غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

للانتفاع به.

وكل منفعة تملك بعقد الإجارة ، كمنافع الدار ، والدابة ، والعبد ، وغير ذلك ، فإنها تضمن بالغصب ، بدليل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) ، والمثل يكون من حيث الصورة ومن حيث القيمة ، وإذا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة ، وجبت القيمة.

وإذا غصب أرضا فزرعها ببذر من ماله ، أو غرسها كذلك ، فالزرع والشجر له ، لأنه عين ماله ، وإنما تغيرت صفته بالزيادة والنماء ، وعليه أجرة الأرض ، لأنه قد انتفع بها بغير حق ، فصار غاصبا للمنفعة ، ويلزمه ضمانها ، وعليه أرش نقصانها إن حصل بها نقص ، لأن ذلك حصل بفعله.

ومتى قلع الشجر فعليه تسوية الأرض ، وكذا لو حفر بئرا أجبر على طمها ، وللغاصب ذلك وإن كره مالك الأرض ، لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردى فيها.

ومن حل دابة فشردت ، أو فتح قفصا فذهب ما فيه ، لزمه الضمان ، سواء كان ذلك عقيب الحل والفتح ، أو بعد أن وقفا ، لأن ذلك كالسبب في الذهاب ، ولولاه لما أمكن ، ولم يحدث سبب آخر من غيره ، فوجب عليه الضمان.

ولا خلاف أنه لو حل رأس الزق فخرج ما فيه ، وهو مطروح لا يمسك ما فيه غير الشد ، لزمه الضمان ، ولو كان الزق قائما مستندا وبقي محلولا حتى حدث عليه (٢) ما أسقطه من ريح أو زلزلة أو غيرهما ، فاندفق ما فيه ، لم يلزمه الضمان بلا خلاف ، لأنه قد حصل ها هنا مباشرة وسبب من غيره.

ومن غصب عبدا فأبق ، أو بعيرا فشرد ، فعليه قيمته ، فإذا أحرزها صاحب

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) في «ج» : «حتى حدث عليه سقطة» والصحيح ما في المتن.

٢٨١

العبد ملكها بلا خلاف ، ولا يملك الغاصب العبد ، فإن عاد انفسخ الملك عن القيمة ووجب [عليه] (١) ردها وأخذ العبد ، لأن أخذ القيمة إنما كان لتعذر أخذ العبد والحيلولة بين مالكه وبينه ، ولم يكن عوضا عنه على وجه البيع ، لأنا قد بينا أن ملك القيمة يتعجل ها هنا ، وملك القيمة بدلا عن العين الفائتة بالإباق لا يصح على وجه البيع ، لأن البيع يكون فاسدا عندنا ـ وعند المخالف في هذه المسألة يكون موقوفا ، فإن عاد العبد سلمه المشتري ، وإن لم يعد رد البائع الثمن ـ ولما ملكت القيمة ها هنا ـ والعبد آبق ولم يجز الرجوع بها مع تعذر الوصول إلى العبد ـ ثبت أن ذلك ليس على وجه البيع.

وما يلزم بالجناية على الحيوان ، سنذكر تفصيله في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

٢٨٢

فصل في الوديعة

المرء مخير في قبول الوديعة والامتناع من ذلك ، وهو أولى ما لم يكن فيه ضرر على المودع ، ويجب عليه حفظها بعد القبول لها ، كما يحفظ ماله.

وهي أمانة لا يلزم ضمانها إلا بالتعدي ، فإن تصرف فيها أو في بعضها ، ضمنها وما أربحت ، وكذا إن فك ختمها ، أو حل شدها ، أو نقلها من حرز إلى ما هو دونه ، كان متعديا ، ويلزمه الضمان بدليل إجماع الطائفة ، وكذا إن لم يكن هناك ضرورة من خوف نهب (١) أو غرق أو غيرهما ، فسافر بها ، أو أودعها أمينا آخر وصاحبها حاضر ، أو خالف مرسوم صاحبها في كيفية حفظها ، وكذا لو أقر بها لظالم يريد أخذها ، من دون أن يخاف القتل ، أو سلمها إليه بيده ، أو بأمره ، وإن خاف ذلك ، ويجوز له أن يحلف أنه ليس عنده وديعة إذا طولب بذلك ، ويروى في يمينه بما يسلم به من الكذب ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولا ضمان عليه إن هجم الظالم ، فأخذ الوديعة قهرا.

ولو تعدى المودع ثم أزال التعدي ، مثل أن يردها إلى الحرز بعد إخراجها ، لم يزل الضمان ، لأنه لا خلاف أنه كان لازما له قبل الرد ، ومن ادعى سقوطه عنه بعده ، فعليه الدليل ، ولو أبرأه صاحبها من الضمان بعد التعدي ، وقال : قد جعلتها وديعة عندك من الآن ، بري‌ء ، لأن ذلك حق له ، فله التصرف فيه بالإبراء والإسقاط ، ويزول الضمان بردها إلى صاحبها أو وكيله ، سواء أودعه إياها مرة ثانية ، أم لا ، بلا خلاف.

__________________

(١) في «ج» : من خوف ونهب.

٢٨٣

وإذا علم المودع أن المودع لا يملك الوديعة ، لم يجز له ردها إليه مع الاختيار ، بل يلزمه رد ذلك إلى مستحقه ، إن عرفه بعينه ، فإن لم يتعين له ، حملها إلى الإمام العادل ، فإن لم يتمكن لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق إليه في ذلك بعد وفاته ، إلى حين التمكن من المستحق ، ومن أصحابنا من قال : تكون ـ والحال هذه ـ في الحكم كاللقطة (١) ، والأول أحوط.

وإن كانت الوديعة من حلال وحرام لا يتميز أحدهما من الآخر ، لزم رد جميعها إلى المودع متى طلبها ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ومتى ادعى صاحب الوديعة تفريطا فعليه البينة ، فإن فقدت ، فالقول قول المودع مع يمينه ، وروى أنه لا يمين عليه إن كان ثقة غير مرتاب به. (٢) وإذا ثبت التفريط واختلفا في قيمة الوديعة ، ولا بينة ، فالقول قول صاحبها مع يمينه ، ومن أصحابنا من قال : يأخذ ما اتفقا عليه ، ويحلف المودع على ما أنكره من الزيادة. (٣)

__________________

(١) القائل هو الشيخ في النهاية : ٤٣٦ ، وابن الجنيد. لاحظ المختلف : ٤٤٤ من الطبعة القديمة.

(٢) لاحظ جواهر الكلام : ٢٧ ـ ١٤٨ ، والوسائل : ١٣ ب ٤ من أبواب أحكام الوديعة ح ٧.

(٣) الحلبي : الكافي ـ ٢٣١.

٢٨٤

فصل في الإجارة

كل شي‌ء يستباح بالعارية ، يستباح بعقد الإجارة ، بلا خلاف ممن يعتد به ، وتفتقر صحتها إلى شروط :

منها : ثبوت ولاية المتعاقدين ، فلا يصح أن يؤجر الإنسان ما لا يملك التصرف فيه ، لعدم ملك أو إذن ، أو ثبوت حجر ، أو رهن ، أو إجارة متقدمة ، أو غير ذلك.

ومنها : أن يكون المعقود عليه من الجانبين معلوما ، فلو قال : آجرتك إحدى هاتين الدارين ، أو بمثل ما يؤجر به فلان داره ، لم يصح.

ومنها : أن يكون مقدورا على تسليمه ، حسا وشرعا ، فلو آجر عبدا آبقا أو جملا شاردا ، لا يتمكن من تسليمه ، أو ما لا يملك التصرف فيه ، لم يصح.

ومنها : أن يكون منتفعا به ، فلو آجر أرضا للزراعة في وقت يفوت بخروجه ، والماء واقف عليها لا يزول في ذلك الوقت ، لم يصح ، لتعذر الانتفاع.

ومنها : أن تكون المنفعة مباحة ، فلو آجر مسكنا ، أو دابة ، أو وعاء في محظور ، لم يجز.

فإن كان المستأجر مسكنا ، احتيج مع ما تقدم من الشروط إلى تعيين المدة ، وإن كان دابة ، افتقر إلى ذلك أيضا ، أو إلى تعيين المسافة ، كل ذلك ، بدليل إجماع الطائفة المحقة ، ولأنه لا خلاف في صحة العقد مع تكامل ما ذكرناه ، وليس على صحته مع اختلال بعضه دليل.

٢٨٥

وإذا صح العقد استحقت الأجرة عاجلا ، إلا أن يشرط التأجيل ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا قوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (١) ، لأن المراد فإن بذلن لكم الرضاع ، بدليل قوله في آخر الآية (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) ، والتعاسر أن لا ترضى بأجرة مثلها.

ويملك المؤجر الأجرة والمستأجر المنفعة بنفس العقد ، حتى لو استأجر دابة ليركبها إلى مكان بعينه ، فسلمها إليه ، فأمسكها مدة يمكنه المسير فيها ، فلم يفعل ، استقرت الأجرة عليه ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ولأنه عقد له على منفعة ، ومكنه منها ، فلم يستوفها ، وضيع حقه ، وذلك يسقط حق المؤجر.

وإذا قال : آجرتك هذه الدار كل شهر بكذا ، صح العقد وإن لم يعين آخر المدة ، لأن الأصل الجواز ، والمنع يحتاج إلى دليل ، ويستحق الأجرة للزمان المذكور بالدخول فيه ، ويجوز الفسخ بخروجه ، ما لم يدخل في الثاني ، ومن أصحابنا من قال : لا يجوز أن يؤجر مدة قبل دخول ابتدائها ، لافتقار صحة الإجارة إلى التسليم (٢) ، ومنهم من اختار القول بجواز ذلك (٣) وهو أولى لقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٤) ، وقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» (٥) ، وأما التسليم فهو مقدور عليه حين استحقاق المستأجر له ، وتعذره قبل ذلك لا ينافي عقد الإجارة.

ولا يجوز أن يؤجر بأكثر مما استأجره من جنسه ـ سواء كان المستأجر هو

__________________

(١) الطلاق : ٦.

(٢) الشيخ : الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ١٣ والمبسوط : ٣ ـ ٢٣٠ والحلبي : الكافي ـ ٣٤٩.

(٣) القاضي : المهذب : ١ ـ ٤٧٣.

(٤) المائدة : ١.

(٥) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون عند شروطهم. والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ كما في المتن.

٢٨٦

المؤجر أو غيره ـ إلا أن يحدث فيما استأجره حدثا يصلحه ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأنه لا خلاف في جواز ذلك بعد الحدث ، ولا دليل على جوازه قبله.

ولا بأس بذلك مع اختلاف الجنس ، مثل أن يستأجر بدينار ، فيؤجره بأكثر من قيمته من العروض ، لأن الربا لا يدخل مع الاختلاف ، ولأن الأصل في العقل والشرع جواز التصرف فيما يملك إلا لمانع.

وإذا ملك المستأجر التصرف بالعقد ، جاز أن يملكه لغيره ، على حسب ما يتفقان عليه ، من زيادة أو نقصان ، اللهم إلا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن ، والدابة على أن يكون هو الراكب ، فإنه لا يجوز ـ والحال هذه ـ إجارة ذلك لغيره على حال ، بدليل الإجماع المشار إليه.

والإجارة عقد لازم من كلا الجانبين ، لا ينفسخ إلا بحصول عيب من قبل المستأجر ـ نحو أن يفلس فيملك المؤجر الفسخ ـ أو من قبل المستأجر ـ مثل انهدام المسكن ، أو غرقه على وجه يمنع من استيفاء المنفعة ـ فيملك المستأجر الفسخ ، ويسقط عنه الأجرة ، إلى أن يعيد المالك المسكن إلى الحالة الأولى ، لأن المعقود عليه قد فات ، اللهم إلا أن يكون ذلك بتعدي المستأجر ، فيلزمه الأجرة والضمان.

وتنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، لأن من خالف في ذلك من أصحابنا (١) لا يؤثر خلافه في دلالة الإجماع ، لما بيناه فيما مضى ، وأيضا فالمستأجر دخل على أن يستوفي المنفعة من ملك المؤجر ، وقد فات ذلك بموته ، وكذا إن كان المؤجر عقد على أن يستوفي المستأجر المنفعة لنفسه.

ولا يملك المستأجر فسخ الإجارة بالسفر ـ وإن كان ذلك بحكم الحاكم ـ ولا بغير ذلك من الأعذار المخالفة ، لما قدمنا ذكره ، مثل أن يستأجر جملا للحج

__________________

(١) الحلبي : الكافي ـ ٣٤٨.

٢٨٧

فيمرض ، أو يبدو له من الحج ، أو حانوتا ليتجر ببيع البز (١) فيه وشرائه ، فيحترق بزه أو يأخذ ماله اللصوص.

ولا تنفسخ الإجارة بالبيع ، وعلى المشتري إن كان عالما بالإجارة الإمساك عن التصرف ، حتى تنقضي مدتها ، وإن لم يكن عالما بذلك ، جاز له الخيار في الرد بالعيب ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويدل أيضا على أن الإجارة لا تنفسخ بشي‌ء مما ذكرناه قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) ، وهذا عقد فوجب الوفاء به ، وأيضا فقد ثبت صحة العقد ، والقول بأن شيئا من ذلك يبطله يفتقر إلى دليل.

ومتى تعدى المستأجر ما اتفقا عليه ، من المدة ، أو المسافة ، أو الطريق ، أو مقدار المحمول ، أو عينه إلى ما هو أشق في الحمل ، أو المعهود في السير ، أو في وقته ، أو في ضرب الدابة ، ضمن الهلاك أو النقص ، ويلزمه أجر الزائد على الشرط ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأنه لا خلاف في براءة الذمة منه إذا أدى ذلك ، وليس على براءتها إذا لم يؤده دليل.

ولو رد الدابة إلى المكان الذي اتفقا عليه بعد التعدي بتجاوزه ، لم يزل الضمان ، بدليل الإجماع المتكرر ، وأيضا فقد ثبت الضمان بلا خلاف ، فمن ادعى زواله بالرد إلى ذلك المكان ، فعليه الدليل ، فإن ردها إلى البلد الذي استأجرها منه إلى يد صاحبها ، زال ضمانه.

والأجير ضامن لتلف ما استؤجر فيه ، أو نقصانه ، إذا كان ذلك بتفريطه ، أو نقصان من صنعته (٣) سواء كان ختانا ، أو حجاما ، أو بيطارا ، أو غير ذلك ، وسواء كان مشتركا ـ وهو المستأجر على عمل في الذمة ـ أو مفردا ـ وهو المستأجر للعمل مدة معلومة ـ لأنه يختص عمله فيها بمن استأجره ، يدل على

__________________

(١) البز : بالفتح ـ : نوع من الثياب ، وقيل : الثياب خاصة من أمتعة البيت ، وقيل : أمتعة التاجر من الثياب. المصباح المنير.

(٢) المائدة : ١.

(٣) في «س» : أو نقصان صنعته.

٢٨٨

ذلك الإجماع الماضي ذكره ، ويحتج على المخالف بقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤديه (١) ، لأنه يقتضي ضمان الصناع على كل حال ، إلا ما خصه الدليل ، مما ثبت أنهم غلبوا عليه ، ولم يكن بجنايتهم.

وأجرة الكيال ووزان البضاعة على البائع ، لأن عليه تسليم ما باعه معلوم المقدار ، وأجرة وزان الثمن وناقده على المشتري ، لأن عليه تسليم الثمن معلوم الجودة والوزن.

وأجر رد الضالة على حسب ما يبذله مالكها ، فإن لم يعين شيئا كان أجر رد العبد أو الأمة أو البعير في المصر عشرة دراهم فضة ، ومن غير المصر أربعين درهما ، وما عدا ذلك يقضى فيه بالصلح.

ومن آجر غيره أرضا ليزرع فيها طعاما صح العقد ، ولم يجز له أن يزرع غير ذلك ، بدليل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) ، وقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» (٣) ، وإذا آجرها للزراعة من غير تعين لما يزرع ، كان له أن يزرع ما شاء ، لأن الأصل الجواز ، والمنع يفتقر إلى دليل ، وإذا آجرها على أن يزرع ويغرس ، ولم يعين مقدار كل واحد منهما ، لم يصح ، لأن ذلك مجهول ، والضرر فيه مختلف ، وإذا لم يعين بطل العقد.

وإذا اختلف المؤجر والمستأجر في قدر الأجرة ، أو المنفعة ، وفقدت البينة ، حكم بينهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه حلف وحكم له ، لإجماع الطائفة على أن كل أمر مجهول مشتبه فيه القرعة.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ٩٥ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٨ و ١٣.

(٢) المائدة : ١.

(٣) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون. والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ كما في المتن.

٢٨٩

فصل في المزارعة والمساقاة

تجوز المزارعة ـ وتسمى المخابرة ـ على الأرض ، سواء كانت خلال النخل أم لا ، والمساقاة على النخل والكرم وغيرهما من الشجر المثمر بنصف غلة ذلك ، أو ما زاد عليه أو نقص ، بدليل إجماع الطائفة المحقة ، وأيضا فالأصل الجواز ، والمنع يفتقر إلى دليل.

ويحتج على المخالف بما رووه من أنه عليه‌السلام عامل أهل خيبر بشطر (١) ما يخرج من تمر وزرع ، وما روى من نهيه عن المخابرة ، محمول على إجارة الأرض ببعض الخارج منها ، وإن كان معينا ، لأن ذلك لا يجوز باتفاق ، لعدم القطع على إمكان تسليمه.

ومن شرط صحة العقد مشاهدة ذلك ، وإمكان تسليمه ، وتعيين المدة فيه ، وتعيين حق العامل ، وشرطه أن يكون جزءاً مشاعا من الخارج ، فلو عامله على وزن معين منه ، أو على غلة مكان مخصوص من الأرض ، أو على تمر نخلات بعينها ، بطل العقد بلا خلاف بين من أجاز المزارعة والمساقاة ، ولأنه قد لا يسلم إلا ما عينه ، فيبقى رب الأرض والنخل بلا شي‌ء ، وقد لا يعطيه (٢) إلا غلة ما عينه ، فيبقى العامل بغير شي‌ء.

وإذا تمم المزارع والمساقي عمله على هذا الشرط ، بطل المسمى له ، واستحق أجرة المثل.

__________________

(١) في الأصل : بشرط.

(٢) في الأصل و «ج» : «لا يعطب» بدل «لا يعطيه».

٢٩٠

وتصرف العامل بحسب (١) ما يقع العقد عليه ، إن كان مطلقا ، جاز له أن يولي العمل لغيره ، ويزرع ما شاء ، وإن شرط عليه أن يتولى العمل بنفسه ، وأن يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له مخالفة ذلك ، بدليل إجماع الطائفة ، وقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم. (٢)

ولو زارع ببعض الخارج من الأرض ، والبذر من مالكها ، والعمل والحفظ من المزارع جاز ، وكذا لو شرط على العامل في حال العقد ما يجب على رب المال ، أو بعضه ـ وهو ما فيه حفظ الأصل ، كبناء الحيطان ، وإنشاء الأنهار ، والدواليب ، وشراء الدابة التي ترفع الماء ـ أو شرط على رب المال ما يجب على العامل ، أو بعضه ـ كالتأبير ، والتلقيح ، وقطع ما يصلح النخل ، من جريد ، وحشيش ، وإصلاح السواقي ، ليجري فيها الماء ، أو إدارة الدولاب ، وحفظ التمر ، وجداده (٣) ونقله إلى المقسم ـ صح ذلك ، لدلالة الأصل وظاهر الخبر.

ولو ساقاه بعد ظهور الثمرة ، صح إن كان قد بقي من العمل شي‌ء وإن قل ، لدلالة الأصل ، ولأن الأخبار عامة في جواز المساقاة ، من غير فصل.

فأما الزكاة فإنها تجب على مالك البذر أو النخل (٤) : فإن كان ذلك لمالك الأرض ، فالزكاة عليه ، لأن المستفاد من ملكه ، من حيث (٥) كان نماء أصله ، وما يأخذه المزارع أو المساقي كالأجرة عن عمله ، ولا خلاف أن الأجرة لا تجب فيها

__________________

(١) في «ج» : على حسب.

(٢) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩ ، سنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون عند شروطهم.

(٣) في «ج» «جذاذه» وكلاهما بمعنى القطع. المصباح المنير.

(٤) ولصاحب السرائر تعليق على المقام جدير بالمطالعة ، لاحظ السرائر : ٢ ـ ٤٤٢.

(٥) في «س» : ومن حيث.

٢٩١

الزكاة ، وكذا إن كان البذر للمزارع ، لأن ما يأخذه مالك الأرض كالأجرة ، عن أرضه ، فإن كان البذر منهما ، فالزكاة على كل واحد منهما ، إذا بلغ مقدار سهمه النصاب.

وعقد المزارعة والمساقاة يشبه عقد الإجارة ، من حيث كان لازما ، وافتقر إلى تعيين المدة ، ويشبه القراض ، من حيث كان سهم العامل مشاعا في المستفاد.

والمزارعة والمساقاة إذا كانت على أرض خراجية ، فخراجها على المالك إلا أن يشترطه على العامل ، وهو على المتقبل إلا أن يشترطه على المالك.

وإذا اختلف صاحب الشجر (والعامل ، فقال صاحبه : شرطت لك الثلث ، وقال العامل : لا بل النصف ، وفقدت البينة ، فالقول قول صاحب الشجر) (١) مع يمينه ، لأن جميع الثمرة لصاحب الشجرة ، لأنها نماء أصله ، وإنما يثبت للعامل من ذلك شي‌ء بالشرط ، فإذا ادعى شرطا كان عليه البينة ، فإذا عدمها كان القول قول صاحب الشجر مع يمينه ، وإن كان مع كل واحد منهما بينة ، قدمت بينة العامل ، لأنه المدعي ، لقوله عليه‌السلام : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (٢) وصاحب الشجر مدعى عليه فعليه اليمين.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من نسخة «س».

(٢) سنن البيهقي : ١٠ ـ ٢٥٢ وسنن الدار قطني : ٤ ـ ١٥٧ برقم ٨ و ٤ ـ ٢١٨ برقم ٥٣ و ٥٤ والوسائل : ١٨ ـ ١٧٠ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦.

٢٩٢

فصل في إحياء الموات

قد بينا فيما مضى أن الموات من الأرض للإمام القائم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، وأنه من جملة الأنفال ، يجوز له التصرف فيه بأنواع التصرف ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه ، ويدل على ذلك إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : ليس لأحدكم إلا ما طابت به نفس إمامه. (١)

ومن أحيى أرضا بإذن مالكها ، أو سبق إلى التحجير عليها ، كان أحق بالتصرف فيها من غيره ، وليس للمالك أخذها منه ، إلا أن لا يقوم بعمارتها ، أو لا يقبل عليها ما يقبل غيره ، بالإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : من أحيى أرضا ميتة فهي له (٢) ، وقوله : من أحاط حائطا على أرض فهي له (٣) ، والمراد بذلك ما ذكرناه ، من كونه أحق بالتصرف ، لأنه لا يملك رقبة الأرض بالإذن في إحيائها.

ولا يجوز لأحد أن يغير ما حماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكلاء ، لأن فعله حجة في الشرع ، يجب الاقتداء به كقوله ، على أن ذلك لمصلحة المسلمين ، وما قطع على أنه مفعول لمصلحتهم لم يجز نقضه.

وللإمام أيضا أن يحمى من الكلاء لنفسه ، ولخيل المجاهدين ، ونعم

__________________

(١) المحلى : ٧ ـ ٧٤ كتاب احياء الموات المسألة ١٣٤٧ ، ولفظ الحديث : إنما للمرء ما طابت نفس إمامه ونحوه في كنز العمال : ١٦ ـ ٧٤١ برقم ٤٦٥٩٨ ونقله الشيخ في الخلاف كتاب احياء الموات المسألة ٤ بلفظ : ليس للمرء إلا.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٤٣ ومسند أحمد بن حنبل : ٣ ـ ٣٣٨ وكنز العمال : ٣ ـ ٩١٠ برقم ٩١٤٠.

(٣) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٤٨ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ١٢ و ٢١.

٢٩٣

الصدقة والجزية وللضوال ما يكون في الفاضل عنه كفاية لمواشي المسلمين ، وليس لأحد الاعتراض عليه ، ولا نقض ما فعله ، لأنه عندنا يجري في وجوب الاقتداء به مجرى الرسول ، ولأنا قد بينا أن الموات ملك له ، ومن ملك أرضا فله حمايتها ، بلا خلاف ، وقد روى المخالف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين. (١)

ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئا من الشوارع والطرقات ورحاب الجوامع ، لأن هذه المواضع لا يملكها واحد بعينه ، والناس فيها مشتركون ، فلا يجوز له ـ والحال هذه ـ إقطاعها ، ومن أجاز ذلك فعليه الدليل.

والماء المباح يملك بالحيازة ، سواء حازه في إناء ، أو ساقه إلى ملكه في نهر ، أو قناة ، أو غلب [عليه] (٢) بالزيادة فدخل إلى أرضه ، وهو أحق بماء البئر التي ملك التصرف فيها بالإحياء ، وإذا كانت في البادية ، فعليه بذل الفاضل عن حاجته لغيره ، لنفسه وماشيته ، ليتمكن من رعي ما جاور البئر من الكلاء المشترك ، وليس عليه بذله لزرعه ، ولا بذل آلة الاستقاء ، وقد روى المخالفون أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من منع فضل مائه ليمنع به الكلاء ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. (٣)

ولمن أحيى البئر من حريمها ما يحتاج إليه في الاستقاء ، من آلة ومطرح

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٤٦ باب ما جاء في الحمى وسنن الدار قطني : ٤ ـ ٢٣٨ برقم ١٢٠ و ١٢٢ والمحلى : ٧ ـ ٧٧ كتاب احياء الموات المسألة ١٣٤٧ ومسند أحمد بن حنبل : ٤ ـ ٣٨ و ٧١ و ٧٣ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٨٣ برقم ١١٠٢٥ ولفظه : لا حمى إلا لله ولرسوله ونقله الشيخ في الخلاف ، كتاب احياء الموات المسألة ٦ كما في المتن.

(٢) ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

(٣) كنز العمال : ٣ ـ ٩٠٠ برقم ٩١٠١ و ٩١٠٢ و ٩١٠٣ و ٤ ـ ٨٣ برقم ٩٦٤١ باختلاف قليل ونقله النوري ـ قدس‌سره ـ في مستدرك الوسائل : ١٧ ـ ١١٦ ب ٦ من أبواب إحياء الموات ح ٧ والشيخ في الخلاف كتاب احياء الموات المسألة ١٣ كما في المتن.

٢٩٤

الطين ، وروى أصحابنا أن حد ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا ، وما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا ، وما بين بئر العين إلى بئر العين في الأرض الصلبة خمسمائة ذراع ، وفي الرخوة ألف ذراع (١) ، وعلى هذا لو أراد غيره حفر بئر إلى جانب بئره ، ليسوق (٢) منها الماء ، لم يكن له ذلك بلا خلاف ، ولا يجوز له الحفر إلا أن يكون بينهما الحد الذي ذكرناه.

فأما من حفر بئرا في داره ، أو في أرض له مملوكة ، فإنه لا يجوز له منع جاره من حفر بئر أخرى في ملكه ، ولو كانت بئر بالوعة يضر به ، بلا خلاف أيضا ، والفرق بين الأمرين أن الموات يملك التصرف فيه بالإحياء ، فمن سبق إلى حفر البئر صار أحق بحريمه ، وليس كذلك الحفر في الملك ، لأن ملك كل واحد منهما مستقر ثابت ، فجاز له أن يفعل فيه ما شاء.

ومن قرب إلى الوادي ، أحق بالماء المجتمع فيه من السيل ، ممن بعد عنه ، وقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأقرب إلى الوادي يحبس الماء للنخل إلى أن يبلغ في أرضه إلى أول الساق ، وللزرع إلى أن يبلغ إلى الشراك ، ثم يرسله إلى من يليه (٣) ثم هكذا يصنع الذي يليه مع جاره.

ولو كان زرع الأسفل يهلك إلى أن يصل إليه الماء ، لم يجب على من فوقه أن يرسله إليه حتى يكتفي ويأخذ منه القدر الذي ذكرناه.

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ب ١١ من أبواب إحياء الموات ح ٢ و ٥.

(٢) في الأصل : ليسرق.

(٣) لاحظ الوسائل : ١٧ ب ٨ من أبواب إحياء الموات.

٢٩٥

فصل في الوقف

تفتقر صحة الوقف إلى شروط :

منها : أن يكون الواقف مختارا مالكا للتبرع ، فلو وقف وهو محجور عليه لفلس ، لم يصح.

ومنها : أن يكون متلفظا بصريحه ، قاصدا له وللتقرب به إلى الله تعالى.

والصريح من ألفاظه : وقفت وحبست وسبلت ، فأما قوله : تصدقت ، فإنه يحتمل الوقف وغيره ، وكذا حرمت وأبدت ، مع أنه لم يرد بهما عرف الشرع ، فلا يحمل على الوقف إلا بدليل ، ومن أصحابنا من اختار القول بأنه لا صريح في الوقف إلا قوله : وقفت (١). ولو قال : تصدقت ، ونوى به الوقف ، صح فيما بينه وبين الله تعالى ، لكن لا يصح في الحكم ، لما ذكرناه من الاحتمال.

ومنها : أن يكون الموقوف معلوما مقدورا على تسليمه ، يصح الانتفاع به ، مع بقاء عينه في يد الموقوف عليه ، وسواء في ذلك المنقول وغيره ، والمشاع والمقسوم ، بدليل إجماع الطائفة.

ويحتج على المخالف في وقف المنقول بخبر أم معقل (٢) فإنها قالت : يا رسول الله إن أبا معقل (٣) جعل ناضحة في سبيل الله ، وأنا أريد الحج فأركبه؟

__________________

(١) الشيخ : المبسوط : ٣ ـ ٢٩٢.

(٢) أم معقل الأسدية ويقال الأشجعية زوجة أبي معقل ، قيل : روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أحاديث ، وروى عنها الأسود بن يزيد ويوسف بن عبد الله بن سلام وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث لاحظ أعلام النساء : ٥ ـ ٦٤ وتهذيب التهذيب : ١٢ ـ ٤٨٠ وأسد الغابة : ٥ ـ ٦٢٠.

(٣) أبو معقل الأنصاري لاحظ ترجمته في أسد الغابة : ٥ ـ ٣٠١.

٢٩٦

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله (١) ، وفي وقف المشاع بقوله عليه‌السلام لعمر في سهام خيبر : حبس الأصل وسبل الثمرة. (٢) والسهام كانت مشاعة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قسم خيبر وإنما عدل السهام.

ولا يجوز وقف الدراهم والدنانير بلا خلاف ممن يعتد به ، لأن الموقوف عليه لا ينتفع بها مع بقاء عينها في يده.

ومنها : أن يكون الموقوف عليه غير الواقف ، فلو وقف على نفسه لم يصح (٣) وفي ذلك خلاف ، فأما إذا وقف شيئا على المسلمين عامة ، فإنه يجوز له الانتفاع به بلا خلاف ، لأنه يعود إلى أصل الإباحة ، فيكون هو وغيره فيه سواء.

ومنها : أن يكون معروفا متميزا ، يصح التقرب إلى الله تعالى بالوقف عليه ، وهو ممن يملك المنفعة حالة الوقف ، فلا يصح أن يقف على شي‌ء من معابد أهل الضلال ، ولا على مخالف للإسلام ، أو معاند للحق (٤) إلا أن يكون ذا رحم له ، ولا على أولاده ولا ولد له ، ولا على الحمل قبل انفصاله ، ولا على عبد ، بلا خلاف.

ولو وقف على أولاده وفيهم موجود صح ، ودخل في الوقف من سيولد له على وجه التبع ، لأن الاعتبار باتصال الوقف في ابتدائه بمن هو من أهل الملك.

ويصح الوقف على المساجد والقناطر وغيرهما ، لأن المقصود بذلك مصالح المسلمين ، وهم يملكون الانتفاع.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ٢٧٤ باب الوصية.

(٢) سنن الدار قطني : ٤ ـ ١٩٢ و ١٩٣ باب في حبس المشاع وسنن البيهقي : ٦ ـ ١٦٢ كتاب الوقف باب وقف المشاع والبحر الزخار : ٤ ـ ١٤٧ كتاب الوقف ومسند أحمد بن حنبل : ٢ ـ ١١٤ وفيه : «احبس أصله وسبل ثمرته» ومثله في كنز العمال : ١٦ ـ ٦٣٢ برقم ٤٦١٤٢ و ٤٦١٥٠ و ٤٦١٥٦ ونقله الشيخ في الخلاف كتاب الوقف المسألة ١ كما في المتن.

(٣) في «ج» : لا يصح.

(٤) في «ج» : ولا على مخالف أهل الإسلام أو معاند الحق.

٢٩٧

ومنها : أن يكون الوقف مؤبدا غير منقطع ، فلو قال : وقفت كذا سنة ، لم يصح ، فأما قبض الموقوف عليه ، أو من يقوم مقامه في ذلك ، فشرط في اللزوم.

ويدل على صحة ما اعتبرنا من الشروط بعد إجماع الطائفة ، أنه لا خلاف في صحة الوقف ولزومه إذا تكاملت [هذه الشروط] (١) وليس على صحته ولزومه إذا لم تتكامل دليل.

وإذا تكاملت هذه الشروط زال ملك الواقف ، ولم يجز له الرجوع في الوقف ، ولا تغييره عن وجوهه ولا سبله ، إلا على وجه نذكره ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأنه لا خلاف في انقطاع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة ، وهذا هو معنى زوال الملك به ، وينتقل الملك إلى الموقوف عليه ، لأنه يملك التصرف فيه ، وقبض منافعه ، وهذا هو فائدة الملك.

وتعلق المخالف بالمنع من بيعه ، لا يدل على انتفاء الملك ، لأن الراهن ممنوع من بيع المرهون ، وإن كان مالكا له ، والسيد ممنوع من بيع أم الولد ، في حال عندنا ، وعندهم في كل حال ، وهو مالك لها ، على أنه يجوز عندنا بيع الوقف للموقوف عليه ، إذا صار بحيث لا يجدي نفعا ، وخيف خرابه ، أو كانت بأربابه حاجة شديدة ، ودعتهم الضرورة إلى بيعه ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأن غرض الواقف انتفاع الموقوف عليه ، فإذا لم يبق له منفعة إلا من الوجه الذي ذكرناه جاز.

ويتبع في الوقف ما يشرطه الواقف من ترتيب الأعلى على الأدنى ، واشتراكهما ، أو تفضيل في المنافع ، أو مساواة فيها ، إلى غير ذلك بلا خلاف.

وإذا وقف على أولاده وأولاد أولاده ، دخل فيهم ولد البنات (٢) بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن اسم الولد يقع عليهم (٣) لغة وشرعا ، وقد أجمع

__________________

(١) ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

(٢) في «ج» : أولاد البنات.

(٣) في الأصل و «ج» : «عليهن» بدل «عليهم».

٢٩٨

المسلمون على أن عيسى عليه‌السلام ولد آدم وهو من ولد ابنته (١) ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحسن والحسين عليهما‌السلام : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (٢) ، وإذا وقف على نسله أو عقبه أو ذريته ، فهذا حكمه ، بدليل قوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله (وَعِيسى وَإِلْياسَ) (٣) ، فجعل عيسى من ذريته ، وهو ينسب إليه من الأم.

وإن وقف على عترته ، فهم ذريته ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وقد نص على ذلك ثعلب (٤) وابن الأعرابي (٥) من أهل اللغة ، وإذا وقف على عشيرته ، أو على قومه ، ولم يعينهم بصفة ، عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، وروي أنه إذا وقف على عشيرته ، كان ذلك على الخاص من قومه الذين هم أقرب الناس إليه في نسبه. (٦)

وإذا وقف على قومه ، كان ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث ، وإذا وقف على جيرانه ولم يسمهم ، كان ذلك على من يلي داره من جميع الجهات إلى أربعين ذراعا ، بدليل إجماع الطائفة.

ومتى بطل رسم المصلحة التي الوقف عليها ، أو انقرض أربابه ، جعل ذلك في وجوه البر ، وروي أنه يرجع إلى ورثة الواقف (٧) ، والأول أحوط.

__________________

(١) في «ج» : من ولد آدم وهو ولد ابنته.

(٢) علل الشرائع : ١ ـ ٢١١ ب ٥٩ ، عوالي اللئالي : ٣ ـ ١٢٩ والبحار : ٣٦ ـ ٢٨٩ و ٣٢٥ و ٤٣ ـ ٢٧٨.

(٣) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي الشيباني المعروف بـ «ثعلب» ، قيل سمي به لأنه إذا سئل عن مسألة أجاب من ها هنا وها هنا ، فشبهوه بثعلب إذا أغار ، كان إمام الكوفيين في النحو واللغة ، قرأ على ابن الأعرابي ، مات سنة ٢٩١ ه‍ ـ ، لاحظ تاريخ بغداد : ٥ ـ ٢٠٤ والكنى والألقاب : ٢ ـ ١١٧.

(٥) أبو عبد الله محمد بن زياد الكوفي ، أحد العالمين باللغة ، أخذ الأدب عن الكسائي وابن السكيت وصاحب المفضليات ، وأخذ عنه ثعلب وغيره ، مات سنة ٢٣١ ه‍ ـ ، لاحظ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢١٠.

(٦ و ٧) لاحظ النهاية : ٥٩٩.

٢٩٩

فصل في الهبة

تفتقر صحة الهبة إلى الإيجاب والقبول ، وهي على ضربين (١) : أحدهما : لا يجوز [له] (٢) الرجوع فيه على حال ، والثاني : يجوز.

والأول : أن تكون الهبة مستهلكة ، أو قد تعوض عنها ، أو يكون لذي رحم ، ويقبضها هو أو وليه ، سواء قصد بها وجه الله تعالى أم لا ، أو لم تقبض وقد قصد بها وجه الله تعالى ، ويكون الموهوب له ممن يصح التقرب إلى الله تعالى بصلته.

والضرب الثاني : ما عدا ما ذكرناه. ويدل على ذلك الإجماع ، وقول المخالف : جواز الرجوع في الهبة ينافي القول بأنها تملك بالقبض ، يبطل بالمبيع في مدة الخيار ، فإنه يجوز الرجوع فيه وإن ملك بالعقد ، ومهما اعتذروا به عن ذلك قوبلوا بمثله ، وتعلقهم بما يروونه من قوله عليه‌السلام : الراجع في هبته كالراجع في قيئه (٣) ، لا يصح ، لأنه خبر واحد ، ثم هو معارض بأخبار واردة من طرقهم في جواز الرجوع ، على أن الألف واللام إن كانتا للجنس ، دخل الكلب فيمن أريد باللفظ ، وإن كانتا للعهد ، فالمراد الكلب خاصة ، لأنه لا يعهد الرجوع في القي‌ء إلا له.

وعلى الوجهين ، لا يجوز أن يكون المستفاد بالخبر التحريم ، لأن الكلب لا

__________________

(١) في «ج» : وهي ضربان.

(٢) ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

(٣) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٨٠ ومسند أحمد بن حنبل : ١ ـ ٢٥٠ و ٢٩١ و ٣٣٩ و ٣٤٢ و ٢ ـ ١٨٢ ، ولفظ الحديث : العائد في هبته كالعائد في قيئه ونحوه في الجامع الصغير : ٢ ـ ١٨٤ برقم ٥٦٥٠ وكنز العمال : ١٦ ـ ٦٤٠ برقم ٤٦١٦٤ و ٤٦١٧١ و ٤٦١٧٥ والبحر الزخار : ٤ ـ ١٣٢ كتاب الهبات.

٣٠٠