غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

ببوله (١) وفي رواية أخرى : فلا بأس ببوله وسلحه. (٢)

والخمر نجسة بلا خلاف ممن يعتد به (٣) ، وقوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) (٤) يدل على نجاستها ، وكل شراب مسكر نجس.

والفقاع نجس بالإجماع المشار إليه.

ودم الحيض والاستحاضة والنفاس نجس بلا خلاف.

وكذا الدم المسفوح من غير هذه الدماء ، إلا أنه يجوز الصلاة في ثوب أصابه من دم القروح أو الجروح ما نقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي المضروب من درهم وثلث مع الاختيار ورفع الحرج ، وإن كان التنزه عن ذلك أفضل ، فأما إن كان عليه في إزالة الدم حرج ، لكون الجروح أو القروح لازمة له ، فإن إزالته لا تجب عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، وهذا بخلاف دم الحيض والاستحاضة والنفاس ، فإن الصلاة لا تجوز في ثوب أصابه شي‌ء منه ، قليلا كان أو كثيرا ، كل ذلك بدليل الإجماع.

فأما دم البراغيث والبق والسمك فطاهر ، بدليل هذا الإجماع ، ولأن النجاسة حكم شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ثبوتها في هذه الدماء ، ويخص دم السمك قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) (٥) ، لأنه يقتضي إباحة أكل السمك بجميع أجزائه ، وقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٦) ودم السمك

__________________

(١) سنن البيهقي : ٢ ـ ٤١٣.

(٢) سلح الطائر سلحا ـ من باب نفع ـ وهو منه كالتغوط من الإنسان. المصباح المنير وفي «ج» : ببوله وروثه وسلحه.

(٣) في «س» : بلا خلاف إلا من لا يعتد به.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) المائدة : ٩٦.

(٦) الأنعام : ١٤٥.

٤١

ليس بمسفوح ، فيجب أن لا يكون محرما ، وذلك يقتضي طهارته.

والمني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل ، رطبا كان أو يابسا ، بدليل الإجماع المذكور ، وقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) (١). لأن المروي في التفسير أن المراد بذلك أثر الاحتلام ، وإذا كان كذلك وكان معنى الرجز والرجس والنجس واحدا بدلالة قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٢) وقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٣) دلت الآية على نجاسته ، وأيضا فظاهر قوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ، يدل على تقدم النجاسة في الشرع بإطلاقه ، ونحتج على المخالف بما روى عنهم (٤) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني». (٥)

وميتة ذوات الأنفس السائلة نجسة بلا خلاف إلا في الآدمي ، ويدل على نجاسته بعد الموت ، إجماع الطائفة ، فأما ما لا نفس له سائلة ، كالذباب والجراد ، فلا ينجس الماء بموته فيه ، بدليل هذا الإجماع ، ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه» (٦) ، وذلك عام في الحي والميت ، ولأن المقل يوجب الموت ، لا سيما إذا كان ما في الإناء حارا ، ولو كان ينجس بموته لما أمر بمقله على الإطلاق.

وشعر الميتة وصوفها وعظمها طاهر ، بدليل هذا الإجماع ، ويخص الشعر والصوف قوله تعالى (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٧) لأنه سبحانه امتن علينا بما جعله لنا من النفع في ذلك ، ولم يفصل

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) المدثر : ٥.

(٣) الحج : ٣٠.

(٤) في حاشية الأصل : بما روى عندهم.

(٥) سنن البيهقي : ١ ـ ١٤ وكنز العمال : ٩ ـ ٣٤٩ برقم ٢٦٣٨٥ ومسند أبى يعلى : ٣ ـ ١٨٥ برقم ١٦١١.

(٦) سنن البيهقي : ١ ـ ٢٥٢.

(٧) النحل : ٨٠.

٤٢

بين الذكية والميتة ، ولا يجوز الامتنان بما لا يجوز الانتفاع به لنجاسته ، وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١) لا يعارض ما ذكرناه ، لأن اسم الميتة يتناول ما تحله الحياة ، وهذه الأشياء لا تحلها الحياة ، فلا يحلها الموت.

فأما جلد الميتة فلا يطهر بالدباغ ، بدليل هذا الإجماع ، وظاهر قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، والمراد الانتفاع بها بأكل أو بيع أو غيرها من التصرف ، واسم الميتة يتناول الجلد قبل الدباغ وبعده ، ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل موته بشهر : «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» (٢) وقول من قال : إن الجلد لا يسمى إهابا بعد الدباغ خارج عن اللغة والشرع ، فلا يعتد به.

والخنزير نجس بلا خلاف.

والكلب نجس بلا خلاف إلا من مالك (٣) ، ويدل على نجاسته إجماع الطائفة ، ويغسل الإناء من ولوغه فيه ثلاث مرات ، إحداهن ـ وهي الأولى ـ بالتراب ، بدليل هذا الإجماع ، ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات». (٤) وفي خبر آخر : «فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا» (٥) وهذا بظاهره أيضا يقتضي وجوب الثلاث ، من حيث لم يجز عليه الاقتصار على ما دونها ، ولأن لفظة «أو» إما أن تفيد التخيير بين هذه الأعداد ، وتكون كلها واجبة على جهة التخيير ، وإما أن تفيد التخيير بين الاقتصار على الثلاث التي هي الواجبة ، وبين الزيادة عليها على جهة الندب ، فإذا كان الأول باطلا بالإجماع ، لم يبق إلا الثاني.

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) سنن البيهقي : ١ ـ ١٤ وجامع الأصول : ٨ ـ ٤٦ وسنن ابن ماجة : ٢ ـ ١١٩٤ برقم ٣٦١٣ ومسند أحمد : ٤ ـ ٣١٠.

(٣) تأتي ترجمته ص ٣٦٢.

(٤ و ٥) سنن البيهقي : ١ ـ ٢٤٠ و ٢٤١ وجامع الأصول : ٨ ـ ٣٦.

٤٣

والثعلب والأرنب نجسان ، بدليل الإجماع المذكور.

والكافر نجس بدليله أيضا ، وبقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (١) ، وهذا نص. وكل من قال بذلك في المشرك ، قال به فيمن عداه من الكفار ، والتفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. وقول المخالف : المراد بذلك نجاسة الحكم ، غير معتمد ، لأن إطلاق لفظ النجاسة في الشريعة يقتضي بظاهره نجاسة العين حقيقة ، وحمله على الحكم مجاز ، واللفظ بالحقيقة أولى من المجاز ، ولأنا نحمل اللفظ على الأمرين جميعا ، لأنه لا تنافي بينهما.

وقولهم : لو كان نجس العين لما طهر بتجدد معنى هو الإسلام وانتفاء معنى هو الكفر ، باطل ، لأن الخمر نجسة العين ، وتطهر بتجدد معنى هو الحموضة ، وانتفاء معنى هو الشدة ، ولا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (٢) لأن لفظ الطعام إذا أطلق ، انصرف إلى الحنطة.

ولا يمكن للمخالف إنكار ذلك ، لأن أبا حنيفة والشافعي اختلفا فيمن وكل وكيلا على أن يبتاع له طعاما ، فقال الشافعي : لا يجوز أن يبتاع إلا الحنطة ، وقال أبو حنيفة : ودقيقها أيضا ، ذكر ذلك المحاملي (٣) في آخر كتاب البيوع من كتابه الأوسط في الخلاف. وذكره الأقطع (٤) في آخر كتاب الوكالة من شرح

__________________

(١) التوبة : ٢٨.

(٢) المائدة : ٥.

(٣) هو أبو عبد الله حسين بن إسماعيل بن سعيد صاحب الأمالي المتوفى ٣٣٠ ه‍ ـ وقد أثنى عليه ابن كثير في تاريخه لاحظ الغدير : ١ ـ ١٠٢.

(٤) أبو نصر ، أحمد بن محمد بن محمد ، الفقيه الحنفي المعروف بالأقطع ، درس الفقه على مذهب أبي حنيفة على أبي الحسن القدوري ، وخرج من بغداد في سنة ٤٣٠ إلى الأهواز وأقام بها برامهرمز ، ومن تصانيفه : شرح مختصر القدوري في فروع الفقه الحنفي ، مات سنة ٤٧٤ ه‍ ـ وذكر في الجواهر المضيئة : ١ ـ ١١٩ برقم ٢٣٤ في ذيل ترجمته وجه تسميته بالأقطع.

٤٤

القدوري (١) ، وقال في الشرح : والأصل في ذلك أن الطعام المطلق ، اسم للحنطة ودقيقها.

وإنما أحوجنا إلى ذكر مذهب المخالف في ذلك والإحالة على كتبهم إنكار من أنكره من جهالهم ، على أنا نقول : لو وقع لفظ الطعام بإطلاقه على غير الحنطة ، لحملناه عليها وعلى غيرها من الجامدات بدليل [الإجماع]. (٢)

فأما ما عدا ما ذكرناه من الحيوان من ذوات الأربع والطير والحشرات فطاهر السؤر إلا أن يكون على فمه نجاسة ، بدليل إجماع الطائفة ، وظاهر قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٣) وقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤) فبين سبحانه أن الماء المطلق يطهر ، وسؤر ما ذكرناه ينطلق عليه (٥) اسم الماء ، وإنما يخرج من هذا الظاهر ما أخرجه دليل قاطع.

وقد ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلالة ، وعرق الجنب إذا أجنب من الحرام.

الفصل الثالث

وأما ما به تفعل الطهارة فثلاثة أشياء : الماء والتراب والأحجار ، أو ما يقوم مقامها ، على ما قدمناه في الاستنجاء ، فكل ماء استحق إطلاق هذا الاسم عليه

__________________

(١) أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان الفقيه المعروف بالقدوري ـ بضم القاف والدال ـ من أهل بغداد ومن تصانيفه المختصر المعروف باسمه «القدوري» مات سنة ٤٢٨ ه‍ ـ لاحظ الأنساب : ٤ ـ ٤٦٠ والأعلام للزركلي : ١ ـ ٢٦٠.

(٢) ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

(٣) النساء : ٤٣.

(٤) الفرقان : ٤٨.

(٥) في «ج» : يطلق عليه.

٤٥

ولم تخالطه نجاسة ، فإنه طاهر مطهر بلا خلاف ، فإن خالطته وكان راكدا كثيرا ليس من مياه الآبار أو جاريا قليلا كان أو كثيرا ، ولم يتغير بها أحد أوصافه ، من لون أو طعم أو رائحة ، فإنه طاهر مطهر أيضا بلا خلاف إلا في مقدار الكثير ، ويدل على ذلك أيضا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) ، لأن مخالطة النجاسة للماء الجاري أو الكثير الراكد إذا لم يتغير أحد أوصافه ، لا يخرجه عن استحقاق إطلاق هذا الاسم والوصف معا عليه ، وإذا كان كذلك وجب العمل بالظاهر إلا بدليل قاطع.

فإن تغير أحد أوصاف هذا الماء فهو نجس بلا خلاف ، فإن كان الماء راكدا قليلا ، أو من مياه الآبار ، قليلا كان أو كثيرا ، تغير بالنجاسة أحد أوصافه أو لم يتغير ، فهو نجس بدليل إجماع الطائفة وظاهر قوله تعالى (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٢) وقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٣) وقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٤) لأنه يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقا ، من غير اعتبار بالكثرة وتغير أحد الأوصاف ، وإنما يخرج من ذلك ما أخرجه دليل قاطع.

وحد الكثير ما بلغ كرا أو زاد عليه ، وحد الكر وزنا ألف ومائتا رطل ، وحده مساحة لموضعه ثلاثة أشبار ونصف طولا في مثل ذلك عرضا في مثله عمقا بالإجماع ، ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (٥).

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

(٣) المدثر : ٥.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) نسبه المؤلف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبه الشيخ في الخلاف ـ كتاب الطهارة المسألة ١٢٦ ـ إلى أئمتنا عليهم‌السلام ، ونقله السيد المرتضى في الانتصار : ٨ ولم نعثر عليه مع الفحص الأكيد في الصحاح والمسانيد وإنما المروي في كتبهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان الماء قدر قلتين لم يحمل الخبث» لاحظ السنن الكبرى : ١ / ٢٦١ وجامع الأصول : ٨ / ١٢ مع اختلاف في التعبير.

٤٦

واختلف أصحابنا في الأرطال ، فمنهم من قال عراقية ، ومنهم من قال مدنية (١) والأول أظهر في الروايات ، والثاني تقتضيه طريقة الاحتياط ، لأن الرطل المدني أزيد من العراقي.

فأما مياه الآبار فإنها تنجس بكل ما يقع فيها من النجاسات ، قليلا كان ماؤها أو كثيرا على ما قدمناه بالإجماع ، وأيضا فلا خلاف بين الصحابة والتابعين في أن ماء البئر يطهر بنزح بعضه.

وهذا يدل على حكمهم بنجاسته على كل حال من غير اعتبار بمقداره ، وأن حكمه في ذلك بخلاف حكم ماء الأواني والغدران (٢).

ولا يمتنع أن يكون الوجه في اختلاف حكمها ، أن ماء البئر يشق نزح جميعه ، لبعده عن الأيدي ، ولتجدده مع النزح ، وليس كذلك ماء الأواني والغدران ، ولهذا وجب غسل الأواني بعد إخراج الماء منها لما تيسر وسقط ذلك في الآبار لما تعذر.

وإذا خفف حكم البئر بالحكم بطهارة مائها عند نزح بعضه ، وأسقط إيجاب غسلها بخلاف الأواني والغدران ، فما المنكر من تغليظ حكمها من وجه آخر؟! وهو إسقاط اعتبار الكثرة في مائها (وما جرى مجراها وهو إيجاب نزحها) (٣) بخلاف الأواني والغدران.

فقد صار ما غلظ به حكم الآبار وهو ترك اعتبار الكثرة في مائها ، ساقطا في الأواني والغدران وما غلظ به حكم الأواني وما جرى مجراها وهو إيجاب غسلها ساقطا في الآبار وتساويا في باب التغليظ والتخفيف.

__________________

(١) القائل هو السيد المرتضى : الناصريات ، المسألة ٢ ورسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة ، ص ٢٢ واختاره الصدوق في الفقيه : ١ ـ ٦.

(٢) الغدير : النهر ، والجمع غدران. المصباح المنير.

(٣) ما بين القوسين ليس بموجود في «ج».

٤٧

والواقع في البئر من النجاسات على ضربين : أحدهما تغير أحد أوصاف الماء. والثاني لا يغيره.

فما غير أحد أوصافه المعتبر فيه بأعم الأمرين من زوال التغير وبلوغ الغاية المشروعة (١) في مقدار النزح منه ، فإن زال التغير قبل بلوغ المقدار المشروع في تلك النجاسة وجب تكميله ، وإن نزح ذلك المقدار ولم يزل التغير وجب النزح إلى أن يزول ، لأن طريقة الاحتياط تقتضي ذلك ، والعمل عليه عمل على يقين.

وما لا يغير أحد أوصاف الماء على ضربين :

أحدهما يوجب نزح جميع الماء ، أو تراوح أربعة رجال على نزحه ، من أول النهار إلى آخره ، إذا كان له مادة يتعذر معها نزح الجميع.

والضرب الآخر يوجب نزح بعضه.

فما يوجب نزح الجميع أو المراوحة عشرة أشياء : الخمر وكل شراب مسكر والفقاع والمني ودم الحيض ودم الاستحاضة ودم النفاس وموت البعير فيه ، وكل نجاسة غيرت أحد أوصاف الماء ولم يزل التغير قبل نزح الجميع ، وكل نجاسة لم يرد في مقدار النزح فيها (٢) نص.

وما يوجب نزح البعض على ضروب :

منه : ما يوجب نزح كر واحد ، وهو موت أحد الخيل فيها ، أو ما ماثلها في مقدار الجسم.

ومنه : ما يوجب نزح سبعين دلوا ، بدلو البئر المألوف ، وهو موت الإنسان خاصة.

ومنه : ما يوجب نزح خمسين ، وهو كثير الدم المخالف للدماء الثلاثة

__________________

(١) في «ج» : وبلوغ المقدرة المشروعة.

(٢) في بعض النسخ : «منها» بدل «فيها».

٤٨

المقدم ذكرها ، والعذرة الرطبة أو اليابسة المتقطعة (١).

ومنه : ما يوجب نزح أربعين ، وهو موت الشاة ، أو الكلب ، أو الخنزير ، أو السنور ، أو ما كان مثل ذلك في مقدار الجسم ، وبول الإنسان البالغ.

ومنه : ما يوجب نزح عشر ، وهو قليل الدم المخالف للدماء الثلاثة ، والعذرة اليابسة غير المتقطعة (٢).

ومنه : ما يوجب نزح سبع ، وهو موت الدجاجة ، أو الحمامة ، أو ما ماثلهما في مقدار الجسم ، والفأرة إذا انتفخت أو تفسخت ، وبول الطفل الذي قد أكل الطعام.

ومنه : ما يوجب نزح ثلاث ، وهو موت الفأرة إذا لم تنتفخ أو لم تتفسخ ، والحية والعقرب والوزغة وبول الطفل الذي لم يأكل الطعام.

ومنه : ما يوجب نزح دلو واحدة ، وهو موت العصفور ، أو ما ماثله من الطير في مقدار الجسم ، والدليل على جميع ذلك الإجماع السالف.

والماء المتغير ببعض الطاهرات ، كالورس والزعفران ، يجوز الوضوء به ما لم يسلبه التغير إطلاق اسم الماء عليه ، يدل على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٣) وقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤) وهذا ينطلق عليه اسم الماء ، ومن ادعى أن التغير اليسير يسلبه إطلاق اسم الماء ، فعليه الدليل ، لأن إطلاق الاسم هو الأصل ، والتقييد داخل عليه ، كالحقيقة والمجاز.

والماء المستعمل في الوضوء والأغسال المندوبة طاهر مطهر يجوز الوضوء به والاغتسال مرة أخرى بلا خلاف بين أصحابنا ، ويدل عليه أيضا ما تلوناه من ظاهر القرآن.

__________________

(١ و ٢) في «ج» : المنقطعة.

(٣) النساء : ٤٣.

(٤) الفرقان : ٤٨.

٤٩

فأما المستعمل في الغسل الواجب ففيه خلاف بين أصحابنا (١) ، وظاهر القرآن مع من أجراه مجرى المستعمل في الوضوء إلا أن يخرجه دليل قاطع.

ومن يقول : إن الاستعمال على كل حال يخرجه عن تناول اسم الماء بالإطلاق ، يحتاج إلى دليل ، ولأن من شربه وقد حلف أن لا يشرب ماء يحنث بلا خلاف ، وهذا يبطل قوله.

ولا يجوز الوضوء بغير الماء من المائعات ، نبيذ تمر كان أو ماء ورد أو غيرهما ، بدليل الإجماع المذكور ، وظاهر قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٢) لأنه يقتضي نقلنا عن الماء إلى التراب من غير واسطة ، ومن أجاز الوضوء بغير الماء ، فقد جعل بينهما واسطة ، وزاد في الظاهر ما لا يقتضيه.

والوضوء بالماء المغصوب لا يرفع الحدث ، ولا يبيح الصلاة بالإجماع ، وأيضا فالوضوء عبادة يستحق بها الثواب ، فإذا فعل بالماء المغصوب خرج عن ذلك إلى أن يكون معصية يستحق بها العقاب ، فينبغي أن لا يكون مجزئا ، ولأن نية القربة فيه مندوب إليها بلا خلاف ، والتقرب إلى الله تعالى بمعصية محال.

ولا يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات ، وهو قول الأكثر من أصحابنا ، ويدل عليه أن حظر الصلاة وعدم إجزائها في الثوب الذي أصابته نجاسة ، معلوم ، فمن ادعى إجزائها فيه إذا غسل بغير الماء ، فعليه الدليل ، وليس في الشرع ما يدل على ذلك ، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة من الصلاة يقتضي ما ذكرناه ، لأنه لا خلاف في براءة ذمة المكلف من الصلاة إذا غسل الثوب بالماء ، وليس كذلك إذا غسله بغيره.

__________________

(١) لاحظ المختلف : ١ ـ ٢٣٣ من الطبع الحديث.

(٢) النساء : ٤٣.

٥٠

ويحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسماء (١) في دم الحيض يصيب الثوب : «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء» (٢) وظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب.

ولا يجوز التحري (٣) في الأواني وإن كانت جهة الطاهر أغلب ، بالإجماع ، ولأن المراد بالوجود في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ، التمكن من استعمال الماء الطاهر ، ولهذا لو وجده ولم يتمكن من استعماله إما لعذر ، أو فقد آلة أو ثمن ، جاز له التيمم. ومن لا يعرف الطاهر بعينه ولا يميزه من غيره ، غير متمكن من استعماله.

وأما التراب فالذي يفعل به التيمم ، ولا يجوز إلا بتراب طاهر ، ولا يجوز بالكحل ولا بالزرنيخ ولا بغيرهما من المعادن ، ولا بتراب خالطه شي‌ء من ذلك ، بالإجماع وقوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٤) والصعيد هو التراب الذي لا يخالطه غيره ، ذكر ذلك ابن دريد (٥) وحكاه عن أبي عبيدة (٦) وغيره من أهل اللغة ، والطيب هو الطاهر.

__________________

(١) أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن زبير ، وهي أسن من عائشة أختها لأبيها ، ماتت سنة ٧٣ ه‍. لاحظ أسد الغابة : ٥ ـ ٣٩٢.

(٢) سنن البيهقي : ١ ـ ١٣ والتاج الجامع للأصول : ١ ـ ٥٨ وجامع الأصول : ٨ ـ ٣٢.

(٣) قال الطريحي : التحري يجزي عند الضرورة أعني : طلب ما هو الأحرى في الاستعمال في غالب الظن ، ومنه التحري في الإنائين. مجمع البحرين.

(٤) النساء : ٤٣.

(٥) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري الإمامي شاعر ، نحوي ، لغوي كان واسع الرواية توفي ٣٢١ لاحظ كشف الظنون : ١ ـ ١٦٢ والكنى والألقاب : ١ ـ ٢٧٩ وأعيان الشيعة : ٩ ـ ١٥٣.

(٦) أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري ، مولى بني تيم ، أخذ عنه أبو حاتم والمازني وغيرهم مات سنة (٢١١ ه‍ ـ) لاحظ وفيات الأعيان : ٥ ـ ٢٣٥.

٥١

الفصل الرابع :

في كيفية الطهارة

وأما الوضوء فتقف صحته على فروض عشرة :

أولها : النية بالإجماع وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ). (١) الآية ، لأن التقدير اغسلوا وجوهكم للصلاة ، وإنما حذف ذكر الصلاة اختصارا ، كقولهم : إذا لقيت الأمير فالبس ثيابك ، وإذا لقيت العدو فخذ سلاحك ، وتقدير الكلام افعل ذلك للقاء. وإذا أمر الله تعالى بهذه الأفعال للصلاة ، فلا بد من النية ، لأن بها يتوجه إلى الصلاة دون غيرها.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢) والإخلاص له لا يحصل إلا بالنية ، والوضوء من الدين ، لأنه عبادة ، بدليل الإجماع.

ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الوضوء شطر الإيمان» (٣) ويحتج عليه في وجوب النية بما رووه أيضا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» (٤) ، لأن أجناس الأعمال إذا كانت توجد من غير نية ، ثبت أن المراد أنها لا تكون قربة وشرعية ومجزئة إلا بالنية ، ولأن قوله : «وإنما لامرئ ما نوى» يدل على أنه ليس له ما لم ينو ، لأن هذا حكم لفظة «إنما» في اللسان العربي على ما بيناه فيما مضى من الكتاب.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) البينة : ٥.

(٣) كنز العمال : ٩ ـ ٢٨٨ برقم ٢٦٠٤٤ وص ٣١٦ برقم ٢٦٢٠٠.

(٤) سنن البيهقي : ١ ـ ٢١٥.

٥٢

والنية هي أن يريد المكلف الوضوء لرفع الحدث واستباحة ما يريد استباحته به من صلاة أو غيرها مما يفتقر إلى طهارة طاعة لله وقربة إليه.

اعتبرنا تعلق الإرادة برفع الحدث ، لأن حصوله مانع من الدخول فيما ذكرناه من العبادة.

واعتبرنا تعلقها باستباحة العبادة ، لأن ذلك هو الوجه الذي لأجله أمر برفع الحدث ، فما لم ينوه لا يكون ممتثلا للفعل على الوجه الذي أمر به لأجله.

واعتبرنا تعلقها بالطاعة لله تعالى ، لأن بذلك يكون الفعل عبادة.

واعتبرنا القربة إليه سبحانه ـ والمراد بذلك طلب المنزلة الرفيعة عنده بنيل ثوابه ، لا قرب المسافة ، على ما بيناه فيما مضى من الأصول ـ لأن ذلك هو الغرض المطلوب بطاعته ، الذي عرضنا سبحانه بالتكليف له.

واعتبار القربة في النية عبادة في نفسه ، أمر الله تعالى به ، ومدح على فعلها ، ووعد سبحانه عليه الثواب.

ودليل الأمر بها قوله تعالى (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١) ، وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢) لأن المعنى إما أن يكون افعلوا ذلك على رجائكم الفلاح به ، وإما أن يكون افعلوه لكي تفلحوا.

ودليل مدحه سبحانه على ذلك ووعده الثواب عليه قوله (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) (٣) فأخبر سبحانه عن باطنهم وما نووه من التقرب بالطاعة إليه ، ومدحهم على ذلك ، ووعدهم الثواب عليه.

__________________

(١) العلق : ١٩.

(٢) الحج : ٧٧.

(٣) التوبة : ٩٩.

٥٣

فإن كان الوضوء واجبا ، بأن يكون وصلة إلى استباحة واجب تعين ، نوى وجوبه على الجملة ، أو الوجه الذي له وجب ، وكذا إن كان ندبا ، ليميز الواجب من الندب ، ويوقعه على الوجه الذي كلف إيقاعه عليه.

ويجوز أن يؤدى بالوضوء المندوب الفرض من الصلاة ، بالإجماع المذكور ، ومن خالف في ذلك من أصحابنا (١) غير معتد بخلافه.

والفرض الثاني : الذي يقف صحة الوضوء عليه ، مقارنة آخر جزء من النية لأول جزء منه ، حتى يصح تأثيرها بتقدم جملتها على جملة العبادة ، لأن مقارنتها على غير هذا الوجه ، بأن يكون زمان فعل الإرادة هو زمان فعل العبادة أو بعضها ، متعذر لا يصح تكليفه ، أو فيه حرج يبطله ما علمناه من نفي الحرج في الدين ، لأن ذلك يخرج ما وقع من أجزاء العبادة ، ويقدم وجوده على وجود جملة النية عن كونه عبادة ، من حيث وقع عاريا من جملة النية ، لأن ذلك هو المؤثر في كون الفعل عبادة لا بعضه.

والفرض الثالث : استمرار حكم هذه النية إلى حين الفراغ من العبادة ، وذلك بأن يكون ذاكرا لها ، غير فاعل لنية تخالفها ، بالإجماع ، وإذا كانت المضمضة والاستنشاق أول ما يفعل من الوضوء ، فينبغي مقارنة النية لابتدائهما ، لأنهما وإن كانا مسنونين فهما من جملة العبادة ومما يستحق به الثواب ولا يكونان كذلك إلا بالنية على ما بيناه.

والفرض الرابع : غسل الوجه ، وحده من قصاص شعر الرأس إلى محادر (٢) شعر الذقن طولا [و] (٣) ما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، مرة واحدة بكف من الماء ، بالإجماع. ولأن ما اعتبرناه من الوجه بلا خلاف ، وما زاد على ذلك لا

__________________

(١) الشيخ : المبسوط : ١ ـ ١٩.

(٢) محادر الذقن ـ بالدال المهملة ـ : أول انحدار الشعر عن الذقن ، وهو طرفه. مجمع البحرين.

(٣) ما بين المعقوفتين موجود في «س».

٥٤

دليل على أنه منه.

والفرض الخامس : غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع مرة واحدة ، كل واحدة منهما بكف من الماء ، وإدخال المرفق في الغسل ، بالإجماع المشار إليه. وأيضا فطريقة الاحتياط يقتضي ذلك ، لأنه إذا غسلها على الوجه الذي ذكرناه ، زال حدثه بلا خلاف ، وليس كذلك إذا بدأ من الأصابع ، أو لم يدخل المرافق في الغسل.

ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (١) ولا يخلو إما أن يكون ابتداء بالمرافق أو انتهى إليها ، ولا يجوز أن يكون انتهى إليها ، لأن ذلك يوجب أن لا تقبل صلاة من ابتدأ بها ، وهو خلاف الإجماع ، فثبت أنه عليه‌السلام ابتدأ بالمرافق ، فيجب أن يكون صلاة من ابتدأ بالأصابع غير مقبولة.

وقوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٢) ، لا ينافي ما ذكرناه لأن «إلى» كما تكون للغاية تكون بمعنى «مع» بدليل قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٣) و (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٤) وشواهد ذلك من كلام العرب أشهر من أن يحتاج إلى التطويل بذكرها ، والدليل على أنها في آية الطهارة بمعنى «مع» أنها لو كانت فيها بمعنى الغاية ، لوجب الابتداء بالأصابع ، وهذا بخلاف الإجماع ، وهذه الآية دليلنا على وجوب إدخال المرافق في الغسل.

والفرض السادس : مسح مقدم الرأس مرة واحدة ، والأفضل أن يكون مقدار الممسوح ثلاث أصابع مضمومة ، ويجزي مقدار إصبع واحدة ، بالإجماع المذكور ،

__________________

(١) سنن البيهقي : ١ ـ ٨٠ ، سنن ابن ماجة : ١ ـ ١٤٥ ، المبسوط للسرخسي : ١ ـ ٩ وسنن الدار قطني : ١ ـ ٨٠.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) النساء : ٢.

(٤) الصف : ١٤.

٥٥

وقوله سبحانه (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (١) لأنه لا بد لهذه الباء من فائدة ، وإذا لم تكن فائدتها ها هنا تعدية الفعل ـ لأنه متعد بنفسه والكلام مستقل بإسقاطها ـ لم يبق إلا أن يكون فائدتها التبعيض. ويحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ ورفع مقدم عمامته وأدخل يده تحتها فمسح مقدم رأسه. (٢)

والفرض السابع : مسح ظاهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وهما الناتئان في وسط القدم عند معقد الشراك ، والأفضل أن يكون ذلك بباطن الكفين ، ويجزي بإصبعين منهما ، ويدل على ذلك مضافا إلى الإجماع المذكور قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٣) ، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس ، ثم عطف عليها الأجل ، فوجب أن يكون لها بمقتضى العطف مثل حكمها ، كما وجب مثل ذلك في الأيدي والوجوه ، وسواء في ذلك القراءة بالجر والنصب.

أما الجر فلا وجه له إلا العطف على الرؤوس ، ومن تعسف وجعله للمجاورة فقد أبعد ، لأن محصلي علماء العربية قد نفوا الإعراب بالمجاورة أصلا ، وتأولوا الجر في «جحر ضب خرب» على أن المراد «خرب جحرة» مثل «مررت برجل حسن وجهه» ولأنه عند من جوزه شاذ نادر لا يقاس عليه ، فلا يجوز والحال هذه حمل كتاب الله عليه ، ولوجود حرف العطف في الآية الذي لا يبقى معه للإعراب بالمجاورة حكم ، ولأن الإعراب بذلك إنما يكون في الموضع الذي ترتفع الشبهة فيه ، لأن من المعلوم أن خربا لا يجوز أن يكون من صفات الضب ، وليس كذلك الأرجل ، لأنه كما يصح أن تكون مغسولة ، يصح أن تكون ممسوحة ، فلا يجوز أن يكون إعرابها للمجاورة لحصول اللبس بذلك.

وأما النصب فهو أيضا بالعطف على موضع الرؤوس (كما قال :

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) سنن البيهقي : ١ ـ ٦١.

(٣) المائدة : ٦.

٥٦

معاوي اننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١).

والشواهد على ذلك كثيرة ، وعطفها على موضع الرؤوس) (٢) أولى من عطفها على الأيدي لاتفاق أهل العربية على أن إعمال أقرب العاملين أولى من إعمال الأبعد ، ولهذا كان رد عمرو في الإكرام إلى زيد أولى من رده في الضرب إلى بكر من قولهم «ضربت زيدا وأكرمت بكرا وعمرا» ومثله «أكرمت وأكرمني عبد الله وأكرمني وأكرمت عبد الله) فإن إعمال أقرب الفعلين من الاسم فيه أولى من إعمال الأبعد.

وبذلك جاء القرآن قال الله تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٣) ، و (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٤) ، و (أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٥) ، فإن العوامل في المنصوب في ذلك كله أقرب الفعلين إليه. وأيضا فقد بينا أن القراءة بالجر لا يحتمل سوى المسح ، فيجب حمل القراءة بالنصب على ما يطابقها ، لأن قراءة الآية الواحدة بحرفين يجري مجرى الآيتين في وجوب المطابقة بينهما.

ويحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال على سباطة قوم ثم توضأ ومسح على قدميه ونعليه. (٦) وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : ما نزل القرآن

__________________

(١) من أبيات لعقبة بن الحارث الأسدي يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان يشكو إليه جور عماله.

لاحظ الأبيات في الفتوح لابن اعثم الكوفي ٤ ـ ٢٢٥ والعقد الفريد : ١ ـ ٥٢ في اللؤلؤة في السلطان وفيه قدم عقيبة الأسدي (مصغر عقبة) على معاوية ورفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات وبعده :

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

وقد استدل بالبيت على جواز العطف على المحل ، السيد المرتضى في الانتصار : ٢٣ والطبرسي في مجمع البيان : ٣ ـ ١٦٥ في ذيل الآية ٦ من سورة المائدة ، وابن رشد في بداية المجتهد : ١ ـ ١٥.

(٢) ما بين القوسين سقط عن نسخة ج وس.

(٣) الكهف : ٩٦.

(٤) الحاقة : ١٩.

(٥) الجن : ٧.

(٦) سنن البيهقي : ١ ـ ١٠١ و ٢٨٦ باختلاف يسير ، جامع الأصول : ٨ ـ ٥٥ و ١٣٩ ، التاج الجامع للأصول : ١ ـ ٩٢ ونقله الطبرسي في مجمع البيان : ٣ ـ ١٦٧ قال ابن منظور في لسان العرب :

٥٧

إلا بالمسح (١) ، وعن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسح على رجليه (٢) ، وعنه أنه قال : مسحتان وغسلتان (٣) ، وإذا ثبت أن فرض الرجلين هو المسح دون غيره ثبت أن الكعبين هما ما ذكرناه ، لأن كل من قال بأحد الأمرين قال بالآخر ، والقول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع ، وأيضا فقد دللنا على أن فرض المسح يتعلق ببعض الرأس ، فكذلك يجب في الأرجل بحكم العطف.

وقوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٤) ، المراد به رجلا كل متطهر ، وفيهما عندنا كعبان ، وهذا أولى من قول مخالفنا أنه أراد رجل كل متطهر ، لأن الفرض يتناول الرجلين معا ، فصرف الخطاب إليهما أولى.

والفرض الثامن : أنه لا يستأنف لمسح الرأس والرجلين ماء جديدا ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن من غسل وجهه ويديه مأمور بمسح رأسه ورجليه ، والأمر بمقتضى الشرع يوجب الفور ، ومن ترك المسح بالبلل الذي في يديه وعدل إلى أخذ ماء جديد ، فقد ترك المسح في زمان كان يمكنه فعله فيه ، وترك العمل بظاهر الآية وذلك لا يجوز ، ولأن كل من أوجب مسح الرجلين على التضييق قال بما ذكرناه ، والقول بأحد الأمرين دون الآخر خروج عن الإجماع.

والفرض التاسع : الترتيب وهو أن يبدأ بغسل وجهه ، ثم بيده اليمنى ، ثم اليسرى ، ثم يمسح رأسه ، ثم يمسح رجليه ، بدليل الإجماع المذكور ، وطريقة

__________________

السباطة : الكناسة ، وفي الحديث ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى سباطة قوم فبال فيها. والسباطة : الموضع الذي يرمي فيه التراب والأوساخ.

(١) التهذيب : ١ ـ ٦٣ ح ١٧٥ ، وفيه (ما انزل) والتبيان : ٣ ـ ٤٥٣.

(٢) سنن البيهقي : ١ ـ ٤٤ عن رفاعة بن رافع ومسند أحمد بن حنبل : ١ ـ ١٥٨ عن علي عليه‌السلام ونحوه في كنز العمال : ٩ ـ ٤٤٨ برقم ٢٦٩٠٨ والتهذيب : ١ ـ ٦٣ ، ح ١٧٣.

(٣) سنن الدار قطني : ١ ـ ٩٦ ، كنز العمال : ٩ ـ ٤٣٣ برقم ٢٦٨٤٠ والتهذيب : ١ ـ ٦٣ ، ح ١٧٦.

(٤) المائدة : ٦.

٥٨

الاحتياط ، وأيضا قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (١) يدل على ما قلناه ، لأن «الفاء» للتعقيب ، سواء كانت عاطفة أو جزاء.

وإذا وجب غسل الوجه عقيب إرادة القيام إلى الصلاة والبداية به (٢) ثبت ما قلناه إلا تقديم اليمنى على اليسرى ، لأن أحدا من الأمة لم يفرق بين الأمرين ، وإنما استثنينا ترتيب اليسرى على اليمنى لأن الشافعي لا يوافق في ذلك وإن وافق فيما عداه من ترتيب الأعضاء وكان لا يسلم لنا لو لم نستثنه [من] (٣) الاستدلال بإجماع الأمة من الوجه الذي بيناه.

ونحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (٤) ، ولا بد أن يكون توضأ مرتبا على الوجه الذي ذكرناه ، وإلا لزم ألا يقبل الله صلاة بوضوء مرتب على ذلك الوجه ، وهذا باطل بالإجماع.

والفرض العاشر : الموالاة ، وهي أن لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض ، بمقدار ما يجف ما تقدم في الهواء المعتدل ، ويدل على ذلك ما قلناه في المسألة الأولى من الإجماع وطريقة الاحتياط ، ويحتج على المخالف بالخبر المتقدم ، وأيضا فلا يجوز المسح على الخفين بالإجماع المذكور ، وقوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٥) ، لأنه تعالى أوجب المسح على ما يسمى رجلا حقيقة ، وليس

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) كذا في «ج» و «س» : ولكن في الأصل : والبدار به.

(٣) ما بين المعقوفتين موجود في «س».

(٤) سنن البيهقي : ١ ـ ٨٠ ، سنن ابن ماجة : ١ ـ ١٤٥ ، المبسوط للسرخسي : ١ ـ ٩ ، سنن الدار قطني : ١ ـ ٨٠ ، والبحر الزخار : ١ ـ ٧٠.

(٥) المائدة : ٦.

٥٩

الخف كذلك ، فمن مسح عليه فقد عدل عن ظاهر الآية.

ويحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، لأنه لا بد أن يكون أوقع الفعل على الرجل ، وبما روى عندهم من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : نسخ الكتاب المسح على الخفين (١) ، وقوله : ما أبالي أمسحت على الخفين أم على ظهر عير بالفلاة (٢). ومثل ذلك رووا عن أبي هريرة (٣). وعن ابن عباس أنه قال : سبق كتاب الله المسح على الخفين (٤) ، وعن عائشة أنها قالت : لأن تقطع رجلاي بالمواسي أحب إلي من أن أمسح على الخفين (٥) ، ولم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة.

ومسنونات الوضوء : السواك ، وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ـ من البول والنوم مرة ومن الغائط مرتين ـ ، والتسمية ، والمضمضة والاستنشاق ـ ثلاثا

__________________

(١) البحر الزخار : ١ ـ ٧٠ ، ونقله السيد المرتضى في الناصرات ، المسألة ٣٤.

(٢) لم نجد النص في صحاح القوم ومسانيدهم ، نعم نقله السيد المرتضى في الناصريات المسألة ٣٤.

(٣) البحر الزخار : ١ ـ ٧٠ وفي الفقيه : ١ ـ ٣٠ برقم ٩٧ عن عائشة أنها قالت : لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلى من أن أمسح على خفي. قال المجلسي في روضة المتقين : ١ ـ ١٦٠ : والعير : حمار الوحشي ، لأن الغالب من الخف انه كان من جلده. وأما أبو هريرة فقال ابن حجر في تهذيب التهذيب : ١٢ ـ ٢٦٢ : في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا. وقال محمد بن عبد البر في الاستيعاب : ٤ ـ ١٧٦٨ نقلا عن البعض : اختلفوا في اسم أبي هريرة واسم أبيه اختلافا كثيرا لا يحاط به ولا يضبط في الجاهلية والإسلام!! وهو منصحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنه مات سنة ٥٨ ه‍.

(٤) سنن البيهقي : ١ ـ ٢٧٢ والتهذيب : ١ ـ ٢٣٦ برقم ١٠٩١ روى عن علي عليه‌السلام ، ونحوه في الوسائل : ١ ـ ٣٢٣ ب ٣٨ من أبواب الوضوء ، ح ٦ و ٧ و ٢٠. وبحار الأنوار : ٧٧ ـ ٢٩٧ ، ح ٥٢ نقلا عن إرشاد المفيد.

(٥) التفسير الكبير : ١١ ـ ١٦٣ (ذيل الآية ٦ من سورة المائدة. وفيه : لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين. وفي البحر الزخار : ١ ـ ٧١ عن عائشة عنها قالت : لأن أقطع رجلي أحب إلي من المسح على الخفين. وفي بحار الأنوار نقلا عن نوادر الراوندي عن عبد الواحد. قالت عائشة : لأن شلت يدي أحب إلي من أن أمسح على الخفين. لاحظ البحار : ٧٧ ـ ٢٩٨ (ط بيروت).

٦٠