الدّرر النجفيّة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الحديث دلالة على أن كلّا منهما وإن كان قليلا يكتب له وعليه.

وقد دلّ الحديث الذي نقله الشهيد رحمه‌الله على أن المؤمن يكتب له الحسنة بمجرد النية ولا يعد في كون السيّئة تكتب على الكافر بمجرّد النيّة.

وبالجملة ، فإن كان ما تكلم به العلماء على هذا الحديث بعد ثبوته عندهم بالنقل مرفوعا ، وإلّا فهذا وجه وجيه.

واعلم أنه على تقدير النصب يكون «نيّة» مصدرا مضافا إلى الفاعل مبتدءا خبره «من عمله» ، وعلى الرفع يكون اسم مصدر خبره «شر» و «خير») (١) انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار ممّا يصلح أن يكون تفسيرا لهذا الخبر ، منه ما رواه في (الكافي) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما خلد أهل النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلد أهل الجنّة لأنّ نيّاتهم في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ـ ثمّ تلا قوله تعالى ـ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٢)» (٣).

أقول : وهذا الخبر يؤكد (٤) المعنى الأخير من المعاني التي نقلها شيخنا الشهيد ، وهو الذي قبل الثلاثة التي ذكر أنها من سوانحه ، وهو الذي نسبه إلى بعض العلماء.

ومنها ما رواه شيخنا الصدوق رحمه‌الله في كتاب (العلل والاحكام) بسنده إلى زيد الشحام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني سمعتك تقول : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، فكيف تكون النيّة خيرا من العمل؟ قال : «لأنّ العمل ربّما كان رياء للمخلوقين ، والنيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي الله على النيّة ما لا يعطي على العمل».

__________________

(١) الدر المنثور من المأثور وغير المأثور ١ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، وقريب منه ما في الأنوار النعمانيّة ٢ : ٣٥٣.

(٢) الإسراء : ٨٤.

(٣) الكافي ٢ : ٨٥ / ٥ ، باب النية.

(٤) في «ح» : يؤيد.

١٢١

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام فيثبت الله له صلاته ، ويكتب نفسه تسبيحا ، ويجعل ثوابه عليه صدقة» (١).

وبإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه كان يقول : «نيّة المؤمن أفضل من عمله ؛ وذلك لأنه ينوي من الخير مالا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ؛ وذلك لأن الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» (٢).

وقد تقدّم ما تضمّنه هذان الحديثان في بعض الأوجه المتقدّمة. وهذا في الحقيقة يرجع إلى طبيعة النيّة والعمل.

ثم أقول : الظاهر أنه لا منافاة بين هذا الخبر وبين قوله : «أفضل الأعمال أحمزها» ؛ لأن التفاضل باعتبار الأحمزيّة وقع في الأعمال ، والنيّة ليست من الأعمال. وكيف كان فالعمل في معنى الخبر المذكور على ما تضمّنته هذه الأخبار.

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ / ب ٣٠١ ، ح ١.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٤١ / ب ٣٠١ ، ح ٢.

١٢٢

٤٨

درّة نجفيّة

في إيمان ولد الزنا

من المسائل التي سئل عنها شيخنا العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سره : ولد الزنا هل يحتمل أن يدخل الجنة مع إمكان أن يكون مؤمنا متشرّعا؟ فأجاب ـ طاب ثراه ـ بما صورته : (إن جواز إيمانه وإمكان تدينه عقلا ممّا لا خلاف فيه ، كيف ولو لم يكن كذلك لزم التكليف بالمحال ، وهو باطل عقلا ونقلا إلّا عند [شذاذ] (١) من المخالفين؟ وإنّما الخلاف في الوقوع ؛ [أي أنه] هل يقع منه الإيمان والتدين ، أم يقطع بعدم وقوع ذلك؟

والمنقول (٢) عن رئيس المحدّثين أبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه (٣) والمرتضى علم الهدى (٤) وأبي عبد الله محمد بن إدريس الحلّي (٥) ـ روّح الله أرواحهم ، وقدّس أشباحهم ـ هو الثاني ، وهو أنه لا يكون إلّا كافرا بمعنى أنه لا يختار إلّا الكفر ، وهم لا ينكرون أنه لو فرض إيمانه وتديّنه أمكن دخوله الجنّة ، بل وجب [إن وافى به] وإن كان عندهم أن هذا الفرض غير واقع ، لا لأنه

__________________

(١) في النسختين : شذوذ.

(٢) بحار الأنوار ٥ : ٢٨٨.

(٣) الهداية : ٦٨ ، الفقيه ١ : ٨ / ذيل الحديث : ١١.

(٤) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة) : ١٣٢.

(٥) السرائر ٣ : ١٠.

١٢٣

جلّت كلمته أجبره على الكفر وسلبه القدرة على الإيمان ؛ لأنه فاسد عند أصحابنا باطل بالأدلّة العقليّة القاهرة والآيات المحكمة الباهرة والأخبار المستفيضة عن العترة الطاهرة ، بل لأنه لا بدّ وأن يختار من قبل نفسه الكفر. وعلم الله بذلك تابع للواقع ؛ إذ هو حكاية للمعلوم ، ولا موجب له كما قرّر في علم الكلام ، فلا يكون ذلك مبطلا لقدرة العبد واختياره ، وإلّا لأبطل قدرة الربّ واختياره في فعله ؛ فإنه كان في الآزال عالما بما سيفعله ، فيما لا يزال إمّا واجبا أو ممتنعا ، هذا خلف.

وقد حقّق ذلك المحقّق في (نقد المحصّل) (١). وفي ظواهر الأخبار ما يشهد بهذا القول ، مثل قوله عليه‌السلام : «ولد الزنا شرّ الثلاثة» (٢).

ومثل قوله : «لا يبغضك يا علي إلّا ولد زنا» (٣).

ومثل ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) عن أبان بن (٤) أبي عياش عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذي‌ء قليل الحياء لا يبالي بما قال ولا [ما] قيل له ، فإنّك إذا فتّشته لم تجده إلّا لغية أو شرك شيطان». قيل : يا رسول الله ، وفي الناس شرك شيطان؟ فقال : «ما تقرأ قول الله عزوجل (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٥)؟» (٦). فإن ظاهره تحريم الجنة على الصنف المذكور تحريما مؤبّدا.

وقد علّل عليه‌السلام ذلك بأنك «إن فتّشته لم تجده إلّا لغية أو شرك شيطان» (٧) ،

__________________

(١) تلخيص المحصّل : ٣٢٨.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٨٦ / ب ٣٦٣ ، ح ٢ ، وفيه ـ خطابا لابن الزنا ـ : «أنت شرّ الثلاثة».

(٣) كشف اليقين : ٤٧٦ / ٥٧٣.

(٤) في «ق» بعدها : عثمان ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٥) الإسراء : ٦٤.

(٦) الكافي ٢ : ٣٢٣ / ٣ ، باب البذاء.

(٧) قيل : يا رسول الله .. شرك شيطان ، من «ح».

١٢٤

و (اللغية) ـ بضمّ اللّام وإسكان الغين المعجمة وفتح الياء المثنّاة من تحت ـ أي ملغى ، والمراد به : المخلوق من الزنا.

والأظهر عندي ضبطه بكسر اللام وتشديد الياء وخفض الهاء في آخره ؛ بجعل اللّام حرف جرّ ، والمراد : لم تجده إلّا [ولد] غيّة ، والغية : خلاف الرشد ، وفي (القاموس) : (ولد غية ـ ويكسر ـ : زنية (١)) (٢).

وذكر بعض المحقّقين في ترجمة (شرح الأربعين) أن خاتمة المحدّثين الميرزا محمّد الأسترآبادي ـ عطّر الله مرقده ـ ضبطه كذلك ، فرجع حاصل كلامه عليه‌السلام إلى أنه إنما حرّمت الجنّة على هذا الصنف ؛ لأنه لا يكون إلّا ابن زنا أو شرك شيطان.

ولا يخفى أنه يمكن حمل الخبر على تحريم الجنّة عليهم زمانا طويلا ، أو تحريم جنّة خاصّة معدّة لغير هذا الصنف كما احتمله شيخنا البهائي ـ نوّر الله مرقده ـ في (شرح الأربعين) (٣).

ومثل ما رواه رئيس المحدّثين قدس‌سره في (الفقيه) عن الصادق عليه‌السلام قال : «ومن وجد برد حبّنا على قلبه فليكثر الدعاء لأمّه ؛ فإنها لم تخن أباه» (٤).

وكان (٥) الصبي على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا وقع شكّ في نسبه عرضت عليه ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإن قبلها الحق نسبه بمن ينتهي إليه ، وإن أنكرها نفي (٦).

وفي (الفقيه) أيضا كان جابر بن عبد الله الأنصاري يدور في سكك الأنصار بالمدينة وهو يقول : عليّ خير البشر ، ومن أبى فقد كفر. يا معشر الأنصار ،

__________________

(١) «والغية خلاف الرشد ، وفي القاموس : ولد غية ، سقط في «ح».

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٥٣٩ ـ غوى.

(٣) الأربعون حديثا : ٣٢١ ـ ٣٢٢ / شرح الحديث : ٢٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٣١٨ / ١٥٤٩.

(٥) انظر بحار الأنوار ٣٩ : ٢٩٤ / ٩٦.

(٦) في «ق» بعدها : أيضا ، وما أثبتناه وفق «ح».

١٢٥

[أدبوا] (١) أولادكم على حبّ علي ، فمن أبى فانظر إلى شأن امّه (٢).

وجه الاستدلال أنه إذا جاز كون ولد الزنا مؤمنا متديّنا انتفت العلامة طردا ، ولم (٣) يدلّ حبّه عليه‌السلام على صحّة النسب ، وعكسا ؛ إذ ليس البغض حينئذ [معلولا] (٤) لفساد النسب ولا لازما لماهيّته لزوما بيّنا لا بالأخصّ ولا بالأعم ، ولا غير بيّن ، ولا لازما لوجودها ، فيتفارقان من الجانبين جزئيا لصدق الجزئيتين السالبتين ، فلا يدلّ البغض على فساد النسب ، ومنطوق النصّ خلافه.

وقريب من ذلك ما رواه الشيخ في (التهذيب) في باب الاستخارة للنكاح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الرجل إذا دنا من المرأة وجلس مجلسه حضر الشيطان ، فإن هو ذكر اسم (٥) الله تنحى عنه الشيطان ، وإن فعل ولم يسمّ أدخل الشيطان ذكره فكان العمل منهما جميعا ، والنطفة واحدة». قلت : بأي شي‌ء يعرف هذا؟ قال (٦) : «بحبّنا وبغضنا» (٧).

وتقريب الاستدلال جعله عليه‌السلام الحبّ علامة (٨) على عدم مشاركة الشيطان والبغض عليها ، واكتفى في الحكم بالمشاركة بمجرّد عدم التسمية ، يعني عمدا.

وهو يدلّ بالتنبيه وطريق الأولويّة على لزوم البغض والنصب لولد الزنا كما لا يخفى.

ومثل ما رواه الشيخ في (التهذيب) (٩) ، وثقة الإسلام في (الكافي) (١٠) عن

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : بوروا.

(٢) الفقيه ٣ : ٣١٨ / ١٥٤٨.

(٣) في «ق» بعدها : يجز ، وما أثبتناه وفق «ح».

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : معلوما.

(٥) سقط في «ح».

(٦) في «ح» : قال هذا ، بدل : هذا قال.

(٧) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٠٧ / ١٦٢٧ ، وفيه : الشيطان عنه ، بدل : عنه الشيطان.

(٨) من «ح».

(٩) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٣ / ٦٣٩.

(١٠) الكافي ٣ : ١١ / ٦ ، باب الوضوء من سؤر الحائض ..

١٢٦

الوشاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كرّه سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب.

والمراد بالكراهة هنا هو التنجيس وتحريم الاستعمال لا المعنى المصطلح بين الاصوليّين والفقهاء ؛ لعدم تأتّيه في سؤر المشرك للإجماع على نجاسته وحمل الكراهة على ما هو أعمّ من كراهة التنزيه والتنجيس. وتحريم الاستعمال موجب لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو ممتنع عند جمع من الاصوليّين وحمله على القدر المشترك ـ وهو [مطلق] المرجوحية ـ يوجب الإخلال بالبيان ، مع أن السيّد العلّامة السيّد محمدا في (المدارك) (١) ، وتلميذه الفاضل الأمين الأسترابادي في (حواشي الفقيه) ذكرا أن الكراهة في إطلاقاتهم عليهم‌السلام حقيقة في التحريم. ولنا فيه بحث ليس هذا موضعه.

وبالجملة ، فالأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة ، إلّا إنّها قابلة للتأويل ، غير خالية من قصور في سند أو دلالة ، والقائل بمضمونها قليل نادر ، وأكثر أصحابنا على إسلامه وطهارته وإمكان تديّنه وعدالته وصحّة دخوله الجنّة.

وأنا في هذه المسألة متوقّف وإن كان القول الثاني لا يخلو من قوّة ومتانة ، وهو فتوى الشيخين (٢) ، والفاضلين (٣) ، والشهيدين (٤) ، وكافة المتأخّرين (٥). ويعضده الأصل والنظر إلى عموم سعة رحمة الله وتفضّله بالألطاف الربّانيّة والعنايات السبحانية على كافة البريّة.

وتحقيق البحث في ذلك يفضي إلى الإسهاب ، وفيما ذكرناه كفاية لاولي

__________________

(١) مدارك الأحكام ٧ : ٣٧٩.

(٢) لم نعثر عليه عند الشيخ المفيد ، الخلاف ١ : ٧١٣ ـ ٧١٤ / المسألة : ٥٢٢ ، النهاية : ٥٤٢.

(٣) شرائع الإسلام ٣ : ٨٠ ، مختلف الشيعة ٨ : ٣١ / المسألة : ٢.

(٤) الدروس ٢ : ١٨٢.

(٥) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام ٣ : ٣٦٠.

١٢٧

الألباب) (١) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

أقول : لقد دخل شيخنا قدس‌سره في هذه المسألة من غير الطريق ، وعرّج على الاستدلال فيها من واد سحيق ، ولم يمعن النظر فيها بعين التحقيق ، ولا الفكر الصائب الدقيق ، ولم يورد شيئا من أخبارها اللائقة بها حسبما يراد ؛ فلذا صار كلامه معرضا للإيراد ؛ حيث لم يوافق المطلوب والمراد. وبيان ذلك يظهر من وجوه النظر التي تتوجّه على كلامه ، الظاهرة في تداعي ما بنى عليه وانهدامه :

فأحدها : جعله محلّ الخلاف في المسألة أنه هل يقع من ابن الزنا الإيمان والتديّن أم يقطع بعدمه؟ وجملة القول بكفره على معنى أنه لا يقع منه إلّا الكفر ، وإلّا فانه لا ينكرون أنه لو فرض إيمانه وتديّنه أمكن دخوله الجنّة ، بل وجب ؛ فإنّه ليس في محلّه ، بل هؤلاء القائلون بكفره يقولون به وإن أظهر الإيمان كما صرّح بذلك جملة من علمائنا الأعيان منهم شيخنا خاتمة المحدّثين صاحب (بحار الأنوار) حيث قال فيه : (ونسب إلى الصدوق والسيّد المرتضى وابن إدريس القول بكفره وإن لم يظهره).

ثم قال : (وهذا مخالف لأصول العدل ؛ إذ لم يفعل باختياره ما يستحق به العقاب فيكون عقابه ظلما وجورا والله ليس بظلام للعبيد) (٢) انتهى.

وهذا المعنى هو الذي تدلّ عليه الأخبار كما ستمر بك قريبا إن شاء الله تعالى ؛ فإنّها صريحة في حرمانه الجنّة وإن كان ظاهره التديّن بالإيمان.

نعم ، ما ذكره من القول بالكفر إنما هو وجه تأويل حيث حمل القائلون بإسلام ولد الزنا الأخبار الدالّة على عدم دخوله الجنّة على أنه لكونه يظهر الكفر ، فجعلوه جوابا عن الأخبار المذكورة ، مع أنها صريحة في ردّه كما سيظهر لك ،

__________________

(١) أجوبة الشيخ سليمان الماحوزي : ٣٦ ـ ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ٥ : ٢٨٨.

١٢٨

لا (١) أن ذلك مذهب القائلين بكفره.

وثانيها : من نقله من الأدلّة للقائلين بالكفر وقوله في آخر الكلام : (وبالجملة ، فالأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة إلّا إنها قابلة للتأويل) ، فإنه مسلّم بالنسبة إلى أخباره التي أوردها ، لكنها ليست هي أدلّة هذا القول كما توهّمه قدس‌سره ، بل أدلّته ما سنذكره من الروايات الصحيحة الصريحة المستفيضة الغير القابلة للتأويل.

والعجب منه ـ عطّر الله مرقده ـ مع سعة دائرته في الاطّلاع ، وكونه ممن لا يجارى في سعة الباع كيف غفل عن الوقوف عليها مع كثرتها وانتشارها وتكررها واشتهارها حتى اعتمد في الاستدلال على هذه الأخبار البعيدة عن المقام بمراحل ، بل لا تنطبق عليه إلّا بمزيد تكلّف كما لا يخفى على الخبير الفاضل؟

وثالثها : ما ذكره من قوله : (إن أكثر أصحابنا على إسلامه وطهارته ، وإمكان تدينه وعدالته ، وصحّة دخوله الجنّة) ، وميله إلى هذا القول بعد توقّفه ، وقوله : (إنه لا يخلو من قوة ومتانة) ، فإنه مخالف لهذه (٢) الأخبار الواردة عن العترة الأطهار في هذا المضمار في جملة من موارد الأحكام ، فمن ذلك دعوى الطهارة ، فإن ظواهر الأخبار تدلّ على النجاسة ، ومنها مرسلة الوشاء الّتي ذكرها ، واعترف بأن الكراهة فيها بمعنى التنجيس.

ومنها رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام ، فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرهما» (٣).

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : الا.

(٢) في «ح» : لجملة.

(٣) الكافي ٣ : ١٤ / ١ ، باب ماء الحمام .. ، وسائل الشيعة ١ : ٢١٩ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ١١ ، ح ٤.

١٢٩

ورواية علي بن الحكم وفيها : «لا تغتسل من [غسالة] ماء الحمام ؛ فإنّه يغتسل فيه من الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم» (١).

ومن ذلك دعوى العدالة. ولا يخفى أن المواضع التي تشترط فيها العدالة هي الإمامة في الصلاة ، وقد اتّفق الأصحاب والأخبار على اشتراط طهارة المولد فيها وأنّها لا تنعقد بابن الزنا. والشهادة ، وقد استفاضت الأخبار بأنّه لا يقبل شهادته والقضاء ، وقد اتّفقت كلمة الأصحاب على أنه لا يجوز له تولّي القضاء. وحينئذ ، فأيّ ثمرة لهذه العدالة الّتي ادّعاها في المقام؟

فمن الأخبار الدالة على عدم جواز إمامته موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خمسة لا يؤمنون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي حتّى يهاجر والمحدود» (٢).

وروى الصدوق في (الفقيه) مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «لا يصلينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا» (٣) الحديث.

والحكم اتّفاقي بين الأصحاب ، فلا ضرورة إلى الإطالة في الاستدلال.

ومن الأخبار الدالة على عدم (٤) جواز قبول شهادته موثقة زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «لو أن أربعة شهدوا عندي على رجل بالزنا وفيهم ولد زنا لحددتهم جميعا ؛ لأنه لا تجوز شهادته ، ولا يؤم الناس» (٥).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٩٨ / ١٠ ، باب الحمام .. ، وسائل الشيعة ١ : ٢١٩ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ١١ ، ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٥ / ١ ، باب من تكره الصلاة خلفه ، وسائل الشيعة ٨ : ٣٢٥ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ١٥ ، ح ٥.

(٣) الفقيه ١ : ٢٤٧ / ١١٠٦.

(٤) ليست في «ح».

(٥) الكافي ٧ : ٣٩٦ / ٨ ، باب ما يرد من الشهود ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٧٦ ، كتاب الشهادات ، ب ٣١ ، ح ٤.

١٣٠

وبهذا المضمون صحيحة محمّد بن مسلم أو موثقته ، ورواية أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ قال : «لا». قلت : إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز. فقال : «اللهم لا تغفر ذنبه ، ما قال الله للحكم بن عتيبة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١)» (٢).

ويدلّ على ذلك أيضا صحيحة الحلبي (٣).

نعم ، في رواية عيسى بن عبد الله (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تجوز إلّا في الشي‌ء اليسير إذا رأيت منه صلاحا» (٥).

ومن الأحكام الزائدة على ما ذكر هنا ما ورد في ديته من أنّها كدية اليهودي والنصراني (٦) : ثمانمائة درهم ، روى ذلك الشيخ في (التهذيب) عن عبد الرحمن ابن عبد الحميد عن بعض مواليه قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : «دية ولد الزنا دية اليهود : ثمانمائة درهم» (٧).

وروى المشايخ الثلاثة في الكتب الثلاثة عن جعفر بن بشير عن بعض رجاله قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دية ولد الزنا؟ فقال : «ثمانمائة درهم مثل دية اليهودي (٨) والنصراني والمجوسيّ» (٩).

__________________

(١) الزخرف : ٤٤.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩٥ / ٤ ، باب ما يرد من الشهود ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، كتاب الشهادات ، ب ٣١ ، ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٤٤ / ٦١٢ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٧٦ ، كتاب الشهادات ، ب ٣١ ، ح ٦.

(٤) في «ح» : عيسى بن عبيد بن عبد الله.

(٥) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٤٤ / ٦١١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٧٦ ، كتاب الشهادات ، ب ٣١ ، ح ٥.

(٦) في «ح» اليهود والنصارى ، بدل : اليهودي والنصراني.

(٧) تهذيب الأحكام ١٠ : ٣١٥ / ١١٧١.

(٨) في «ح» : اليهود.

(٩) الفقيه : ٤ : ١١٤ / ٣٨٩ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٣١٥ / ١١٧٢ ، وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٢٢ ، أبواب ديات النفس ، ب ١٥ ، ح ٢.

١٣١

ومثل ذلك رواية إبراهيم بن عبد الحميد (١).

وفي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته كم دية ولد الزنا؟ فقال : «يعطي الذي أنفق عليه ما أنفق» (٢).

وقد حكم بمضمون هذه الأخبار الصدوق (٣) والمرتضى (٤) وابن إدريس (٥) بناء على مذهبهم في المسألة ، والمشهور بناء على الحكم بإسلامه أن ديته دية المسلم ، مع أنه لا معارض لهذه الأخبار في المقام.

وأنت خبير بأن جملة هذه الأحكام إنما ترتّبت على ابن الزنا من حيث كونه ابن زنا وإن كان متديّنا بظاهر (٦) الإسلام كما لا يخفى على ذوي الأذهان والأفهام ، فإن الكفر مانع من الإمامة وقبول الشهادة وتولّي القضاء وإن لم يكن ابن الزنا ، وكذا في حكم الدّية ، وهذا بحمد الله ظاهر (٧) لا سترة عليه.

ومن ذلك دعوى دخول الجنة الذي بنى فيه على مجرد التخمين والظنّة ؛ فإن الأخبار مستفيضة برده فمنها ما رواه الصدوق في كتاب (العلل) بسنده عن سعد ابن عمر الجلّاب قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل خلق الجنّة طاهرة مطهّرة فلا يدخلها إلّا من طابت ولادته» ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «طوبى لمن كانت امّه عفيفة» (٨).

وروى في الكتاب المذكور بسنده فيه إلى محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١٠ : ٣١٥ / ١١٧٣ ، وسائل الشيعة ٢٩ : ٢٢٣ ، أبواب ديات النفس ، ب ١٥ ، ح ٣.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ٣٤٣ / ١٢٣٤ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ٢٧٥ ، أبواب ميراث ولد الملاعنة وما أشبه ، ب ٨ ، ح ٣.

(٣) المقنع : ٥٢٠ ، الهداية : ٣٠٣.

(٤) الانتصار : ٥٤٤ / المسألة : ٣٠٥.

(٥) السرائر ٣ : ٣٥٢.

(٦) سقط في «ح».

(٧) سقط في «ح».

(٨) علل الشرائع ٢ : ٢٨٦ / ب ٣٦٣ ، ح ١.

١٣٢

رفع الحديث إلى الصادق عليه‌السلام قال : «يقول ولد الزنا : يا رب فما ذنبي ؛ فما كان لي في أمري صنع؟». قال : «فيناديه مناد ؛ فيقول : أنت شرّ الثلاثة ؛ أذنب والداك فتبت عليهما ، وأنت رجس ولن يدخل الجنة إلّا طاهر» (١).

أقول : انظر إلى صراحة هذا الخبر في أن منعه وطرده عن الجنّة إنّما هو من حيث كونه ابن زنا ، حيث إنه احتج بأنّه (لا ذنب لي (٢) يوجب بعدي وطردي من الجنّة) ، فلو كان كافرا لم يحتج بهذا الكلام ، ولو احتجّ لأتاه الجواب : بأن طردك من الجنّة لأجل كفرك. وهذا بحمد الله ظاهر.

ومثله ما رواه في (الكافي) (٣) وغيره (٤) بسنده عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لو كان أحد من ولد الزنا نجا ، لنجا سائح بني إسرائيل». فقيل له : وما سائح بني إسرائيل؟ قال : «كان عابدا فقيل له : إن ولد الزنا لا يطيب أبدا ولا يقبل الله منه عملا». قال : «فخرج يسيح بين الجبال ويقول : ما ذنبي».

وروى البرقي في كتاب (المحاسن) بسنده عن سدير قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «من طهرت ولادته دخل الجنّة» (٥).

وروى فيه أيضا بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خلق الله الجنّة طاهرة مطهّرة لا يدخلها إلّا من طابت ولادته» (٦).

وهذه الأخبار كما ترى صريحة في أن منع ابن الزنا من دخول الجنّة إنما هو

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٢٨٦ / ب ٣٦٣ ، ح ٢.

(٢) سقط في «ح».

(٣) لم نعثر عليه في الكافي.

(٤) المحاسن ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦ / ٣٣٨ ، عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٣١٣ / ١٠ ، بحار الأنوار ٥ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ / ٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٤٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٤ ، ح ٩.

(٥) المحاسن ١ : ٢٣٣ / ٤٢٣.

(٦) المحاسن ١ : ٢٣٣ / ٤٢٤.

١٣٣

من حيث خبث الولادة لا من حيث الكفر الذي زعموا حمل الأخبار عليه كما قدّمنا نقله عنهم.

وروى في كتاب (المحاسن) أيضا بسنده عن أيّوب بن الحرّ عن أبي بكر قال : كنا عنده ومعنا عبد الله بن عجلان ، فقال عبد الله بن عجلان : معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال : إنه ولد زنا. فقال : ما تقول؟ فقلت : إن ذلك ليقال له. فقال : إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر يرد عنه وهج جهنّم ويؤتى برزقه (١).

قال بعض مشايخنا ـ عطّر الله مراقدهم ـ بعد نقل هذا الخبر : (قوله : (من صدر) أي يبنى له ذلك في صدر جهنّم وأعلاه. والظاهر أنه تصحيف الصبر ـ بالتحريك ـ وهو الجمد) (٢).

وروى في (الكافي) بسنده عن ابن أبي يعفور قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن ولد الزنا يستعمل ؛ إن عمل خيرا جزي به وإن عمل شرا جزي به» (٣).

أقول : هذا الخبر موافق للمشهور من أن ولد الزنا كسائر الناس مكلّف باصول الدين وفروعه ، وتجري عليه أحكام المسلمين ويثاب على الطاعات ويعاقب على المعاصي ، إلّا إنه لا يبلغ قوة المعارضة لما سردناه من الأخبار أولا وآخرا.

وممّا يؤكّدها أيضا ما رواه الصدوق في كتاب (عقاب الأعمال) (٤) والبرقي في (المحاسن) (٥) بإسنادهما عن أبي بصير ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن نوحا عليه‌السلام حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل فيها ولد الزنا ، والناصب شرّ من ولد الزنا».

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٤٦ / ٤٥٩.

(٢) بحار الأنوار ٥ : ٢٨٧ / ١٢.

(٣) الكافي ٨ : ١٩٩ / ٣٢٢.

(٤) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٢٥١ / ٢٢.

(٥) المحاسن ١ : ٢٩٦ / ٥٩٣.

١٣٤

وما رواه في (ثواب الأعمال) في الموثق عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره ولا في لحمه ولا في دمه ولا في شي‌ء منه» (١) يعني ولد الزنا.

وروى الشيخان بسنديهما عن أبي خديجة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا يطيب ولد الزنا ولا يطيب ثمنه» (٢) الحديث.

وبالجملة ، فإن المفهوم من هذه الأخبار التي ذكرناها أن ابن الزنا له حالة ثالثة غير حالتي الإيمان والكفر ؛ لأن ما تقدّم من الأخبار الدالة على أحكامه في الدنيا من (٣) النجاسة وعدم العدالة وحكم ديته ، وكذا الأخبار الدالّة على عدم جواز دخول الجنة لا تجامع الإيمان بوجه ، وأسباب الكفر الموجبة للحكم بكونه كافرا غير موجودة فيه ؛ لأن الفرض أنه متديّن بظاهر الإيمان كما عرفت من الأخبار المذكورة.

وكيف كان فالحقّ عندي في هذه المسألة ما أفاده (٤) خاتمة المحدّثين غوّاص (بحار الأنوار) ، ومستخرج ما فيه من لآلئ الآثار ـ قدّس الله روحه ، ونوّر ضريحه ـ حيث قال ـ بعد نقله جملة من الأخبار الدالّة على عدم دخوله الجنّة ـ ما صورته : (أقول : يمكن الجمع بين الأخبار على وجه آخر يوافق قانون العدل بأن يقال : لا يدخل ولد الزنا الجنّة ، لكن لا يعاقب في النار إلّا بعد أن يظهر منه ما يستحقه ، ومع فعل الطاعة وعدم ارتكاب ما يحبطه يثاب في النار على ذلك ، ولا يلزم على الله أن يثيب الخلق في الجنّة. يدل عليه خبر عبد الله بن عجلان ؛ ولا

__________________

(١) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٣١٣ / ٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٥ / ٦ ، باب بيع اللقيط وولد الزنا ، تهذيب الأحكام ٧ : ٧٨ / ٣٣٣.

(٣) الدنيا من ، من «ح» ، وقد وردت في «ق» بعد قوله : لا تجامع.

(٤) في «ح» بعدها : شيخنا.

١٣٥

ينافيه خبر عبد الله بن أبي يعفور ؛ إذ ليس فيه تصريح بأن جزاءه يكون في الجنّة.

وأمّا العمومات الدالّة على أن من يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله الله الجنّة [فـ] يمكن أن تكون مخصّصة بتلك الأخبار) (١) انتهى.

والذي يظهر لي أن مقتضى هذه الأخبار الكثيرة المستفيضة الواردة في أحكامه دنيا وآخرة أنه في الغالب والأكثر لا يطيب ولا يكون مؤمنا ، وإن كان مؤمنا فإيمانه يكون مستعارا ، وربّما ثبت على إيمانه ، وكان إيمانه مستقرّا إلّا إن ثوابه يكون في النار على الوجه الذي ذكره شيخنا المشار إليه.

وهذا الوجه يمكن ردّه إلى كلام شيخنا المذكور ودخوله فيه كما لا يخفى ، ولله درّ شيخنا المشار إليه حيث قال على أثر هذا الكلام الذي نقلناه هنا : (وبالجملة ، فهذه المسألة ممّا قد تحيّر فيه العقول وارتاب فيها الفحول ، والكف عن الخوض فيها أسلم ، ولا تجد فيها شيئا أحسن من أن يقال : الله أعلم) (٢) انتهى.

وبما حقّقناه في المقام ، وكشفنا عنه غشاوة الإبهام يظهر لك ما في كلام شيخنا المتقدّم ذكره من القصور والجور من غير تحقيق على ظاهر المشهور ، والله العالم.

وبعد الوصول إلى هذا المقام من الكلام وقفت على كلام للسيّد الفاضل المحدّث السيّد نعمة الله الجزائري ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ قال في كتاب (الأنوار النعمانية) : (تذييل في حال ولد الزنا إذا ورد على ربّه عزوجل : اعلم أن المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ هو أنه إذا أظهر دين الإسلام كان مسلما بحكم المسلمين في الطهارة ودخول الجنّة ، وقد نقل عن المرتضى والصدوق (٣) وابن إدريس ـ قدّس الله أرواحهم ـ أنه كافر نجس يدخل النار كغيره ونظيره من الكفّار.

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ٢٨٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) ليست في «ح».

١٣٦

ولكن وجد بخطّ شيخنا الشهيد الثاني ـ قدّس الله روحه ـ مسائل نقلها عن المرتضى ـ تغمّده الله برحمته ـ وهذه عبارته : وسئل عن ولد الزنا وما روي فيه من أنه في النار ، وأنه لا يكون من أهل الجنّة ، فأجاب رضي‌الله‌عنه : (إن هذه الرواية موجودة في كتب أصحابنا إلّا إنه غير مقطوع بها ، ووجهها ـ إن صحّت ـ أن كل ولد زنية لا بد أن يكون في علم الله أنه يختار الكفر ويموت عليه ، وأنه لا يختار الإيمان ، وليس كونه من ولد الزنية ذنبا يؤاخذ به ، فإن ذلك ليس ذنبا له في نفسه وإنما الذنب لأبويه ، ولكنّه إنما يعاقب بأفعاله الذميمة القبيحة التي علم الله أنه يختارها. ويصير كونه ولد زنا علامة على وقوع ما يستحق من العقاب ، وأنه من أهل النار بتلك الأعمال ، لا لأنه مولود من زنا) ..).

ثم قال السيّد : (وهذا لا ينافي ما حكيناه عنه رحمه‌الله فإنه قد يذهب في المسألة الواحدة إلى مذاهب مختلفة ، يكون له في كل كتاب من مصنّفاته مذهب من المذاهب. والحقّ أن الأخبار متضافرة في الدلالة على سوء حاله وأنه من أهل النار ، فروى الصدوق رحمه‌الله بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «ولد الزنا يقول : يا ربّ (١) ما ذنبي فما كان في أمري من صنع» (٢)).

ثم ساق الرواية كما قدّمنا ، ثم قال : (وهذا ممّا لا مسلك فيه للعقول ، وإن أردت تأويل مثل هذا الخبر لينطبق على أقوال الأصحاب فاحمله إلى إرادة ولد الزنا إذا كان مخالفا في المذهب ، مع أن هذه سياسة شرعية أظهرها الشارع للحكم بحكم ومصالح ؛ حتى لا يتجرّأ أحد على الزنا. وله نظائر كثيرة ، مع أن الغالب في ولد الزنا سوء الحال والأعمال ، حتى يكون هو الذي يدخل النار بعمله.

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٨٦ / ب ٣٦٣ ، ح ٢.

١٣٧

على أنه يجوز أن الله تعالى يحتج عليه يوم القيامة بدخول نار يؤجّجها ، كما يحتج على الأطفال الذين يموتون من أولاد الشرك والكفّار (١) ممّن تحقّقت سابقا) (٢) انتهى.

وأنت خبير بما في تأويله للخبر الذي نقله من البعد كما أشرنا إليه آنفا ، ثم إن في كلامه قدس‌سره تأييدا لما ذكرناه من أن محلّ الخلاف في المسألة هو ما إذا كان مظهر الإيمان ؛ ولهذا أنه بعد أن نقل عن المرتضى خلاف ذلك أجاب عنه بما ذكر.

وبالجملة ، فما ذكره شيخنا المتقدّم ذكره في المسألة غفلة بلا ريب ، والله العالم.

__________________

(١) في المصدر : غيره ، بدل الأطفال الذين يموتون من أولاد الشرك والكفار.

(٢) الأنوار النعمانية ٤ : ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

١٣٨

(٤٩)

درّة نجفيّة

في شرح حديث الرفع

روى الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (التوحيد) (١) و (الخصال) (٢) في الصحيح عن حريز بن عبد الله (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».

أقول : هذا الخبر قد رواه أيضا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) (٤) مرسلا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ورواه ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) عن محمّد بن أحمد النهدي رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن امتي تسع خصال : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» (٥).

والمراد بالرفع أو الوضع في الخبر : ما هو أعمّ من عدم المؤاخذة والعقاب كما

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤.

(٢) الخصال ٢ : ٤١٧ / ٩ ، باب التسعة.

(٣) بن عبد الله ، ليست في «ح».

(٤) الفقيه ١ : ٣٦ / ١٣٢.

(٥) الكافي ٢ : ٤٦٣ / ٢ ، باب ما رفع عن الامّة.

١٣٩

في بعض ، أو عدم التكليف كما في آخر ، أو عدم التأثير كما في ثالث (١).

ومفهوم الخبر مؤاخذة من تقدّم من الامم بذلك ، كما يعطيه تمدّحه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وتخصيص الرفع بامته لأجله ـ صلوات الله عليه وآله ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه.

ونحن نتكلم في الخبر على كلّ من هذه التسعة

بما يوجب مزيد الإيضاح له والبيان ، ويجعله في قالب العيان ، فنقول وبه سبحانه التوفيق لبلوغ المأمول :

الأوّل والثاني : الخطأ والنسيان

ولا ريب في رفع المؤاخذة بهما ، في قوله (٢) سبحانه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٣) وقوله عزوجل (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (٤). وانتفاء الإثم والمؤاخذة فيهما (٥) لا ينافي ترتب بعض الأحكام عليهما ، كالضمان في خطأ الطبيب ، والدّية والكفارة في قتل الخطأ ، وإعادة الصلاة لنسيان ركن ، وسجود السهو ، وتدارك بعض الواجبات المنسيّة ونحو ذلك.

الثالث : الإكراه

ويدلّ عليه أيضا قوله عزوجل (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٦).

والمراد به ما هو أعمّ من (٧) أن يكون في اصول الدين أو فروعه ، وأن يبلغ الوعيد حد القتل أو غيره ممّا لا يتحمّل عادة. وكيف كان ، فهو مخصوص بما إذا لم يتعلّق بالدماء بأن يكون على قتل مؤمن ؛ فإنه لا تقيّة في الدماء.

__________________

(١) انظر مرآة العقول ١١ : ٣٨٧.

(٢) في «ح» : لقوله ، بدل : في قوله.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) الأحزاب : ٥.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : عليهما.

(٦) النحل : ١٠٦.

(٧) سقط في «ح».

١٤٠