غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

كتاب الحدود

الفصل الأول : في حد الزنا

متى ثبت الجماع في الفرج على عاقلين (١) مختارين ، من غير عقد ، ولا شبهة عقد ، ولا ملك يمين ، ولا شبهة ملك ، ثبوتا شرعيا ، فهما زانيان ، يجب عليهما الحد بلا خلاف.

والزناة على ضروب :

منهم من يجب عليه القتل ، حرا كان أو عبدا ، محصنا أو غير محصن ، وعلى كل حال ، وهو من زنى بذات محرم له ، أو وطئها مع العقد عليها ، والعلم برحمها منه ، أو زنى بامرأة أبيه ، أو غصب امرأة على نفسها ، أو زنى وهو ذمي بمسلمة ، أو زنى وهو حر بكر رابعة ، وقد جلد في الثلاثة قبلها ، أو زنى وهو عبد ثامنة ، وقد جلد فيما قبلها من المرات ، بدليل إجماع الطائفة.

ويحتج على المخالف (٢) بما رووه من قوله عليه‌السلام : من وقع على ذات محرم فاقتلوه (٣) ولم يفصل ، وليس لهم أن يحملوا ذلك على المستحل ، لأنه تخصيص بغير دليل ، ولأنه لو أراد ذلك لم يكن لتخصيص ذوات الأرحام بالذكر فائدة ، وروى

__________________

(١) في (ج) : مع عاقلين.

(٢) في (س) : ويحتج فيها على المخالف.

(٣) التاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٣٠ ، كتاب الحدود وسنن الدار قطني : ٣ ـ ١٢٦ برقم ١٤٢ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٣٤ و ٢٣٧ كتاب الحدود باب من وقع على ذات محرم له وجامع الأصول : ٤ ـ ٢٧٥.

٤٢١

المخالف أيضا : أن رجلا تزوج امرأة أبيه ، قال أبو بردة (١) : فأمرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقتله. (٢)

وغصب المرأة على نفسها أفحش وأغلظ من الزنا مع التراضي ، وكذا المعاودة للزنا بعد الجلد ثلاث مرات وسبع مرات (٣) لا شبهة في عظم ذنبه ، وتأكد فحشه ، فلا يمتنع أن يكون الحد أغلظ ، وفي زنا الذمي بالمسلمة خرق للذمة ، ومن خرق لا ذمة فهو مباح القتل بلا خلاف ، وليس لأحد أن يقول : كيف يقتل من ليس بقاتل؟ لأن المحصن والمرتد يقتلان بلا خلاف وليسا بقاتلين.

ومن الزناة من يجب عليه الجلد ثم الرجم ، وهو المحصن إذا كان شيخا أو شيخة ، بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا فالرجم لا خلاف فيه إلا من الخوارج ، وخلافهم غير معتد (٤) به ، وقد انقرض وحصل الإجماع على خلافه ، وإنما الخلاف في لزوم الجلد مع الرجم ، وظاهر القرآن يدل عليه ، ويحتج على المخالف (٥) بما رووه من قوله عليه‌السلام : والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. (٦)

ومن الزناة من يجب عليه الرجم فقط ، وهو كل محصن ليس بشيخ ولا شيخة ، بلا خلاف إلا من الخوارج ، فإنهم أوجبوا الجلد ، ونفوا أن يجب الرجم في

__________________

(١) اسمه هاني بن نيار بن عمرو ، وقيل : مالك بن هبيرة ، حليف الأنصار وخال البراء بن عازب وقيل : عمه ، شهد بدرا وما بعدها ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنه البراء بن عازب وجابر وابن أخيه سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار وغيرهم ، مات سنة ٤١ ه‍ ـ وغير ذلك لاحظ تهذيب التهذيب :

١٢ ـ ١٩ وأسد الغابة : ٥ ـ ١٤٦.

(٢) جامع الأصول : ٤ ـ ٢٧٥ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٣٧.

(٣) في (ج) : أو سبع مرات.

(٤) في (س) : غير معتمد.

(٥) في (س) : ويحتج فيها على المخالف.

(٦) صحيح مسلم : ٥ ـ ١١٥ كتاب الحدود باب حد الزاني والتاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٢٤ كتاب الحدود وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢١٠ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٣٢٠ و ٣٢١ وجامع الأصول :

٤ ـ ٢٦٤.

٤٢٢

موضع من المواضع ، وقد بينا انعقاد الإجماع على خلافه ، ومن أصحابنا من قال بوجوب الجلد ها هنا أيضا مع الرجم (١) ، والظاهر من المذهب هو الأول.

ومن الزناة من يجب عليه الجلد ثم النفي عاما إلى مصر آخر ، وهو الرجل إذا كان بكرا ، بدليل إجماع الطائفة ، وقد روي من طرق المخالف أنه عليه‌السلام قال : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. (٢)

ومن الزناة من يجب عليه الجلد فقط ، وهو كل من زنى وليس بمحصن ولا بكر ، والمرأة إذا زنت (٣) بكرة ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ومن الزناة من يجب عليه جلد خمسين فقط ، وهو العبد أو الأمة ، سواء كانا محصنين أو غير محصنين ، شيخين أو غير شيخين ، وعلى كل حال.

ومن الزناة من يجب عليه من حد الحر ومن حد العبد بحساب ما تحرر منه وبقي رقا ، وهو المكاتب الذي قد تحرر بعضه.

ومن الزناة من يجب عليه التعزير ، وهو الأب إذا زنى بجارية ابنه ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة ، وليس لأحد أن ينكر سقوط الحد عن الأب ها هنا ، مع اعترافه بسقوط القصاص عنه في القتل ، لأن ما أوجب ذلك في أحد الموضعين ، وهو الدليل الشرعي يوجبه في الآخر.

والإحصان الموجب للرجم هو أن يكون الزاني بالغا كامل العقل ، له زوجة دوام ، أو ملك يمين ، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة ، مسلمة أو ذمية ـ عند من أجاز نكاح الذمية ـ ويكون قد وطأها ، ولا يمنعه من وطئها مستقبلا مانع ، من

__________________

(١) الشيخ المفيد : المقنعة : ٧٧٥ والسيد المرتضى : الانتصار : ٢٥٤.

(٢) التاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٢٤ كتاب الحدود وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢١٠ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٣٢٠ و ٣٢١ وجامع الأصول : ٤ ـ ٢٦٤.

(٣) في (س) : إذا كانت.

٤٢٣

سفر أو حبس أو مرض منها ، ويعتبر عمن هذه حاله بالثيب أيضا.

والبكر هو الذي ليس بمحصن ، وقد أملك على امرأة ولم يدخل بها ، وحكم المرأة في ذلك كله حكم الرجل ، ويدل على ما قلناه الإجماع المشار إليه.

ويثبت حكم الزنا إذا كان الزاني ممن يصح منه القصد إليه (١) سواء كان مكرها أو سكران ، وإن كان مجنونا مطبقا لا يفيق فلا شي‌ء عليه ، وإن كان يصح منه القصد إليه جلد مائة جلدة ، محصنا كان أو غير محصن ، إذا ثبت فعله ببينة أو علمه (٢) الإمام ، ولا يعتد بإقراره وإن كان ممن يفيق ويعقل ، كان حكمه في حال الإفاقة حكم العقلاء.

وسواء في ثبوت الحكم على الزاني كون المزني بها صغيرة أو مجنونة أو ميتة ، ويسقط الحد عنها إن كانت مكرهة أو مجنونة لا تفيق ، وإن كانت ممن تفيق فحكمها في حال الإفاقة حكم العاقلة.

وإذا تاب أحد الزانيين قبل قيام البينة عليه ، وظهرت توبته وصلاحه ، سقط الحد عنه ، وكذا إن رجع عن إقراره بالزنا قبل إقامة الحد ، أو في حاله ، أو فر منه ، ولا تأثير لفراره إذا كان بعد ثبوت الزنا عليه لا بإقراره.

وإن تاب بعد ثبوت الزنا عليه ، فللإمام العفو عنه ، وليس ذلك لغيره ، ويحفر للمرجوم حفيرة يجعل فيها ، ويرد التراب عليه إلى صدره ، ولا يرد التراب عليه إن كان رجمه بإقراره.

وإذا اجتمع الجلد والرجم بدئ بالجلد ، وأمهل حتى يبرأ من الضرب ، ثم رجم ، ويبدأ الإمام بالرجم فيما يثبت بعلمه أو بإقراره ، ويبدأ الشهود فيما ثبت بشهادتهم ، وبعدهم الإمام ، وبعده من حضره من عدول المسلمين وأخيارهم دون

__________________

(١) في (ج) : يصح منه العقد.

(٢) في (ج) : أو علم الإمام.

٤٢٤

فساقهم ، ويتولى الإمام أو من يأذن له في الجلد إذا ثبت موجبه بعلمه أو بإقراره ، وإن كان ثبوته بالبينة ، تولاه الشهود.

ويقام الحد على الرجل على الهيئة التي رؤي زانيا عليها من عرى أو لباس ، ولا يقام الحد في زمان القيظ في الهواجر (١) ولا في زمان القر في السوابر (٢) ، ويضرب أشد الضرب على سائر بدنه ، سوى رأسه وفرجه ، ويجلد الرجل قائما والمرأة جالسة ، قد شدت عليها ثيابها.

ويجوز للسيد إقامة الحد على من ملكت يمينه بغير إذن الإمام ، ولا يجوز لغير السيد ذلك إلا بإذنه ، وكل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه ، وفيه الحجة ، ويحتج فيها على المخالف في السيد بما رووه من قوله عليه‌السلام : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. (٣)

الفصل الثاني :

في حد اللواط والسحق

اللواط هو فجور الذكران بالذكران وهو على ضربين : إيقاب وما دونه من التفخيذ.

ففي الأول إذا ثبت الثبوت الشرعي ، قتل الفاعل والمفعول به.

وفي الثاني جلد كل واحد منهما (٤) مائة جلدة ، بشرط كونهما بالغين عاقلين

__________________

(١) الهواجر جمع الهاجرة ، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر ، أو من عند الزوال إلى العصر ، لأن الناس يسكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا من شد الحر. مجمع البحرين.

(٢) السبرة : الغداة الباردة ، ومنه إسباغ الوضوء في السبرات. كتاب العين.

(٣) سنن الدار قطني : ٣ ـ ١٥٨ برقم ٢٢٨ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٤٥ ومسند أحمد بن حنبل : ١ ـ ٩٥.

(٤) في (س) وحاشية الأصل : ففي كل واحد منهما.

٤٢٥

مختارين ، ولا فرق في ذلك بين المحصن والبكر ، والحر والعبد ، والمسلم والذمي.

والإمام مخير في قتله إن شاء صبرا أو رجما أو تردية من علو أو إلقاء جدار عليه أو إحراقا له بالنار ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه عن عكرمة (١) عن ابن عباس من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من وجدتموه على عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به. (٢)

والسحق هو فجور الإناث بالإناث ، وفيه إذا ثبت جلد مائة لكل واحدة من الفاعلة والمفعول بها ، بشرط البلوغ وكمال العقل والاختيار ، ولا فرق بين حصول الإحصان والحرية والإسلام وارتفاع ذلك ، وروي : وجوب الرجم مع الإحصان ها هنا وفي القسم الثاني من اللواط. (٣)

وحكم ذلك كله مع الإكراه أو الجنون أو التوبة قبل ثبوت الفاحشة وبعدها ، وفي الرجوع عن الإقرار ، وفي كيفية الجلد ووقته ، وفي القتل في المرة الرابعة ، مثل الذي ذكرناه في الزنا ، فلا نطول بإعادته ، وذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

__________________

(١) أبو عبد الله المدني البربري مولى ابن عباس ، أصله من بربر ، روى عن مولاه وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن بن علي وغيرهم ، وروى عنه عباد بن منصور وداود بن حصين وعمرو بن دينار وغيرهم ، مات سنة ١٠٤ ه‍ ـ أو ١٠٥ وغير ذلك لاحظ تهذيب التهذيب : ٧ ـ ٢٦٣ وطبقات الفقهاء : ٥٩.

(٢) التاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٢٧ كتاب الحدود وسنن الدار قطني : ٣ ـ ١٢٤ برقم ١٤٠ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٣٢ وجامع الأصول : ٤ ـ ٣٠٥ وسنن الترمذي : ٤ ـ ٥٧ برقم ١٤٥٦.

(٣) لاحظ الوسائل : ١٨ ، ب ١ من أبواب حد السحق والقيادة ، ح ١ ، ومستدرك الوسائل : ١٨ ، ب ١ من أبواب حد اللواط ، ذيل الحديث الخامس.

٤٢٦

الفصل الثالث :

في حد القيادة

من جمع بين رجل وامرأة أو غلام ، أو بين امرأتين للفجور ، فعليه جلد خمسة وسبعين سوطا ، رجلا كان أو امرأة ، حرا أو عبدا ، مسلما أو ذميا ، ويحلق رأس الرجل ، ويشهر في المصر ، ولا يفعل ذلك بالمرأة.

وحكم الرجوع عن الإقرار ، وحكم الفرار والتوبة قبل ثبوت ذلك وبعده ، وكيفية إقامة الحدود ووقته ، ما قدمناه.

ومن عاد ثانية جلد ونفي عن المصر ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة ، وروي : أنه إن عاد ثالثة جلد ، فإن عاد رابعة ، عرضت عليه التوبة ، فإن أبى قتل ، وإن أجاب قبلت توبته ، وجلد ، فإن عاد خامسة بعد التوبة ، قتل من غير أن يستتاب. (١)

الفصل الرابع :

في حد القذف

من قذف ـ وهو كامل العقل ـ حرا أو حرة بزنا أو لواط ـ حرا كان القاذف أو مملوكا ـ رجلا أو امرأة ، فهو مخير بين العفو عنه وبين مطالبته بحق القذف ، وهو جلد ثمانين سوطا ، بدليل إجماع الطائفة وأيضا قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٢) ، ولم يفصل

__________________

(١) لم نجد النص في الجوامع الحديثية نعم نقله الحلبي في الكافي : ٤١٠.

(٢) النور : ٤.

٤٢٧

بين العبد وغيره.

وإن كان القاذف ذميا قتل بخروجه من الذمة ، وسواء في ذلك الصريح من اللفظ ، والكناية المفيدة لمعناه ، فالصريح : لفظ الزنا ، واللواط ، والكناية : كلفظ القحوبية والعلوقية والفسق والفجور والقرننة (١) والدياثة ، وما أشبه ذلك مما يفيد في عرف القاذف معنى الصريح.

ومن قال لغيره : زنيت بفلانة ، فهو قاذف لاثنين ، وعليه لهما حدان ، وكذا لو قذف جماعة ، وأفرد كل واحد منهم بلفظ ، سواء جاؤوا به على الاجتماع أو الانفراد ، ولو قذفهم (٢) بلفظ واحد وجاء به كل واحد منهم على الانفراد ، فإن جاؤوا به مجتمعين حد لجميعهم حدا واحدا.

وحد القذف موروث يرثه كل من يرث المال من ذوي الأنساب دون الأسباب ، وإذا طالب أحدهم بالحد وأقيم له ، سقط حق الباقين ، وإذا عفا بعضهم كان لمن لم يعف المطالبة باستيفاء الحد ، وإذا لم يكن للمقذوف المتوفى ولي ، أخذ بحقه سلطان الإسلام ، ولم يجز له العفو.

ولا يسقط حد (٣) القذف بالتوبة على حال ، وإنما يسقط بعفو المقذوف ، أو وليه من ذوي الأنساب خاصة ، ويقتل القاذف في المرة الرابعة إذا حد فيما قبلها من المرات.

ويقتل من سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأنبياء أو أحد الأئمة عليهم‌السلام ، وليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استئذان لصاحب الأمر (٤) سبيل ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

__________________

(١) رجل قرنان ـ وزان سكران ـ : لا غيرة له. المصباح المنير.

(٢) كذا في (ج) ولكن في الأصل و (س) : وقذفهم ، ولعل الأصح (أو قذفهم).

(٣) في الأصل و (س) : حق القذف.

(٤) في (س) : (بصاحب الأمر) ، وفي (ج) : من استيذان صاحب الأمر.

٤٢٨

الفصل الخامس

والحد في شرب قليل المسكر وكثيره ، وإن اختلفت أجناسه ، إذا كان شاربه كامل العقل ، حرا كان أو عبدا ، رجلا كان أو امرأة ، مسلما أو كافرا ، متظاهرا بذلك بين المسلمين ، ثمانون جلدة بدليل إجماع الطائفة.

وقد روي من طرق المخالف : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلد شارب الخمر ثمانين (١) ، ورووا عن علي عليه‌السلام أنه قال في شارب الخمر : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذي ، وإذا هذي افترى (٢) فيجب أن يحد حد المفتري ، ولا مخالف له من الصحابة في ذلك.

ويقتل المعتاد لشرب المسكر في الثالثة ، وقد حد فيما قبلها ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وحكم شارب الفقاع حكم شارب الخمر بدليل هذا الإجماع ، وأيضا فقد ثبت تحريم شربه بما قدمناه فيما مضى ، وكل من قال بذلك أوجب فيه حكم حد الخمر ، والقول بأحد الأمرين دون الآخر خروج عن الإجماع.

وحكم التائب من ذلك قبل ثبوته أو بعده ، حكم التائب من الزنا وغيره ، مما يوجب حدا لله تعالى ، ولا يتعلق به حق لآدمي وقد تقدم ، ويضرب الرجل على ظهره وكتفيه وهو عريان ، والمرأة في ثيابها.

__________________

(١) كنز العمال : ٥ ـ ٤٨٤ برقم ١٣٨٧.

(٢) جامع الأصول : ٤ ـ ٣٣١ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٣٢٠ و ٣٢١ وكنز العمال : ٥ ـ ٤٧٤ برقم ١٣٦٦٠.

٤٢٩

الفصل السادس :

في حد السرقة

يجب القطع على من ثبت كونه سارقا بشروط :

منها : أن يكون مكلفا.

ومنها : أن لا يكون والدا من ولده ، وإن كان غنيا عن ماله ، ولا عبدا من سيده بلا خلاف.

ومنها : أن يكون مقدار المسروق ، ربع دينار فصاعدا ، أو قيمة ذلك مما يتمول عادة وشرعا ، سواء كان محرزا بنفسه ، وهو الذي إذا ترك لم يفسد ، كالثياب والحبوب اليابسة ، أو لم يكن كذلك ، كالفواكه واللحوم ، وسواء كان أصله الإباحة ، كالخشب والقصب والطين ، وما يعمل من الأواني ، وما يستخرج من المعادن أو لم يكن كذلك ، كالثياب والأثاث.

ومنها : أن يكون المسروق لاحظ ولا شبهة للسارق فيه.

ومنها : أن يكون مخرجا من حرز ، وروى أصحابنا : أن الحرز في المكان هو الذي لا يجوز لغير مالكه أو مالك التصرف فيه دخوله إلا بإذن (١) ، ويدل على جميع ذلك إجماع الطائفة.

والسارق هو الآخذ على جهة الاستخفاء والتفزع ، وعلى هذا ليس على المنتهب والمختلس والخائن (٢) في وديعة أو عارية قطع ـ خلافا لأحمد ـ بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به ، وليس على

__________________

(١) لاحظ المبسوط : ٨ ـ ٢٢.

(٢) في (ج) : والمختلس والمختالين والخائن.

٤٣٠

وجوبه بما خالفه دليل.

ويحتج على المخالف بما روي من طرقهم عن جابر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع (١) ، وهذا نص.

ونحتج على المخالف بما اعتبرناه من النصاب بما رووه عن عائشة من قوله عليه‌السلام : القطع في ربع دينار فصاعدا (٢) ، وهذا أيضا نص ، وأيضا فالأصل براءة الذمة ، ومن أوجب القطع فيما نقص عما ذكرناه احتاج إلى دليل.

ونحتج على أبي حنيفة في إسقاط القطع بسرقة ما ليس بمحرز بنفسه ، وما كان أصله الإباحة ، سوى الذهب والفضة والياقوت والفيروزج (٣) فإنه لم يسقط القطع بسرقته ، بقوله تعالى (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٤) ، لأنه لم يفصل ، ولا يجوز أن يخرج من ذلك إلا ما أخرجه دليل قاطع ، وبقوله عليه‌السلام : القطع في ربع دينار. (٥) وإنما أراد ما قيمته ذلك بلا خلاف ، ولم يفرق.

وإذا تكاملت شروط القطع ، قطعت يمين السارق أول مرة ، فإن سرق ثانية ، قطعت رجله اليسرى ، بلا خلاف إلا من عطاء (٦) ، فإنه قال : يده اليسرى (٧) ، وقد

__________________

(١) التاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٢٢ كتاب الحدود وسنن الدار قطني : ٣ ـ ١٨٧ برقم ٣١٠ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٧٩ وجامع الأصول : ٤ ـ ٣٢١ وكنز العمال : ٥ ـ ٣٨١ برقم ١٣٣٣٤.

(٢) التاج الجامع للأصول : ٣ ـ ٢١ وجامع الأصول : ٤ ـ ٣١٠ و ٣٢٥ وصحيح مسلم : ٥ ـ ١١٢ كتاب الحدود باب حد السرقة وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة : ٥ ـ ١٧٤ والمغني لابن قدامة : ١٠ ـ ٢٤٣.

(٤) المائدة : ٣٨.

(٥) تقدم مصدر الحديث آنفا.

(٦) عطاء بن أبي رباح ، اسم أبيه أسلم القرشي ، مولاهم أبو محمد المكي ، روى عن ابن عباس وابن عمرو ومعاوية وأسامة وجماعة ، وعنه ابنه يعقوب وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد والزهري وغيرهم ، مات سنة ١١٤ ه‍ ـ لاحظ تهذيب التهذيب : ٧ ـ ١٩٩ وطبقات الفقهاء : ٥٧.

(٧) المغني لابن قدامة والشرح الكبير : ١٠ ـ ٢٦٥.

٤٣١

روي من طرق المخالف عن جابر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتي بسارق فقطع يده ، ثم أتي به وقد سرق ثانية فقطع رجله اليسرى. (١)

فإن سرق ثالثة خلد الحبس إلى أن يموت ، أو يرى ولي الأمر فيه رأيه ، فإن سرق في الحبس ضربت عنقه ، بدليل إجماع الطائفة.

ويحتج على المخالف بما روي عن علي عليه‌السلام من أنه أتي بسارق مقطوع اليد والرجل ، فقال : إني لأستحي من الله أن لا أترك له ما يأكل به ويستنجي (٢) ، ولم ينكر ذلك عليه أحد ، وأيضا فالأصل براءة الذمة من القطع ، فمن أوجبه في الثالثة فعليه الدليل.

ويحتج على المخالف في جواز قتله بما رووه عن جابر من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل السارق في الخامسة (٣) ، وبما رووه عن عثمان وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز من أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه. (٤)

وإذا كانت يمين من وجب عليه القطع لها شلاء قطعت ، ولم تقطع يساره ، وكذلك من وجب قطع رجله اليسرى وكانت شلاء ، تقطع دون رجله اليمنى ، بدليل إجماع الطائفة.

وموضع القطع في اليدين من أصول الأصابع ويترك له الإبهام ، وفي الرجل عند معقد الشراك ، ويترك له مؤخر القدم والعقب ، بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب قطعه ، وليس على قطع ما زاد عليه دليل.

وقد روى الناس كلهم عن علي عليه‌السلام : أنه قطع السارق من الموضع الذي

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ ـ ٢٧٢ وبداية المجتهد : ٢ ـ ٤٥٣.

(٢) المغني لابن قدامة : ١٠ ـ ٢٦٨ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٧٥ باختلاف يسير ، والوسائل : ١٨ ب ٥ من أبواب حد السرقة ، ح ١ و ٢.

(٣) بداية المجتهد : ٢ ـ ٤٥٣ وجامع الأصول : ٤ ـ ٣٢٢ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٧٢.

(٤) المغني لابن قدامة : ١٠ ـ ٢٦٧ وسنن البيهقي : ٨ ـ ٢٧٢.

٤٣٢

ذكرناه بمشهد من الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك عليه ، وهذا يقتضي على (أصل المخالف) (١) الإجماع على ذلك في تلك الحال.

وإذا سرق اثنان فما زاد عليهما شيئا ، فبلغ نصيب كل واحد منهم المقدار الذي يجب فيه القطع ، قطعوا جميعا بلا خلاف ، سواء كانوا مشتركين في السرقة ، أو كان كل واحد منهم يسرق لنفسه ، وإن لم يبلغ نصيب كل واحد منهم ذلك المقدار ، ولم يكونوا مشتركين ، فلا قطع على واحد منهم بلا خلاف.

وإن كانوا مشتركين في ذلك ، ففي إخراجه من الحرز قطعوا جميعا بربع دينار ، بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا قوله تعالى (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) ، لأن ظاهره يقتضي أن وجوب القطع إنما كان بالسرقة المخصوصة ، وإذا استحق كل واحد منهم هذا الاسم ، وجب أن يستحق القطع.

ويحتج على المخالف بما رووه من الخبر المقدم لأنه عليه‌السلام أوجب القطع في ربع دينار فصاعدا ، ولم يفصل بين الواحد وبين ما زاد عليه ، ومن أصحابنا من اختار القول : بأنه لا قطع على واحد من الجماعة حتى يبلغ نصيبه المقدار الذي يجب فيه القطع على كل حال (٣) ، والمذهب هو الأول.

وتقطع الأم بالسرقة من مال ولدها ، والولد بالسرقة من مال أحد الوالدين ، وكل واحد من الزوجين بالسرقة من مال الآخر ، بشرط أن يكون المال المسروق محرزا ممن سرقه ، ولا قطع على من سرق [منهم] (٤) من هؤلاء بدل ما يجب من النفقة لمن يستحق الإنفاق ، بدليل الإجماع المشار إليه وظاهر الآية والخبر.

__________________

(١) أي القاعدة المسلمة لدى العامة وهي أن سكوت الصحابة في مقابل عمل الإمام عليه‌السلام تدل على الصحة عندهم.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) الشيخ : الخلاف ، كتاب السرقة ، المسألة ٨.

(٤) ما بين المعقوفتين موجود في (س).

٤٣٣

ويقطع الطرار من الجيب والكم من الثوب التحتاني ، ويقطع النباش إذا أخذ كل واحد منهما ما قيمته ربع دينار فصاعدا ، بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا فظاهر الآية والخبر يدلان على ذلك ، لأن السارق هو الآخذ للشي‌ء على جهة الاستخفاء والتفزع ، فيدخل من ذكرناه في ظاهر الآية.

وقد روى المخالف عن عائشة وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا : سارق موتانا كسارق أحيائنا (١) ، والغرم لازم للسارق وإن قطع ، بدليل الإجماع المشار إليه وظاهر الآية والخبر ، لأنه يقتضي إيجاب القطع على كل حال ، فمن منع منه مع الغرم فعليه الدليل.

ومن أقر أو قامت عليه البينة بسرقات كثيرة ، قطع بأولها وأغرم الباقي ، وإذا رجع المقر بالسرقة عن إقراره ، لم يقطع ، وكذلك إن تاب وظهر صلاحه قبل أن يرفع خبره إلى ولي الأمر ، فإن تاب بعد ما ارتفع خبره إليه ، كان مخيرا بين قطعه والعفو عنه ، وليس لغيره في ذلك خيار ، وعليه رد ما سرقه إن كانت عينه باقية ، وغرم قيمته إن كانت تالفة على كل حال ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

وقد روى أصحابنا : أن الصبي إذا سرق هدد ، فإن عاد ثانية أدب بحك أصابعه بالأرض حتى تدمى ، فإن عاد ثالثة قطعت أطراف أنامله الأربع من المفصل الأول ، فإن عاد رابعة قطعت من المفصل الثاني ، فإن عاد خامسة قطعت من أصولها. (٢)

وروي : أنه لا قطع على من سرق طعاما في عام مجاعة (٣) ، وقد بينا في كتاب

__________________

(١) الذخيرة تأليف القرافي : ١٢ ـ ١٦٥ كتاب الحدود والمغني لابن قدامة : ١٠ ـ ٢٨١ باب القطع في السرقة. وفيه (سارق أمواتنا.) ونحوه في البحر الزخار : ٥ ـ ١٧٣ كتاب الحدود. ونقله الشيخ في الخلاف كتاب السرقة المسألة ٢٨ والحلي في السرائر : ٣ ـ ٥١٤ كما في المتن.

(٢) لاحظ الوسائل : ١٨ ، ب ٢٨ من أبواب حد السرقة أحاديث الباب.

(٣) الوسائل : ١٨ ، ب ٢٥ من أبواب حد السرقة ح ٢ و ٣ و ٤.

٤٣٤

الجهاد حد المحارب فلا وجه لإعادته.

الفصل السابع

واعلم أن التعزير يجب بفعل القبيح ، أو الإخلال بالواجب الذي لم يرد الشرع بتوظيف حد عليه ، أو ورد بذلك فيه ولم تتكامل شروط إقامته ، فيعزر على مقدمات الزنا واللواط من النوم في إزار واحد والضم والتقبيل إلى غير ذلك ، على حسب ما يراه ولي الأمر ، من عشرة أسواط إلى تسعة وتسعين سوطا.

ويعزر من وطئ بهيمة ، أو استمنى بيده ، ويعزر العبد إذا سرق من مال سيده ، والوالد إذا سرق من مال ولده ، ومن سرق أقل من ربع دينار ، ومن سرقة أو أكثر منه من غير حرز ، ومن قذف ـ وهو حر مسلم ـ ولدا له ، أو عبدا له ، أو لغيره ، أو ذميا ، أو صغيرا ، أو مجنونا ، ويعزر العبيد والإماء وأهل الذمة إذا تقاذفوا.

ومن قذف غيره بما هو مشهور به ، ومعترف بفعله من سائر القبائح ، لم يستحق حدا ولا تعزيرا ، ويعزر المسلم إذا عير مسلما بعمي أو عرج أو جنون أو جذام أو برص ، فإن كان كافرا فلا شي‌ء عليه.

والتعزير لما يناسب القذف من التعريض بما لا يفيد زنا ، ولا لواطا ، والنبز بالألقاب ، من ثلاثة أسواط إلى تسعة وسبعين (١) سوطا ، وإذا تقاذف اثنان بما يوجب الحد ، سقط عنهما ، ووجب تعزيرهما ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة ، وروي : أنه متى عزر المرء رابعة استتيب ، فإن أصر وعاد إلى ما يوجب التعزير ضربت عنقه. (٢)

__________________

(١) في (ج) و (س) : (تسعة وتسعين) والصحيح ما في المتن.

(٢) لم نجد النص في المجامع الحديثية نعم نقله الحلبي في الكافي : ٤٢٠ باختلاف يسير.

٤٣٥

كتاب القضاء وما يتعلق به

يجب في متولي القضاء (١) أن يكون عالما بالحق في الحكم المردود إليه بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا فتولية المرء ما لا يعرفه قبيحة عقلا ، ولا يجوز فعلها ، وأيضا فالحاكم مخبر في الحكم عن الله تعالى ، ونائب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شبهة في قبح ذلك من دون العلم ، وأيضا قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). (٢)

ومن حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل الله ، ويحتج على المخالف بما رووه في خبر تقسيم القضاة : (ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار) (٣) ومن قضى بالفتيا فقد قضى على جهل ، ويجب فيه أن يكون عدلا بلا خلاف إلا من الأصم وخلافه غير معتد به.

وينبغي أن يكون كامل العقل ، حسن الرأي ، ذا علم وورع ، وقوة على القيام بما فوض إليه (٤) ، ويجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير ذلك.

وسواء في ذلك ما علمه في حال الولاية أو قبلها ، بدليل إجماع الطائفة ،

__________________

(١) في (ج) : في المتولي للقضاء.

(٢) المائدة : ٤٤.

(٣) سنن البيهقي : ١٠ ـ ١١٦ كتاب آداب القاضي باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل ، والجامع الصغير : ٢ ـ ٢٦٤ برقم ٦١٨٩.

(٤) في (ج) و (س) : بما فوض الله.

٤٣٦

وأيضا قوله تعالى (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (١) ، وقوله (يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ) (٢) ، ومن حكم بعلمه فقد حكم بالحق والعدل ، وأيضا قوله تعالى (الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٣) ، وقوله (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). (٤)

ومن علمه الإمام أو الحاكم زانيا أو سارقا وجب عليه امتثال الأمر ، وإذا ثبت ذلك في الحد ثبت في الأموال ، لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين ، وأيضا فلو لم يقض الحاكم بعلمه ، لأدى إما إلى فسقه ، من حيث منع الحق الذي يعلمه ، أو إعطاء ما لم يعلم استحقاقه ، وإما إلى إيقاف الحكم ، والأول يقتضي فسخ ولايته وإبطال أحكامه مستقبلا ، والثاني ينافي المقصود بها ، وأيضا فإنما يحتاج إلى البينة ليغلب في الظن صدق المدعى ، ولا شبهة في أن العلم بصدقه آكد من غلبة الظن.

فإذا وجب الحكم مع الظن ذلك ، فلأن يجب مع العلم به أولى وأخرى ، ويدل أيضا على ما قلناه إمضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم له بالناقة على الأعرابي من أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥) ومن خزيمة بن ثابت (٦) ، وسماه لذلك ذا الشهادتين (٧) من حيث علما صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجز.

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح (٨) لما طالبه بالبينة على ما ادعاه في درع طلحة : ويحك خالفت السنة بمطالبة إمام المسلمين ببينة ، وهو مؤتمن على أكثر من هذا (٩) ، يدل على ما قلناه ، لأنه أضاف الحكم بالعلم إلى البينة على رؤوس

__________________

(١) المائدة : ٤٢.

(٢) ص : ٢٦.

(٣) النور : ٢.

(٤) المائدة : ٣٨.

(٥) لاحظ الوسائل : ١٨ ب ١٨ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٦) لاحظ ترجمته في أسد الغابة : ٢ ـ ١١٤ وتهذيب التهذيب : ١٣ ـ ١٤٠.

(٧) لاحظ الوسائل : ١٨ ب ١٨ من أبواب كيفية الحكم ح ٣.

(٨) شريح بن الحارث الكوفي القاضي لاحظ ترجمته في تهذيب التهذيب : ٤ ـ ٣٢٦.

(٩) راجع الوسائل : ١٨ ب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

٤٣٧

الأشهاد من الصحابة والتابعين ، فلم ينكر ذلك أحد منهم.

وليس لأحد أن يمنع من الحكم بالعلم من حيث إن ذلك ربما اقتضى تهمة الحاكم ، لأن ذلك استحسان محض ، فلا يجوز العدول به عما اقتضاه الدليل ، ويلزم على ذلك أن لا يجوز الحكم في المستقبل بالبينة والإقرار المتقدمين من حيث كان مستند هذا الحكم العلم السابق لهما.

على أن الشروط المراعاة في الحاكم تقتضي حسن الظن به ، وتمنع من تهمته في الحكم بعلمه ، كما تمنع من ذلك في قوله : أقر عندي بكذا ، أو قامت البينة بكذا. وإذا وجب عليه الحكم بما ثبت عنده بإقرار أو بينة ، وإن لم يحضر ذلك أحد سواه ، وحرم عليه الامتناع من الحكم لأجل التهمة ، فكذلك ما نحن فيه.

ويقضى بشهادة المسلمين بشرط : الحرية والذكورة والبلوغ وكمال العقل والعدالة في جميع الأشياء بلا خلاف ، غير أنه لا يقبل في الزنى إلا شهادة أربعة رجال بمعاينة الفرج في الفرج ، مع اتحاد اللفظ والوقت ، ومتى اختلفوا في الرؤية ، أو نقص عددهم أو لم يأتوا بها في وقت واحد ، حدوا حد الافتراء بلا خلاف ، أو شهادة ثلاثة رجال وامرأتين ، وكذا حكم اللواط والسحق ، بدليل إجماع الطائفة ، ويقبل فيما عدا ذلك شهادة (١) عدلين ، ويعتبر في صحتها اتفاق المعنى ومطابقة الدعوى دون الوقت بلا خلاف.

ولا يقبل شهادة النساء فيما يوجب حدا ، لا على الانفراد من الرجال ولا معهم ، بلا خلاف إلا في الزنى عندنا على ما قدمناه ، ولا تقبل شهادتهن على كل حال في الطلاق ، ولا في رؤية الهلال ، بدليل إجماع الطائفة.

وتقبل شهادتهن على حال الانفراد من الرجال في الولادة والاستهلال والعيوب التي لا يطلع عليها الرجال ، كالرتق والإفضاء بلا خلاف.

__________________

(١) في (ج) و (س) : بشهادة.

٤٣٨

وتقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت مأمونة في الولادة والاستهلال ، ويحكم لأجلها بربع الدية أو الميراث ، وتقبل شهادتهن فيما عدا ما ذكرناه مع الرجال بدليل إجماع الطائفة ، ويقوم كل امرأتين مقام رجل بلا خلاف.

ويقضى بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الديون خاصة ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من طرق كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه قضى باليمين مع الشاهد (١) ، وعلى المسألة إجماع الصحابة أيضا.

وتقبل شهادة كل واحد من الولد والوالدين والزوجين للآخر ، وتقبل شهادة العبيد لكل واحد وعليه إلا في موضع نذكره ، كل ذلك بإجماع الطائفة وظاهر القرآن ، لأنه على عمومه إلا ما أخرجه دليل قاطع ، ويقبل شهادة الأخ لأخيه بلا خلاف إلا من الأوزاعي (٢) مطلقا ومن مالك في النسب (٣) ، وتقبل شهادة الصديق لصديقه وإن كان بينهما ملاطفة ومهاداة بلا خلاف إلا من مالك فإنه قال : لا تقبل إذا كان ذلك بينهما.

وتقبل شهادة الأعمى فيما لا يحتاج فيه إلى مشاهدة ، وليس للمخالف أن يقول : إن الأعمى لا طريق له إلى معرفة المشهود عليه ، لاشتباه الأصوات ، لأن مثل ذلك يلزم في البصير ، لاشتباه الأشخاص ، وإذا كانت حاسة البصر طريقا إلى العلم مع جواز الاشتباه ، فكذلك حاسة السمع ، ولا شبهة في أن الأعمى يعرف أبويه (٤) وزوجته وولده ضرورة من جهة إدراك الصوت ، وقد ثبت أن الصحابة

__________________

(١) سنن البيهقي : ١٠ ـ ١٦٧ وسنن الدار قطني : ٤ ـ ٢١٤ برقم ٣٧ و ٣٨.

(٢) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه روي عن عطاء بن أبي رياح وقتادة ومحمد بن سيرين وغيرهم ، وعنه مالك والشعبة والثوري وابن المبارك ، مات سنة (١٥٨ ه‍ ـ) لاحظ تهذيب التهذيب : ٦ ـ ٢١٦.

(٣) المغني لابن قدامة والشرح الكبير : ١٢ ـ ٦٩ كتاب الشهادات.

(٤) في الأصل : يعرف أباه.

٤٣٩

كانت تروي عن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهن من وراء حجاب على التعيين لهن ، وهذا يدل على أن التمييز (١) بينهن حصل من جهة السماع.

وتقبل شهادة الصبيان في الشجاج والجراح خاصة ، إذا كانوا يعقلون ذلك ، ويؤخذ بأول أقوالهم ، ولا يؤخذ بآخرها ، بدليل إجماع الطائفة ، وقد اشتهر عند الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قضى في ستة غلمان دخلوا الماء فغرق أحدهم فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنهما غرقاه ، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه : أن على الاثنين ثلاثة أخماس الدية ، وعلى الثلاثة الخمسان (٢) ، وقد ذكرنا هذه في فصل الديات ، ولا يمتنع قبول شهادة الصبيان في بعض الأشياء دون بعض ، كما نقوله كلنا في شهادة النساء.

وتقبل شهادة القاذف إذا تاب وأصلح عمله ، ومن شرط التوبة أن يكذب نفسه بدليل إجماع الطائفة ، ولا تقبل شهادة الولد على والده ، ولا العبد على سيده فيما ينكرانه ، وتقبل عليهما بعد الوفاة بإجماع الطائفة ، ولا تقبل شهادة ولد الزنا ، بدليل هذا الإجماع.

ولا تقبل شهادة العدو على عدوه ، ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك له ، ولا الأجير لمستأجره ، ولا شهادة ذمي على مسلم إلا في الوصية في السفر خاصة عندنا ، بشرط عدم أهل الإيمان.

واعلم أنه يحكم بالقسامة إذا لم يكن لأولياء الدم عدلان يشهدان بالقتل ، وتقوم مقام شهادتهما في إثباته ، والقسامة خمسون رجلا من أولياء المقتول ، يقسم كل واحد منهم يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم ، فإن نقصوا عن ذلك ، كررت عليهم الإيمان حتى تكمل خمسين يمينا ، وإن لم يكن (٣) إلا ولي الدم وحده ، أقسم

__________________

(١) في (ج) و (س) : التمييز.

(٢) الوسائل : ١٩ ، ب ٢ من أبواب موجبات الضمان ح ١.

(٣) في (ج) : ولو لم يكن.

٤٤٠