الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

كثيرة فأشفقوا منها خوفا شديدا ، فجاء آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فأنزل الله عزوجل عليهم العذاب ، ثمّ قال تبارك وتعالى : خافوني واجترأتم عليّ» (١) انتهى.

انظر كيف قاس عليه‌السلام كفالة الأموال بكفالة الأنام) انتهى كلامه علا في الخلد مقامه.

أقول : ما ذكره قدس‌سره في معنى الخبر الذي نقله جيّد إلّا إنه لم يأت على الإشكال الذي في الباب ، ويمكن أن يقال ـ والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال ـ : إنه لما كان الصيرفي كما يطلق على صيرفي النقود وكذلك يطلق على صيرفي الكلام بالزيادة والتحسين لتحصيل مطلب منه ، قال في (النهاية) الأثيرية : (في حديث موسى (٢) الخولاني : (من طلب صرف الحديث يبتغي به (٣) إقبال وجوه الناس إليه) [أراد بصرف] (٤) الحديث : ما يتكلّفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة.

وإنما كره ذلك ، لما يدخله من الرياء والتصنّع).

ثم قال : (يقال : فلان لا يحسن صرف الكلام ، أي فضل بعضه على بعض ، وهو من صرف الدراهم وتفاضلها) (٥) انتهى.

وقال في (القاموس) : (وصرف الحديث أن يزاد فيه ويحسّن ، من الصرف في الدراهم ، وهو فضل بعضه على بعض في القيمة ، وكذلك صرف الكلام) (٦) انتهى.

وأهل الكهف كانوا صيارفة بالمعنى الثاني يعني جهابذة نقادا يفصلون بين هرج الكلام وصحيحه ، ويميّزون بين خطئه وصوابه. فالواجب أن يقال هنا : إنه إذا كان الأمر كذلك ، فكيف يتّجه ذمّ صيارفة الدراهم والإزراء بهم مطلقا إلى الحدّ

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٠٣ ـ ١٠٤ / ١.

(٢) في المصدر ، أبي إدريس ، بدل : موسى.

(٣) من «ح» والمصدر.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : أن صرف.

(٥) النهاية في غريب الحديث والأثر ٣ : ٢٤ ـ صرف.

(٦) القاموس المحيط ٣ : ٢٣٥ ـ الصرف.

٢٠١

الذي ذكره الحسن البصري؟ إذ المدح والذم والثواب والعقاب لا تناط بمجرّد الإطلاقات اللفظية من حيث هي وإنما تناط بالمعاني ، ولا شبهة في أن الفصل بين الصحيح والردي‌ء في الجملة من حيث هو فصل وتميّز ليس بمحرّم ولا مكروه ، وإنما الحرام أو المكروه فصل خاص يقع من بعض الصيارفة.

ويقرب من هذا الكلام ما ذكره بعض الأعلام في هذا المقام حيث قال : (حاصل الاستشهاد أنه ليس في لفظ الصيرفي ولا في معناه ما يوجب مقالة الحسن البصري ، لتحققها في أهل الكهف وغيرهم من الصلحاء ؛ أما اللفظ فظاهر ، وأمّا في المعنى ، فلأن معنى [الصيرف] (١) هو المحتال المتصرّف في الامور على ما صرّح به أهل اللغة (٢) ، وذلك مشترك بين أصحاب الكهف باعتبار تصرّفهم في الكلام وتمييز الصحيح منه من الفاسد واختيار الصحيح للعمل ، وصيارفة الدراهم باعتبار تصرفهم (٣) في الدنانير والدراهم وتبديلها وتميزهم بين الجيّد والزيف.

وإذا كان النقد ممّا لم ينه الشارع كما نبّه عليه عليه‌السلام بقوله : «خذ سواء وأعط سواء» ، كان كتصرف أصحاب الكهف في الكلام ، فلا قصور في الصيرفي من حيث هو صيرفي ولا من حيث هو صيرفي دراهم ، بل القصور لو كان في تصرفه الخاص) انتهى.

وبالجملة ، فإن لفظ الصيارفة لمّا كان واقعا على كل من المعنيين المتقدّمين ، والمدح والذمّ لا [يناطان] (٤) بمجرّد الإطلاق ، بل بالمعاني المرادة من تلك الألفاظ ، فكل ما يترتّب على صيارفة الدراهم من مدح وذمّ باعتبار الوقوف على

__________________

(١) من الصحاح ، وفي النسختين : الصرف ، وفي مجمع البحرين : الصيرفي.

(٢) الصحاح ٤ : ١٣٨٦ ـ صرف ، مجمع البحرين ٥ : ٨٠ ـ صرف.

(٣) الدراهم باعتبار تصرفهم ، سقط في «ح».

(٤) في النسختين : يناط.

٢٠٢

قواعد الشريعة والخروج عنها يترتّب على صيارفة الكلام بالاعتبار المذكور. ألا ترى أنه عليه‌السلام في خبر الكفالة المشار إليه آنفا قد أجرى كفالة النفوس مجرى كفالة الذنوب من حيث اشتراكهما في المعنى المترتب على ذمّ ذلك ، فاستشهد على ذمّ كفالة النفوس بحديث كفالة الذنوب ، كذلك استشهد هنا على ذمّ صيرفي الدراهم بكون أهل الكهف (١) صيارفة لعين ما ذكر؟ والله العالم.

__________________

(١) في «ح» بعدها : كانوا.

٢٠٣
٢٠٤

(٥٤)

درّة نجفيّة

في عقد الولي بالصغير أو الصغيرة

لو عقد الأب بابنته الصغيرة متعة لأجل أن يكون الزوج محرما ، يحلّ له النظر إلى امها وجدّتها ، وكذا لو عقد بابنه الصغير على امرأة بالغة لأجل أن يحلّ للأب نظرها ، فهل يكون ذلك عقدا صحيحا يترتّب عليه ما يترتب على العقود الصحيحة أم لا؟ لم أقف في ذلك على تصريح في كلام أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ إلّا إن من أدركناه من شيوخنا وأساتيذنا وغيرهم من الفضلاء الأعلام وأرباب النقض والإبرام على الأوّل ، وقد كان شيخنا علّامة الزمان ونادرة الأوان الشيخ سليمان ابن عبد الله البحراني قدس‌سره لمّا أراد إرسال بعض أزواجه إلى حجّ بيت الله الحرام عقد بابنته وهي طفلة على رجل يسمى الحاج سبت ؛ لأجل خدمة الزوجة المذكورة وحصول المحرمية.

ولم أسمع ما يخالف ذلك في مدّة تلك الأزمان في مدّة تقرب من أربعين سنة ، حتّى توطّنت برهة من الزمان في شيراز من ولاية العجم ، فسمعت جملة من الطلبة يخوضون في هذه المسألة ، ويسألون عن جواز حلّ النظر في المسألة المذكورة ، وينقلون عن بعض علمائهم التوقّف في حل النظر وإن كان العقد صحيحا ؛ استنادا إلى أن الآية الدالّة على ما يحلّ إبداؤه للمرأة للمحارم ـ وهي

٢٠٥

قوله عزوجل (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ) (١) الآية لم يذكر فيها هذا الفرد ، وحينئذ فلا يجوز النظر في الصورة المذكورة.

ثمّ بعد توطّني في العراق في مشهد مولانا الحسين ـ عليه وعلى آبائه المعصومين وأبنائه الطاهرين أفضل الصلوات والتسليمات ـ سمعت أن هذه الشبهة سرت إلى أذهان بعض علماء العرب أيضا ؛ للآية المذكورة. ثمّ سمعت أن بعض الفضلاء المعاصرين ذهب إلى بطلان العقد من أصله (٢) ، مستندا إلى أن المستفاد من الشرع العقود بالقصود ، ومن المعلوم أن العقد المذكور لم يقصد به نوع استمتاع من الزوج أو الزوجة ، دائما كان أو منقطعا ، وليس الغرض من النكاح الشرعي إلّا هذه الفائدة ، ومتى لم تكن هذه الفائدة مقصودة مطلقا لم يقع العقد صحيحا ، ومتى حكم ببطلان العقد بطل ما يترتّب عليه من الأحكام.

وقد أخبرني بعض الإخوان أنه سأله عن هذه المسألة ، حيث إنه يريد العقد بابنته متعة على رجل لأجل المحرميّة على جدّتها ، فأجابه بأنّه لو أتاك هذا الزوج وابنتك بالغة هل كنت تزوّجها به متعة؟ فقال : لا. فقال : إذن يكون عقدك بها في هذه الصورة باطلا.

هذا ، وقد وقفت على حاشية لشيخنا المحقّق الثاني قدس‌سره على (الإرشاد) ، وقد صرّح فيها أيضا ببطلان العقد ، إلّا إنّه علّل ذلك بعدم حصول المصلحة للزوجة في الصورة الاولى المتقدّمة ، أو الزوج في الصورة الثانية ، وتصرّف الولي منوط بالمصلحة والغبطة للطفل.

وهذه عبارته ، حيث قال العلّامة في الكتاب المشار إليه : (وللولي الإنكاح متعة) (٣) ، فكتب في الحاشية ما صورته : (بشرط أن يكون للمولّى عليها مصلحة ،

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) من أصله ، سقط في «ح».

(٣) إرشاد الأذهان ٢ : ١٠.

٢٠٦

وأن تكون هي المقصودة (١) لها فيه ، فلو لم تكن هي المقصودة للمولّى عليها لم يصحّ ، فلو عقد على صغيرة بقصد إباحة النظر إلى أمّها ولم يكن لها فيه مصلحة لم يصحّ العقد ، ولم يبح النظر ، ولا تحرم به أم المعقود عليها. وكذا باقي الأحكام) انتهى.

ولا بدّ من تحقيق هذه المسألة في هذه الدرة وبيان بطلان الأقوال الثلاثة ؛ ليتضح بذلك صحّة ما قدّمناه وقوّة ما قويناه ؛ وحينئذ فالبحث في ذلك يقع في مقامات ثلاثة :

الأوّل : في بيان بطلان القول الأوّل من الأقوال الثلاثة المذكورة ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أن ما استندوا إليه من الآية المذكورة مردود بأن الآية لم تستوف جميع المحارم المتّفق عليها نصّا وفتوى ، مثل الأعمام والأخوال ، فكيف يتمّ الاعتراض بها من حيث عدم ذكر هذا الفرد فيها؟

ولا يخفى على من أحاط خبرا بالآيات القرآنية في أمثال هذا المقام أنها لم تستوف جملة الأفراد والأحكام ، كما في قوله عزوجل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٢) الآية ، فإن الخارج عن هذه الآية من المحرّمات المذكورة في السنّة وعليها الاتفاق ما هو أكثر ، وذلك قوله عزوجل (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) (٣) الآية ، وقوله تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٤) ، فإن المحرّمات في السنّة أضعاف ما ذكر في

__________________

(١) في «ح» بعدها : لما فيه.

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) الأنعام : ١٤٥.

(٤) البقرة : ١٧٣.

٢٠٧

هاتين الآيتين. والظاهر حمل الحصر في الآيتين المذكورتين على الحصر الإضافي.

وبالجملة ، فالواجب الرجوع في تحقيق الأحكام ـ كما هو حقّها ـ إلى السنّة المطهّرة ؛ لما علم أن آيات (الكتاب) العزيز لا تخلو عن إجمال ، أو إطلاق ، أو تشابه ، أو نسخ ، أو نحو ذلك.

نعم ، إذا اقترن معنى الآية بتفسير منهم عليهم‌السلام تعيّن العمل بها ، وحينئذ فتحمل الآية التي نحن فيها على مجرّد التمثيل دون الحصر.

وثانيهما : أن المستفاد من الأخبار ـ على وجه لا يداخله الريب والإنكار ـ المدار في حلّ النظر واللمس على المحرميّة ، فمتى حصلت ترتبت عليها الأحكام المذكورة. فمن ذلك ما رواه في (الكافي) ، بسنده عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم تكن محرما؟ قال : «الوجه والكفّان [والقدمان]» (١). دلّت الرواية بمفهوم الشرط ـ الذي هو حجّة عند المحقّقين (٢) ، وعليه دلّت الأخبار (٣) أيضا كما أوضحناه في محلّ أليق ـ أنه إذا كان محرما حل له ما زاد على المذكور في الخبر.

وما رواه في الكتاب المذكور أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟ قال : «لا ، إلّا من وراء الثوب» (٤).

وما رواه فيه أيضا عن سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٢١ / ٢ ، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة.

(٢) تمهيد القواعد : ١١٠ ، هداية الأبرار : ٢٩٥.

(٣) تهذيب الأحكام ٩ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٢٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٤ ، أبواب الذبائح ، ب ١٢ ، ح ١.

(٤) الكافي ٥ : ٥٢٥ / ٢ ، باب مصافحة النساء.

٢٠٨

مصافحة الرجل المرأة؟ قال : «لا يحلّ للرّجل أن يصافح المرأة إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها اخت أو بنت أو عمّة أو خالة أو نحوها ، وأمّا المرأة التي يحلّ له أن يتزوّجها فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب ، ولا يغمز كفّها» (١).

ولا يخفى ما في هذا الخبر من الصراحة في المدّعى ، وأنه لا يحلّ للرجل أن يصافح إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها ، وأمّ الزوجة كذلك اتّفاقا. وجواز المصافحة موجب لجواز النظر البتّة ؛ إذ العلّة واحدة ، ولأن النظر قد رخّص فيه للأجانب في مواضع عديدة (٢) ، بخلاف اللمس ، فهو أولى بالجواز حينئذ.

وما رواه فيه عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الجارية التي لم تدرك ، متى ينبغي لها أن تغطّي رأسها ممّن ليس بينها وبينه محرم ، ومتى يجب أن تقنّع رأسها للصلاة؟ قال : «لا تغطّي رأسها حتّى تجب (٣) عليها الصلاة» (٤). ورواه الصدوق في كتاب (العلل) (٥) بسند صحيح.

وروى الصدوق في كتاب (عقاب الأعمال) قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اشتدّ غضب الله على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها ، فإنّها إن فعلت ذلك أحبط الله كلّ عمل عملته» (٦) الحديث.

وروى أيضا في كتاب (الخصال) في حديث طويل عن الباقر عليه‌السلام قال : «ولا يجوز للمرأة أن تصافح غير ذي محرم إلّا من وراء ثيابها» (٧) الحديث.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٢٥ / ١ ، باب مصافحة النساء ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٠٨ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١١٠ ، ح ٢.

(٢) انظر وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ب ١١٢ ـ ١١٣.

(٣) في المصدر : تحرم.

(٤) الكافي ٥ : ٥٣٣ / ٢ ، باب متى يجب على الجارية القناع.

(٥) علل الشرائع ٢ : ٢٨٧ / ب ٣٦٥ ، ح ٢.

(٦) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٣٣٨.

(٧) الخصال ٢ : ٥٨٨ / ١٢ ، أبواب السبعين وما فوقه ، وفيه : ثوبها ، بدل : ثيابها.

٢٠٩

إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبّع ، وكلّها كما ترى ـ ظاهرة الدلالة واضحة المقالة على أن مناط الحلّ والحرمة في النظر واللمس للمرأة دائر مدار المحرميّة وعدمها ، فكلّ من حرم نكاحها حلّ نظرها ولمسها ، ومن حلّ نكاحها حرم ذلك منها.

فإن قيل : إن هنا جملة ممّن يحرم نكاحهنّ يحرم النظر إليهن ويحرم لمسهنّ ، كالمطلّقة تسعا ، والمتزوّج بها في العدّة مع الدخول ، وأمّ الملوط به وابنته واخته؟

قلت : المراد بالمحارم في هذه الأخبار ونحوها هو من حرم نكاحها بنسب أو مصاهرة أو رضاع ، كما يشير إليه بعض ألفاظها ، وبذلك صرّح الأصحاب من غير خلاف يعرف ، ذكروا ذلك في باب تغسيل الميّت وفي باب من يجوز النظر إليه ، كما صرّح به السيّد السند صاحب (المدارك) في شرح (الشرائع) (١) ـ بعد قول المصنّف في بيان من يجوز النظر إليه : (وإلى المحارم ما عدا العورة) (٢) ـ حيث قال قدس‌سره ما لفظه : (المراد بالمحارم من حرم نكاحه مؤبّدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة) (٣) إلى آخر كلامه.

ويؤيّده أيضا ما صرّح به جملة من المحقّقين من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنّما تحمل على الأفراد الشائعة (٤) المتكررة ؛ وهي التي ينصرف إليها الإطلاق ، دون الفروض الشاذّة النادرة الوقوع.

المقام الثاني : في الكلام على ما ذكره ذلك الفاضل المعاصر مدّ في بقائه.

وذلك من وجهين :

أحدهما : أن ما ادّعاه من أن العقود بالقصود إن اريد به أنه لا بدّ من القصد إلى

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : النافع.

(٢) شرائع الإسلام ٢ : ٢١٣.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٦٥ ، وقد أورده في باب تغسيل الميّت عند قول المصنّف : ويغسل الرجل محارمه.

(٤) في «ح» بعدها : الذائعة.

٢١٠

ما يوجبه العقد ولو في الجملة فهو مسلّم ، وما نحن فيه كذلك ، فإن كلّا من الولي والزوج في إحدى الصورتين المتقدّمتين أو الزوجة في الصورة الاخرى قد قصد إلى ما يوجبه العقد ، ممّا يصحّ ترتّبه عليه يومئذ ؛ وليس يومئذ إلّا مجرّد المحرميّة.

وإن اريد به القصد إلى جميع ما يترتّب على العقد فهو ممنوع ، وإثباته يحتاج إلى دليل ، سيّما أن سند المنع موجود ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. مع أنه منقوض بما لو قصد المتزوّج بالمرأة غرضا آخر غير النكاح وما يترتّب عليه ، أو المرأة كذلك ، كما لو تزوّج رجل بامرأة مسنّة ليست في محلّ النكاح بالكلّية ؛ للتوصّل إلى أخذ مالها مثلا والاستيلاء عليه ، ولم يقصد إلى نكاحها بالمرّة. وكما لو تمتّع بامرأة لأجل الخدمة وحلّ النظر من غير أن يقصد إلى نكاح ولا استمتاع بالكلّيّة ، وكما لو عقدت المرأة بنفسها على رجل لأجل الخدمة في السفر والمحرميّة من غير قصد النكاح وما يترتّب عليه ؛ فإنه لا إشكال في صحّة هذه العقود.

وبالجملة ، فإنه يكفي في ذلك مجرّد صلوحية العقد لانطباقه والجري على النكاح وإن لم يقصد به النكاح.

وثانيهما : أنّ الظاهر من جملة من الأخبار ـ على وجه لا يعتريه الإشكال في هذا المضمار ـ هو بطلان هذه القاعدة ، وأنّها غير مطّردة في كلّ مقام.

فمن ذلك الأخبار الدالّة على الحيلة في التخلّص من الربا ، ومنها ما رواه في (الكافي) ، عن محمّد بن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن سلسبيل طلبت منّي مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف درهم ، فاقرضها تسعين

٢١١

ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا (١) تقوّم عليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم؟ قال : «لا بأس» (٢).

وما رواه في (الكافي) (٣) و (التهذيب) (٤) عن محمّد بن إسحاق بن عمّار أيضا قال : قلت للرّضا عليه‌السلام : الرجل يكون له المال قد حلّ على صاحبه ، يبيعه لؤلؤة تسوي مائة درهم بألف درهم ويؤخّر عليه المال إلى وقت؟ قال : «لا بأس ، قد أمرني أبي عليه‌السلام ففعلت ذلك». وزعم أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عنها فقال له مثل ذلك.

وروى المشايخ الثلاثة في الكتب الثلاثة في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألته عليه‌السلام عن الصرف ـ إلى أن قال ـ : فقلت له : اشتري ألف درهم ودينار بألفي درهم؟ قال : «لا بأس ، إن أبي كان أجرى على أهل المدينة منّي وكان يقول هذا ، فيقولون : إنّما هذا الفرار ، ولو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار. وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال» (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في ذلك. والتقريب فيها أنهم عليهم‌السلام (٦) حكموا بصحّة بيع هذه الأشياء المذكورة بأضعاف ثمنها الواقعي ؛ توصّلا إلى الخروج عن الوقوع في الربا. وأصل البيع هنا غير مقصود البتّة وإنّما المقصود ما ذكرناه ، وبه يظهر أنه لا يشترط قصد جميع ما يترتّب على العقد. وربّما نقل عن هذا الفاضل أيضا عدم جواز ذلك ، وما هو إلّا اجتهاد محض في مقابلة النصوص التي لا خلاف بين الأصحاب في العمل بمقتضاها.

__________________

(١) في المصدر : وشيّا ، بدل : أو شيئا.

(٢) الكافي ٥ : ٢٠٥ / ٩ ، باب العينة.

(٣) الكافي ٥ : ٢٠٥ / ١٠ ، باب العينة.

(٤) تهذيب الأحكام ٧ : ٥٣ / ٢٢٨.

(٥) الكافي ٥ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ / ٩ ، باب الصروف ، الفقيه ٣ : ١٨٥ / ٨٣٤ ، تهذيب الأحكام ٧ : ١٠٤ / ٤٤٥.

(٦) في «ح» بعدها : قد.

٢١٢

ومنها الأخبار الدالّة على صحّة بيع الآبق مع الضميمة وإن كانت يسيرة (١) ، والثمار قبل ظهورها أو بلوغ حدّ الصلاح مع الضميمة أيضا (٢) ، فلو لم يوجد الآبق ولم تخرج الثمار ، أو خرجت وفسدت كان الثمن في مقابلة الضميمة ، مع أن تلك الأثمان أضعاف ثمن هذه الضميمة واقعا. وقد حكموا عليهم‌السلام بصحّة البيع فيها بهذا الثمن وإن كان الغرض من ضمّها (٣) إنما هو التوصّل إلى صحّة بيع تلك الأشياء.

ومنها الأخبار الدالّة على أن العقد المقترن بالشرط الفاسد صحيح وإن بطل الشرط (٤). وجمهور الأصحاب (٥) ـ رضوان الله عليهم ـ بناء على هذه القاعدة حكموا ببطلان العقد من أصله ؛ قالوا : لأن المقصود بالعقد هو المجموع ، وأصل العقد مجرّدا عن الشرط غير مقصود فيكون باطلا ؛ لأن العقود تابعة للقصود ، فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود. هذا كلامهم ، إلّا إن الأخبار تردّه.

فمن ذلك صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في الرجل يتزوّج المرأة بمهر إلى أجل مسمّى : «فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمّى فهي امرأته ، وإن لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم عليه حين أنكحوه». فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم (٦).

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٩٤ / ٩ ، باب بيع العدد .. ، تهذيب الأحكام ٧ : ١٢٤ / ٥٤٠ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٣٥٣ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، ب ١١.

(٢) انظر وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، أبواب بيع الثمار ، ب ٣.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : وضعها.

(٤) وإن بطل الشرط ، من «ح».

(٥) مختلف الشيعة ٥ : ٣٢١ / المسألة : ٢٩٥.

(٦) الكافي ٥ : ٤٠٢ / ١ ، باب الشرط في النكاح .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ٢٦٥ ، أبواب المهور ، ب ١٠ ، ح ٢.

٢١٣

ومثلها صحيحته الاخرى (١) وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في بريرة ، وأنّها كانت مملوكة لقوم فباعوها عائشة واشترطوا أن لهم ولاءها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولاء لمن أعتق» (٢).

وما رواه الكليني قدس‌سره بسنده (٣) عن الوشّاء عن الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «لو أن رجلا تزوّج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف ، كان المهر جائزا والذي جعل لأبيها فاسدا» (٤).

وقال السيّد السند صاحب (المدارك) في شرح (الشرائع) (٥) ـ بعد ذكره هذه الرواية ، وهو ممّن اعتمد العمل على هذه القاعدة أيّ اعتماد حتّى كاد أن يردّ صحيحتي محمّد بن قيس المذكورتين ، إلّا إنه بعد ذلك جعلهما (٦) في حكم رواية واحدة وخصّها بموردها ـ ما صورته : (ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد) (٧) انتهى.

ومنها ما دلّ على أن عقد المتعة مع عدم ذكر الأجل فيه ينقلب دائما ، كما في موثّقة عبد الله بن بكير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن سمّي الأجل فهو متعة ، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات» (٨).

ورواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها : قلت : إنّي أستحيي أن اذكر

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٣٧٠ / ١٥٠٠.

(٢) الكافي ٥ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ / ١ ، باب الأمة تكون تحت المملوك .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ١٦١ ـ ١٦٢ ، أبواب نكاح العبيد ، ب ٥٢ ، ح ٢.

(٣) من «ح».

(٤) الكافي ٥ : ٣٨٤ / ١ ، باب الرجل يتزوّج المرأة بمهر معلوم ..

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : النافع.

(٦) من «ح» ، وفي «ع» : جعلها.

(٧) نهاية المرام ١ : ٣٦٩.

(٨) الكافي ٥ : ٤٥٦ / ١ ، باب في أنه يحتاج أن يعيد الشرط .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٧ ، أبواب المتعة ، ب ٢٠ ، ح ١.

٢١٤

شرط الأيّام. قال : «هو أضرّ عليك». قلت : وكيف ذلك؟ قال : «إنّك إن لم تشترط كان تزويج مقام ، ولزمتك النفقة في العدّة ، وكانت وارثة ، ولم تقدر على (١) أن تطلّقها إلّا طلاق السنّة» (٢).

ومثل ذلك رواية هشام بن سالم (٣).

وبمضمون هذه الأخبار قال جمهور الأصحاب (٤). وقيل بالبطلان مطلقا (٥) ، وقيل أيضا غير ذلك (٦) ، كما هو مفصّل في محلّه.

وقد استشكل جملة من متأخّري المتأخّرين بناء على القاعدة المذكورة في العمل بهذه الأخبار ، وهو مجرّد استبعاد عقلي في مقابلة النصوص ، فإن الحكم ليس مختصّا بهذه الأخبار ، فإن جملة ما تلوناه من الأخبار في هذا المقام كلّه صريح في ردّ هذه القاعدة ، وبمضمونها قال الأصحاب.

فلا وجه لهذه المناقشة ؛ إذ لا مستند لهذه القاعدة إلّا مجرّد العقل ، والأحكام الشرعيّة توقيفيّة تدور مدار الأدلّة وجودا وعدما وإن اشتهر بينهم ـ رضوان الله عليهم ـ تقديم الأدلّة العقلية على النقليّة ، حتّى إنهم في جملة من الأحكام الفقهيّة إنما يبدءون في الاستدلال بدليل عقلي ، ثم يردفونه بالأدلّة النقلية ، إلّا إنه غلط محض كما أوضحناه ـ بما لا مزيد عليه ـ في بعض درر هذا الكتاب.

__________________

(١) من «ح».

(٢) الكافي ٥ : ٤٥٥ / ٣ ، باب شروط المتعة ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٧ ـ ٤٨ ، أبواب المتعة ، ب ٢٠ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٦٧ / ١١٥١ ، الاستبصار ٣ : ١٥٢ / ٥٥٦ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٨ ، أبواب المتعة ، ب ٢٠ ، ح ٣.

(٤) النهاية : ٤٨٩ ، الخلاف ٤ : ٣٤٠ / المسألة : ١١٩ ، الكافي في الفقه : ٢٩٨ ، المهذّب ٢ : ٢٤١.

(٥) مختلف الشيعة ٧ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ / المسألة : ١٥٥.

(٦) السرائر ٢ : ٥٥٠ ، ٦٢٠.

٢١٥

وبالجملة ، فإنه قد ظهر ممّا تلوناه من هذه الأخبار عدم البناء والاعتماد على هذه القاعدة ، إلّا أن تحمل على ما قدّمنا ذكره أوّلا من القصد ولو في الجملة ، وبه تنطبق على هذه الأخبار.

ولم أقف على من تنبّه لذلك إلّا المحدّث الكاشاني في كتابه (المفاتيح) ، حيث قال في خاتمته التي في بيان الحيل الشرعيّة ـ بعد ذكر بعض حيل الربا ـ ما هذا لفظه : (ولا يقدح فيه كون البيع غير مقصود بالذات ، والعقود بالقصود ؛ لأنه لا يشترط فيه قصد (١) جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته ، فإن شراء الدار للمؤاجرة والتكسب كاف في صحّته وإن كان له غايات اخر أقوى وأظهر كالسكنى) (٢) انتهى.

أقول : وبعين ما ذكره هذا المحدّث المذكور يأتي فيما نحن فيه ، فيقال بصحّة العقد باعتبار بعض الغايات المترتبة على ذلك العقد ؛ وهي المحرميّة التي ذكرناها ، ولا يتوقف صحّته على الجميع. وبذلك يظهر لك ضعف ما استند إليه الفاضل المشار إليه آنفا ، والله العالم.

المقام الثالث : في بيان بطلان ما ذهب إليه المحقّق المتقدّم ذكره.

أقول : لا يخفى أنه وإن صرّح بعضهم (٣) بأن تصرّفات الولي في الطفل وأمواله منوطة بالمصلحة والغبطة الراجعة إلى ذلك الطفل ، إلّا إني لم أقف لهذا الكلام على دليل يدلّ عليه بهذا العموم وإن كان في بعض الأخبار (٤) ما يشير إلى ذلك في بعض الأحكام ، إلّا إن فيها أيضا ما هو ظاهر في خلافه في بعض آخر كما

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) مفاتيح الشرائع ٣ : ٣٣٣ ، وفيه : تابعة للقصود ، بدل بالقصود.

(٣) النهاية : ٣٦٢ ، السرائر ٢ : ٢١٢ ، مختلف الشيعة ٥ : ٦٧ / المسألة : ٣٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٦١ ـ ٣٦٣ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، ب ١٥ و ١٦.

٢١٦

سيمرّ بك إن شاء الله تعالى.

ومن أظهر ما يدلّ على ما قلناه الأخبار المستفيضة الدالّة على صحّة تزويج الولي الصغير (١). وبيان الاس تدلان بها من وجهين :

أحدهما : أن ظاهر إطلاقها هو جواز التزويج مطلقا سواء كان هناك مصلحة أم لا ، وغاية ما ربّما يدّعى منها (٢) هو عدم الضرر والمفسدة ، أمّا اعتبار المصلحة فلا دليل عليه فيها ، وأيّ مصلحة للصغيرة أو الصغير في هذه الحال في هذا التزويج؟

فإن قيل : إن المصلحة وإن لم تكن الآن حاصلة إلّا إنه بعد البلوغ ـ باعتبار النكاح والدخول وما يترتب على ذلك ـ حاصلة.

قلت : لا يخفى أن الظاهر من المصلحة والغبطة المدّعاة في أمثال هذا المقام إنما هي عبارة عمّا يترجّح به الفعل أو الترك ؛ فهي عبارة عن الأمر المرجّح لأحد الجانبين على الآخر. ويقابلها بهذا المعنى المفسدة الموجبة للضرر ، أو مرجوحية الفعل أو الترك. فهاهنا أقسام ثلاثة :

أحدها : أن يزوّجها الولي للمصلحة ، كما إذا اتّفق الآن زوج لم يوجد مثله في كماله وصلاح أحواله ، أو بمهر كثير لا يوجد مثله في غير هذا الوقت ، أو نحو ذلك من الامور المرجّحة للفعل على عدمه. والمصلحة هنا ظاهرة.

الثاني أن يزوّجها بغير كف‌ء أو شارب خمر ، أو بمهر يسير جدّا ، أو نحو ذلك من الامور الموجبة لمرجوحيّة الفعل.

الثالث : أن يزوّجها لا باعتبار شي‌ء ممّا ذكر ، وهذا لا يوصف بكونه مصلحة ولا مفسدة ، بل هو متساوي الطرفين. ووجه المصلحة فيه غير ظاهرة ؛ لأن ذلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٧٥ ـ ٢٧٨ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ب ٦.

(٢) ليست في «ح».

٢١٧

يمكن من المرأة بعد بلوغها بأن تزوّج نفسها ممّن تشاء بما تشاء (١).

وبالجملة ، فإنه ليس هنا أمر يرجّح التزويج على عدمه ، والمصلحة ـ كما عرفت ـ عبارة عن الأمر المرجّح لأحد الطرفين. وبذلك يظهر لك صحّة ما ذكرناه من إطلاق الأخبار ، وتقييدها من خارج يحتاج إلى دليل ، وليس فليس.

وحينئذ ، فيتمّ ما ادّعيناه من صحّة العقد عليها متعة لأجل المحرميّة ، والعقد هنا متساوي الطرفين كما هو ظاهر إطلاق الأخبار المشار إليها ؛ إذ لا مصلحة لها فيه ، ولا ضرر عليها به.

وما استدركه المحقّق المذكور على عبارة العلّامة المتقدّمة من التقييد بالمصلحة ليس في محلّه ؛ إذ اعتبار المصلحة لا يختصّ بعقد المتعة ، بل يجري أيضا في الدائم ، مع أن إطلاق الأخبار ـ كما عرفت ـ لا يساعده ، بل يردّه. ولم يصرّح أحد منهم في مسألة عقد الولي على الصغيرين بهذا القيد بالكلّية ، بل لو صرّح به مصرّح فهو عار عن الدليل خصوصا وعموما.

الثاني : أن جملة من أخبار المسألة شامل بإطلاقه لما لو زوّجها الولي متعة ، كما صرّح به العلّامة في العبارة المتقدّم نقلها ، بل الظاهر أنه لا خلاف فيه.

وحينئذ ، فنقول : متى ثبت أن للولي أن يزوّج الصغيرة متعة ، والمتعة لا بدّ فيها من أجل معيّن ، فتخصيص الجواز بمدّة مخصوصة ـ كأن تكون إلى [ما] بعد البلوغ ـ يحتاج إلى دليل ، وإطلاق الأخبار أعمّ من ذلك.

نعم ، لو كان هناك دليل من خارج على ثبوت ما ادّعاه من توقّف التصرّف على المصلحة لأمكن تقييد هذه الأخبار في الموضعين بها ، إلّا إنه لا وجود له.

__________________

(١) قال شيخنا المفيد في (المقنعة) في البكر : (إذا كانت بين أبويها وكانت بالغة فلا بأس بالتمتع بها) إلى أن قال : (فإن كانت صبية فلا يجوز العقد عليها إلّا بإذن أبيها) انتهى. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

٢١٨

وها نحن ـ زيادة على ما ذكرنا ـ نتلو عليك مواضع من الأخبار المؤيّدة لما ادّعيناه من عدم اعتبار هذه المصلحة :

فمن ذلك ما ورد من أن للأب أن يطأ جارية ابنه الصغير بعد أن يقوّمها على نفسه (١). ووجه المصلحة في هذا التصرف غير ظاهر ، بل هو إلى المفسدة أقرب منه إلى المصلحة.

فإن قيل : لعلّ وجه المصلحة احتمال تطرّق الموت إلى الجارية ودخول النقص على الصغير ، بخلاف ما إذا كان ثمنها في ذمّة الأب مستقرّا.

قلنا : إنّه مع قطع النظر عن كون هذه علّة مستنبطة لا اعتماد عليها ، فهي معارضة باحتمال بقائها واحتياج الصغير بعد البلوغ أو قبله أيضا إليها ، وإمكان تطرّق التلف إلى ثمنها أيضا باعتبار إفلاس الأب أو موته ونحو ذلك.

وبالجملة ، فوجه المصلحة غير ظاهر كما لا يخفى.

ومنها الأخبار الدالة على جواز اقتراض مال اليتيم لمن كان في يده إذا كان وليّا مليّا (٢). وبذلك صرّح الأصحاب (٣) أيضا ، بل نقل عن جملة من المتأخّرين (٤) أنه يجوز للأب والجدّ الاقتراض وإن لم يكونا مليّين ، واشتراط الملاءة إنما هو في غيرهما من الأولياء.

ومن الظاهر أنه لا مصلحة للصغير هنا أيضا ، بل في اقتراض الأب والجدّ وإن كانا معسرين ما هو خلاف المصلحة ، ولهذا أن صاحب (المدارك) بعد أن نقل ذلك

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٨٦ / ١١٣٠ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٢٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٥ ، ح ٥.

(٢) انظر وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥٧ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٧٥.

(٣) شرائع الإسلام ٢ : ٩ ، مسالك الأفهام ٣ : ١٦٦ ، مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ١٣.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ٣٥٦ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ١٣ ، مدارك الأحكام ٥ : ١٩.

٢١٩

عنهم قال : (وهو مشكل) (١). والظاهر أنه إشارة إلى ما ذكرناه.

ومنها ما دلّ على أن للأب أن يحجّ من مال ابنه الصغير ، كما ورد في صحيحة سعيد بن يسار (٢). وبذلك قال الشيخان (٣) وأتباعهما (٤). وما تأوّله به بعضهم من أن ذلك على جهة القرض ينافيه التعليل الذي في آخر الخبر من قوله : «إن مال الولد لوالده (٥)». ومع تسليم القرض أيضا ـ كما تأوّلوا به الخبر ـ فوجه المصلحة للصغير غير حاصلة أيضا.

ومنها الأخبار المستفيضة الدالة على أن للولي أن يعفو عن بعض المهر ، بل كلّه ـ كما رواه العياشي (٦) في تفسيره (٧) ـ متى وقع الطلاق قبل الدخول ، فإنها شاملة بعمومها للصغيرة إذا زوّجها الولي بلا ريب ولا خلاف. ووجه المصلحة في ذلك غير ظاهر ، بل الظاهر إنّما هو المفسدة.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع ، والله العالم بحقائق أحكامه (٨).

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٥ : ١٩.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٤٥ / ٩٦٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٠ / ١٦٥.

(٣) المقنعة : ٦١٢ ، النهاية : ٢٠٤.

(٤) المهذّب ١ : ٣٤٩ ، نهاية الإحكام ٢ : ٥٣٣.

(٥) في المصدر : للوالد.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥ / ٤٠٦ ، ٤١٠ ، ٤١٢.

(٧) كما رواه العياشي في تفسيره ، متعلّق بالعفو عن المهر كلّه ؛ فإنه لم يوجد إلّا في روايات هذا الكتاب. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٨) بحقائق أحكامه ، ليس في «ح».

٢٢٠