الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

نوح عليه‌السلام أن يستخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم عليه‌السلام فيدفنه في الغري ففعل» (١).

وما ورد : أن الله سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام أن أخرج عظام يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام من مصر ، فاستخرجها من شاطئ النيل في صندوق مرمر.

فلو لا أن الأجسام العنصريّة منهم تبقى في الأرض لما كان لاستخراج العظام ونقلها من موضع إلى آخر بعد سنين مديدة معنى) (٢) انتهى.

وأنت خبير بأن ما ذكره من الاحتمال الذي بنى عليه هذا المقال إنما يتم لو ثبت ما ادّعاه من الأجساد المثاليّة في النشأة الدنيويّة بحيث يكون للرّوح فيها جسدان : مثالي وعنصري ، وهذا ممّا (٣) لم يقم عليه دليل.

وغاية ما يستفاد من الأخبار أن المؤمن إذا مات جعل الله تعالى روحه في النشأة البرزخيّة في قالب كقالبه في الدنيا (٤) بحيث لو رأيته لقلت : فلان ، ثم ينقل إلى وادي السلام من ظهر الكوفة (٥) وأنهم يجلسون حلقا حلقا (٦) يتحدّثون ويتنعمون (٧). وأيضا فتصريح الخبر برفع اللحم والعظم لا ينطبق إلّا على الجسد العنصري ؛ لأن إثبات ذلك للجسد المثالي لا يخلو من تمحّل وتعسّف ؛ لعدم إدراك أحوال تلك النشأة البرزخيّة على الواقع والتفصيل. وغاية ما صرّحوا به أن تلك الأجساد المثاليّة ليست في لطف المجرّدات ولا كثافة الماديّات ، بل لها حالة متوسّطة.

__________________

(١) كامل الزيارات : ٨٩ ـ ٩٠ / ٩١ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣ / ٥١ ، مصباح الزائر : ١١٧ ـ ١١٨ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٢٧ ، ح ١ ، بالمعنى.

(٢) الوافي ١٤ : ١٣٣٧ ـ ١٣٣٨.

(٣) ليست في «ح».

(٤) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٦ ، باب في أرواح المؤمنين.

(٥) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ٢ ، باب في أرواح المؤمنين.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ١ ، باب في أرواح المؤمنين.

١٦١

وأمّا ما استند إليه من حديث الطينة (١) فلا مانع من حمل أبدانهم ـ صلوات الله عليهم ـ على الأبدان العنصريّة ، فإن تلك الطينة لصفاء جوهريتها ونورانية مادتها في ذلك العالم لا تقصر عن مناسبة أخذ أرواح الشيعة من فضلها وبقيّتها. وأمّا حديث عظام آدم ويوسف عليهما‌السلام فلا دلالة فيه ؛ إذ هو بعد الموت وهو ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، فيه دلالة على بقاء الأجسام العنصريّة بعد الموت في الأرض ، وهو موضع الإشكال لدلالة تلك الأخبار على رفعها من الأرض بعد الثلاثة أو الأربعين. وما زعمه من تخصيص الرفع بالأجساد المثاليّة قد عرفت ما فيه ، فالإشكال باق بحاله.

وممّا يؤيّد الخبرين المتقدّمين أيضا ، الدالّين على الرفع بالأبدان العنصريّة ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن سعد الإسكاف قال : حدّثني أبو عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّه لما أصيب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال للحسن والحسين عليهما‌السلام : غسّلاني وكفّناني وحنّطاني واحملاني على سريري ، واحملا مؤخره تكفيا مقدّمه ، فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور ولحد ملحود ولبن موضوع ، فألحداني واشرجا اللبن علي وارفعا لبنة ممّا يلي رأسي ، فانظرا ما تسمعان. فأخذا اللبنة من عند رأسه فإذا ليس في القبر شي‌ء ، وإذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فألحقه الله بنبيّه ، وكذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أن نبيّا مات في المشرق ومات وصيّه بالمغرب لألحق الوصيّ بالنبيّ» (٢) ، وهو ظاهر الصراحة نقي الساحة في الدلالة على (٣) ما دلّ عليه الخبران المتقدّمان.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٩٤ / ١ ، باب مسجد السهلة.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ١٨٧.

(٣) سقط في «ح».

١٦٢

وأمّا ما تكلّفه المحدّث الكاشاني أيضا في هذا الخبر بناء على ما قدّمنا من كلامه : (فحمل الرفع على رفع البدن المثالي دون العنصري) (١) ، فهو من التكلّفات الباردة والتمحّلات الشاردة ، قال بعد نقل الخبر : (لعل المراد بإلحاقه إلحاق البدن المثالي البرزخي ، وأمّا فقد البدن العنصري عن نظرهما في (٢) القبر ، فلعل ذلك لغيبته عنهما وقتئذ ؛ لأنهما كانا (٣) حينئذ إنما يسمعان ويبصران بمشاعرهما الباطنية (٤) المشاهدة لما في الغيب دون مشاعرهما المشاهدة لما في الشهادة ؛ ولهذا كانا يسمعان من الهاتف الغيبي ما يسمعان ، مع أنا لا نستبعد نقل بدنه العنصري أيضا وإلحاقه بالبدن العنصري للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أشرنا إليه ؛ فإن مثل هذه الخوارق للعادات دون مرتبته عليهم‌السلام) (٥) انتهى.

وفيه زيادة على ما تقدّم أن المزيّة لا تظهر لهم عليهم‌السلام إلّا بنقل البدن العنصري ، وإلّا فالبدن البرزخي الذي يجعل للرّوح بعد الموت ممّا يشاركهم فيه سائر المؤمنين كما عرفت آنفا ؛ فإن الروح بعد الموت تجعل في قالب كقالبه في الدنيا وينقلون إلى الجنّة البرزخيّة في ظهر الكوفة.

وحينئذ ، فأيّ فضيلة ومزية له عليه‌السلام في النقل ببدنه البرزخي؟ على أن إطلاق النقل على البدن البرزخي من القبر فرع ثبوت وجوده أولا في حال الحياة كما ادّعاه أولا ، وقد عرفت أنه لا دليل عليه. ولكن المحدّث المذكور لما كان مذاقه على مذهب الصوفية الجارين في تفسير الأخبار على طريق الملاحدة من الباطنيّة كان هذا دأبه في تفسير الأخبار وارتكاب التمحّلات في معانيها ، والخروج عن ظواهر ألفاظها كما لا يخفى على من طالع كتبه ومصنّفاته.

__________________

(١) انظر الدرر ٣ : ١٦٠.

(٢) في المصدر : من.

(٣) من «ح» والمصدر.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الباطنة.

(٥) الوافي ١٤ : ١٣٤٠.

١٦٣

وبالجملة ، فإن الظاهر عندي هو الوقوف على ظواهر هذه الأخبار الدالة على نقلهم ـ صلوات الله عليهم ـ بالأبدان العنصريّة وأنهم يتنعمون فيها في تلك النشأة كما نقل عيسى عليه‌السلام وهو حي كذلك.

وقد صرّح بما اخترناه جملة من علمائنا الأعلام مثل شيخنا مفيد الطائفة الحقة (١) ومقدّم (٢) الفرقة المحقّة أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان قدس‌سره في كتاب (شرح عقائد الصدوق) حيث قال ـ بعد نقل الخلاف فيمن ينعّم ويعذّب بعد الموت هل هو الروح التي توجّه إليها الأمر والنهي والتكليف ونحوها جوهرا ، أو روح الحياة جعلت في جسد كجسده في الدنيا؟ واختياره الأوّل ـ ما صورته : (وقد جاء في الحديث أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ خاصّة والأئمّة عليهم‌السلام من بعدهم ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء فينعّمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا. وهذا خاصّ لحجج الله دون من سواهم من الناس) (٣) انتهى كلامه ، طيّب الله ثراه وجعل الجنّة مثواه.

أقول : وهذا هو الحق الحقيق بالاتّباع ، فإنا لم نقف في الأخبار على ما يدلّ [على] ثبوت (٤) الأجساد المثالية للأنبياء والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ بعد الموت فضلا عما ادّعاه ذلك المحدّث من الوجود في الدنيا ؛ إذ غاية ما يستفاد من الأخبار بالنسبة إلى المؤمن أنه بعد الموت تجعل روحه في قالب كقالبه في الدنيا (٥) ، بحيث لو رأيته لقلت : فلان. وأمّا بالنسبة إلى المعصومين عليهم‌السلام فلم نعثر على خبر يدلّ على ذلك بالنسبة إليهم.

__________________

(١) من «ح».

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : مقدام.

(٣) تصحيح اعتقادات الإماميّة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٥ : ٩١.

(٤) في «ح» : لثبوت ، وفي «ق» : بثبوت.

(٥) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٦ ، باب في أرواح المؤمنين.

١٦٤

وظواهر هذه الأخبار وكذا أخبار المعراج في حكاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الاجتماع بالأنبياء والمرسلين في بيت المقدس (١) ، وكذا في السماء إنما تدلّ على ما ذكره شيخنا المفيد قدس‌سره.

ونقل شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب (البحار) عن الشيخ أبي الفتح الكراجكي في كتاب (كنز [الفوائد] (٢)) (٣) أنه قال : (إنّا لا نشكّ في موت الأنبياء عليهم‌السلام غير (٤) أن الخبر قد ورد : [ب] أن الله تعالى يرفعهم بعد مماتهم إلى سمائه (٥) ، وأنهم يكونون فيها أحياء منعّمين إلى يوم القيامة. وليس ذلك بمستحيل في قدرة الله تعالى ، وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال (٦) : «أنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث».

وهكذا عندنا حكم الأئمّة عليهم‌السلام ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو مات نبيّ في المشرق ، ومات وصيّه بالمغرب لجمع الله بينهما» (٧). وليست زيارتنا لمشاهدهم على أنّهم بها ولكن لشرف المواضع ؛ فكانت غيبة [الأجساد] (٨) فيها ، وللعبادة أيضا ندبنا إليها) (٩) إلى آخر كلامه.

وأمّا ما ذكره شيخنا المجلسي فيما قدمنا من كلامه من حكاية نبش قبر الحسين عليه‌السلام ، وأنهم وجدوه فيه ، وحكاية شعيب بن صالح ونحو ذلك ، فظنّي أن أمثال هذه الحكايات لا يمكن الخروج بها عن صريح هذه الروايات. وأما ما ذكره من بقيّة التأويلات فهي في البعد أظهر من أن تبيّن.

بقي الكلام في تأويل خبري عظام آدم وعظام يوسف عليهما‌السلام ، ويخطر ببالي في

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ٥٥٥.

(٢) في النسختين : العرفان.

(٣) كنز الفوائد ٢ : ١٤٠.

(٤) ليست في «ح».

(٥) بصائر الدرجات : ٤٤٥ / ب ١٣ ، ح ٩.

(٦) انه قال ، من «ح» والمصدر.

(٧) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ١٨٧.

(٨) من المصدر ، وفي النسختين : الأجسام.

(٩) بحار الأنوار ٩٧ : ١٣١.

١٦٥

ذلك وجه وجيه لم أعثر على من تقدّمني فيه ، وهو يتوقّف على بيان مقدّمة هي أن المستفاد من جملة من الأخبار أن دفن الميّت إنما يقع في موضع تربته التي خلق منها ، فروى في (الكافي) في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «من خلق من تربة دفن فيها» (١).

وروى فيه أيضا عن الحارث بن المغيرة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله تعالى ملكا فأخذ من التربة التي يدفن فيها فماثها في النطفة فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتى يدفن فيها» (٢).

وروى فيه أيضا في حديث دخول عبد الله بن قيس الماصر على أبي جعفر عليه‌السلام وسؤاله له (٣) عن العلّة في تغسيل الميّت غسل الجنابة وهو طويل قال عليه‌السلام فيه : «إنّ الله عزوجل يخلق خلّاقين ، فإذا أراد أن يخلق خلقا أمرهم فأخذوا من التربة التي قال في كتابه (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٤) ، فيعجن النطفة بتلك التربة التي يخلق منها بعد أن أسكنها في الرحم أربعين ليلة ، فإذا تمّت له أربعة أشهر قال : يا ربّ تخلق ما ذا؟ فيأمرهم بما يريد من ذكر أو انثى ، أبيض أو أسود. فإذا خرجت الروح من البدن خرجت هذه النطفة بعينها كائنا ما كان ؛ صغيرا أو كبيرا ، ذكرا أو انثى فلذلك يغسل غسل الجنابة» (٥) الحديث.

وحينئذ ، نقول : ما ورد من الأخبار دالا على رفعهم عليهم‌السلام من الأرض بالأبدان العنصريّة يجب تقييده بما دلّت عليه هذه الأخبار من الدفن في الموضع الأصلي والمقر الحقيقي الذي أخذت منه الطينة. ويجب حمل خبري عظام آدم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٠٢ / ١ ، باب التربة التي يدفن فيها الميت.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠٣ / ٢ ، باب التربة التي يدفن فيها الميت.

(٣) ليست في «ح».

(٤) طه : ٥٥.

(٥) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ١٦٢ / ١ ، باب العلة في غسل الميت غسل الجنابة.

١٦٦

ويوسف عليهما‌السلام على الدفن في غير الموضع المشار إليه ، فكأنه إنما وقع على جهة الإيداع في هذا المكان لمصلحة لا نعلمها ، والمقرّ الحقيقي إنما هو الموضع الذي أمر الله سبحانه بالنقل إليه بعد ذلك ، فيصير الدفن في ذلك الموضع من قبيل ما لو بقي على وجه الأرض من غير دفن في وجوب بقاء الجسد العنصري وإن جاز انتقال كل منهما عليهما‌السلام إلى بدن مثاليّ في ذلك العالم ؛ لعدم إمكان نقل البدن العنصري ؛ حيث إنه مأمور بنقله إلى ذلك المكان الآخر بعد الإيداع في هذا المكان مدّة ، فمن أجل ذلك لم يرفعا به.

وأمّا وجه الحكمة في الدفن أوّلا في ذلك المكان مع كونه ليس هو المكان الأصلي والتربة الحقيقية فلا يجب علينا تطلّب وجهه ولا تحصيل علّته ، وإنما يجب علينا الإيمان بما وقع ، كما في كثير من أسرار القدر والقضاء. وهو وجه وجيه تلتئم عليه الأخبار من غير تأويل ولا خروج عن ظواهر ألفاظها.

بقي الكلام في الجمع بين خبري (الثلاثة) و (الأربعين) ، ويمكن أن يكون وجهه حمل الأول على أقل المدّة ، والثاني على أكثرها. ولعل ذلك يتفاوت بتفاوت مراتبهم عنده سبحانه ومنازلهم لديه ، والله سبحانه وقائله أعلم.

فإن قيل : إنه قد روى المشايخ الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ في الكتب الثلاثة وغيرهم في غيرها (١) أن طينة الأنبياء عليهم‌السلام إنما اخذت من تحت صخرة في مسجد السهلة ، ففي حديث عبد الله بن أبان عن الصادق عليه‌السلام المرويّ في (الكافي) : «وإنّ فيه لصخرة خضراء فيها مثال كل نبيّ ، ومن تحت تلك الصخرة اخذت طينة كل نبيّ» (٢).

وفيما رواه في (الفقيه) مرسلا عنه عليه‌السلام قال في الخبر : «وتحته صخرة خضراء

__________________

(١) كامل الزيارات ٧٥ / ٦٨.

(٢) الكافي ٣ : ٤٩٤ / ١ ، باب مسجد السهلة.

١٦٧

فيها صورة وجه كلّ نبيّ خلقه الله عزوجل ، ومن تحته أخذت طينة كلّ نبيّ» (١).

وفي (التهذيب) بسنده عنه عليه‌السلام أيضا : «وفيه صخرة خضراء فيها صورة جميع النبيّين عليهم‌السلام ، وتحت الصخرة الطينة التي خلق الله منها النبيين عليهم‌السلام (٢)» (٣).

ولا ريب في ظهور منافاة هذه الأخبار لما قدمتم من الأخبار الدالّة على أن كلّ أحد إنما يدفن في الموضع الذي أخذت منه طينته ؛ لظهور أن الأنبياء عليهم‌السلام قبورهم متفرّقة في الأرض ، مع أن طينتهم بمقتضى هذه الأخبار من هذا الموضع المخصوص.

قلت : الأمر كما ذكرت ولكن الظاهر في وجه الجمع بين أخبار الطرفين بأن يقال : إنه يجوز أن يكون أصل الطينة من الموضع المذكور وإن عرض لها التفرق في المواضع التي صارت محلّا لقبورهم. ويشير إلى ذلك ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن محمّد بن سليمان بن (٤) زرقان وكيل الجعفري اليماني قال : حدّثني الصادق ابن الصادق عليّ بن محمّد صاحب العسكر قال : قال لي : «يا زرقان ، إن تربتنا كانت واحدة فلما كان أيام الطوفان افترقت التربة فصارت قبورنا شتّى والتربة واحدة» (٥).

ومن الظاهر البيّن الظهور أن تربتهم عليهم‌السلام من تربة جدّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أحد الأنبياء الذين صرحت تلك الأخبار بأن تربتهم اخذت من تحت تلك الصخرة.

وحينئذ ، فالخبر ظاهر فيما قلناه واضح فيما ادّعيناه ، وفيه تأكيد أيضا للأخبار التي قدّمنا ، الدالّة على أن قبر كلّ أحد يقع في موضع تربته المأخوذة

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥١ / ٦٩٨.

(٢) وتحت الصخرة .. النبيين عليهم‌السلام ، سقط في «ح».

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٧ / ٧٦.

(٤) سقط في «ح».

(٥) تهذيب الأحكام ٦ : ١٠٩ ـ ١١٠ / ١٩٤.

١٦٨

منه ؛ ولهذا فرّع عليه‌السلام افتراق قبورهم على افتراق التربة فقال : «افترقت التربة فافترقت قبورنا شتى» (١). وأمّا قوله عليه‌السلام في آخر الخبر : «التربة واحدة» ، فمعناه أنه مع افتراق أجزاء التربة في تلك المواضع الشتّى لم يداخلها شي‌ء من غيرها ، بل هي على حقيقتها ، وهي الطينة المقدّسة المطهّرة المختارة عنده سبحانه كما استفاضت به الأخبار.

وقد وقفت في هذا المقام على جواب لشيخنا العلّامة الشيخ سليمان البحراني قدس‌سره عن مثل هذه المسألة حيث قال السائل : ما اشتهر بين الناس من أن كلّ إنسان لا بدّ أن يدفن في المكان الذي اخذت منه طينته ، هو صحيح أم لا؟

فعلى الأوّل ما تقول في بعض الروايات الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام المشعرة بأن مسجد السهلة فيه صخرة اخذ من تحتها طينة كلّ نبي ، مع أن كثيرا من الأنبياء لم يدفن فيه؟

فقال قدس‌سره : (الجواب أن الرواية بذلك غير صحيحة السند ، فلا يتعيّن التعويل عليها في مثل هذا المقام ، وعلى تقدير تسليمها فيمكن أن تكون الطينة التي تحت الصخرة انموذج طين الأنبياء المتفرّقة ، التي كل طينة في موضع. ويمكن أن يكون هذا مخصّصا لعموم ما دلّ على أن كلّ إنسان يدفن في المكان الذي أخذت منه طينته ؛ فيكون هذا العموم في غير الأنبياء عليهم‌السلام. على أن الأحاديث من الجانبين غير نقية الأسناد ؛ فلا يلزم الاعتماد عليها ، والله أعلم بذلك) انتهى.

أقول : ظاهر جواب شيخنا المذكور قدس‌سره يعطي أنه لم يتتبّع أخبار المسألة من الطرفين ، ولم يعط التأمّل حقّه فيها في البين ؛ ولهذا أن معتمد جوابه إنما هو ردّ الأخبار من الجانبين. وما ذكره من الاحتمالين في الجواب فإنما هو على تقدير

__________________

(١) يلاحظ أنه قدس‌سره نقل الخبر قبل أسطر بلفظ : فصارت قبورنا شتّى ، وهو الموافق للمصدر.

١٦٩

المماشاة والتسليم ، ولا يخفى ما فيه على الخبير العليم ؛ فإن أخبار الطرفين كثيرة مروية في الاصول المعتمدة ، متّفق عليها بين علماء الطائفة. وكيف كان فقد عرفت الجواب ، والله الهادي لمن يشاء.

١٧٠

(٥١)

درّة نجفيّة

في قاعدة التسامح في أدلّة السنن

قال شيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره في رسالة له تتضمّن ذكر الأدلّة الدالة على التساهل في أدلّة السنن والتسامح في مدارك الاستحباب ـ بعد نقل الأخبار الدالة على حصول الثواب لمن بلغه ثواب على عمل فعله وإن لم يكن كما بلغه ، وهي اثنا عشر خبرا ، والكلام في المسألة ـ ما صورته : (ورأيت لبعض الفضلاء هنا كلاما لا بأس بإيراده والنظر فيه ، قال رحمه‌الله ـ بعد ذكر جملة من تلك الأحاديث التي أوردناها ـ : (قد اعتمد هذا الاستدلال الشهيد الثاني وجماعة من المعاصرين).

وعندي فيه نظر ؛ إذ الأحاديث المذكورة إنما تضمّنت ترتّب الثواب على العمل ، وذلك لا يقتضي طلب الشارع له ؛ لا وجوبا ولا استحبابا ، ولو اقتضى ذلك لاستندوا في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه إلى هذه الأخبار كاستنادهم إليها في استحباب ما تضمّن الخبر الضعيف استحبابه.

وإذا كان الحال كذلك فلقائل أن يقول : لا بدّ من شرعيّة ذلك العمل وخيريته بطريق صحيح ودليل مسلم صريح جمعا بين هذه الأخبار وبين ما دلّ على اشتراط العدالة في الراوي. وأيضا الآية الدالّة على ردّ خبر الفاسق ـ وهي قوله

١٧١

تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) ـ أخصّ من هذه الأخبار ؛ إذ الآية مقتضية لرد خبر الفاسق سواء كان ممّا يتعلّق بالسنن أو بغيره (٢).

وهذه الأخبار تقتضي ترتّب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم سواء كان المخبر عدلا أو غير عدل ، طابق الواقع أم لا. ولا ريب أن الأوّل أخصّ من الثاني ؛ فيجب تخصيص هذه الأخبار بالآية جريا على القاعدة من العمل بالخاصّ في مورده ، وبالعام فيما عدا مورد الخاصّ. فيجب العمل بمقتضى الآية ـ وهو ردّ الخبر الفاسق ـ سواء كان عن عمل يتضمّن الثواب أو غيره ، ويكون معنى قوله عليه‌السلام : «وإن لم يكن كما بلغه ونحوه» إشارة إلى أن خبر العدل قد يكذب ؛ إذ الكذب والخطأ جائزان على غير المعصوم ، والخبر الصحيح ليس بمعلوم الصدق) انتهى كلامه (٣).

وأنت خبير بما فيه :

أمّا الأوّل : فقد ظهر ممّا حرّرناه ضعفه ، على أن الحكم بترتّب الثواب على عمل يساوق رجحانه جزما ؛ إذ لا ثواب على غير الواجب والمستحبّ كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فمرجعه بعد التحري إلى أن الثواب كما يكون للمستحب كذلك يكون للواجب ، فلم خصّصوا الحكم بالمستحبّ؟ كذا قرر السؤال بعض علمائنا المعاصرين (٤). وجوابه أن غرضهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ أن تلك الأحاديث إنما تثبت ترتّب الثواب على فعل ورد فيه خبر يدلّ على ترتّب الثواب ، لا أنه يعاقب على تركه وإن صرّح به في الخبر الضعيف ؛ لقصور في حدّ ذاته عن إثبات ذلك الحكم ، وتلك الأحاديث لا تدلّ عليه ، فالحكم الثابت لنا من هذا الخبر بانضمام تلك الأخبار ليس إلّا الحكم الاستحبابي.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) كذا في النسختين والمصدر.

(٣) أي كلام الفاضل المذكور أوّل الدرة.

(٤) بحار الأنوار ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

١٧٢

أقول : قد يقال : إن اللازم ممّا حرّرناه كون الحكم الثابت بانضمام تلك الروايات هو (١) مطلق الرجحان الشامل للوجوب والاستحباب لا الحكم الاستحبابي بخصوصه ؛ إذ (٢) كما أن قيد العقاب على تركه ممّا لا تدلّ عليه تلك الأخبار ، فكذلك جواز تركه لا إلى بدل لا تدلّ عليه أيضا ، ولا سيّما مع تصريح الخبر الضعيف بضدّه ، أعني : العقاب على تركه.

نعم ، قد يختصّ الحكم بالاستحبابي باعتبار ضميمة أصالة عدم الوجوب ، وأصالة براءة الذمّة منه ، فتأمّل. ولو لم يحرّر السؤال الثاني على الوجه الذي قررناه ، كان بطلانه أظهر وفساده أبين كما لا يخفى.

وأمّا السؤال الثالث ففيه :

أوّلا : أن التحقيق أن بين تلك الروايات وبين ما يدلّ على عدم العمل بقول الفاسق من الآية المذكورة ونحوها عموما من وجه ، فلو قرّر السؤال على حدّ ما قرّره بعض المحقّقين هكذا لما كان بينهما عموم من وجه كما أشرنا إليه ، فلا ترجيح لتخصيص الثاني بالأوّل ، بل ربّما رجّح العكس ، لقطعيّة سنده وتأييده بالأصل ؛ إذ الأصل عدم التكليف ، وبراءة الذمّة كانت أقرب إلى الاعتبار والاتجاه ، مع ما فيه من النظر والكلام ؛ إذ يمكن أن يقال : إن الآية الكريمة إنما تدلّ على عدم [العمل بقول] (٣) الفاسق بدون التثبّت. والعمل به فيما نحن فيه بعد ورود (٤) الروايات المعتبرة المستفيضة ليس عملا بلا تثبّت كما ظنّه السائل ، فلم تتخصّص الآية الكريمة بالأخبار ؛ بل بسبب ورودها خرجت تلك الأخبار الضعيفة عن عنوان الحكم المثبت في الآية الكريمة ، فتأمّل) (٥) انتهى كلام شيخنا

__________________

(١) من «ح».

(٢) من «ح».

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : قبول.

(٤) من «ح».

(٥) رسائل الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

١٧٣

المذكور ، رحمه‌الله تعالى برحمته.

أقول : لا يخفى على المتأمّل الماهر والخبير الباهر أن ما أطال به شيخنا المشار إليه ليس تحته مزيد طائل ولا رجوع إلى حاصل ، لعدم انطباقه على كلام ذلك الفاضل وما قرّره من الدلائل :

أمّا أوّلا ، فما ذكره بقوله : (أمّا الأوّل ـ مشيرا به إلى قول ذلك الفاضل : (إذ الأحاديث المذكورة إنما تضمّنت ترتّب الثواب) إلى آخره ـ فقد ظهر ممّا حرّرناه ضعفه) فيه أنه لم يتقدّم منه في المقام ماله مزيد ربط أو دفع لهذا الكلام. ومراد ذلك الفاضل بهذا الكلام أن غاية ما تضمّنته تلك الأخبار هو ترتب الثواب على العمل ، ومجرّد هذا لا يستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك العمل ، فلا بدّ أن يكون هناك دليل آخر دال على طلب الفعل والأمر به ليترتب عليه الثواب بهذه الأخبار وإن لم يكن موافقا للواقع ونفس الأمر. وهذا كلام وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

وحينئذ ، فقول شيخنا المذكور في الجواب : (إن ترتب الثواب على عمل يساوق رجحانه) ـ إلى آخره ـ كلام شعريّ ، وإلزام جدليّ لا معنى له عند التأمّل ، فإن العبادات توقيفيّة من الشارع واجبة كانت أو مستحبة لا بدّ لها من دليل صريح ونصّ فصيح يدلّ على مشروعيّتها ، وهذه الأخبار لا دلالة فيها على الثبوت على (١) الأمر بذلك ، وإنما غايتها ما ذكرناه. على أن ترتّب الثواب وإن ساوق الرجحان كما ذكره ، لكن هذا القائل يمنع من ترتّب الثواب وما يساوقه حتى يثبت دليل الأمر به.

فهذه الأخبار ـ الدالة على أن من بلغه ثواب على عمل فعمله (٢) ابتغاء لذلك (٣)

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : فعله.

(٣) في «ح» : ابتغاء ذلك ، بدل : ابتغاء لذلك.

١٧٤

الثواب كان له وإن لم يكن كما بلغه ـ مقيّدة عنده بوجود دليل على المشروعيّة ، ولا خبر (١) يدلّ على الأمر به كما عرفت من كلامه.

وأمّا ثانيا ، فإن قوله : و (أمّا الثاني فمرجعه) ـ إلى آخره ـ مشيرا إلى قول ذلك الفاضل : (ولو اقتضى ذلك لاستندوا في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه) ـ إلى آخره ـ فهو ممّا يقضى منه العجب من مثل شيخنا المذكور (٢) ، وكذا من نقل عنه في خلال تلك السطور ، فإن كلام الفاضل المذكور ينادي بلسان فصيح ونصّ صريح [بأن] (٣) مراده أنه (٤) لو اقتضى ترتّب الثواب في هذه الأخبار طلب الشارع لذلك الفعل وجوبا أو استحبابا لكان الواجب عليهم واللّازم لهم الاستناد إلى هذه الأخبار في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه كما جروا عليه بالنسبة إلى ما تضمّن الخبر الضعيف استحبابه ، مع أنهم لم يجروا هذا الكلام في الواجب.

وحاصل الكلام الالزام لهم بأنه لا يخلو إما أن يقولوا : إن ترتّب الثواب في هذه الأخبار يقتضي الطلب والأمر بالفعل [أو] (٥) لا :

فعلى الأوّل يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما فرضوه في الاستحباب ، مع أنهم لا يقولون به.

وعلى الثاني فلا بدّ من دليل آخر يقتضي ذلك ويدلّ عليه. وإلى هذا أشار تفريعا على هذا الكلام بقوله : (فلقائل أن يقول) إلى آخره.

هذا كلامه ـ طاب ثراه ـ وهو كلام واضح البيان عار عن الخلل والنقصان. وما أدري ما الموجب لهم إلى هذا الاضطراب في تحرير كلامه وتقرير مرامه ، حتى

__________________

(١) من «ع» ، وفي «ح» : أولا وخبرا ، وفي «ق» : أولا وخبر.

(٢) من «ح».

(٣) في النسختين : على ان.

(٤) من «ح».

(٥) في النسختين : أم.

١٧٥

بعدوا عن ظاهره بمراحل ، وأطالوا فيه بغير طائل ، وهو ظاهر مكشوف ، بيّن معروف؟

وأمّا ثالثا ، فإن قوله : (وأمّا السؤال الثالث) ـ إلى آخره ـ ممّا جرى في ذلك السبيل وصار من ذلك القبيل ، وذلك فإن دعوى ذلك الفاضل أن الآية أخصّ مطلقا صحيح ؛ فإن الأخبار دلّت على ترتّب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم ، سواء كان المخبر عدلا أو غيره ، طابق خبره الواقع أم لم يطابق ، من الواجبات كان العمل أو من المستحبات (١). ومورد الآية ردّ خبر الفاسق سواء (٢) تعلّق بالسنن أو غيرها.

ولا ريب أن هذا العموم أخصّ مطلقا ، ومن العجب قول شيخنا المذكور بناء على (٣) زعمه العموم والخصوص من وجه وتقريره السؤال بما ذكره : (وحينئذ ، فالجواب أن يقال : إن الآية الكريمة إنما تدلّ) ـ إلى آخره ـ فإن فيه خروجا عن كلام ذلك الفاضل ؛ لأن هذه الأخبار لا تدلّ عنده على مشروعية العمل ، وإنما تدلّ على مجرّد ترتّب الثواب بعد ثبوت المشروعيّة بدليل آخر. وحينئذ ، فكيف يحصل التثبت بها في العمل؟ وهل هذا الّا أوّل المسألة ومحلّ النزاع؟

وبالجملة ، فإن كلام ذلك الفاضل عندي في غاية المتانة والرزانة ، وما تكلّفوه في الجواب عنه مجرّد تخريجات واهية وكلمات متهافتة كما لا يخفى على الناظر بعين الإنصاف ، والله سبحانه أعلم.

ثم أقول : أنت خبير بأن الكلام في هذه المسألة سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما إنما ابتنى على هذا الاصطلاح المحدث الذي جعلوا فيه بعض الأخبار ـ وإن كانت مروية في الاصول المعتمدة والدساتير المتعدّدة ـ ضعيفة ، ورموا بها من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٨٠ ـ ٨٢ ، أبواب مقدمة العبادات ، ب ١٨ ، ح ١ ، ٣ ـ ٩.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» بعدها : ما ، وقد كتبت فوق السطر.

١٧٦

البين وإن كانوا عند الحاجة إليها يغمضون عنها العين ، ويتستّرون عن مخالفة اصطلاحهم بالأعذار الضعيفة والتعليلات السخيفة ممّا ذكر في هذه المسألة وغيره.

وإلّا فمتى قلنا بصحّة جملة أخبارنا المرويّة في اصولنا المعتبرة ودساتيرنا المشتهرة وأنها أدلّة صحيحة شرعيّة موجبة لثبوت الأحكام كما عليه جملة المتقدّمين (١) وشطر من متأخري متأخّري علمائنا الأعلام (٢) ، فلا مجال لهذا البحث بالكليّة ؛ إذ العامل إنما عمل على ذلك الخبر لكونه معتبرا معتمدا.

وهذا هو الأنسب بالقواعد الشرعيّة والضوابط المرعيّة ؛ فإن الاستحباب والكراهة كالوجوب والتحريم أحكام شرعيّة لا تثبت إلّا بالدليل الواضح والمنار اللائح ، ومتى كان الحديث الضعيف ليس بدليل شرعي كما يزعمونه فلا يثبت به استحباب ؛ لا (٣) في محلّ النزاع ، ولا غيره.

والتستّر هنا بأن ثبوت الاستحباب إنما حصل بانضمام هذه الأخبار كما ادّعوه ، فيه ـ زيادة على ما (٤) عرفت أيضا ـ أنه يؤدي إلى ثبوت الاستحباب بمجرّد رؤية أو سماع حديث يدلّ على ترتّب الثواب في ظهر كتاب أو ورقة ملقاة ، أو بخبر عامّي ؛ لصدق البلوغ بكل من هذه الامور كما دلّت عليه تلك الأخبار. والتزام ذلك لا يخلو من مجازفة في الأحكام ؛ ولهذا أن بعضهم تفطّن إلى ما ذكرنا ، فاشترط ثبوت أصل المشروعيّة احترازا عن البدع ، وهو تقييد للنص بغير دليل.

__________________

(١) الكافي ١ : ٨ ، الفقيه ١ : ٣ ، تهذيب الأحكام ١ : ٣.

(٢) الوجيزة في علم الدراية (ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين) : ٦ ، معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ١٠٥.

(٣) من «ح».

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : كما.

١٧٧

والحقّ في الجواب إنما هو ما ذكرناه من عدم صحّة هذا الكلام ؛ لعدم صحة (١) أساسه المشار إليه في المقام.

وقد نقل شيخنا المشار إليه آنفا عن بعض الأصحاب (٢) نظم أخبار المخالفين في هذا السلك ، فجوّز الرجوع إليها في المندوبات ، ثم قال قدس‌سره : (ولا ريب أن الأخبار المذكورة تشملهم ، إلّا إنه قد ورد النهي في كثير من الأخبار عن الرجوع إليهم والعمل بأخبارهم. وحينئذ (٣) فيشكل الرجوع إليها لا سيّما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة (٤) مخترعة وصورة مبتدعة لم يعهد مثلها في الأخبار) (٥) انتهى.

وبالجملة ، فإنه لما كان البناء على غير أساس عظم فيه الالتباس والانعكاس ، والحق في المسألة بناء على اصطلاحهم وردّهم الأخبار الضعيفة هو ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره ، وأوضحناه غاية الإيضاح.

__________________

(١) هذا الكلام لعدم صحة ، سقط في «ح».

(٢) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٥٢.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» فحينئذ.

(٤) في المصدر : حيثية.

(٥) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

١٧٨

(٥٢)

درّة نجفيّة

في موضع الوقف من آية (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)

روى السيّد الرضي رضي‌الله‌عنه في كتاب (نهج البلاغة) (١) عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام ، وروى نحوه الصدوق في (التوحيد) (٢) والعياشي في تفسيره (٣) أن أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، وذلك أن رجلا أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، صف لنا ربنا لنزداد له حبّا ومعرفة. فغضب عليه‌السلام ونادى : «الصلاة جامعة». فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله ، فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون فحمد الله سبحانه وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «الحمد لله» ، وساق الخطبة.

إلى أن قال : فقال عليه‌السلام : «فانظر أيّها السائل ، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنّ ذلك مقتضى (٤) حقّ الله عليك. واعلم أن الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم الله عن اقتحام السدد

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٤٩ ـ ١٥٠ / الخطبة : ١٥٠.

(٢) التوحيد : ٥٥ ـ ٥٦ / ١٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٨٦ / ٥.

(٤) في نهج البلاغة : منتهى.

١٧٩

المضروبة دون الغيوب ، والإقرار (١) بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب (٢) ، فمدح الله تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى (٣) تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا. فاقتصر على ذلك ، ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك ؛ فتكون من الهالكين».

أقول : ظاهر هذا الخبر لا يخلو من الإشكال ؛ إذ الظاهر أن الإشارة بقوله : «واعلم أن الراسخين في العلم» ـ إلى آخره ـ إنما [هي] (٤) إلى قوله عزوجل (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ) (٥) الآية ، وهو مبنيّ على الوقف على لفظ (اللهُ) و (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) : جملة مركّبة من مبتدأ وخبر ، بمعنى أنه لا يعلم تأويل (القرآن) كلّه : محكمه ومتشابهة إلّا الله تعالى خاصّة دون الراسخين ؛ وهو خلاف ما دلت عليه الأخبار الكثيرة المؤذنة بعطف (الرّاسِخُونَ) على (اللهُ) ، وأن علم (الكتاب) كملا عنده عزوجل وعند الراسخين ، فيكون الوقف حينئذ على (الرّاسِخُونَ).

ومن الأخبار في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) (٦) ، والعياشي في تفسيره (٧) عن الصادق عليه‌السلام قال : «نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله».

والعياشي عن الباقر عليه‌السلام : «يعني تأويل القرآن كلّه» (٨).

وفي رواية : «فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم ، قد علّمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ،

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : فالاقرار ، وفي نهج البلاغة : الإقرار.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : محجوب.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : فسمى.

(٤) في النسختين : هو.

(٥) آل عمران : ٧.

(٦) الكافي ١ : ٢١٣ / ١ ، باب أن الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم‌السلام.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٨٧ / ٨.

(٨) تفسير العياشي ١ : ١٨٧ / ٦.

١٨٠