غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

ومن له الخيار لو انفرد بالفسخ جاز ولم يفتقر إلى حضور صاحبه ، وكذا الفسخ بالعيب ، وسواء في ذلك قبل القبض وبعده ، لأن حق الفسخ بالخيار قد ثبت لكل واحد منهما ، فمن ادعى انه لا يصح لأحدهما إلا مع حضور الآخر ، فعليه الدليل.

وإذا هلك المبيع في مدة الخيار فهو من مال البائع ، إلا أن يكون المبتاع قد أحدث فيه حدثا يدل على الرضا ، فيكون هلاكه من ماله.

وإذا وطئ المشتري في مدة الخيار لم يكن مأثوما ، ويلحق به الولد ، ويكون حرا ، ويلزم العقد من جهته ، على ما قدمناه ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة ، ولم ينفسخ خيار البائع ولو شاهده يطأ فلم ينكر ، لأنه لا دليل على ذلك ، فإن فسخ البائع العقد لزم قيمة الولد للمشتري ، وعشر قيمة الأمة ـ إن كانت بكرا ـ ونصف عشر قيمتها ـ إن كان ثيبا ـ لأجل الوطء ، بدليل الإجماع المشار إليه.

وخيار المجلس والشرط موروث ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأنه إذا كان حقا للميت ورث كسائر حقوقه ، لظاهر القرآن ، وإذا جن من له الخيار أو أغمي عليه ، انتقل الخيار إلى وليه ، بدليل الإجماع المشار إليه.

السبب الرابع للخيار :

ظهور عيب إذا كان في المبيع قبل قبضه ، بلا خلاف ، ولا ينقطع إلا بأحد أمور خمسة :

أحدها : اشتراط البراءة من العيوب حالة العقد ، فإنه يبرأ من كل عيب ، ظاهرا كان أو باطنا ، معلوما كان أو غير معلوم ، حيوانا كان المبيع أو غيره ، بدليل إجماع الطائفة. ويحتج على المخالف بقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (١) ، و

__________________

(١) التهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٤

٢٢١

قوله : الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب ولا سنة. (١)

وثانيها : تأخير الرد مع العلم بالعيب ، لأنه على الفور بلا خلاف.

وثالثها : الرضا بالعيب ، بلا خلاف أيضا.

ورابعها : حدوث عيب آخر عند المشتري ، وليس له ها هنا إلا الأرش ـ وهو أن يرجع على البائع من الثمن بمقدار ما نقص من قيمة المبيع صحيحا ـ إلا أن يكون المبيع حليا ، أو آنية من ذهب أو فضة (٢) قد بيع بجنسه ، فإن أخذ الأرش لا يجوز لما يؤدي ذلك إليه من الربا ، والأولى فسخ العقد ، واستئنافه بثمن (٣) ليس من جنس المبيع ، ليسلم من ذلك.

وخامسها : التصرف في المبيع الذي لا يجوز مثله إلا بملك أو الإذن الحاصل له بعد العلم بالعيب ، فإنه يمنع من الرد بشي‌ء من العيوب ، ولا يسقط حق المطالبة (٤) بالأرش ، لأن التصرف دلالة الرضا بالبيع لا بالعيب ، وكذا حكمه إن كان قبل العلم بالعيب ، وكان مما يغير المبيع بزيادة فيه ، مثل الصبغ للثوب ، أو نقصان منه كالقطع له ، وإن لم يكن كذلك فله الرد بالعيب إذا علمه ما لم يكن المبيع أمة فيطؤها ، فإن ذلك يمنع من ردها بشي‌ء من العيوب إلا الحبل ، فإنها ترد به ومعها نصف عشر قيمتها لأجل الوطء على ما مضى ، كل ذلك بدليل الإجماع من الطائفة.

وأحداث السنة الجنون والجذام والبرص فإنه يرد بكل واحد من ذلك العبد

__________________

برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ، وبداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٦ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ باب الضمان ولفظ الحديث في بعض المصادر : «المسلمون.».

(١) التهذيب : ٧ ـ ٢٢ ومن لا يحضره الفقيه : ٣ ـ ١٢٧ وعوالي اللئالي : ٣ ـ ٢٢٥. (قطعة منه).

(٢) في «ج» من الذهب والفضة.

(٣) في «ج» : فيمن.

(٤) في الأصل و «ج» : ولا يسقط بحق المطالبة.

٢٢٢

والأمة إلى مدة سنة ، إذا لم يمنع من الرد مانع ، بدليل الإجماع المشار إليه أيضا.

وترد الشاة المصراة ومعها صاع من تمر أو بر عوض لبن التصرية ، بدليل هذا الإجماع ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر (١) وفي رواية أخرى : أو بر.

وإذا كان العيب في بعض المبيع فله أرشه أو رد الجميع ، وليس له رد المعيب خاصة ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ضرر ولا إضرار (٢) ، وفي رد المعيب خاصة إضرار بالبائع.

ولا يمنع من الرد بالعيب الزوائد المنفصلة الحاصلة من المبيع في ملك المشتري كالثمرة والنتاج ، ومتى رد فذلك له دون البائع ، بدليل الإجماع المتكرر ذكره ، ويحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بأن الخراج بالضمان (٣) ولم يفرق بين الكسب وغيره.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٣٢٠ باب مدة الخيار في المصراة ، ومسند أحمد : ٢ ـ ٣٨٦ و ٤ ـ ٣١٤ وكنز العمال : ٤ ـ ٥٣ ـ ٥٥ وجامع الأصول : ١ ـ ٤٢١.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ٦٩ باب لا ضرر ولا ضرار وص ١٥٧ وكنز العمال : ٣ ـ ٩١٩.

(٣) سنن النسائي : ٧ ـ ٢٥٥ ، وجامع الأصول : ١ ـ ٥٩٧ ، وسنن الترمذي : ٣ ـ ٥٨٢ برقم ١٢٨٦ وسنن ابن ماجة : ٢ ـ ٧٥٤ برقم ٢٢٤٣ ، وسنن البيهقي : ٥ ـ ٣٢١ و ٣٢٢ وكنز العمال : ٤ ـ ٩٣ وعوالي اللئالي : ١ ـ ٢١٩ والتاج الجامع : ٢ ـ ٢٠٤ وفيه : الخراج بالفتح هو الفائدة التي تأتي من المبيع بالضمان ، أي يستحقه المشتري بسبب الضمان فإذا اشترى عبدا أو بهيمة واستغله أياما ثم ظهر به عيب سابق على البيع بقول أهل الخبرة فله فسخ البيع وفائدته في هذه المدة للمشتري ، لأنه لو تلف عنده لضمنه انتهى.

أقول : إن للمحققين من الفقهاء بحوث حول مفاد القاعدة ، فمن أراد الوقوف فليرجع إلى كتب القواعد الفقهية وللشيخ الأنصاري قدس‌سره كلمة حول القاعدة في مبحث المقبوض بالعقد الفاسد. لاحظ المكاسب ، ص ١٠٤.

٢٢٣

السبب الخامس للخيار :

ظهور غبن لم تجر العادة بمثله ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ضرر ولا ضرار ـ ومن اشترى بمائة ما يساوي عشرة كان غاية في الضرر ـ وبنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تلقي الركبان ، وقوله : فإن تلقى متلق فصاحب السلعة بالخيار إذا دخل السوق (١) ، لأنه إنما جعل له الخيار لأجل الغبن.

الفصل الثاني

فإما الربا فيثبت في كل مكيل وموزون ، سواء كان مطعوما أو غير مطعوم ، بالنص لا بعلة بدليل إجماع الطائفة ، فلا يجوز بيع بعضه ببعض ـ إذا اتفق الجنس أو كان في حكم المتفق كالحنطة والشعير عندنا ـ إلا بشروط ثلاثة زائدة على ما مضى : الحلول النافي للنسيئة ، والتماثل في المقدار ، والتقابض قبل الافتراق بالأبدان ، بلا خلاف إلا من مالك فإنه قال : إذا كان أحد العوضين مصوغا (٢) جاز بيعه بأكثر من وزنه وتكون الزيادة قيمة الصنعة (٣) ويحتج عليه بما رووه من قوله عليه‌السلام : لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق (٤) إلا سواء بسواء (٥) ، ولم يفصل ، فأما قول ابن عباس ومن وافقه من الصحابة بجواز التفاضل نقدا (٦) فقد انقرض وحصل الإجماع على خلافه.

__________________

(١) جامع الأصول : ١ ـ ٤٤٥ وسنن البيهقي : ٥ ـ ٣٤٧ باب النهي عن تلقي البيع.

(٢) في «ج» : مصنوعا.

(٣) لاحظ تفسير القرطبي : ٣ ـ ٣٥١ في تفسير الآية ٢٧٥ من سورة البقرة (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا).

(٤) الورق ـ بكسر الراء والإسكان للتخفيف ـ : النقرة المضروبة. المصباح المنير.

(٥) جامع الأصول : ١ ـ ٤٥٧ وسنن البيهقي : ٥ ـ ٢٧٦ والفروق للقرافي : ٣ ـ ٢٥٩ الفرق التسعون والمائة.

(٦) المغني لابن قدامة : ٤ ـ ١٣٤ والفروق للقرافي : ٣ ـ ٢٥٩ الفرق التسعون والمائة.

٢٢٤

فإن اختلف الجنس وكان أحدهما ذهبا والآخر فضة سقط اعتبار التماثل فقط ، واعتبر الحلول والتقابض بلا خلاف ، فإن لم يكونا ذهبا وفضة سقط اعتبار التماثل بلا خلاف ، وأما اعتبار الحلول والتقابض ها هنا فهو الأحوط ، ويصح البيع من دونهما وإن كان مكروها ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإن اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. (١)

وإن كان أحدهما ذهبا أو فضة والآخر مما عداهما ، سقط اعتبار الشروط الثلاثة بلا خلاف ، وقد روى أصحابنا أنه إذا اتفق كل واحد من العوضين في الجنس ، وأضيف إلى أحدهما ما ليس من جنسه ، سقط اعتبار التماثل في المقدار ، مثل بيع دينار ودرهم بدينارين أو بدرهمين ، وألف درهم وثوب بألفين ، ويدل على ذلك بعد الإجماع المشار إليه ، ظاهر القرآن ودلالة الأصل.

واللحمان أجناس مختلفة ، فلحم الإبل جنس منفرد عرابها وبخاتيها ، ولحم البقر كذلك عرابها وجوامسها ، ولحم الغنم صنف واحد ضأنها وماعزها (٢) ، ولحم البقر الوحشي صنف غير الأهلي ، وكذا لحم الغنم الوحشي مثل الظبي (٣) ، وحكم لبن هذه الأصناف في الاختلاف حكمها ، يدل على ذلك إجماع الطائفة ، وأيضا فهذه لحوم لأجناس مختلفة ، ينفرد كل جنس منها باسم وحكم في الزكاة ، فكانت تابعة لها في الاختلاف.

ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا اتفق الجنس ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ويحتج على المخالف بما رووه من نهيه عن بيع اللحم بالحيوان (٤) ، فأما إذا لم يكن من جنسه فلا بأس ببيعه ، لإجماع الطائفة وظاهر القرآن ودلالة الأصل.

ويجوز بيع الحيوان بالحيوان متماثلا ومتفاضلا ، سواء كان صحيحا أو

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٨٢ باب جواز التفاضل في الجنسين.

(٢) في «ج» : ومعزها.

(٣) في «س» : مثل الظباء.

(٤) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٩٦ باب بيع اللحم بالحيوان.

٢٢٥

كسيرا ، نقدا ـ لمثل ما قلناه في المسألة الأولى ـ ولا يجوز ذلك نسيئة في الظاهر من روايات أصحابنا ، وطريقة الاحتياط تقتضي المنع منه ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : الحيوان بالحيوان واحد باثنين لا بأس به نقدا ولا يجوز نسيئة. (١)

ونهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع المحاقلة ، وهو بيع السنابل التي انعقد فيها الحب ، واشتد بحب منه أو من غيره ، وعن بيع المزابنة وهو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر منه أو من غيره ، لأن ذلك لا يؤمن فيه الربا.

ورخص عليه‌السلام في بيع العرايا ، وهي جمع عرية وهي النخلة تكون لإنسان في بستان غيره أو في داره ، ويشق عليه دخوله إليها ، فيبتاعها منه برخصها تمرا ، بدليل الإجماع من الطائفة على هذا التفسير ، وقد فسر أبو عبيدة العرية بما قلناه ، ويحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا أن يباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا (٢) وهذا نص.

ولا يجوز بيع الرطب بالتمر في غير العرايا ، لا متماثلا ولا متفاضلا ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص إذا جف؟ فقيل له : نعم ، فقال : فلا. (٣)

فأما ما عدا التمر من الثمار ، فلا نص لأصحابنا في المنع من بيع رطبه بيابسه ، ويدل على جوازه ظاهر القرآن ودلالة الأصل ، وحمله على الرطب قياس ، وذلك عندنا لا يجوز.

ولا ربا عندنا بين الوالد وولده ، والسيد وعبده ، والزوج وزوجته ، والمسلم والحربي ، بدليل إجماع الطائفة وبه يخص ظاهر القرآن في تحريم الربا على العموم ،

__________________

(١) جامع الأصول : ١ ـ ٤٧٤ وسنن البيهقي : ٥ ـ ٢٨٧ و ٢٨٨ والتاج الجامع للأصول : ٢ ـ ٢٠٨.

(٢) جامع الأصول : ١ ـ ٣٩٦ وسنن البيهقي : ٥ ـ ٣٠٩ و ٣١٠ والتاج الجامع للأصول : ٢ ـ ٢١١ ولفظ الحديث : نهى عن بيع الثمر بالتمر.

(٣) كنز العمال : ٤ ـ ١٩٠ برقم ١٠١٠٥ والتاج الجامع للأصول : ٢ ـ ٢٠٨.

٢٢٦

وإذا اختص تحريمه بجنس دون جنس ، فما المنكر من اختصاصه بمكلف دون مكلف؟

الفصل الثالث

وأما السّلم (١) فشرائطه الزائدة التي تخصه أربعة : ذكر الأجل المعلوم ، وذكر موضع التسليم ، وأن يكون رأس المال مشاهدا ، وأن يقبض في مجلس العقد ، بدليل الإجماع من الطائفة ، ولأنه لا خلاف في صحته مع تكامل هذه الشروط ، ولا دليل على ذلك إذا لم يتكامل ، ويحتج على المخالف في اعتبار الأجل المعلوم بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (٢) ، وظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب.

ولا يجوز التأجيل إلى الحصاد أو الدياس أو ما أشبه ذلك مما يختلف زمانه ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تتبايعوا إلى الحصاد ولا إلى الدياس ولكن إلى شهر معلوم (٣) ، وهذا نص.

ولا يجوز السلف فيما لا ينضبط بوصف يتميز به ، كالمعجونات ، والمركبات ، والخبز ، واللحم ـ نيئا كان أو مطبوخا ـ وروايا الماء ، ولا في المعدودات كالجوز والبيض إلا وزنا ، ويجوز السلف في الحيوان بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على

__________________

(١) السلم والسلف : هو ابتياع كلي مؤجل بثمن حال عكس النسيئة ، ويقال للمشتري «المسلم» بكسر اللام ، وللثمن «المسلم» بفتحها ، وللبائع «المسلم إليه» وللمبيع «المسلم فيه». ومن خواصه ان كل واحد من البائع والمشتري صالح لأن يصدر منه الإيجاب والقبول من الآخر. لاحظ وسيلة النجاة ج ١ ، ص ٤٢٢ ، تأليف الفقيه السيد أبو الحسن الأصفهاني ـ قدس‌سره. أقول : وسمي سلما لتسليم رأس المال فيه ويسمى سلفا لتقديم رأس المال فيه. لاحظ التاج الجامع : ٢ ـ ٢١٥.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٨ باب جواز السلف. وكنز العمال : ٦ ـ ٢٤١ وجامع الأصول : ٢ ـ ١٧ والتاج الجامع للأصول : ٢ ـ ٢١٥ والمغني لابن قدامة : ٤ ـ ٣٥١.

(٣) الشافعي : الأم : ٣ ـ ٩٦ وابن قدامة : المغني : ٤ ـ ٣٥٦.

٢٢٧

المخالف بما رووه من أمره عليه‌السلام حين أراد تجهيز بعض الجيوش بأن يبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعر إلى خروج المصدق. (١)

ولا يجوز لمن أسلم في شي‌ء بيعه من المسلم إليه ولا من غيره قبل حلول أجله ـ وقد دخل في ذلك الشركة فيه والتولية له لأنهما بيع ـ فإذا حل جاز بيعه من المسلم إليه بمثل ما نقد فيه ، وبأكثر منه من غير جنسه ، ومن غير المسلم إليه بمثل ذلك ، وأكثر منه من جنسه وغيره ، بدليل إجماع الطائفة وظاهر القرآن ودلالة الأصل ، إلا أن يكون المسلم فيه طعاما فإن بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعا ، على ما قدمناه.

وتجوز الإقالة على كل حال لأنها فسخ وليست ببيع ، ويحتج على المخالف في ذلك بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (٢) ، وإقالة نفسه هو العفو والترك ، فوجب أن تكون الإقالة في البيع كذلك ، وعلى هذا لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن أو بأقل ، أو بجنس غيره.

وإذا جي‌ء بالمسلم فيه قبل محله لم يلزم المشتري قبوله ، لأنه لا يمتنع أن يكون له في تأخيره غرض لا يظهر لغيره ، ولأن إجباره على ذلك يحتاج إلى دليل ، ويجوز التراضي على تقديم الحق عن أجله بشرط النقص منه ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأنه لا مانع من ذلك ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المؤمنون عند شروطهم (٣) وقوله : الصلح جائز بين المسلمين إلا ما حرم حلالا أو حلل حراما (٤) ، فأما تأخير الحق عن أجله بشرط الزيادة فيه فلا يجوز بلا خلاف ، لأنه ربا.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٥ ـ ٢٨٧ و ٢٨٨ وجامع الأصول : ١ ـ ٤٧٣.

(٢) كنز العمال : ٤ ـ ٩٠ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٢٧.

(٣) سنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٤ وبداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٤ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ ولفظ الحديث في بعض المصادر (المسلمون.)

(٤) سنن البيهقي : ٦ ـ ٦٥ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٥ برقم ١٠٩٣٣.

٢٢٨

الفصل الرابع

وأما ما يتعلق بالبيع من الأحكام فقد مضى في خلال الفصول المقدمة منه مما يناسبها ، وبقي ما نذكر منه اللائق بغرض الكتاب.

واعلم أن من حكم البيع وجوب تسليم المعقود عليه في الحال إذا لم يشرط التأجيل بلا خلاف ، فإن تشاحا وقال كل واحد منهما : لا أسلم حتى اتسلم ، فعلى الحاكم إجبار البائع على تسليم المبيع أولا ، لأن الثمن إنما يستحق على المبيع ، فوجب الإجبار على تسليمه ، ليستحق الثمن ، فإن امتنع البائع من التسليم حتى هلك المبيع ، فهلاكه من ماله على كل حال ، ويبطل العقد لتعذر تسليمه ، وإن كان قبضه المشتري فهلك ، وقد لزم البيع ، فهلاكه من ماله دون مال البائع ، سواء كان قبضه أو رضي بتركه في يد البائع.

والقبض فيما لا يمكن نقله ، كالأرضين التخلية ورفع الحظر ، وكذا حكم ما يمكن ذلك فيه ، مما يتصل بها من الشجر وثمره المتصل به والبناء ، وفيما عدا ذلك التحويل والنقل ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

ويكره بيع المرابحة بالنسبة إلى الثمن ، كقوله : ثمن هذه السلعة كذا ، وقد بعتكها برأس مالي وربح درهم في كل عشرة ، والأولى تعليق الربح بعين المبيع.

ومن ابتاع شيئا بثمن مؤجل لم يجز أن يبيع مرابحة حتى يخبر بذلك ، فإن باع ولم يخبر بالأجل صح البيع بلا خلاف ، إلا أن المشتري إذا علم ذلك كان بالخيار (١) بين أن يدفع الثمن حالا وبين أن يرد بالعيب ، لأن ذلك تدليس في الثمن.

ومن قال لغيره : هذه السلعة علي بمائة ، بعتكها بربح درهم في كل عشرة ،

__________________

(١) في الأصل : فهو بالخيار.

٢٢٩

فقال : اشتريته ، ثم قال : غلطت بل اشتريتها بتسعين ، فالبيع صحيح ، لأنه لا دليل على فساده ، والمشتري بالخيار بين أن يأخذها بمائة وعشرة ، لأن العقد على ذلك وقع ، وبين أن يردها ، لأن ما علمه من النقصان في الثمن عيب ، له ردها به إن شاء.

ومن حط من الثمن بعد لزوم العقد شيئا ، وأراد البيع مرابحة ، لم يلزمه حطه ، بل يخبر بما وقع العقد عليه ، لأن الثمن قد استقر ، ومن قال : إن الحط بعد لزوم العقد يلحق به فعليه الدليل ، وإذا أراد أن يحسب أجرة القصارة مثلا والطراز في بيع المرابحة ، قال (١) : صار علي بكذا ، أو جاء علي ، ولم يقل : اشتريته.

ومن باع بشرط حكم البائع (٢) والمشتري في الثمن ، فالبيع فاسد ، لما قدمناه من الجهالة بالثمن ، فإن تراضيا بإنفاذه فحكم المشتري بالقيمة فما فوقها ، أو حكم البائع بالقيمة فما دونها ، مضى ما حكما به ، وإن حكم البائع بأكثر والمشتري بأقل لم يمض ، وقد قدمنا أن تعليق البيع بأجلين وثمنين كقوله : بعت إلى مدة كذا بكذا ، وإلى ما زاد عليها بكذا ، يفسده ، فإن تراضيا بإتمامه كان للبائع أقل الثمنين في أبعد الأجلين ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك.

وقد قدمنا أن من جمع في صفقة واحدة بين شيئين يصح بيع أحدهما دون الآخر ، نفذ البيع فيما يصح فيه ، فإذا ثبت ذلك فالمشتري بالخيار بين أن يرد الجميع أو يمسك ما يصح فيه البيع بما يخصه من الثمن الذي يتقسط عليه ، لأن جميع الثمن إنما كان في مقابلتهما ، ويتقسط عليهما معا ، فإذا بطل بيع أحدهما سقط من الثمن بحسابه (٣) ومن أوجب الجميع فعليه الدليل ، ولا خيار للبائع على المشتري في ذلك ، لأن البيع قد ثبت من جهته ، فمن جوز له الخيار ، فعليه الدليل.

__________________

(١) في الأصل : وقال.

(٢) في «س» «بشرط حوم البائع» وهو تصحيف والصحيح ما في المتن.

(٣) في «ج» : من الثمن الذي يتقسط بحسابه.

٢٣٠

ولا يدخل في بيع الشجر ما عليه من ثمر إلا بالشرط ، وكذلك حكم الزرع مع الأرض ، والحمل مع الحيوان ، وما يصاحبه من أداة ودثار (١) ومال يكون مع العبد أو الأمة.

ومن قال : بعت هذه الأرض بحقوقها ، دخل فيها الشجر ، فإن قال : بعت هذه الدار بحقوقها ، دخل في ذلك كل شي‌ء ثابت بثبوت البناء (٢) كالشجر ، والرفوف ، والأوتاد ، والأغلاق المنصوبة ، والفرد التحتاني من الرحا المبنية ، بلا خلاف ، وعندنا الرحا الفوقاني والمفتاح أيضا كذلك ، لأنهما من حقوقها المنتفع بها.

ومن اشترى من يحرم عليه مناكحته من ذوي نسبه ، عتق عليه عقيب العقد.

وإذا اختلف المتبايعان في جنس المبيع أو في عينه (٣) وفقدت البينة ، لزم كل واحد منهما أن يحلف على ما أنكره ، لأنه مدعى عليه ، فيحلف البائع أنه لم يبع ما ادعاه المشتري ، ويحلف المشتري أنه لم يشتر ما ادعاه البائع.

وإن اختلفا في مقدار المبيع ، فالقول قول البائع مع يمينه ، لأنه المنكر ، وإن اختلفا في مقدار الثمن ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، ويعتبر أصحابنا هنا أن تكون السلعة تالفة ، فإن كانت سالمة ، فالقول عندهم قول البائع مع يمينه.

وإن اختلفا في أصل الأجل ، أو الخيار ، أو مقدار مدتهما ، أو في وقت حدوث العيب ، أو في كون العقد واقعا على البراءة من العيوب ، فاليمين على من أنكر منهما ، لأنه لا خلاف أن اليمين على من أنكر على ما ورد في الخبر. (٤)

ولا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها ، ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص.

__________________

(١) الدثار : ما يتدثر به الإنسان وهو ما يلقيه عليه من كساء أو غيره فوق الشعار. المصباح المنير.

(٢) في الأصل و «س» : ثبوت البناء.

(٣) في «ج» : وفي عينه.

(٤) الكافي : ٧ ـ ٤١٥ ح ١ ، وسنن البيهقي : ١٠ ـ ٢٥٢.

٢٣١

فصل في الشفعة

الشفعة في الشرع عبارة عن استحقاق الشريك المخصوص على المشتري تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه أو قيمته ، وهي مأخوذة من الزيادة ، لأن سهم الشريك يزيد بما ينضم إليه ، فكأنه كان وترا فصار شفعا.

ويحتاج فيها إلى العلم بأمرين : شروط استحقاقها ، وما يتعلق بها من الأحكام.

وشروط استحقاقها ستة وهي :

أن يتقدم عقد بيع ينتقل معه الملك إلى المشتري.

وأن يكون الشفيع شريكا بالاختلاط في المبيع أو في حقه ، من شربه أو طريقه.

وأن يكون واحدا.

وأن يكون مسلما إن كان (١) المشتري كذلك.

وأن لا يسقط حق المطالبة.

ولا يعجز عن الثمن.

اشترطنا تقدم عقد البيع ، لأن الشفعة لا تستحق قبله بلا خلاف ، ولا

__________________

(١) في الأصل : إذا كان.

٢٣٢

تستحق بما ليس ببيع ، من هبة أو صدقة أو مهر زوجة أو مصالحة أو ما أشبه ذلك ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأن إثبات الشفعة في المهر ، وفي المصالحة ، وفي الهبة على بعض الوجوه ، يفتقر إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

واعتبرنا أن ينتقل الملك معه إلى المشتري ، تحرزا من البيع الذي فيه الخيار للبائع أو له وللمشتري معا ، فإن الشفعة لا تستحق ها هنا ، لأن الملك لم يزل عن البائع ، فأما ما لا خيار فيه ، أو فيه الخيار للمشتري وحده ففيه الشفعة ، لأن الملك قد زال به عنه.

واشترطنا أن يكون شريكا للبائع ، تحرزا من القول باستحقاقها بالجوار ، فإنها لا تستحق بذلك عندنا ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : الشفعة فيما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (١) ولا يعارض ذلك ما رووه من قوله عليه‌السلام : الجار أحق بسقبه (٢) لأن في ذلك إضمارا ، وإذا أضمروا أنه أحق بالأخذ بالشفعة ، أضمرنا أنه أحق بالعرض عليه ، ولأن المراد بالجار في الخبر الشريك ، لأنه خرج على سبب يقتضي ذلك ، فروى عمرو بن الشريد (٣) عن أبيه قال : بعت حقا من أرض لي فيها شريك فقال شريكي : أنا أحق بها ، فرفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : الجار أحق بسقبه (٤) ، والزوجة تسمى جارة لمشاركتها

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٠٢ باب الشفعة فيما لم يقسم ، وصحيح البخاري : ٣ ـ ١١٤ باب الشفعة ومسند أحمد : ٣ ـ ٢٩٦.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٠٥ باب الشفعة بالجوار ، والتاج الجامع للأصول : ٢ ـ ٢١٧ وصحيح البخاري : ٣ ـ ١١٥ باب الشفعة. قال الفيومي : سقب سقبا من باب تعب : قرب ، والجار أحق بسقبه أي بقربه ، وفسر بالشفعة. المصباح المنير.

(٣) عمرو بن الشريد بن الثقفي أبو الوليد الطائفي ، روى عن أبيه وأبي رافع وسعد بن أبي وقاص وابن عباس ، وعنه إبراهيم بن ميسرة ومحمد بن ميمون وصالح بن دينار وغيرهم. لاحظ تهذيب التهذيب : ١٢ ـ ٤٧.

(٤) سنن النسائي : ٧ ـ ٣٢٠ الشفعة وأحكامها ، والبحر الزخار : ٤ ـ ٣ ، كتاب الشفعة.

٢٣٣

للزوج في العقد قال الأعشى (١) :

يا جارتي بيني فإنك طالقة

 ...

وهي تسمى بذلك عقيب العقد وتسمى به وإن كانت بالمشرق والزوج بالمغرب ، فليس لأحد أن يقول إنما سميت بذلك لكونها قريبة (٢) مجاورة ، فقد صار اسم الجار يقع على الشريك لغة وشرعا.

واشترطنا أن يكون واحدا ، لأن الشي‌ء إذا كان مشتركا بين أكثر من اثنين فباع أحدهم لم يستحق شريكه الشفعة ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأن حق الشفعة حكم شرعي يفتقر في ثبوته إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ذلك ها هنا ، وعلى هذا إذا كان الشريك واحدا ووهب بعض السهم أو تصدق به ، وباع الباقي للموهوب له ، أو المتصدق عليه ، لم يستحق فيه الشفعة.

واشترطنا أن يكون مسلما إذا كان المشتري كذلك ، تحرزا من الذمي لأنه لا يستحق على مسلم شفعة ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا عموم قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (٣) ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : لا شفعة لذمي على مسلم. (٤)

واشترطنا أن لا يسقط حق المطالبة ، لأنه أقوى من قول من يذهب إلى أن حق الشفعة على الفور ، وتسقط بتأخير الطلب مع القدرة عليه ، من أصحابنا (٥)

__________________

(١) الأعشى ميمون بن قيس بن جندل ، يكنى أبا بصير ، أحد الأعلام من شعراء الجاهلية ، لاحظ ترجمته في الأغاني : ٩ ـ ١٠٨ ، والبيت في ديوانه ص ١٢٢ ، ومصرعه الأخير : «كذلك أمور الناس غاد وطارقه» أنشده لامرأته الهزانية حين طلقها.

(٢) في «ج» : قرينة.

(٣) النساء : ١٤١.

(٤) البحر الزخار : ٤ ـ ٥ كتاب الشفعة ولفظ الحديث : لا شفعة للذمي على المسلم.

(٥) الشيخ : المبسوط : ٣ ـ ١٠٨ والنهاية : ٤٢٤ والخلاف كتاب الشفعة المسألة ٤.

٢٣٤

وغيرهم ، لأن ما قلناه هو الأصل في كل حق عقلا وشرعا ، ولا يخرج من هذا الأصل إلا ما أخرجه دليل قاطع ، كحق الرد بالعيب ، على أن حق الرد ربما كان في تأخيره إبطاله ، لجواز تغير أمارات العيب وخفائها ، فحصلت الشبهة في وجوده ، فوجب لذلك المسارعة إلى الرد ، وليس كذلك حق الشفعة ، لأن ما يجب به من عقد البيع قد أمن ذلك فيه ، وما يتعلق به المخالف في ذلك أخبار آحاد لا يعول على مثلها في الشرع.

وقولهم : إذا لم تبطل الشفعة بتأخير الطلب دخل على المشتري ضرر ، لأنه إذا علم بذلك امتنع من التصرف (١) في المبيع بما يحتاج إليه من غرس وبناء وتغيير ، لأن الشفيع يأمره بإزالة ذلك إذا أخذ وهو من أخذه على وجل ، وذلك ممنوع منه عقلا وشرعا ، الجواب عنه أن يقال : يمكن أن يتحرز من هذا الضرر بما به يسقط الشفعة أصلا ، أو بما لا ينشط معه الشفيع إلى الأخذ ، أو لا يقدر عليه من زيادة الثمن ، ووجوه التحرز من ذلك كثيرة.

ثم يقال لهم على سبيل المعارضة : في مقابلة ضرر المشتري بما ذكرتموه من ضرر الشفيع بالشركة ، وإزالة ضرره ها هنا هو المقصود المراعى دون إزالة ضرر المشتري ، ولهذا يستحق بالشفعة من علم بالبيع بعد السنين المتطاولة ، بلا خلاف وإن كان حاضرا في البلد ، وكذا حكم المسافر إذا قدم ، والصغير إذا بلغ ، ولم يمنع ما ذكرتموه من ضرر المشتري من استحقاقها.

واشترطنا عدم عجزه عن الثمن ، لأنه إنما يملك الأخذ إذا دفع إلى المشتري ما بذله للبائع ، فإذا تعذر عليه ذلك سقط حقه من الشفعة ، وسواء كان عجزه لكونه معسرا ، أو لكون ما وقع عليه العقد أو بعضه غير معلوم القيمة ، وقد فقدت عينه ، بلا خلاف في ذلك.

__________________

(١) في «ج» : من التصرفات.

٢٣٥

وروى أصحابنا أن كذا حكمه متى لم يحضر الثمن من البلد التي هو فيه حتى مضت ثلاثة أيام ، ومتى ادعى إحضاره من مصر آخر فلم يحضره حتى مضت مدة يمكن فيها وصول الثمن وزيادة ثلاثة أيام ، هذا ما لم يؤد الصبر عليه إلى ضرر ، فإن أدى إلى ذلك بطلت الشفعة ، بدليل إجماع الطائفة.

وإذا كان الثمن مؤجلا فهو على الشفيع كذلك ، ويلزمه إقامة كفيل به إذا لم يكن مليا ، وهذا لا يتفرع على مذهب من قال من أصحابنا : إن حق الشفعة لا يسقط بالتأخير. (١)

وإذا حط البائع من الثمن بعد لزوم العقد فهو للمشتري خاصة ، ولم يسقط عن الشفيع ، لأنه إنما يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد البيع عليه ، وما يحط بعد ذلك هبة مجددة لا دليل على لحوقها بالعقد.

وإذا تكاملت شروط استحقاق الشفعة ، استحقت في كل مبيع ، من الأرضين والحيوان والعروض ـ كان ذلك مما يحتمل القسمة أو لم يكن ـ وهذا هو المذهب الذي تقدم الإجماع عليه من أصحابنا.

ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشفعة فيما لم يقسم (٢) ولم يفصل ، وبقوله : الشفعة في كل شي‌ء (٣) ، على أنه يقال لهم : إذا كنتم تذهبون إلى أن الشفعة وجبت لإدخاله الضرر على الشفيع ، وكان هذا المعنى حاصلا في سائر المبيعات ، لزمكم القول بوجوب الشفعة فيها.

وقولهم : من صفة الضرر الذي تجب الشفعة لإزالته أن يكون حاصلا على

__________________

(١) السيد المرتضى : الانتصار : ٢١٩.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٠٢ و ١٠٣ باب الشفعة فيما لم يقسم ، وكنز العمال : ٧ ـ ٨ برقم ١٧٧٠٧ ومسند أحمد بن حنبل ٣ ـ ٢٩٦ وصحيح البخاري : ٣ ـ ١١٤ باب الشفعة ، والبحر الزخار : ٤ ـ ٣ كتاب الشفعة.

(٣) جامع الأصول : ٢ ـ ١٣ والبحر الزخار : ٤ ـ ٣ كتاب الشفعة.

٢٣٦

جهة الدوام ، وهذا لا يكون إلا في الأرضين ، ليس بشي‌ء لأن الضرر المنقطع يجب أيضا إزالته عقلا وشرعا ، كالدائم ، فكيف وجبت الشفعة لإزالة أحدهما دون الآخر؟ على أن فيما عدا الأرضين ما يدوم كدوامها ويدوم الضرر بالشركة فيه كدوامه ، كالجواهر وغيرها.

ومن أصحابنا من قال : لا يثبت حق الشفعة إلا فيما يحتمل القسمة شرعا من العقار والأرضين ، ولا يثبت فيما لا يحتمل القسمة من ذلك ، كالحمامات والأرحية ، ولا فيما لا ينقل ويحول (١) إلا على وجه التبع للأرض كالشجر والبناء. (٢)

والشفعة مستحقة على المشتري دون البائع وعليه الدرك للشفيع ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأنه قد ملك بالعقد والشفيع يأخذ منه ملكه بحق الشفعة فيلزمه دركه.

وإذا كان الشريك غير كامل العقل فلوليه أو الناظر في أمور المسلمين ، المطالبة له بالشفعة ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بقوله عليه‌السلام : الشفعة فيما لم يقسم (٣) ، ولم يفصل ، وإذا ترك الولي ذلك ، فللصغير إذا بلغ ، والمجنون إذا عقل ، المطالبة ، بدليل الإجماع المتكرر ، ولأن ذلك حق له لا للولي ، وترك الولي لاستيفائه لا يؤثر في إسقاطه.

وإذا غرس المشتري وبنى ، ثم علم الشفيع بالشراء وطالب بالشفعة ، كان له إجباره على قلع الغرس والبناء إذا رد عليه ما نقص من ذلك بالقلع ، لأن المشتري فعل ذلك في ملكه ، فلم يكن متعديا ، فاستحق ما ينقص بالقلع ، ولأنه لا خلاف في أن له المطالبة بالقلع إذا رد ما نقص به ، ولا دليل على وجوب المطالبة إذا لم يرد.

__________________

(١) كذا في الأصل و «ج» ولكن في «س» : «ولا فيما لا ينقل ويحول».

(٢) الشيخ : المبسوط : ٣ ـ ١٠٦ و ١٠٧ والنهاية : ٤٢٤ والخلاف المسألة ١ و ١٦ من كتاب الشفعة.

(٣) تقدم مصدره آنفا.

٢٣٧

وإذا استهدم المبيع لا بفعل المشتري ، أو هدمه هو قبل علمه بالمطالبة بالشفعة ، فليس للشفيع إلا الأرض والآلات ، وإن هدمه بعد العلم بالمطالبة ، فعليه رده إلى ما كان ، بدليل الإجماع المشار إليه.

وإذا عقد المشتري البيع على شرط البراءة من العيوب ، أو علم بالعيب ورضي به ، لم يلزم الشفيع ذلك ، بل متى علم بالعيب رد المشتري إن شاء.

وإذا اختلف المتبايعان والشفيع في مبلغ الثمن ، وفقدت البينة ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، بدليل الإجماع المتكرر.

وحق الشفعة موروث عند بعض أصحابنا (١) لعموم آيات الميراث ، وعند بعضهم لا تورث. (٢)

__________________

(١) المفيد : المقنعة : ٦١٩ والسيد المرتضى : الانتصار : ٢١٧.

(٢) الشيخ : النهاية : ٤٢٥ ، والخلاف : كتاب الشفعة المسألة ١٢ ، والقاضي : المهذب : ١ ـ ٤٥٩.

٢٣٨

فصل في القرض

القرض جائز من كل مالك للتبرع ، فلا يجوز للولي أو الوصي إقراض مال الطفل ، إلا أن يخاف ضياعه ببعض الأسباب ، فيحتاط في حفظه بإقراضه.

وفي القرض فضل كثير وثواب جزيل ، ويكره للمرء أن يستدين ما هو غني عنه ، ويحرم ذلك عليه مع عدم القدرة على قضائه ، وزوال الضرورة إليه.

وكل ما يجوز السلم فيه يجوز للمسلم إقراضه ، من المكيل والموزون والمذروع والحيوان وغير ذلك ، لأن الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، ويحتج على المخالف بالأخبار الواردة في جواز القرض والحث على فعله ، لأنها عامة لا تخصيص فيها.

وهو مملوك بالقبض ، لأنه لا خلاف في جواز التصرف فيه بعد قبضه ، ولو لم يكن مملوكا لما جاز ذلك فيه.

ويجوز أن يقرض غيره مالا على أن يأخذه في بلد آخر ، أو على أن يعامله في بيع أو إجارة أو غيرهما ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأن الأصل الإباحة ، والمنع يفتقر إلى دليل شرعي.

ويحرم اشتراط الزيادة فيما يقضى به ، سواء كانت في القدر أو الصفة ، ويجوز أن يأخذ المقرض خيرا مما كان له من غير شرط ـ ولا فرق بين ذلك أن يكون عادة من المقترض أو لم يكن ـ بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن الأصل إباحة ذلك.

٢٣٩

وإن كان للدين مثل ، بأن يكون مكيلا أو موزونا ، فقضاؤه بمثله لا بقيمته ، بدليل الإجماع المتكرر ، ولأنه إذا قضاه بمثله ، برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا قضاه بقيمته ، وإذا كان مما لا مثل له ، كالثياب والحيوان ، فقضاؤه برد قيمته.

ولا يحل المطل (١) بالدين بعد المطالبة به لغني ، ويكره لصاحبه المطالبة به مع الغنى عنه وظن حاجة من هو عليه إلى الارتفاق به ، ويحرم عليه ذلك مع العلم بعجزه عن الوفاء ، لقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٢) ، ولا يحل له المطالبة في الحرم على حال ، ويكره له النزول عليه ، فإن نزل لم يجز له أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام ، ويكره له قبول هديته لأجل الدين ، والأولى به إذا قبلها الاحتساب بها من جملة ما عليه ، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

ولا يجوز لصاحب الدين المؤجل ، أن يمنع من هو عليه من السفر ، ولا أن يطالبه بكفيل ، ولو كان سفره إلى الجهاد ، أو كانت مدته أكثر من أجل الدين ، لأن الأصل براءة الذمة من الكفيل ، ودعوى جواز المطالبة به تفتقر إلى دليل ، ولأنه لا يستحق عليه شيئا في الحال ، فلا يستحق المطالبة بإقامة الكفيل.

ويكره استحلاف الغريم المنكر ، لأن في ذلك تضييعا للحق وتعريضا لليمين الكاذبة ، ومتى حلف لم يجز لصاحب الدين إذا ظفر بشي‌ء من ماله أن يأخذ منه بمقدار حقه ، ويجوز له ذلك إذا لم يحلف إلا أن يكون ما ظفر به وديعة عنده ، فإنه لا يجوز له أخذ شي‌ء منها بغير إذنه على حال ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ويخص الوديعة عموم قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها). (٣)

وإذا استدان العبد بغير إذن سيده فلا ضمان عليه ولا على السيد إلا أن

__________________

(١) مطله بدينه مطلا : إذا سوفه بوعد الوفاء مرة بعد أخرى. المصباح المنير.

(٢) البقرة : ٢٨٠.

(٣) النساء : ٥٨.

٢٤٠