غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وليجتهد في الوصية لهم بتقوى الله ، والإخلاص في طاعته ، وبذل الأنفس في مرضاته ، ويذكرهم ما لهم في ذلك من الثواب في الآجل ، ومن الفضل وعلو الكلمة في العاجل ، ويخوفهم الفرار ويذكرهم ما فيه من عاجل العار وآجل النار.

فإذا أراد الحملة أمر فريقا من أصحابه بها ، وبقي هو في فريق آخر ليكونوا فئة تتحيز إليها صفوفهم ، فإذا تضعضع لهم العدو وزحف هو بمن معه زحفا ، يبعث من أمامه على الأخذ بضم القوم (١) ، فإذا زالت صفوفهم عن أماكنها حمل هو حملة واحدة.

ولا يجوز أن يبارز أحد إلا بإذن الإمام أو من نصبه ، ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ولا من اثنين ، ويجوز من ثلاثة فصاعدا ، ويجوز قتال العدو بكل ما يرجى به الفتح من نار ومنجنيق وغير هما وإن كان فيما بينهم مسلمون ، إلا إلقاء السم ، فإنه لا يجوز أن يلقى في ديارهم ، ولا يقاتل في الأشهر الحرم من يرى لها حرمة من الكفار إلا أن يبدأوا فيها بالقتال.

وجميع من خالف الإسلام من الكفار يقتلون مدبرين ومقبلين ، ويقتل أسيرهم ، ويجاز على جريحهم ، وكذا حكم البغاة على الإمام إن كان لهم فئة يرجعون إليها ، وإن لم يكن لهم فئة ، لم يتبع مدبرهم ، ولم يجهز على جريحهم ، ولم يقتل أسيرهم.

وأسرى (٢) من عدا من ذكرناه من المحاربين على أخذ المال إن كانوا قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا ، وإن أخذوا مع القتل مالا صلبوا بعد القتل ، وإن تفردوا بأخذ المال قطعوا من خلاف ، فإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض

__________________

(١) كذا في الأصل و «ج» ولكن في «س» : بكظم القوم.

(٢) جمع الأسير.

٢٠١

بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر ، كل ذلك بدليل الإجماع من الطائفة عليه.

ومن لا كتاب له من الكفار لا يكف عن قتاله إلا بالرجوع إلى الحق ، وكذا حكم من أظهر الإسلام من البغاة والمحاربين ، ومن له كتاب ـ وهم اليهود والنصارى والمجوس ـ يكف عن قتالهم إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت شروطها ، ولا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان ، سواء كانوا عجما أو عربا ، ولا من الصابئين ولا من غيرهم ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، وقوله تعالى (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) (٢) ، ولم يذكر الجزية ، وقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إلى قوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (٣) ، فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب ، وهؤلاء ليسوا كذلك.

والجزية ما يؤدونه في كل سنة مما يضعه الإمام على رؤوسهم ، أو على أرضهم ، وليس لها قدر معين ، بل ذلك راجع إلى ما يراه الإمام ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن تقدير ذلك يفتقر إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

وما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنه وضع على كل واحد من أغنيائهم ثمانية وأربعين درهما ، وعلى من هو من أوساطهم أربعة وعشرين ، وعلى من هو من فقرائهم اثني عشر (٤) ، إنما هو على حسب ما رآه في وقته ، وليس بتقدير لها على كل حال. ولا يجوز أخذها إلا من الذكور البالغين الكاملي العقول.

وإذا أسلم الذمي وقد وجبت عليه الجزية بحؤول الحول سقطت عنه بالإسلام ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويعارض المخالف بقوله : الإسلام يجب ما

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) محمد : ٤.

(٣) التوبة : ٢٩.

(٤) لاحظ وسائل الشيعة : ١١ باب ٦٨ من أبواب جهاد العدو ، ح ٥.

٢٠٢

قبله (١) ، وبقوله : لا جزية على مسلم (٢). والجزية تصرف إلى أنصار الإسلام خاصة على ما جرت به السنة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وشرائط الجزية : أن لا يجاهروا المسلمين بكفرهم ، ولا بتناول المحرمات في شريعة الإسلام ، ولا يسبوا مسلما ، ولا يعينوا على أهل الإسلام ، ولا يتخذوا بيعة ولا كنيسة ، ولا يعيدوا ما استهدم من ذلك ، وتلزم نصرتهم والمنع منهم ما وفوا بهذه الشروط ، ومتى أخلوا بشي‌ء منها ، صارت دماؤهم هدرا ، وأموالهم وأهاليهم فيئا للمسلمين ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ويغنم من جميع من خالف الإسلام من الكفار ما حواه العسكر وما لم يحوه من الأموال والأمتعة والذراري والأرضين ، ولا يغنم ممن أظهر الإسلام من البغاة والمحاربين إلا ما حواه العسكر من الأموال والأمتعة التي تخصهم فقط ، من غير جهة غصب دون ما عداها.

وللإمام أن يصطفي لنفسه قبل القسمة ما شاء ، من فرس ، أو جارية ، أو درع ، أو سيف ، أو غير ذلك ـ وهذا من جملة الأنفال ـ وأن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الإسلام ، وليس لأحد أن يعترض عليه وإن استغرق ذلك جميع الغنيمة ، ثم يخرج منها الخمس لأربابه.

__________________

(١) كنز العمال : ١ ـ ٦٦ برقم ٢٤٣ و ١٣ ـ ٣٧٤ برقم ٣٧٠٢٥ ومسند أحمد بن حنبل : ٤ ـ ١٩٩ و ٢٠٤ و ٢٠٥. قال الطريحي : في الحديث «الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب» والجب : القطع. وأما مفاد القاعدة فملخصه أن من دخل في الإسلام من أصناف الكفار وكان قد ارتكب في حال كفره جرائم كثيرة ويخاف المجازاة بها بعد إسلامه ، قد وسع الشارع المقدس عليه في مقام الامتنان وقال : «الإسلام يجب ما قبله» ومن أراد الوقوف عليها كما هو حقه فليرجع إلى الكتب الممهدة لبيان القواعد الفقهية.

(٢) سنن البيهقي : ٩ ـ ١٩٩ ولفظ الحديث : ليس على مؤمن جزية ، وكنز العمال : ٤ ـ ٣٧٩. وفيه «ليس على مسلم جزية» وكذا في جامع الأصول : ٣ ـ ٢٦٨.

٢٠٣

ويقسم ما بقي مما حواه العسكر بين المقاتلة خاصة ، لكل راجل سهم ، ولكل فارس سهمان ولو كان معه عدة أفراس ، ويأخذ المولود في دار الجهاد ، ومن أدرك المجاهدين للمعونة لهم يأخذ مثل ما يأخذ المقاتل ، وحكم غنيمة البحر في القسمة بين من له فرس ومن ليست له ، حكم غنيمة البر سواء ، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

وما لم يحوه العسكر من غنائم من خالف الإسلام من الكفار ، من أرض وعقار وغيرها ، فالجميع للمسلمين المقاتل منهم وغير المقاتل ، والحاضر والغائب ، وهذه الأرض المفتتحة عنوة بالسيف ، لا يجوز التصرف فيها ببيع ولا وقف ولا غيرهما ، وللإمام أن يقبلها بما يراه ، وعلى المتقبل ـ بعد إخراج حق القبالة فيما بقي في يده ـ الزكاة إذا تكاملت شروطها.

وأما أرض الصلح فهي أرض الجزية إذا شاء الإمام أن يضعها على الأرض بدلا من الرؤوس ، وتسمى الخراجية ، وقد بينا أن ذلك يختص بأهل الكتاب ، وهذه الأرض يصح التصرف فيها لأربابها بسائر أنواع التصرف ، وحكم ما يؤخذ من هذه الأرض ، حكم جزية الرؤوس ، يسقط بالإسلام ، وإذا بيعت الأرض لمسلم سقط خراجها (١) ، وانتقلت الجزية إلى رأس بائعها به.

وأما أرض الأنفال ، وهي كل أرض أسلمها أهلها من غير حرب ، أو جلوا عنها ، وكل أرض مات مالكها ، ولم يخلف وارثا بالقرابة ولا بولاء العتق ، وبطون الأودية ، ورؤوس الجبال ، والآجام ، وقطائع الملوك من غير جهة غصب ، والأرضون الموات ، فللإمام خاصة دون غيره ، وله التصرف فيها بما يراه ، من بيع أو هبة أو غيرهما ، وأن يقبلها بما يراه ، وعلى المتقبل ـ بعد حق القبالة وتكامل الشروط ـ ما بيناه من الزكاة.

__________________

(١) في «ج» : يسقط خراجها.

٢٠٤

ومن أخذ أسيرا قبل أن (تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) ، وجب قتله ، ولم يجز للإمام استبقاؤه ، وإن أخذ بعد الفتح ، فالإمام مخير بين المن عليه بالإطلاق أو المفاداة أو الاستبعاد ، وإذا غلب الكفار على شي‌ء من أموال المسلمين وذراريهم ، ثم ظهر عليهم المسلمون ، فأخذوا ذلك ، فالذراري خارجون عن الغنيمة ، وما عداهم من الأمتعة والرقيق إن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير عوض ، وإن وجده بعدها أخذه ، ودفع الإمام إلى من وقع في سهمه قيمته من بيت المال ، لئلا تنتقض القسمة ، ودليل ذلك كله الإجماع المتكرر وفيه الحجة.

٢٠٥
٢٠٦

كتاب البيع

جملة ما يحتاج إليه معرفة أقسامه وشروطه وأسباب الخيار فيه ومسقطاته وما يتعلق بذلك من الأحكام به.

أما أقسامه فأربعة : بيع عين حاضرة مرئية ، وبيع خيار الرؤية في الأعيان الغائبة ، وبيع ما فيه الربا بعضه ببعض ، وبيع موصوف في الذمة إلى أجل معلوم وهو السلم.

وأما شروطه فعلى ضربين : أحدهما شرائط صحة انعقاده ، والثاني شرائط لزومه.

فالضرب الأول : ثبوت الولاية في المعقود عليه ، وأن يكون معلوما مقدورا على تسليمه ، منتفعا به منفعة مباحة ، وأن يحصل الإيجاب من البائع والقبول من المشتري من غير إكراه ولا إجبار إلا في موضع نذكره ، ويختص بيع ما فيه الربا وبيع السلم بشروط زائدة على ذلك ، نبينها في بابها إن شاء الله.

اشترطنا ثبوت الولاية احترازا من بيع من ليس بمالك للمبيع ، ولا في حكم المالك له ، وهم ستة : الأب والجد ووصيهما والحاكم وأمينه والوكيل ، فإنه لا ينعقد وإن أجازه المالك ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ولأن صحة انعقاده حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ثبوت ذلك

٢٠٧

ها هنا ، ويعارض المخالف بما رووه من نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده (١) ، ومن قوله : لا بيع إلا فيما يملك (٢) ، ولم يفصل بين ما أجازه المالك وما لم يجزه.

وقد دخل فيما قلناه جواز بيع أم الولد إذا مات ولدها ، أو كان حيا وثمنها دينا على سيدها ، ولا يقدر على قضائه إلا ببيعها ، لأنها مملوكة للسيد بلا خلاف ، ولهذا جاز له وطؤها وعتقها ومكاتبتها وأخذ ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها ، ولهذا وجب على قاتلها قيمتها دون الدية ، فالأصل جواز بيعها لأنه في حكم الملك (٣) وإنما منعنا منه مع بقاء الولد وعدم الاستدانة لثمنها والعجز عن وفائه من غيرها ، لدليل ، وهو الإجماع على ذلك ، وبقينا فيما عدا هذا الموضع على حكم الأصل.

ويدل على ما قلناه بعد إجماع الطائفة ظاهر قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٤). لأنه عام في أمهات الأولاد وغيرهن ، ولا يخرج من هذا الظاهر إلا ما أخرجه دليل قاطع ، وما يتعلق به المخالف في المنع من بيعهن ، أخبار آحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ، على ما بيناه فيما مضى ، ثم غاية ما يحصل بها غالب الظن ، وما هذه حاله لا يجوز الرجوع به عما يوجب العلم ، على أنها معارضة بأخبار مثلها واردة من طرقهم تقتضي جواز بيعهن ، وإذا تعارضت الأخبار سقط التعلق بها.

وقول من يقول منهم : إذا كان ولد هذه الأمة حرا ، وكان كالجزء منها ، فحريته متعدية إليها ، ظاهر البطلان ، لأن أول ما فيه أن يقال لهم : كيف ادعيتم

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٦٧ و ٣١٧ و ٣٣٩ كتاب البيع ، ومسند أحمد : ٣ ـ ٤٠٢ و ٤٣٤.

(٢) سنن البيهقي : ٥ ـ ٣٤٠ ولاحظ جامع الأصول : ١ ـ ٣٨٠ ـ ٣٨٨ ، الباب الثاني في بيع ... ما لا يملك.

(٣) في الأصل : من حكم الملك.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

٢٠٨

إن حرية الولد تتعدى إلى الأم؟ ومن مذهبكم أن الأم لا تتبع الولد في الأحكام بل الولد هو الذي يتبعها ، ولهذا إذا أعتقت الأم عتق ما في بطنها ولا تعتق هي إذا عتق ، ثم يلزمهم (١) أن يعتق في الحال ، وفي تأخر العتق إلى موت السيد ما يبطل ما قالوه ، على أن من مذهب الشافعي أن من تزوج أمة ثم اشتراها بعد ما أولدها ، لم تتعد الحرية من الولد إليها ، بل هي أمة حتى تحمل منه وهي في ملكه (٢) فلا يصح له التعلق بذلك.

وقد دخل أيضا فيما قلناه جواز بيع المدبر بعد نقض تدبيره ـ إن كان تدبيره تطوعا ـ لأنه مملوك ، وتدبيره يجري مجرى الوصية ، وتغييرها جائز للموصي ما دام حيا ، وإن كان تدبيره واجبا ـ بأن يكون قضاء لنذر ـ لم يجز بيعه لأن ما هذه حاله لا يجوز نقضه ولا الرجوع فيه ، وجواز بيع المكاتب أيضا متى شرط عليه أنه إن عجز عن الأداء أو عن بعضه (٣) عاد رقا فعجز ، فأما إذا كوتب من غير شرط فإنه لا يجوز بيعه ، ويدل على ذلك كله الإجماع المشار إليه.

وقد دخل فيما أصلنا نفوذ بيع ما يصح بيعه إذا بيع معه في صفقة واحدة ما لا يجوز بيعه ، لأنه مملوك يصح بيعه منفردا بلا خلاف ، فمن أبطله في هذه الصورة فعليه الدليل ، ويدل على ذلك بعد إجماع الطائفة ظاهر قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤).

وقد دخل فيه أيضا جواز بيع المعقود عليه قبل قبضه من الثمن والمثمن معا ، وسواء في ذلك المنقول وغيره إلا أن يكون المبيع طعاما ، فإن بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعا ، ويدل على ما قلناه الإجماع المتكرر ودلالة الأصل وظاهر القرآن.

__________________

(١) في الأصل : ثم يلزمكم.

(٢) لاحظ المغني لابن قدامة والشرح الكبير : ١٢ ـ ٤٩٦ كتاب عتق أمهات الأولاد.

(٣) في «ج» و «س» : وعن بعضه.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

٢٠٩

ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ابتاع طعاما فلا يبيعه قبل أن يستوفيه (١) ، فخص الطعام بذلك ، ولو كان حكم غيره حكمه لبينه.

ويخرج على ما اشترطناه بيع العبد الجاني جناية توجب القصاص بغير إذن المجني عليه ، فإنه لا يجوز بيعه ، لأنه قد صار حقا له ، فأما إن كانت توجب الأرش والتزمه السيد فإنه يجوز بيعه ، لأنه لا وجه يفسده.

ويخرج على ذلك (٢) أيضا بيع من ليس بكامل العقل وشراؤه ، فإنه لا ينعقد وإن أجازه الولي ، بدليل ما قدمناه من الإجماع ، ونفي الدليل الشرعي على انعقاده ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق. (٣)

ويخرج على ذلك أيضا شراء الكافر عبدا مسلما ، بدليل ما قدمناه من الإجماع ونفي الدليل الشرعي ، وأيضا قوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (٤) ، لأنه عام في جميع الأحكام ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. (٥)

__________________

(١) سنن النسائي : ٧ ـ ٢٨٥ بيع الطعام قبل أن يستوفى ، سنن البيهقي : ٥ ـ ٣١٤ و ٦ ـ ٣١.

(٢) في «ج» و «س» : «ويخرج عن ذلك» وكذا فيما يأتي.

(٣) سنن البيهقي : ٦ ـ ٥٧ كتاب الحجر ، ومسند أحمد بن حنبل : ٦ ـ ١٠٠ و ١١٠ والمستدرك على الصحيحين : ٢ ـ ٥٩ والجامع الصغير ٢ ـ ١٦.

(٤) النساء : ١٤١.

(٥) سنن الدار قطني : ٣ ـ ٢٥٢ ، الجامع الصغير : ١ ـ ٤٧٤ برقم ٣٠٦٣ وجامع الأصول : ١٠ ـ ٣٦٨ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٢٠٥ وكنز العمال : ١ ـ ٦٦ برقم ٢٤٦ ووسائل الشيعة ج ١٧ ب ١ من أبواب موانع الإرث ح ١١. أقول : إن للعلامة الفهامة سيدنا آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ـ قدس‌سره ـ كلاما حول معنى الحديث فأحببت أن أنقله بعين عبارته ، قال ما هذا نصه :

«هذا الخبر يحتمل معان خمسة ، أحدها : بيان كون الإسلام أشرف المذاهب ، وهو خلاف الظاهر

٢١٠

واشترطنا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأن العقد على المجهول باطل بلا خلاف ، لأنه من بيع الغرر ، فلو قال : بعتك عبدا أو ثوبا أو بما يبيع به فلان سلعته ، لم يصح ، بل لا بد من علمه بالمشاهدة ، وعلم مقداره وأوصافه إن كان حاضرا ظاهرا ، أو بتمييز الجنس وتخصيص العين بالصفة أو المبلغ أو بهما معا بالقول إن كان غائبا.

ويدل على جواز بيع الأعيان الغائبة إذا علمت بما ذكرناه من الإجماع الماضي ذكره ، وظاهر قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) ، وقوله (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٢) ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه. (٣)

ويدخل فيما قلناه جواز بيع الأعمى وشرائه ، سواء ولد أعمى ، أو عمى بعد صحة ، ويرجع في حصول صفة المبيع وانتفائها (٤) إلى من يثق به.

ويدخل فيه أيضا المبيع إذا استثنى منه شي‌ء معين ، كالشاة إلا رأسها ، أو جلدها ، أو ربعها ، والشجر إلا الشجرة الفلانية ، لأن ما عدا المستثنى ـ والحال هذه ـ معلوم.

واعتبرنا أن يكون مقدورا على تسليمه ، تحفظا مما لا يمكن ذلك فيه ، كالسمك في الماء ، والطير في الهواء ، فإن ما هذه حاله لا يجوز بيعه بلا خلاف ، لأنه من بيع الغرر ، وقد دخل فيما قلناه بيع الآبق.

__________________

جدا. الثاني : بيان انه يعلوا من حيث الحجة والبرهان. الثالث : انه يعلو بمعنى يغلب على سائر الشرائع. الرابع : انه لا ينسخ. الخامس : ما أراده الفقهاء من إرادة بيان الحكم الشرعي الجعلي بعدم علو غيره عليه» تعليقة المكاسب ، ص ٣١.

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) النساء : ٢٩.

(٣) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٦٨ كتاب البيع وكنز العمال : ٤ ـ ٩٥ برقم ٩٧٠٣.

(٤) في «ج» : أو انتفائه.

٢١١

وقد رووا أصحابنا جواز بيعه إذا بيع معه في الصفقة سلعة أخرى ، وبيع سمك الآجام مع ما فيها من القصب ، ويدل على هذا الموضع الإجماع المشار إليه وظاهر القرآن ، وإنما أخرجنا منه ما عدا هذا الموضع لدليل قاطع ، والبيع لما ذكرناه في هذه الصورة ليس بغرر ، لأن ما ينضم في العقد إليه يخرجه عن ذلك ، ولهذا جاز بيع الثمرة الموجود بعضها المتوقع وجود باقيها ـ عندنا وعند مالك ـ وطلع النخل الذي لم يؤبر مع أصوله وإن كان في الحال معدوما ولا يمكن تسليمه بلا خلاف.

ولما ذكرناه من هذين الشرطين نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وذلك لا يجوز فيها منفردة عن الأصول سنة واحدة بشرط التبقية إجماعا بلا خلاف ، ويجوز بشرط القطع في الحال إجماعا ، ولا يجوز بيعها مطلقا ، وفي ذلك خلاف ، ودليلنا عليه إجماع الطائفة.

ويجوز عندنا خاصة بيعها مطلقا سنتين فصاعدا ، لأنها إن خاست في سنة زكت في أخرى ، وظاهر القرآن ودلالة الأصل تدلان على ذلك بعد إجماع الطائفة ، فإذا بدا صلاحها وأمنت العاهة (٢) جاز بيعها على كل حال ، مطلقا وبشرط القطع أو التبقية ، بدليل ما قدمناه في المسألة الأولى.

ولما ذكرناه من الشرطين نهى أيضا عن بيع حبل الحبلة ـ وهو نتاج النتاج (٣) ـ وعن بيع الملاقيح ـ وهو ما في بطون الأمهات ـ وعن بيع المضامين ـ وهو ما في أصلاب الفحول ـ لأن ذلك مجهول غير مقدور على تسليمه.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٣٠١ و ٣١٠ كتاب البيع.

(٢) العاهة : الآفات والأمراض التي تصيب الثمار والزرع قبل نضوجها فتفسدها ، أو تهلكها ، يقال : عاه القوم ، وأعوهوا : إذا أصابت ثمارهم أو زرعهم أو ماشيتهم العاهة. لاحظ النهاية لابن الأثير.

(٣) ومعناه : أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن سيكون أنثى ، وإنما نهى عنه لأنه غرر. والحبل الأول يراد به : ما في بطون النوق ، والثاني : الحبل الذي في بطون النوق. لاحظ جامع الأصول لابن الأثير : ١ ـ ٤١١.

٢١٢

ولذلك نهى أيضا عن بيع اللبن في الضرع ، والصوف على الظهر ، لأنهما مجهولان ، فإن تركا وتأخر أحدهما صار غير مقدور على تسليمهما لاختلاطهما بما يحدث بعدهما.

وللجهالة بالمبيع نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الحصاة على أحد التأويلين ، وهو أن ينعقد البيع على ما تقع عليه الحصاة.

وللجهالة بالثمن والأجل أيضا نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيعتين في بيعة ، نحو أنه يقول : بعتك كذا بدينار إلى شهر وبدينارين إلى شهرين ، فيقول المشتري : قد قبلت به.

واشترطنا أن يكون منتفعا به ، تحرزا مما لا منفعة فيه ، كالحشرات وغيرها. وقيدنا بكونها مباحة ، تحفظا من المنافع المحرمة ، ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل ، من بيع الكلب المعلم للصيد ، والزيت النجس للاستصباح به تحت السماء ، وهو إجماع الطائفة.

ويحتج على من قال من المخالفين بجواز بيع الكلاب مطلقا ، وبيع سرقين (١) ما لا يؤكل لحمه ، وبيع الخمر بوكالة الذمي على بيعها ، بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه (٢).

ويحتج على من منع من جواز بيع كلب الصيد والزيت النجس للاستصباح به ، بعموم الآيتين اللتين قدمناهما ، وبما رووه عن جابر (٣) من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) كذا في الأصل و «ج» ولكن في «س» : «وبيع سرجين» وكلاهما بمعنى واحد. قال الفيومي : السرجين : الزبل ، كلمة أعجمية وأصلها سركين بالكاف فعربت إلى الجيم والقاف فيقال سرقين أيضا. المصباح المنير.

(٢) سنن الدار قطني : ٣ ـ ٧ برقم ٢٠ ومسند أحمد : ١ ـ ٢٩٣ ، ولفظ الحديث : إن الله عزوجل إذا حرم أكل شي‌ء حرم ثمنه وص ٣٢٢ مثله. ولاحظ جامع الأصول : ١ ـ ٣٧٩.

(٣) جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي ، شهد بدرا وثماني عشرة غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشهد صفين مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحاله أشهر من أن يذكر ، مات سنة ٧٤ وقيل سنة ٧٧ ه‍ ـ ، لاحظ أعيان الشيعة : ٤ ـ ٤٥ ، وأسد الغابة : ١ ـ ٢٥٦.

٢١٣

نهى عن ثمن الكلب إلا أن يكون للصيد (١) وبما روى أبو علي (٢) بن أبي هريرة في كتابه «الإفصاح» من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن في الاستصباح بالزيت النجس (٣) ، وهذا يدل على جواز بيعه لذلك.

واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ، تحرزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والإيجاب من البائع ، وهو أن يقول : بعنيه بألف ، فيقول : بعتك ، فإنه لا ينعقد بذلك بل لا بد أن يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت ، حتى ينعقد.

واحترازاً أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة ، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول : أعطني بقلا ، فيعطيه ، فإن ذلك ليس ببيع وإنما هو إباحة للتصرف.

يدل على ما قلناه الإجماع المشار إليه ، وأيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به ، وليس على صحته بما عداه دليل. ولما ذكرناه نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الملامسة والمنابذة ، وعن بيع الحصاة على التأويل الآخر ، ومعنى ذلك أن يجعل اللمس للشي‌ء أو النبذ له وإلقاء الحصاة بيعا موجبا.

واشترطنا عدم الإكراه ، لأن حصوله مفسد للعقد بلا خلاف ، واستثنينا الموضع المخصوص ، وهو الإكراه في حق ، نحو إكراه الحاكم على البيع لإيفاء ما يلزم من حق ، لأنه يصح البيع معه بلا خلاف أيضا.

واعلم أن ما يقترن بعقد البيع من الشروط على ضروب :

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ٦ و ٧ من كتاب البيوع ، وكنز العمال : ٤ ـ ٨٠ برقم ٩٦٢٧ و ٩٦٢٨.

(٢) أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي ، أخذ العلم عن ابن سريج وأبي إسحاق المروزي كان معظما عند السلاطين مات سنة (٣٤٥ ه‍ ـ) في بغداد لاحظ طبقات الشافعية : ١ ـ ١٢٨ ، وطبقات الفقهاء : ١ ـ ١٢١.

(٣) نقله عنه الشيخ في الخلاف كتاب البيوع ، المسألة ٣١٢.

٢١٤

منها : ما هو فاسد مفسد للعقد بلا خلاف ، نحو أن يشترط في الرطب أن يصير تمرا ، وفي الحصرم أن يصير عنبا ، وفي الزرع أن يسنبل ، ومثل أن يسلف في زيت (١) مثلا على أن يكون حادثا في المستقبل من شجر معين ، لأن ذلك غير مقدور على تسليمه ، وهذا قد دخل فيما قدمناه.

ومنها : ما هو صحيح والعقد معه كذلك ، وهذا على ضربين :

أحدهما لا خلاف فيه ، نحو أن يشترط في العقد ما يقتضيه ، أو ما للمتعاقدين مصلحة فيه ، مثل أن يشترط القبض ، وجواز الانتفاع ، والأجل والخيار والرهن والكفيل.

والثاني فيه خلاف ، وهو أن يشترط ما يمكن تسليمه ، نحو أن يشتري ثوبا على أن يخيطه البائع أو يصبغه ، أو يبيعه شيئا آخر ، أو يبتاع منه ، وأن يبيع ويشترط على المشتري إن رد الثمن عليه في وقت كذا كان المبيع له ، وأن يشترط على مشتري العبد عتقه.

ويدل على صحة العقد مع ذلك ، الإجماع الماضي ذكره وظواهر القرآن ودلالة الأصل ، ويحتج على المخالف في صحة هذه الشروط بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤمنون عند شروطهم (٢) ، ومن قوله : الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب ولا سنة (٣) ، وبما رووه من خبر جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ابتاع منه البعير بمكة ، شرط عليه أن يحمله عليه إلى المدينة ، وأنه عليه‌السلام أجاز البيع والشرط. (٤)

__________________

(١) في «س» : «في زمن» وهو تصحيف.

(٢) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٦ ، والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ باب الضمان ، وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ، والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ ولفظ الحديث في بعض المصادر : «المسلمون.».

(٣) التهذيب : ٧ ـ ٢٢ ومن لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ١٢٧ وعوالي اللئالي : ٣ ـ ٢٢٥ (قطعة منه).

(٤) جامع الأصول : ١ ـ ٤٢٩ ـ ٤٣٥ والتاج الجامع : ٢ ـ ٢٠٣.

٢١٥

ومن الشروط ما هو فاسد بلا خلاف غير مفسد للعقد ، وفي ذلك خلاف ، نحو أن يشترط ما يخالف مقتضى العقد مثل أن لا يقبض المبيع أو لا ينتفع به ، أو يشترط ما يخالف السنة نحو أن يشترط بائع العبد أن يكون ولاؤه له إذا أعتق ، ويدل على صحة العقد ما قدمناه من الإجماع ، وظاهر القرآن ، ودلالة الأصل.

ونحتج على المخالف بما رووه من خبر بريرة (١) وأن مولاتها شرطت على عائشة حين اشترتها أن يكون ولاؤها لها إذا أعتقها ، فأجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيع وقال : الولاء لمن أعتق (٢) ، فأفسد الشرط.

واعلم أنه قد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سوم المرء على سوم أخيه ، وهو أن يزيد على المشتري قبل العقد وبعد استقرار الثمن والإنعام له بالبيع ، ونهى عن البيع على بيعه ، وهو أن يعرض على المشتري مثل ما اشتراه بعد العقد وقبل لزومه ، ونهى عن النجش في البيع ، وهو أن يزيد في الثمن من لا رغبة له في الشراء ، ليخدع المشتري ، ونهى أن يبيع حاضر لباد ، وهو أن يصير سمسارا له ، ويتربص بما معه حتى يغالي في ثمنه ، فلا يتركه يبيع بنفسه حتى يكون للناس منه رزق وربح ، ونهى عن تلقي الركبان للشراء منهم وقال عليه‌السلام : فإن تلقى متلق فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق (٣) ، إلا أن ذلك عندنا محدود بأربعة فراسخ فما دونها ، فإن زاد على ذلك كان جلبا ولم يكن تلقيا ، وكل هذه المناهي لا تدل على فساد عقد

__________________

(١) بريرة مولاة عائشة كانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها ثم باعوها من عائشة فأعتقتها. وهي تقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ان الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بمل‌ء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق. لاحظ أسد الغابة : ٥ ـ ٤٠٩ وأعلام النساء : ١ ـ ١٢٩ والاستيعاب : ٤ ـ ١٣٩٥.

(٢) سنن البيهقي : ١٠ ـ ٣٣٩ ومسند أحمد : ٢ ـ ١٥٣ و ٦ ـ ٢١٣.

(٣) سنن البيهقي : ٥ ـ ٣٤٧ و ٣٤٨ باب النهي عن تلقي السلع ، وجامع الأصول : ١ ـ ٤٤٥ وسنن الدارمي : ٢ ـ ٢٥٤ باب النهي عن تلقي البيوع ، وكنز العمال : ٤ ـ ١٦٤ برقم ٩٩٩٣ باختلاف يسير.

٢١٦

البيع إذا وقع مع شي‌ء منها ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وأما شرائط لزومه فهي مسقطات الخيار في فسخه ، وها نحن ذاكروها :

الفصل الأول :

في أسباب الخيار ومسقطاته

إذا صح العقد ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بأحد أمور خمسة :

أحدها : اجتماعهما في مجلس العقد ، وهذا هو خيار المجلس. ولا يسقط إلا بأحد أمرين : تفرق وتخاير.

فالتفرق : أن يفارق كل واحد منهما صاحبه بخطوة فصاعدا عن إيثار.

والتخاير على ضربين : تخاير في نفس العقد ، وتخاير بعده ، فالأول أن يقول البائع : بعتك بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس ، فيقول المشتري : قبلت ، والثاني أن يقول أحدهما لصاحبه في المجلس : اختر ، فيختار إمضاء العقد.

يدل على ذلك إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار (١) فسماهما متبايعان ، وذلك لا يجوز إلا بعد وجود التبايع منهما ـ لأنه اسم مشتق من فعل كالضارب والقاتل ـ ثم أثبت لهما الخيار قبل التفرق ـ وأقل ما يحصل به ما ذكرناه ـ ثم استثنى بيع الخيار وهو الذي لم يثبت فيه الخيار بما قدمناه من حصول التخاير. وفي خبر آخر : ما لم يفترقا عن مكانهما فإذا تفرقا فقد وجب البيع (٢) ، وفي آخر : ما لم يفترقا أو يكون بيعهما

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧١ وجامع الأصول : ٢ ـ ٥ ـ ١١ ومسند أحمد : ٢ ـ ٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٩١ ـ ٩٦.

(٢) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٦٨ باب المتبايعان بالخيار. وجامع الأصول : ٢ ـ ٦.

٢١٧

عن خيار ، فإن كان بيعهما عن خيار ، فقد وجب البيع (١) ، وفي آخر : ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر. (٢)

وحمل لفظ المتبايعين في الخبر الأول على المتساومين غير صحيح لما ذكرناه في الروايات الأخر ، ولأن من قال لعبده : إن بعتك فأنت حر ، ثم ساوم عليه لم يعتق بلا خلاف ، ولو ساغ ذلك في الخبر مجازا لكان الأصل الحقيقة ، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل (٣) ، وما يتعلق به من نفي خيار المجلس ـ في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأخبار : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (٤) ، وقولهم : انه أثبت الاستقالة في المجلس ، وذلك إنما يثبت في عقد لازم ، لا دلالة له فيه ، وهو بأن يكون دلالة عليهم أولى ، لأن المراد ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يفاسخه ما ثبت له من خيار المجلس ، فعبر عن الفسخ بالاستقالة ، وقلنا ذلك لأمرين :

أحدهما : أنه ذكر أمرا يفوت بالتفرق ، والاستقالة ليست كذلك ، وإنما الذي يفوت بالتفرق هو الفسخ بحق خيار المجلس.

والثاني : أنه نهى عن المفارقة خوفا من الاستقالة ، والاستقالة غير منهي عنها ، لأن الإقالة غير واجبة ، وإنما المنهي عنه مفارقة المجلس خوفا من الفسخ بحق الخيار ، لأنه مأمور باستئذان صاحبه واعتبار رضاه.

والسبب الثاني للخيار :

اشتراط المدة ، ويجوز أن تكون ثلاثة أيام فما دونها بلا خلاف ، ويجوز الزيادة على الثلاث ، ويلزم الوفاء بذلك ، ولا يفسد به العقد ، بدليل إجماع الطائفة ، ويدل على صحة العقد أيضا ظاهر القرآن ودلالة الأصل.

__________________

(١ و ٢) جامع الأصول : ٢ ـ ٥ و ٦.

(٣) في «ج» و «س» : لدليل.

(٤) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٧١ وجامع الأصول : ٢ ـ ٧ وكنز العمال : ٤ ـ ٩٢ برقم ٩٦٩٤.

٢١٨

ويحتج على المخالف في جواز اشتراط ما زاد على الثلاث بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤمنون عند شروطهم (١) ، وبقوله : الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب ولا سنة (٢) وما روى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخيار ثلاثة (٣) خبر واحد. ثم إذا لم يمنع من النقصان منها لم يمنع من الزيادة عليها ، فإن شرط الخيار ولم يعين مدة كان الخيار ثلاثا.

ويثبت خيار الثلاث في الحيوان بإطلاق العقد للمشتري خاصة من غير شرط ، وفي الأمة مدة استبرائها ، بدليل الإجماع المتكرر ، ولأن الثلاث هي المدة المعهودة في الشريعة لضرب الخيار ، والكلام إذا أطلق حمل على المعهود ، ولأن العيوب في الحيوان لما كانت أخفى ، والتغابن فيه أقوى ، فسح فيه ما لم يفسح في غيره ، ولا يمتنع أن يثبت هذا الخيار من غير شرط ، كما ثبت خيار المجلس.

وينقطع هذا الضرب من الخيار بأحد ثلاثة أشياء : انقضاء المدة المضروبة له بلا خلاف ، والتخاير في إثباتها ، بدليل الإجماع من الطائفة على ذلك ، والتصرف في المبيع ، وهو من البائع فسخ ومن المشتري إجازة ، بلا خلاف ، وقد روى أصحابنا أن المشتري إذا لم يقبض المبيع وقال للبائع : أجيئك بالثمن ، ومضى ، فعلى البائع الصبر عليه ثلاثا ، ثم هو بالخيار بين فسخ العقد ومطالبته بالثمن.

هذا إذا كان المبيع مما يصح بقاؤه ، فإن لم يكن كذلك كالخضروات ، فعليه الصبر يوما واحدا ، ثم هو بالخيار على ما بيناه ، وهلاك المبيع في هذه المدة من مال

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٦ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ باب الضمان ، وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون. ، والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ كما في المتن.

(٢) التهذيب : ٧ ـ ٢٢ والفقيه : ٣ ـ ١٢٧ وعوالي اللئالي : ٣ ـ ٢٢٥ (قطعة منه).

(٣) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٧٤ وكنز العمال : ٤ ـ ٩١ برقم ٩٦٨٥ ولفظ الحديث : الخيار ثلاثة أيام.

٢١٩

المبتاع وبعدها من مال البائع ، ويدل على ذلك كله إجماع الطائفة.

السبب الثالث للخيار :

الرؤية في بيع الأعيان الغائبة التي لم يتقدم من المتبايعين أو من أحدهما رؤية لها ، وقد دللنا على صحة هذا البيع فيما تقدم ، وينقطع هذا الخيار ويزول حكمه بأحد أمرين :

أحدهما : أن يرى المبيع على ما عين ووصف ، بدليل إجماع الطائفة ، وأيضا فجواز الخيار مع ما ذكرناه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

والثاني : أن يرى بخلاف ما وصف ، ويهمل الفسخ ، لأنه على الفور.

واعلم أن ابتداء المدة للخيار من حين التفرق بالأبدان ، لا من حين حصول العقد ، لأن الخيار إنما يثبت بعد ثبوت العقد ، وهو لا يثبت إلا بعد التفرق ، فوجب أن يكون الخيار ثابتا من ذلك الوقت ، ويدخل خيار المجلس في جميع ضروب البيع ـ السلم وغيره ـ لإجماع الطائفة على ذلك ، وكذا خيار الشرط لمثل ما قدمناه إلا عقد الصرف ، فإن خيار الشرط لا يدخله بلا خلاف.

ولا يدخل خيار المجلس فيما ليس ببيع من سائر العقود ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا (١) ، يخص بذلك المتبايعين دون غيرهما ، فمن ادعى دخول ذلك فيما ليس ببيع فعليه الدليل.

ولا مانع من دخول خيار الشرط فيما ليس ببيع ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤمنون عند شروطهم (٢) ، يدل على ذلك.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٦٨ ، جامع الأصول : ٢ ـ ٥ ـ ١١ ، كنز العمال : ٤ ـ ٩٢.

(٢) التهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ وتقدمت مصادر أخر آنفا.

٢٢٠