجد في بعض النسخ : «فجمعهما» (٢) ، وفي (الفقيه) : «فنكحهما (٣)» ، وهو أوضح. وفيه : «فأمره أن يطلّق الاخرى» (٤) ، وهو يشعر بصحّة العقد على الأخيرة. ويدلّ عليه أيضا إيجاب الصداق مرّتين ، إلّا أن (٥) يقال : إن (٦) ذلك لمكان الوطء.

ثم إن صحّ العقد على الأخيرة فما الوجه في التفريق ، ثم الخطبة وتثنية الصداق؟ وإن جعل «يطلّق» (٧) من الإطلاق وحمل النكاح والجمع على الوطء وقيل بإبطال (٨) العقد على الأخيرة صحّت (٩) النسختان وزال الإشكال) (١٠) انتهى.

أقول : وهذه الرواية كما ترى ـ باختلاف نقل (١١) الشيخين المذكورين لها ، والإشكال المذكور على تقدير نقل الصدوق رضي‌الله‌عنه ـ لا يمكن الاعتماد عليها في ترجيح أحد الطرفين.

وأمّا الأخبار الواردة بالنسبة إلى الزوجات الخمس ، فمنها ما رواه الشيخان

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ / ١ ، باب الجمع بين الاختين ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٦ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٤ ، ح ١.

(٢) كما في نسخة (الكافي) التي بين يدينا.

(٣) في «ح» : فنكحها ، وهو الموافق للمصدر.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٦٩ / ١٢٧٧.

(٥) من «ح».

(٦) ليست في «ح».

(٧) في «ح» : مطلق.

(٨) في «ح» : باطلاق.

(٩) جواب أداة الشرط (إن).

(١٠) الوافي المجلد : ٣ ، ج ١٢ : ٣٤.

(١١) ليست في «ح».

٨٦

الأقدمان ثقة الإسلام والصدوق ـ عطّر الله تعالى مرقديهما ـ في الصحيح ، على رواية الصدوق عن محمّد بن قيس قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في رجل كان تحته أربع نسوة فطلّق واحدة ، ثم نكح اخرى قبل أن تستكمل المطلّقة العدّة قال : «فليلحقها بأهلها حتّى تستكمل المطلّقة أجلها ، وتستقبل الاخرى عدّة اخرى ، ولها صداقها إن كان دخل بها ، وإن لم يكن دخل بها فله ماله ، ولا عدّة عليها ، ثم إن شاء أهلها بعد انقضاء عدّتها (١) زوّجوه ، وإن شاءوا لم يزوّجوه» (٢).

وروى المشايخ الثلاثة ـ نوّر الله تعالى مضاجعهم ـ بأسانيدهم عن عنبسة بن مصعب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له ثلاث نسوة فتزوّج عليهنّ امرأتين في عقد ، فدخل بواحدة منهما ثم مات. قال : «إن كان دخل بالمرأة التي بدأ باسمها وذكرها عند عقدة النكاح فإنّ نكاحها جائز ولها الميراث وعليها العدّة ، وإن كان دخل بالمرأة التي سمّيت وذكرت بعد ذكر المرأة الاولى فإنّ نكاحها باطل ولا ميراث لها» (٣).

وزاد في رواية (التهذيب) : «ولها ما أخذت من الصداق بما استحلّ من فرجها» (٤).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من بطلان العقد على الثانية في الاختين ، والخامسة ، وبطلان العقد على الجميع لو وقع دفعة واحدة هو الموافق لمقتضى القواعد الشرعيّة والضوابط المرعيّة ؛ لأنه متى كان الجمع في النكاح محرّما ـ وفائدة التحريم إنّما ترجع إلى بطلان النكاح ، كما عرفت من الأخبار وكلام الأصحاب ، لا إلى مجرّد الإثم ، وإن صح النكاح كما ربما يتوهّم ـ فإنّه يتعيّن الحكم حينئذ ببطلان نكاح الأخيرة ، وبطلان العقد الواقع

__________________

(١) في «ح» : مدّتها.

(٢) الكافي ٥ : ٤٣٠ / ٣ ، باب الجمع بين الاختين ، الفقيه ٣ : ٢٦٥ / ١٢٦١.

(٣) الكافي ٥ : ٤٣٠ / ٤ ، باب الجمع بين الاختين ، الفقيه ٣ : ٢٦٦ / ١٢٦٣.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٨٥ / ١٣٧٤.

٨٧

دفعة على الجميع ؛ لما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (١) وإن اختار القول بمضمون الخبر الوارد في المسألة ؛ لأن ما ذكره من التعليل وجيه جيّد. إلّا إن صحيحة جميل (٢) قد دلّت على صحّة العقد الواقع دفعة على الجميع ، والتخيير للزوج في اختيار أيّتهن شاء. ورواية الحضرمي (٣) قد دلّت على ذلك في المتأخّر عقدها من الاختين ، والثانية منهما معارضة بحسنة زرارة (٤) المتقدّمة.

ويؤيّد الحسنة المذكورة صحيحة زرارة أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام الواردة في رجل تزوّج امرأة ثم تزوّج امّها ، وهو لا يعلم أنّها امّها ، فقال : «إذا علم أنّها امّها ، فلا يقربها ولا يقرب البنت ، حتّى تنقضي عدّة الامّ ، فإذا انقضت عدّة الامّ حلّ له نكاح الابنة» (٥) الحديث.

فإن مسألة الجمع بين الامّ والبنت من باب مسألة الجمع بين الاختين ، والحكم فيهما واحد ؛ لتعلّق التحريم بمجرّد الجمع في الجميع. وأمّا الاولى فلا معارض لها سوى ما عرفت من التعليل الجاري على مقتضى القواعد الشرعيّة.

وظنّي أن الروايتين (٦) المذكورتين قد خرجتا على وجه آخر من تقيّة ونحوها ؛

__________________

(١) مسالك الأفهام ٧ : ٣١٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٦٥ / ١٢٦٠ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٨ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٥ ، ح ١.

(٣) الكافي ٥ : ٤٣١ / ٢ ، باب الجمع بين الاختين ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ / ١٢٠٥ ، الاستبصار ٣ : ١٦٩ / ٦١٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٥ ، ح ٢.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٦٤ / ١٢٥٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٥) الكافي ٥ : ٤٣١ / ٤ ، باب الجمع بين الاختين ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٩ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٦) فإنه يظهر ما دلت عليه صحيحة جميل ، ولا سيّما في المثال العقد على الخمس ، ويعضده [الاخبار التي] دلت على أنه يختار ما أحب وشاء ، ورواية عنبسة منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

٨٨

لمخالفة ما دلّا عليه لمقتضى الاصول. ويؤيّد ذلك ما دلّت عليه رواية عنبسة (١) ، فإنّه نظير ما دلّت عليه صحيحة جميل (٢) ، ولا سيّما بالنسبة إلى العقد على الخمس دفعة ، فإنّها دلّت على أنّه يختار أيّتهن شاء. ورواية عنبسة دلّت على صحّة عقد المتقدّمة في الذكر خاصّة وبطلان عقد المتأخّرة.

وكون العقد في الصحيحة المشار إليها على الخمس دفعة ، وفي رواية عنبسة إنّما هو على الرابعة والخامسة خاصّة لا يصلح وجها للفرق بين الخبرين ، ولا يوجب المغايرة بين الحكمين ؛ لأن الكلام في حصول الإبطال للعقد وعدمه بضمّ الخامسة في العقد سواء ضمّت إلى الأربع أو لواحدة منهن.

ولا يخفى أن رواية محمّد بن قيس (٣) ورواية عنبسة (٤) وصحيحة زرارة المذكورات أوفق بمقتضى الاصول من ذينك الخبرين.

وبالجملة ، فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال الموجب لسلوك جادّة الاحتياط على كلّ حال. وعلى ذلك يتفرّع القول في الجمع بين الفاطميّتين ، والاحتياط هو طلاق الثانية من الاختين والفاطميّتين لو تأخّر عقدها ، وإن كان الأقرب بطلان العقد من أصله.

وكذا الأحوط أيضا بطلان العقد على الجميع دفعة وإن كان العمل بصحيحة جميل لا يخلو من قرب.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٣٠ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٢٦٦ / ١٢٦٣ ، تهذيب الأحكام ٩ : ٣٨٥ / ١٣٧٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٦٥ / ١٢٦٠ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٧٨ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢٥ ، ح ١.

(٣) الكافي ٥ : ٤٣٠ / ٣ ، باب الجمع بين الاختين ، الفقيه ٣ : ٢٦٥ / ١٢٦١ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ ، أبواب ما يحرم باستيفاء العدد ، ب ٣ ، ح ١.

(٤) فإن حكمه في رواية عنبسة ببطلان العقد المتأخر في الذكر يوجب بطلان عقدها أيضا لو عقد عليها ثانيا بعد تمام عقد الاولى ، وهذا هو الموافق لمقتضى الاصول والتعليل المقبول في المسألة. منه رحمه‌الله (هامش «ح»).

٨٩

وأمّا ما ذكره شيخنا المحدّث الصالح ونقله أيضا عن شيخه العلّامة المتقدّم ذكره من التخيير في اختيار أيّتهما شاء وطلاق واحدة ، فظنّي أنّه وقع غفلة منهما عن إعطاء التأمّل حقّه في المقام ؛ لأنّه يلزمهما القول بمثل ذلك في الاختين ، ولا أظنّهما يلتزمانه لما عرفت.

فإن قيل : إن النصوص قد وردت في مسألة الجمع بين الاختين ، ومسألة الجمع بين الامّ وابنتها ، والجمع بين الخمس ، ببطلان عقد المتأخّرة ، وحمل مسألة الجمع بين الفاطميّتين على ذلك قياس.

قلنا : قد عرفت أن الدليل قد دلّ في جميع هذه المسائل على تحريم الجمع ، ومقتضى تحريم الجمع ـ كما قدّمنا ذكره ـ هو بطلان نكاح المتأخّرة ، بل بطلان عقد الجميع من أصله لو وقع عليهنّ دفعة.

غاية الأمر أن الأخبار قد صرّحت بذلك في هذه المسائل الثلاث ، ونطقت به على اختلاف في بعض مواردها ، وأمّا في مسألة الجمع بين الفاطميّتين فلم يرد فيها ذلك. وخروج الأخبار في المسائل الثلاث مصرّحة بالبطلان ، إنّما هو من حيث العلة المشار إليها ، كما لا يخفى على من راجع روايات المسائل المذكورة ، وهي كثيرة لم نأت عليها في المقام ، والعلّة المذكورة في مسألة (١) الجمع بين الفاطميّتين موجودة بنصّ الخبر المتقدّم ، فيترتّب عليها الحكم المذكور بغير إشكال ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

هذا ما جرى به القلم في هذه الرسالة وخطر بالخاطر في هذه العجالة على تشويش من البال ، وتفاقم من الأهوال الموجبة لاضطراب الفكر والخيال ، والله سبحانه أسأل أن يهدي بها الطالبين لتحقيق الحقّ واليقين من الاخوان المؤمنين.

وكتب الفقير إلى ربّه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني ـ غفر الله له

__________________

(١) سقط في «ح».

٩٠

ولوالديه ولإخوانه المؤمنين ـ لسلخ شهر ذي القعدة الحرام ، سنة التاسعة والستين بعد المائة والألف في كربلاء المعلّى ، على ساكنه أفضل صلوات ذي العلا ، والحمد لله وحده ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ثم إنه لما وقف السيّد الأجلّ الأفضل السيد الميرزا ـ سلّمه الله ـ صاحب الكلام المذكور في متن الرسالة رجع عمّا كتبه أوّلا ، وكتب على حاشية الرسالة ما صورته : (قد أفاد وأجاد ، متّع الله ببقائه العباد ، وكثّر أمثاله في البلاد وأزال عنا دواعي اللجاج والعناد ، وأرشدنا بمنّه وجوده إلى سبيل السداد والرشاد) انتهى.

ولمّا وقف عليها شيخنا الأجلّ البهيّ الشيخ محمّد المهدي ـ سلّمه الله تعالى ـ وكان أيضا ممن أفتى بالكراهة أولا ، كتب على الحاشية ما لفظه : (بسم الله. إن ما كتبه شيخنا العلّامة متّعه الله بالصحّة والسلامة هو التحقيق الذي هو بالقبول حقيق والعمل على ما استند إليه وعوّل عليه سيّما على طريقتنا المثلى وسنتنا (١) الفضلى من العمل على مضمون الأخبار وإن لم يقل به أحد من الفقهاء الأخيار. وكتب الاقل محمّد مهدي الفتوني) انتهى.

أقول : وهذان الفاضلان هما يومئذ عمدة البلاد ، ومرجع من فيها من العباد ، وكانا على غاية من الإنصاف ، والتقوى والعفاف ، متّع الله تعالى ببقائهما الإسلام ونفع بوجودهما الأنام ، وجعل مآلهما إلى دار السلام في جوار الأئمّة الأعلام.

__________________

(١) في «ح» : سننا.

٩١
٩٢

(٤٥)

درّة نجفيّة

في مشروعية الإجارة في الصلاة والصوم

الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في جواز الاستيجار للصلاة والصوم عن الميّت فيما أعلم ، إلّا إن بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين ممّن سيأتي ذكره ناقش في ذلك ، وقد ذكر بعضهم أن هذه المسألة لم يجر لها ذكر في كلام القدماء من الأصحاب ولم يكن الكلام في ذلك مشهورا بينهم ، وإنما حدث الكلام فيها فيما بعد.

وقال السيّد الزاهد العابد (١) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن طاوس الحسيني ـ نوّر الله مرقده ـ في كتاب (غياث سلطان الورى لسكان الثرى) : (وقد حكى ابن زهرة (٢) في كتابه في قضاء الصلاة عن الشيخ أبي جعفر محمد بن حسين الشوهاني أنه كان يجوز الاستيجار عن الميّت. واستدلّ ابن زهرة على وجوب قضاء الولي الصلاة بالإجماع على أنها تجري مجرى الصوم والحج.

وقد سبقه ابن الجنيد بهذا الكلام حيث قال : (والعليل إذا وجبت عليه الصلاة

__________________

(١) في «ح» بعدها : المجاهد.

(٢) يلاحظ أن الشهيد الأول قدس‌سره في كتابه ذكرى الشيعة ٢ : ٧٧ ، نقل أن من ذكر ذلك في كتابه في قضاء الصلاة هو ابن حمزة لا ابن زهرة.

٩٣

وأخّرها عن وقتها إلى أن فاتت قضاها عنه وليّه كما يقضي حجّة الإسلام والصيام).

قال : (وكذلك روى أبو (١) يحيى عن إبراهيم بن هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام فقد سوّى بين الصلاة وبين الحجّ (٢). ولا ريب في جواز الاستيجار على الحج) (٣).

وقال شيخنا الشهيد في (الذكرى) بعد نقل هذا الكلام : (الاستيجار على فعل الصلاة الواجبة بعد الوفاة مبنيّ على مقدّمتين.

إحداهما : جواز الصلاة عن الميّت. وهذه إجماعية ، والأخبار الصحيحة ناطقة بها كما تلوناه.

والثانية : أنّه كلّ ما جازت الصلاة عن الميّت جاز الاستيجار عنه. وهذه المقدّمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر ولا يخالف فيها أحد من الإماميّة بل ولا من غيرهم ؛ لأن المخالف من العامّة إنما منع لزعمه أنه لا يمكن وقوعها للمستأجر عنه.

وأمّا من يقول بإمكان وقوعها ـ وهم جميع الإمامية ـ فلا يمكنه القول بمنع الاستيجار إلّا أن يخرق الإجماع في إحدى المقدّمتين. على أن هذا النوع قد انعقد عليه الإجماع من الإمامية الخلف والسلف من المصنّف وما قبله إلى زماننا هذا ، وقد تقرّر أن إجماعهم حجّة قطعيّة.

فإن قلت : فهلا اشتهر الاستيجار على ذلك والعمل به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، كما اشتهر الاستيجار على الحج حتّى علم من المذهب ضرورة؟

قلت : ليس كل واقع يجب اشتهاره ولا كل مشهور يجب الجزم به ، فرب

__________________

(١) في «ح» ، ونسخة بدل من «ق» : بن.

(٢) بحار الأنوار ٨٥ : ٣١٧.

(٣) عنه في ذكرى الشيعة ٢ : ٧٧.

٩٤

مشهور لا أصل له ، وربّ متأصّل لم يشتهر ؛ إما لعدم (١) الحاجة إليه في بعض الأحيان ، أو لندور وقوعه.

والأمر في الصلاة كذلك ؛ فإن سلف الشيعة كانوا على ملازمة الفريضة والنافلة على حدّ لا يقع من أحد منهم إخلال بها إلّا لعذر بعيد كمرض موت أو غيره ، وإذا اتّفق فوات الفريضة بادروا إلى فعلها ؛ لأن أكثر قدمائهم على المضايقة المحضة فلم ، يفتقروا إلى هذه المسألة واكتفوا بذكر قضاء الولي لما فات الميّت من ذلك على طريق النذور.

ويعرف هذا الدعاوى من طالع كتب الحديث والفقه وسير السلف معرفة لا يرتاب فيها ، فخلف من بعدهم خلف تطرّق إليهم التقصير واستولى عليهم فتور الهمم ، حتى آل الحال إلى أنه لا يوجد من يقوم لكمال السنن إلّا أوحدهم ، ولا يبادر بقضاء الفائت إلّا أقلّهم ، فاحتاجوا إلى استدراك ذلك بعد الموت ، لظنهم عجز الوليّ عن القيام به ، فوجب ردّ ذلك إلى [الاصول] (٢) المقرّرة والقواعد الممهّدة ، وفيما ذكرناه كفاية) (٣) انتهى ، وهو جيّد متين.

واعترضه الفاضل المولى محمّد باقر الخراساني في (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد) حيث قال بعد نقله : (قلت : ملخّص ما ذكره الشهيد رحمه‌الله أن الحكم بجواز الاستيجار للميّت مبني على الإجماع على أن كل أمر مباح يمكن أن يقع مستأجرا يجوز الاستيجار فيه. وقد نبهت مرارا بأن إثبات الإجماع في زمن الغيبة في غاية الإشكال خصوصا في مثل هذه المسألة التي لم تشتهر في سالف الأعصار ، وخلت عنها مصنفات القدماء والعظماء.

__________________

(١) من هنا إلى قوله : على ذلك من غير ، الآتي في الصفحة : ٩٩ ، سقط مقداره صفحتان في مصورة «ق».

(٢) من المصدر ، وفي «ح» : اصول.

(٣) ذكرى الشيعة ٢ : ٧٧ ـ ٧٩.

٩٥

ثم إن قوله : (على أن هذا النوع قد انعقد عليه الإجماع) يدلّ على أنه زعم انعقاد الإجماع عليه في زمان السيّد وما قاربه.

ولا يخفى أن دعوى [انعقاد] الإجماع بالمعنى المعروف بين الشيعة في مثل تلك الأزمان بيّن التعسّف واضح الجزاف. ثمّ ما ذكره في تعليل عدم اشتهار هذا [الحكم] (١) بين السلف لا يخلو عن تكلّف ؛ فإن ما ذكره من ملازمة الشيعة على مداومة الصلوات وحفظ حدودها والاستباق والمسارعة إلى قضاء فوائتها على تقدير تمامها إنما يجري في العلماء وأهل التقوى منهم لا عوامّهم ، وأدانيهم ، وعموم السفلة والجهلة منهم. ويكفي ذلك داعيا للافتقار إلى هذه المسألة والفتوى بها واشتهار العمل لو كان لها أصل.

وبالجملة ، للنظر في هذه المسألة وجه تدبّر) (٢) انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه ؛ فإنه ظاهر البطلان غنيّ عند التأمّل عن البيان :

أمّا أوّلا ، فلأن قوله : (قلت : ملخص ما ذكره الشهيد ـ إلى قوله ـ : الفقهاء والعظماء) مردود :

أولا : بأن هذا الإجماع الذي ادّعاه الشهيد وادّعى به صحّة الاستيجار في كل الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر عنه إن كان المناقشة فيه إنما هو بالنسبة إلى الصلاة والصوم فهذا ممّا لا معنى له عند المحصّل ؛ لأنه متى سلم تلك القاعدة الكلّيّة فعليه في الاستثناء ما ذكره الدليل ، وإن كان بالنسبة إلى جميع أفراد تلك الكليّة ، فالواجب عليه طلب الدليل في كل فرد فرد من أفراد الإجارات ، وألّا يجوّز الإجارة في عمل من الأعمال ولا فعل من الأفعال إلّا

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» : الكلام.

(٢) ذخيرة المعاد : ٣٨٧.

٩٦

بنص ناصّ بذلك العمل والفعل يدلّ على جواز الإجارة بخصوصه وإلّا فلا.

ولا أراه يلتزمه ، بل لو انفتح هذا الباب لأدّى إلى اطّراده في جميع أبواب المعاملات من البيوع والمصالحات والسلم والمساقاة ونحو ذلك فيشترط في كلّ فرد فرد ممّا يجري فيه أحد هذه العقود ورود نصّ فيه ، وإلّا فلا يجوز أن يدخله البيع ونحوه من تلك المعاملات ؛ إذ العلة واحدة في الجميع ، والمناقشة تجري في الكلّ مع أنه لا يرتاب هو ولا غيره. على أن المدار في جميع المعاملات إنما هو على ما يدخل به ذلك الفرد الذي يراد إجراء تلك المعاملة عليه في جملة أفرادها الشائعة ، وينتظم به في جملة جزئياتها الذائعة إلّا أن يقوم على البيع منه دليل من خارج.

وهذه قاعدة كليّة في جميع المعاملات ، فإن سلّمها وقال بها لزمه إجراء ذلك في محل النزاع ؛ فإنه أحد أفرادها إلّا أن يأتي بدليل على إخراجه ، وإن منعها ـ ولا أراه يقوله ـ فهو محجوج بما ذكرنا ، وأنّى له بالمخرج! وثانيا : بأن الشهيد رضي‌الله‌عنه لم يستند هنا إلى مجرّد الإجماع وإنما استند أوّلا إلى عموم ما دلّ على الإجارة في الأعمال المباحة ، ثم أردفه باتّفاق الإماميّة ؛ لأنه قال : (وهذه المقدّمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة ـ أي عموم أدلّة الاستيجار ـ بمعنى أن دليلها عموم الأدلّة الدالّة على الاستيجار على الأعمال المباحة). ثم قال : (ولا يخالف فيها أحد من الإماميّة) إلى آخره.

فاستند أوّلا إلى عموم الادلّة وثانيا إلى الإجماع ، وهذا هو الواقع والجاري في جميع المعاملات من إجارة وغيرها. فالمدّعي لإخراج فرد من أفراد بعض تلك القواعد عليه إقامة الدليل.

ومن الأخبار الدالّة على هذه القاعدة بالنسبة إلى الإجارة ما رواه الحسين بن شعبة في كتاب (تحف العقول) عن الصادق عليه‌السلام في وجوه المعايش قال : «وأمّا

٩٧

تفسير الإجارات ، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات ، أو يؤجر نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع ، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه أو أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي».

إلى أن قال : «وكلّ من آجر نفسه أو آجر ما يملك أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرناه ممّا يجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله وكسبه» (١) انتهى.

قال بعض المحدّثين من أفاضل متأخّري المتأخّرين بعد نقل هذا الحديث : (أقول : فيه دلالة على جواز إجارة الإنسان من يلي أمره من قرابته وأن يوجر نفسه للعمل للعبادات).

إلى أن قال : (وبالجملة ، المستفاد منها جواز أن يستأجر لكل عمل وأن يؤجر نفسه من كل أحد لكل عمل إلا ما أخرجه الدليل) انتهى.

وأمّا قوله : (ثم إن قوله على أن هذا النوع) ـ إلى آخره ـ فهو في محلّه ، إلّا إنه لا يضرّ بما قلناه ، فإن المطلوب يتم بما قدمناه وأحكمناه. وأمّا ثانيا فلأن قوله : (ثم ما ذكره في تعليل عدم اشتهار هذا الحكم) ـ إلى آخره ـ سقيم عليل لا يبرد الغليل ، وكلام شيخنا الشهيد قدس‌سره هنا حقّ لا ريب فيه ، وصدق لا شبهة تعتريه ؛ فإن ما ذكره قدس‌سره من [أن] الاستيجار على الصلاة والوصيّة بها إنما يترتب على ترك العلماء وأهل التقوى والعارفين بوجوب قضائها الخائفين من تبعاتها وخرابها لو كان يتركونها ، فإنّهم كانوا يوصون بها ، ولكنّهم لما كانوا يحافظون عليها في حال الحياة تمام المحافظة أداء وقضاء واجبا وسنّة لم يقع ذلك ولم يشتهر.

فأمّا اعتراضه بالجهلة والسفلة الّذين لا يبالون بالصلاة صحيحة كانت أو

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣٣ ـ ٣٣٥.

٩٨

باطلة في حياتهم أو بعد موتهم ، فغير وارد ؛ لأنهم ـ لما ذكرنا ـ يتركونها ويتهاونون بها ويموتون على ذلك من غير (١) فحص ولا وصيّة بقضائها لجهلهم وقلة مبالاتهم بالدين ، فكيف يكون ذلك حينئذ داعيا إلى الافتقار إلى هذه المسألة والفتوى بها واشتهار العمل بها. على أن مساق كلام شيخنا الشهيد إنما هو بالنسبة إلى شهرة الاستيجار على الصلاة وأنه لم لا اشتهر كاشتهار الاستيجار على الحج ، لا بالنسبة إلى الفتوى بهذه المسألة.

ويزيدك تأييدا لما ذكرنا ثمة تتمّة كلام شيخنا الشهيد وقوله : (فخلف بعدهم قوم تطرّق إليهم التقصير) (٢) ـ إلى آخره ـ ممّا يدلّ على أن اشتهار الوصيّة بالصلاة (٣) والاستيجار عليها في الوقت الأخير إنما كان لتهاون العلماء والعارفين بما يعلمون وجوبه عليهم وفتور هممهم عن القيام بالواجبات حقّ القيام فضلا عن السنن الموظّفة في ذلك المقام. فالكلام أوّلا وآخرا إنّما ترتب على العلماء والعارفين لا ما توهّمه من ضمّ السفلة والجاهلين.

وبالجملة ، فكلامه قدس‌سره ليس بموجّه يعتمد عليه ، وكلام شيخنا الشهيد أحرى بالرجوع إليه. وممّن ناقش في هذه المسألة أيضا المحدّث (٤) الكاشاني في كتاب (المفاتيح) ، حيث قال في آخر الخاتمة التي في الجنائز من الكتاب المذكور ـ بعد أن ذكر أنه يصل إلى الميّت ثواب الصلاة والصوم والصدقة والحجّ ـ ما صورته : (وأمّا العبادات الواجبة عليه ، التي فاتته فما شاب منها المال كالحج يجوز الاستيجار له ، كما يجوز التبرّع به عنه بالنص والإجماع. وأمّا البدني المحض كالصلاة والصيام ، ففي النصوص يقضيها عنه أولى الناس به (٥). وظاهرها

__________________

(١) إما لعدم الحاجة إليه في بعض الأحيان ، المار في الصفحة : ٩٥ .. ذلك من غير ، سقط مقداره صفحتان في مصوّرة «ق».

(٢) ذكرى الشيعة ٢ : ٧٨.

(٣) من «ح».

(٤) في «ح» بعدها : المحسن.

(٥) في «ح» : بهم.

٩٩

التعيّن عليه ، والأظهر جواز التبرع بها عنه من غيره أيضا. وهل يجوز الاستيجار لهما؟ المشهور نعم. وفيه تردّد ؛ لفقد نصّ فيه ، وعدم حجيّة القياس حتّى يقاس على الحجّ أو على التبرّع ، وعدم ثبوت الإجماع بسيطا ولا مركّبا ؛ إذ لم يثبت أن كل من قال بجواز العبادة للغير قال بجواز الاستيجار لها.

وكيف كان ، فلا يجب القيام بالعبادات البدنيّة المحضة له تبرّع ولا استيجار إلّا مع الوصيّة) (١) إلى آخر كلامه.

وقال في كتاب المعايش والمكاسب بعد كلام في المقام : (والذي يظهر لي أن ما يعتبر فيه التقرّب لا يجوز أخذ الاجرة عليه مطلقا لمنافاته الإخلاص ، فإن النيّة ـ كما مضى ـ : ما يبعث على الفعل دون ما يخطر بالبال.

نعم ، يجوز فيه الأخذ إن أعطى على وجه الاسترضاء أو الهديّة أو الارتزاق من بيت المال ونحو ذلك من غير تشارط ، وأمّا ما لا يعتبر فيه ذلك بل يكون الغرض منه صدور الفعل على أيّ وجه اتّفق ، فيجوز أخذ الاجرة عليه مع عدم الشرط فيما له صورة العبادة.

وأمّا جواز الاستيجار للحجّ مع كونه من القسم الأوّل فلأنه إنما يجب بعد الاستيجار. وفيه تغليب لجهة الماليّة ؛ فإنه إنما يأخذ المال ليصرفه في الطريق حتّى يتمكن من الحجّ ، ولا فرق في صرف المال في الطريق بأن يصدر من صاحب المال أو نائبه. ثم إن النائب إذا وصل إلى مكّة وتمكّن من الحجّ أمكنه التقرّب به ، كما لو لم يكن أخذ اجرة فهو كالمتطوّع. أو نقول : إن ذلك أيضا على سبيل الاسترضاء للتبرع ، أمّا الصلاة والصوم فلم يثبت جواز الاستيجار لهما) (٢) انتهى. وفيه نظر من وجوه :

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٧٦ / المفتاح : ٦٣٤.

(٢) مفاتيح الشرائع ٣ : ١٢ / المفتاح : ٨٥٦.

١٠٠