الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

نعم ، ينبغي تقييده بأن يكون على وجه لا تتعدى الغسالة إلى سائر أجزاء البدن الطاهرة. وعبارتا (النهاية) (١) و (المختلف) (٢) صريحتا الدلالة على صحّة الطهارة على هذا الوجه. وما أفهمته عبارة (المبسوط) (٣) من صحّة الطهارة مع بقاء عين النجاسة ـ بأن يكون قد حصل الغسل في بعض أجزاء البدن بماء نجس ـ ممّا لا يمكن التزامه ؛ لما نقلناه من الإجماع على بطلان الطهارة بالماء النجس عمدا ، ودلالة الأخبار على ذلك.

وما ذكره ذلك الفاضل ـ المتقدم ذكره ـ في الاستدلال بالنسبة إلى الأمر الاوّل من أنّ الأمر بالاغتسال مطلق ، والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر (٤) ، فكلام مجمل ؛ فإنه إن أراد بذلك الإطلاق هو الحكم بصحة الغسل ـ أعمّ من أن يكون ذلك الماء المغتسل به طاهرا أو نجسا ـ فهو ظاهر البطلان ، وإن أراد غيره فهو خارج عن محل البحث ، فلا يجدي نفعا.

وهكذا قوله : (والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر) ، إن أراد به التقييد بطهارة المحل قبل الغسل فمسلّم (٥) ، ولكنّه ليس هو مراده ، وإن أراد به بعد الغسل ، بحيث يكون المحل بعد الغسل طاهرا من النجاسة الخبثية ، فهو ليس بخلاف الظاهر ، بل هو الظاهر كما عرفت.

وبالجملة ، فإنه متى قلنا بنجاسة القليل بالملاقاة ، وقلنا أيضا بنجاسة الغسالة ، فالحكم بصحة الغسل فيما إذا كانت النجاسة على البدن ولم تزل بماء الغسل ، أو زالت ولكن تعدّت نجاستها إلى سائر أجزاء البدن ، بعيد غاية البعد ؛ لوقوع الغسل حينئذ بماء نجس ، وقد قام الدليل القطعي على بطلان الطهارة بالماء النجس

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ١٠٩.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٧٤ / المسألة : ١٢١.

(٣) المبسوط ١ : ٢٩.

(٤) مشارق الشموس : ١٨٢.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : فممنوع.

٣٢١

عمدا. وبذلك يتضح لك ما في قوله أخيرا : (فلا دليل على البطلان وإن لم يطهر بصبّ الماء للغسل) (١) إلى آخره.

وإنّما قيّدنا بطلان الطهارة بالماء النجس بالعمد وإن كان المشهور البطلان مطلقا ؛ لما سيأتي في الدرة الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٨٢.

٣٢٢

(٦٢)

درّة نجفية

في الطهارة بالماء النجس عمدا

أجمع الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ على تحريم الطهارة بالماء النجس عمدا ، وقد اختلفت كلماتهم في المعنى المراد من التحريم هنا ؛ فالعلّامة في (النهاية) على أن المراد به : عدم الاعتداد بالطهارة وعدم إجزائها لا الإثم (١).

واختار (٢) جماعة من الأصحاب ـ منهم الشيخ علي قدس‌سره في شرح (القواعد) (٣) ، والسيد السند في (المدارك) (٤) ، وجدّه الشهيد الثاني في (الروض) (٥) ـ أن المراد به المعنى المتعارف ، ووجّهوه بأن استعمال المكلّف الماء النجس فيما يسمّى طهارة في نظر الشارع أو إزالة نجاسة مع اعتقاد شرعيّته يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما. والمراد : التحريم على تقدير استعماله والاعتداد به في الصلاة ؛ إذ الاعتداد به محرّم لذلك ، فتكون الوسيلة إليه محرّمة. ثمّ احتمل بعضهم (٦) المعنى الأول أيضا.

والظاهر من كلامهم أن الطهارة به نسيانا في حكم العمد ، وأمّا الطهارة به جهلا

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦.

(٢) من «ع» ، وفي النسختين : واختاره.

(٣) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦.

(٥) روض الجنان : ١٥٥.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦ ، مدارك الأحكام ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

٣٢٣

فالمشهور بينهم أنه كالأوّل ، ويجب على المتطهر به كذلك الإعادة في الوقت والخارج.

وقال الشيخ في (المبسوط) : يعيد في الوقت لا في خارجه ، وهذه عبارته في الكتاب المذكور : (إن استعمل النجس في الوضوء أو غسل الثوب عالما أعاد الوضوء والصلاة ، وإن لم يكن علم أنه نجس نظر ؛ فإن كان الوقت [باقيا] أعاد الوضوء والصلاة ، وإن كان خارجا لم يجب إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستأنف من الصلاة) (١). ومثل ذلك عبارته في (النهاية) (٢).

وظاهره كما ترى وجوب الإعادة مع النسيان وقتا وخارجا ، ووجوبها مع الجهل وقتا لا خارجا.

وقال ابن البرّاج : الماء النجس إن تطهّر به مع علمه أو سبق علمه أعاد في الوقت وخارجه ، وإن لم يسبقه العلم أعاد في الوقت دون خارجه (٣).

وهو صريح في الإعادة وقتا وخارجا مع العمد والنسيان ، وعدم الإعادة خارجا مع الجهل.

وقال ابن الجنيد : (إذا تيقن الإنسان أنه غسل ثوبه أو تطهر بالماء النجس من البئر أو غيره غسل الثوب بماء طاهر وأعاد الطهارة ، وغسل ما أصاب ثوبه وبدنه ، وأعاد الصلاة ما كان في الوقت) (٤) انتهى.

وكلامه كالظاهر في عدم الفرق بين المعتمد والناسي والجاهل في أنّهم يعيدون في الوقت دون خارجه.

وقال ابن إدريس : إن توضأ أو اغتسل أو غسل الثوب بالماء النجس أعاد

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٣.

(٢) النهاية : ٨.

(٣) المهذّب ١ : ٢٧.

(٤) عنه في مختلف الشيعة ١ : ٧٦ / المسألة : ٤١.

٣٢٤

الوضوء والغسل والصلاة ، وغسل الثوب إن كان عالما أو سبقه العلم ، وإن لم يسبقه لم يجب عليه إعادة الصلاة ولا الطهارة ، بل غسل الثوب سواء كان الوقت باقيا أو لم يكن على الصحيح من المذهب والأقوال. وقال المفيد : يجب عليه إعادة الصلاة (١). وهو الذي يقوى في نفسي وافتي به (٢) ، انتهى.

وأول كلامه صريح في وجوب الإعادة على العامد والناسي مطلقا ، وعدم الإعادة على الجاهل لا في الوقت ولا في خارجه ، وآخر كلامه ظاهر في خلافه. وعبائر جلّ علمائنا المتقدّمين مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل في [وجوبها (٣)] (٤) بين العامد والناسي والجاهل ، ولا في الوقت أو خارجه.

وقال العلّامة في (المختلف) بعد نقل جملة من عبائر الأصحاب في هذا الباب : (والوجه عندي إعادة الصلاة والوضوء والغسل إن وقعا بالماء النجس ، سواء كان الوقت باقيا أو لا ، سبقه العلم أو لا) (٥) انتهى.

أقول : ولم ينقل منهم أحد الاستدلال على ما ذهب إليه سوى العلّامة والشهيد في (الذكرى) ، فإنّهما استدلّا على ذلك ، فاستدل في (المختلف) على ما ذهب إليه بورود الأخبار بالنهي عن الوضوء بالماء النجس ، مثل صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضأ» (٦).

وصحيحة الفضل البقباق عنه عليه‌السلام ، وقد سأله عن أشياء حتّى انتهى إلى الكلب ، فقال : «رجس نجس ، لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء» (٧).

__________________

(١) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٦٦.

(٢) السرائر ١ : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) في وجوبها ، ليس في «ح».

(٤) في «ح» وجوب الإعادة.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٧٧ / المسألة : ٤١.

(٦) الكافي ٣ : ٤ / ٣ ، باب الماء الذي يكون .. ، وسائل الشيعة ١ : ١٣٧ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٣ ، ح ١.

(٧) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ ، وسائل الشيعة ١ : ٢٢٦ ، أبواب الأسئار ، ب ١ ، ح ٤.

٣٢٥

قال : (والنهي يدلّ على الفساد .. فيبقى في عهدة التكليف .. لعدم الإتيان بالمأمور به). ثمّ قال : (لا يقال : هذا لا يدلّ على المطلوب لاختصاصه بالعالم ؛ فإن النهي مختص به ؛ لأنّا نقول : لا نسلّم الاختصاص ؛ فإنّه إذا كان نجسا لم يكن مطهّرا لغيره) (١).

ثمّ استدل أيضا بما رواه معاوية في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة» (٢) ، وقال : (وهذا مطلق ، سواء سبقه العلم أم لا) (٣).

وقال الشهيد في (الذكرى) : (يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا ؛ لعدم التقرب بالنجاسة ، فيعيدها مطلقا وما صلّاه ولو خرج الوقت ؛ لبقاء الحدث ، وعموم «من فاتته صلاة فليقضها» (٤) يقتضي وجوب القضاء (٥)) (٦) انتهى.

هذا ما وقفت عليه ممّا حضرني من كلامهم ، والذي يقتضيه النظر في الأدلة الشرعية والأخذ بما يستفاد منها من الضوابط المرعيّة والقواعد الكليّة هو وجوب الإعادة على العالم والناسي مطلقا ، وعدم وجوب الإعادة على الجاهل مطلقا ، لا في الوقت ولا في خارجه.

أمّا الأول ، فلما ذكره العلّامة في (المختلف) من الروايات ، ومثلها غيرها أيضا مما هو مذكور في مظانه ، ممّا يدلّ على ذلك بعمومه.

ويدل على خصوص ما نحن فيه موثّقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٧٧ ، ٧٨ / المسألة : ٤١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ ، وسائل الشيعة ١ : ١٧٣ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١٤ ، ح ١٠.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٧٨ / المسألة : ٤١.

(٤) عوالي اللآلي ٣ : ١٠٧ / ١٥٠.

(٥) وعموم .. القضاء ، ليس في المصدر.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠.

٣٢٦

في الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا ، وغسل منه ثيابه واغتسل منه ، وقد كانت الفأرة منسلخة؟ فقال : «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه من ذلك (١) ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه».

ثم قال : «لعله إنّما سقطت تلك الساعة التي رآها» (٢).

وجه الاستدلال : أن ظاهر قوله عليه‌السلام : «إن كان رآها في الإناء» إلى قوله : «ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها» ، يشمل العامد والناسي. وظاهر قوله : «يعيد الوضوء والصلاة» من دون تفصيل ، يشمل الإعادة في الوقت وخارجه ، سيّما وسؤال الراوي ـ حيث قال : وتوضأ من ذلك الماء مرارا ـ يدل على خروج وقت (٣) بعض الصلوات كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلعدم الدليل عليه ، بل قيام الدليل على عدمه ، وما استدلوا به من عموم تلك الروايات فغير مسلّم ؛ لما قرروه في غير موضع من عدم توجه النهي إلى الجاهل ، لامتناع تكليف الغافل. وأنت خبير بأن ما نحن فيه من ذلك القبيل.

ولهذه المسألة نظائر في الأحكام الشرعية قد اتفقوا فيها على الصحة مع الجهل ، منها الصلاة في الثوب المغصوب جاهلا بالغصب.

ومنها الصلاة في المكان المغصوب كذلك ، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة ؛ وحجتهم في ذلك ما أشرنا إليه من عدم توجه النهي الوارد إلى الجاهل ؛ لقبح تكليف الغافل.

__________________

(١) في المصدر : ذلك الماء ، بدل : من ذلك.

(٢) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ، تهذيب الأحكام ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٤٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٤ ، ح ١.

(٣) ليست في «ح».

٣٢٧

قال المحقق في (المعتبر) في بحث الساتر : (لو جهل الغصب لم تبطل الصلاة ؛ لارتفاع النهي) (١).

وقال شيخنا الشهيد الثاني في (الروض) في تعليل جواز الصلاة في المكان المغصوب جاهلا ما صورته : (أمّا جوازها مع الجهل بالأصل فظاهر ؛ لأن الناس في سعة إذا (٢) لم يعلموا) (٣).

وقال في مبحث الساتر ـ حيث قال المصنّف : (فلو صلّى في المغصوب عالما بالغصب) (٤) ـ ما صورته أيضا : (وقيد العالم بالغصب يخرج الجاهل به فلا تبطل صلاته ؛ لارتفاع النهي) (٥).

وقال السيد السند صاحب (المدارك) فيه في مبحث المكان : (أمّا صحة صلاة الجاهل بالغصب فموضع وفاق من العلماء ؛ لأن

البطلان تابع للنهي ، وهو إنّما يتوجه إلى العالم) (٦).

وقال في مبحث الساتر أيضا : (ولا يخفى أن الصلاة إنّما تبطل في الثوب المغصوب مع العلم بالغصب ، فلو جهله لم تبطل الصلاة ؛ لارتفاع النهي) (٧).

وبالجملة ، فعبائرهم ـ رضوان الله عليهم ـ كلّها على هذا المنوال.

ومنها صحّة صلاة الجاهل بالنجاسة حتّى صلّى ، فإن المشهور بينهم ـ وهو الذي دلّت عليه (٨) الأدلة الصحيحة الصريحة (٩) ـ عدم وجوب الإعادة مطلقا.

والقائل بوجوب الإعادة في الوقت لا دليل له ، بل جزم جماعة من أفاضل

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٩٢.

(٢) في المصدر : ممّا.

(٣) روض الجنان : ٢١٩.

(٤) إرشاد الأذهان ١ : ٢٤٦.

(٥) روض الجنان : ٢٠٥.

(٦) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٩.

(٧) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٢.

(٨) من «ع».

(٩) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٤ ـ ٤٧٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٠.

٣٢٨

متأخّري المتأخّرين منهم المحقق المولى أحمد الأردبيلي (١) ، وتلميذه السيد السند في (المدارك) (٢) ، والفاضل المحدّث الأمين الأسترابادي (٣) ، والمحدّث الكاشاني (٤) ، وشيخنا المجلسي (٥) ، والسيد المحدّث السيد نعمة الله الجزائري ، وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان البحراني (٦) ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ بتعدية ذلك إلى جاهل الحكم في جميع مواضعه ، فقالوا بمعذوريته ، ولم يوجبوا عليه الإعادة فيما يجب فيه ذلك لو لا العذر المذكور ؛ لعين ما ذكر من عدم توجّه الخطاب إليه.

قال في (المدارك) في بحث المكان : (أمّا الجاهل بالحكم فقد قطع (٧) بأنه غير معذور ، لتقصيره في التعلّم. وقوّى بعض مشايخنا (٨) المحققين إلحاقه بجاهل الغصب ؛ لعين ما ذكر. ولا يخلو من قوّة) (٩).

وقال في بحث الساتر أيضا ـ بعد أن ذكر العبارة المتقدمة في جاهل أصل الغصب ـ : (ولا يبعد اشتراط العلم بالحكم أيضا ؛ لامتناع تكليف الغافل ، فلا يتوجّه إليه النهي المقتضي لفساده (١٠)) (١١) ، انتهى.

أقول : وهذا القول هو الظاهر عندي على التفصيل الذي تقدّم في الدرّة (١٢) الموضوعة في هذه المسألة ، وبذلك يظهر أنه لا وجه لحكمهم بالبطلان هنا ، والعلّة واحدة. وحينئذ فصحة العبادة هنا وسقوط القضاء هو الموافق للقاعدة المذكورة.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٤٢.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٨.

(٣) الفوائد المدنية : ١٦٤.

(٤) مفاتيح الشرائع ١ : ١٠٦ / المفتاح : ١٢٠.

(٥) بحار الأنوار ٨٠ : ٢٧٣.

(٦) رسالة وجيزة في واجبات الصلاة : ٣٠.

(٧) في المصدر : قطع الأصحاب.

(٨) من «ح» والمصدر.

(٩) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٩.

(١٠) في المصدر : للفساد.

(١١) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٢.

(١٢) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩ / الدرّة : ٢.

٣٢٩

وما ذكره في (المختلف) من أنه إذا كان نجسا لم يكن مطهّرا لغيره (١) كلام مجمل ؛ فإنه إن أراد به : ما كان نجسا في نظر المكلّف فما ذكره مسلّم ولكنّه ليس بمحل البحث ، وإن أراد به : ما كان كذلك في الواقع وإن لم يكن معلوما للمكلّف فهو ممنوع ، بل هو أول المسألة.

نعم ، بعد انكشاف الأمر وحصول العلم بالنجاسة يجب الاجتناب.

وكذلك ما ذكره في (الذكرى) من تعليله عدم ارتفاع الحدث بأنه ماء نجس ولا يحصل به الطهارة (٢) ـ إلى آخر ما ذكره ـ فإنّا نقول : إن ذلك كلّه لا يجري إلّا في العالم ، ويوضحه أنه لا ريب أنّا مكلّفون من الشارع بالطهارة بهذا الماء مثلا بشرط عدم العلم بنجاسته ، لا بشرط العلم بعدمها ؛ لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآية (٣) والرواية (٤). ومن أجل ذلك لم يجعل التكليف منوطا بنفس الأمر في مادة من المواد ولا حكم من الأحكام ، لعلمه بتعذّره عينا ، وإنّما كلّفنا بالنظر إلى علمنا ؛ لقوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (٥) ، وقوله : «لا ابالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم» (٦). وقوله : «كلّ ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٧). إلى غير ذلك من الأخبار.

وحينئذ ، فالمكلّف إذا توضأ بهذا الماء الطاهر في نظره واعتقاده وإن كان

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٧٨ / المسألة : ٤١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) الكافي ٣ : ٤ / ٢ ، باب الماء الذي تكون فيه قلة .. ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٢ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ٥.

(٥) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، نوادر كتاب الأطعمة ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٥٠ ، ح ١١ ، وفيهما : هم ، بدل : الناس.

(٦) الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٦ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٣ / ٧٣٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٥.

(٧) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : كلّ شي‌ء نظيف ، بدل : كلّ ماء طاهر.

٣٣٠

نجسا في الواقع فطهارته شرعيّة صحيحة مجزية اتفاقا ، وصلاته أيضا بتلك الطهارة صحيحة مجزية إجماعا. وأمّا بعد معلوميّة النجاسة وانكشاف الأمر بذلك ، فوجوب قضاء تلك العبادات التي مضت على ظاهر الصحة أولا وإعادتها يحتاج إلى دليل ، وليس فليس.

وصدق الفوات على هذه العبادات ـ كما ادّعاه في (الذكرى) (١) غير مسلّم ، كيف ، وقد فعل المأمور به شرعا ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء والصحة ، كما حقّق في محلّه؟

وبالجملة ، فإنّهم صرّحوا في مواضع عديدة بأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد.

ونحن نقول : إن هذا المكلّف لمّا كان الواجب عليه إنّما هو البناء على الظاهر ، وقد دخل عليه الوقت وأتى بالصلاة المفروضة عليه كاملة بشروطها الواجبة عليه في ظاهر التكليف ، ولا ريب أن صلاته صحيحة مجزية ، فلو ظهر الخطأ بعد ذلك في اعتقاده بالإتيان بشرط من تلك الشرائط وأنه لم يكن كذلك فالحكم بالإبطال يحتاج إلى دليل.

وقد دلّت الأدلة في بعض تلك المواضع والشروط على الصحة والحال كذلك ، كما إذا ظهر له نجاسة جسده (٢) أو ثوبه (٣) ، أو غصب مكانه أو لباسه ، أو انحرافه إلى غير جهة القبلة (٤) على تفصيل فيه ، ونحو ذلك ممّا يكون مبطلا مع العلم به

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢٦ / ١٣٥٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٤ / ٦٤٣ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٩ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٢ ، ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢٣ / ١٣٤٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٣ / ٦٤٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٠ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٢ ، ح ٣.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٤٨ / ١٥٨ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٦ ، وسائل الشيعة ٤ : ٢١٤ ، أبواب القبلة ، ب ١٠ ، ح ٣.

٣٣١

أولا. وفي بعضها على الإبطال ، كما إذا كان جاهلا بالجنابة وتوضأ وصلّى ثمّ علم الجنابة (١) ، ونحو ذلك. وفي بعضها لم يدل عليه دليل.

ففيما قام الدليل عليه يجب العمل على مقتضى الدليل ، وما لم يقم عليه دليل يبقى على أصل الصحة ، كما لا يخفى.

وما استدلّ به العلّامة رحمه‌الله على العموم من صحيحة معاوية ، حيث قال بعد نقلها : (وهذا مطلق ، سواء سبقه العلم أو لا) (٢) ، فهو محل نظر ؛ كيف ، وليس فيها حكاية الطهارة بماء البئر بالكلية؟ ولعلّ المراد بها باعتبار ملاقاة الثوب أو البدن ، ومع ذلك فالعمل بها على إطلاقها غير ممكن ، بل لا بدّ من تقييدها بالروايات الواردة في عدم إعادة الجاهل بالنجاسة.

وأمّا ما ذكر الشيخ (٣) ـ في (النهاية) و (المبسوط) ـ وابن البرّاج (٤) من الإعادة في الوقت دون خارجه فلم نقف له على دليل ، ولعلهما قاسا ذلك على الصلاة بالنجاسة ، فإن الشيخ (٥) في (النهاية) و (المبسوط) ذهب إلى وجوب الإعادة على من صلّى في النجاسة جاهلا في الوقت دون الخارج.

ولم أقف على مذهب ابن البرّاج في ذلك ، ولا يبعد أن يكون مذهبه ذلك أيضا فإنه كثيرا ما يقتفي أثر الشيخ ، ويجوز أن يكون قد بنى على أنه ما دام في الوقت لم تبرأ الذمة من عهدة التكليف حتّى يأتي بما كلّف به واقعا ، وأمّا خارج الوقت فلا بدّ له من دليل من خارج. وما ذكره ابن الجنيد (٦) أيضا لم نقف له على مستند.

وأنت خبير بأن كلامهم ـ رضوان الله عليهم ـ في هذه المسألة مبني على

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٠ / ١٤٩١ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٦ ، أبواب النجاسات ، ب ٤١ ، ح ٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٧٨ / المسألة : ٤١.

(٣) النهاية : ٨ ، المبسوط ١ : ١٣.

(٤) المهذّب ١ : ٢٧.

(٥) النهاية : ٨ ، ٥٢ ، المبسوط ١ : ١٣.

(٦) عنه في مختلف الشيعة ١ : ٧٦ / المسألة : ٤١.

٣٣٢

ما قدّمنا نقله عنهم في الدرة الخامسة (١) من درر الكتاب ، وهو أن من صلّى بالنجاسة جاهلا فصلاته وإن كانت صحيحة ظاهرا إلّا إنّها باطلة واقعا ، فلو استمرّ به الجهل حتّى مات فصلاته التي صلّاها على تلك الحال كلّها باطلة لا يستحق عليها ثواب الصلاة الموعود به وإن كان غير مؤاخذ بحسب الظاهر لجهله. وقد قدّمنا تحقيق الحال في تلك المسألة بما يؤيد ما اخترناه هنا ، والله العالم.

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٤٧ ـ ١٥٤.

٣٣٣
٣٣٤

(٦٣)

درّة نجفية

فيما ورد في إمامة الاثني عشر من طرق أهل السنة

قد ورد من طرق مخالفينا في الإمامة ـ وفّقنا الله تعالى وإياهم للهداية إلى ما يوجب السلامة والكرامة ـ ما يدلّ على إمامة الأئمّة الاثني عشر ؛ فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في الجزء الثالث من أجزاء ثمانية ، بإسناده إلى جابر بن سمرة ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا». فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : «كلّهم من قريش» (١).

ومنها في حديث يرفعه البخاري في صحيحة بإسناده إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا». ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي : ما ذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : قال : «كلّهم من قريش» (٢).

و [منها] ما رواه مسلم في صحيحه في الجزء الرابع من أجزاء ستة قال : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». قال (٣) : ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ ، فقلت [لأبي] : ما ذا قال؟ فقال : «كلّهم من قريش» (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٦٤٠ / ٦٧٩٦.

(٢) عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٤١٦ / ٨٥٧.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : فقال.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٤ / ١٨٢١.

٣٣٥

و [منها ما] رواه مسلم في صحيحه (١) من طريق آخر مثل رواية البخاري عن ابن عيينة بألفاظه.

ومنها ما رواه مسلم في صحيحه أيضا : رواية سمّاك بن حرب ، يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «لا يزال أمر (٢) الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة». ثمّ قال كلمة لم يسمعها الراوي ، فسأل عنها من سمع الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كلّهم من قريش» (٣).

ومن ذلك في رواية سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم [جمعة] عشيّة رجم السلمي (٤) : «لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (٥).

و [منها ما] في رواية عامر بن سعد من (صحيح مسلم) مثل هذه الرواية (٦).

ومنها من كتاب (الجمع بين الصحاح الستة) في باب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٧) بإسناده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» وقال : «كلّهم من قريش» (٨).

ومن الكتاب المذكور : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٩).

ومنها في صحيح أبي داود من الجزء الثاني من جزءين بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١٨٢١.

(٢) ليست في المصدر.

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١٨٢١.

(٤) في المصدر : الأسلمي.

(٥) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ / ١١٥٦ / ١٨٢٢ ، وفيه : أو يكون عليكم ، بدل : ويكون عليهم.

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٦ / ١٨٢٢.

(٧) الحجرات : ١٣.

(٨) عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٤٢١ ـ ٤٢٢ / ٨٨٠ ، الطرائف ١ : ٢٥٣ / ٢٦٦.

(٩) عنه في عمدة عيون صحاح الأخبار : ٤٢٢ / ٨٨١ ، الطرائف ١ : ٢٥٣ / ٢٦٧.

٣٣٦

قال : «لا يزال الدين ظاهرا حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (١).

ومن ذلك رواية الحميدي في (الجمع بين الصحيحين) لهذه الأحاديث من طريق عبد الملك بن عمر (٢) ، وطريق شعبة ، وطريق ابن عيينة ، وطريق عامر بن سعد ، وطريق سمّاك بن حرب ، وطريق عدي بن حاتم ، وطريق عامر الشعبي (٣) ، وطريق حصن (٤) بن عبد الرحمن. وجميع هذه الطرق يتضمّن أن عدّتهم اثنا عشر خليفة أو أمير ، كلّهم من قريش (٥).

أقول : لا يخفى على المنصف أنه لا وجود لهذا العدد إلّا على مذهب الإماميّة الاثني عشرية ؛ ولهذا اضطربت آراء مخالفينا ـ هداهم الله تعالى ـ في بيان هذه الاثني عشر المذكورة في هذه النصوص ، وتاهت أفكارهم في المراد بها على الخصوص. فقال بعضهم : هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان اثنا عشر منهم ولاة الأمر إلى ثلاثمائة سنة ، وبعدها وقع الفتن والحوادث. فيكون المعنى : أن أمر الدين عزيز مدة خلافة اثني عشر ، كلّهم من قريش.

أقول : ويرد عليه :

أولا : أنه مع الإغماض عن المناقشة في خلافة المتقدّمين ، فعدّ معاوية المحارب لعلي عليه‌السلام في صفين ، والمعلن بسبّه وسبّ أولاده على رءوس المنابر ، حتى صار سنّة أمويّة بين البادي والحاضر ، ويزيد ابنه المعلن بشرب الخمور والفجور ، قاتل الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، وهادم الكعبة ، وصاحب وقعة الحرّة ،

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ١٠٦ / ٤٢٧٩ ، وهو عنه بنصه في الطرائف ١ : ٢٥٣ / ٢٦٨.

(٢) في المصدر : عمير.

(٣) في المصدر : عامر بن الشعبي.

(٤) في المصدر : حصين ، وفي «ح» : حضر.

(٥) عنه في الطرائف ١ : ٢٥٣ / ذيل الحديث : ٢٦٨.

٣٣٧

وواضع السيف في أهل المدينة : المهاجرين والأنصار (١) ، والوليد الزنديق الذي جعل (القرآن) العزيز غرضا للنشّاب (٢) ، وأمثالهم ممّن يتمّ بهم العدد من فراعنة الاموية والعبّاسية ، لا يخفى ما فيه على من قابل الإنصاف وجانب الاعتساف.

وهل يدّعي مسلم يؤمن بالله ورسوله أن هؤلاء خلفاء الله في أرضه والحافظون لسنّته وفرضه؟ وثانيا : أنّهم قد رووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تكون ملكا عضوضا (٣) ، فكيف يدّعي هذا القائل امتداد الخلفاء الاثني عشر إلى ثلاثمائة سنة ، وإن الفتن والحروب إنّما هي بعدها؟

وثالثا : أنّه يلزم أن تكون الأحكام بعد تلك المدة التي ذكرها ـ وأنّ بها تنقضي خلافة الخلفاء الاثني عشر ـ معطلة ، والشرائع إلى يوم القيامة مهملة ، مع أن جملة من الأخبار المتقدمة دلّت على أن أمر الدين عزيز إلى يوم القيامة ، وأن خلافة الاثني عشر ممتدة إلى يوم القيامة.

وقال بعضهم : إن صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ، وهم الخلفاء الراشدون وهم خمسة ، وعبد الله بن الزبير ، وخمسة اخر من خلفاء بني العباس ، فيكون هذا إشارة إلى الصلحاء من الخلفاء القرشية.

أقول : فيه :

أوّلا : ما عرفت من أنّهم قد رووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن الخلافة بعده تكون ثلاثين سنة ، ثمّ يصير ملكا عضوضا ، والثلاثون قد كملت بخلافة الحسن عليه‌السلام الذي هو

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٤ : ١١ ـ ١٢٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٤٠ ، تاريخ الخميس ٢ : ٣٢٠ ، حياة الحيوان ١ : ١٠٣.

(٣) فتح الباري ١٥ : ١٢٦ / شرح الحديث : ٧٢٢٢ ـ ٧٢٢٣ ، والمصنف رحمه‌الله سيصرّح في الصفحة التالية بأنه أخذه عن (مطالب السؤول).

٣٣٨

الخامس عندهم ، كما نبّه عليه الشيخ كمال الدين بن طلحة الشامي في كتابه ، حيث قال ـ بعد ذكر موت الحسن عليه‌السلام ـ ما صورته : (وكان بانقضاء الشهور التي ولي فيها عليه‌السلام [الخلافة] انقضاء خلافة النبوة ؛ فإن بها كان استكمال ثلاثين سنة ، وهي التي ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما نقل عنه : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تصير ملكا عضوضا» ، وهو كما قال عليه‌السلام) (١).

ومن هذا الخبر حينئذ يعلم أن ملك معاوية ومن بعده ليس من الخلافة في شي‌ء ، وإنّما هو من الملك العضوض.

وثانيا : أن عدّ ابن الزبير من صلحاء الخلفاء ـ مع أنه رأس الفتنة في حرب الجمل وإراقة دماء المسلمين ، ومن جملة المجاهرين في أيام خلافته بعداوة أهل البيت عليهم‌السلام ، حتّى نقل عنه كما ذكره ابن أبي الحديد في (شرح النهج) (٢) ، وغيره (٣) أنه كان في وقت خلافته يترك الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته ، حتى قيل له في ذلك ، فقال : إنّ له اهيل سوء إذا ذكر شمخوا بانوفهم ـ تعصّب صرف وعناد محض.

ويؤيد ما ذكرناه أيضا ما صرّح به ابن عبد البرّ في كتاب (الاستيعاب) بعد ذكره قال : (كان فيه خلال لا يصلح معها للخلافة ؛ لأنه كان بخيلا ، ضيّق العطن (٤) ، سيّئ الخلق ، حسودا ، كثير الخلاف ، أخرج محمد بن الحنفيّة ونفى عبد الله بن العباس إلى الطائف. وقال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : «ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد الله.») (٥) ، انتهى كلام ابن عبد البرّ.

وقال عز الدين بن أبي الحديد في (شرح النهج) في صدر شرحه في ذكر

__________________

(١) مطالب السؤول ٢ : ٤٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ : ٦٢.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٩٣.

(٤) في المصدر : العطاء.

(٥) الاستيعاب ٣ : ٤٠ / ١٥٥٣.

٣٣٩

البغاة : (وكان شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه‌الله إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول : لا خير فيه. وقال مرة : لا يعجبني صلاته وصومه ، وليسا بنافعين له ، مع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «لا يبغضك إلّا منافق».

قال أبو عبد الله البصري : ما صحّ عندي أنه تاب من يوم الجمل ، ولكنّه استكثر ما كان عليه) (١) انتهى.

وثالثا : أنه يلزم خلوّ الأزمنة الفاصلة بين الخليفتين الصالحين ، وكذا بعد تمام العدد وانقضائه ، من الخليفة والإمام على الأنام ، وفي ذلك فساد الإسلام واختلال النظام إلى يوم القيام ، مع أن الأخبار المتقدمة تنطق بخلافه كما عرفت.

أقول : وفي (الصواعق المحرقة) لابن حجر ـ بعد نقله الجملة من هذه الأخبار ـ ما صورته : (قال القاضي عياض : لعلّ المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنّهم يكونون في عزة الخلافة ، وقوة الإسلام ، واستقامة اموره ، والإجماع على من يقوم بالخلافة ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس ، إلى أن اضطرب أمر بني اميّة ووقعت منهم [الفتنة] (٢) في زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت تلك الفتن منهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم.

قال شيخ الإسلام في (فتح الباري) : (كلام القاضي هذا أحسن ما قيل في هذا الحديث وأرجحه ؛ لتأيده بقوله في بعض طرقه الصحيحة : «كلّهم يجتمع عليه الناس» (٣). والمراد باجتماعهم : انقيادهم لبيعته ، والذي اجتمعوا عليه هم الخلفاء الثلاثة ، ثمّ علي ، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفّين فتسمّى معاوية يومئذ بالخلافة ، ثمّ اجتمعوا عليه عند صلح الحسن ، ثمّ على ولده يزيد ، ولم ينتظم للحسين أمر ، بل قتل قبل ذلك ، ثمّ لمّا مات يزيد اختلفوا ، إلى اجتمعوا على عبد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ : ١٠.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : الفسقة.

(٣) فتح الباري ١٥ : ١٢٨.

٣٤٠