غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

المزارع (١) النصاب ، على ما قدمناه ، وهو خمسة أوسق ـ والوسق ستون صاعا ـ بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ولأن ما اعتبرناه من النصاب لا خلاف في وجوب الزكاة فيه ، وليس على وجوبها فيما نقص عنه دليل.

ويعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة (٢) ، وقوله عليه‌السلام : ما سقت السماء ففيه العشر ، وما سقي بنضح أو غرب ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق (٣) ، وقوله عليه‌السلام في رواية أخرى : لا زكاة في شي‌ء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الصدقة (٤).

والوسق ستون صاعا ، والصاع عندنا أربعة أمداد بالعراقي ، والمد رطلان وربع بالعراقي ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وطريقة الاحتياط باليقين لبراءة الذمة ، لأن من أخرج ما ذكرناه برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا أخرج دونه ، فإذا وجب فيما ثبت في الذمة بيقين أن يسقط عنها بيقين ، وجب في قدر الصاع ما ذكرناه.

وأما الواجب في الإبل فلا شي‌ء فيها حتى تبلغ خمسا ، وهو نصابها الأول ، فإذا بلغتها وتكاملت شروطها الباقية ففيها شاة ، وفي عشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه ، وفي عشرين أربع شياه ، وفي خمس وعشرين خمس شياه ، وفي ست وعشرين بنت مخاض ، وهي التي لها حول كامل ، وفي ست وثلاثين بنت لبون ، وهي التي لها حولان ، ودخلت في الثالث ، وفي ست وأربعين حقة ، وهي

__________________

(١) في «ج» : وحق الزراع.

(٢) صحيح البخاري : ٢ ـ ١٤٧ ، كتاب الزكاة ، والتاج الجامع للأصول : ٣ ـ ١٦ ، وسنن ابن ماجة : ١ ـ ٥٧١ برقم ١٧٩٣ و ١٧٩٤.

(٣) سنن البيهقي : ٤ ـ ١٢١ كتاب الزكاة ، والمستدرك على الصحيحين : ١ ـ ٣٩٥ وسنن أبي داود : ٢ ـ ١٠٨ ، برقم ١٥٩٧ باختلاف يسير.

(٤) سنن الدار قطني : ٢ ـ ٩٨ برقم ١٦ وكنز العمال : ٦ ـ ٣٢٦ برقم ١٥٨٧٤.

١٢١

التي لها ثلاثة أحوال ودخلت في الرابع ، وفي إحدى وستين جذعة ، وهي التي لها أربعة أحوال ودخلت في الخامس ، وفي ست وسبعين (١) بنتا لبون ، وفي إحدى وتسعين حقتان ، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين فصاعدا سقط هذا الاعتبار ، ووجب في كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة.

ولا شي‌ء فيما بين النصابين ، ولا خلاف فيما ذكرناه من ذلك كله ، إلا في خمس وعشرين ، وست وعشرين وفيما زاد على المائة والعشرين ، والدليل على ما قلناه في ذلك الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا فالأصل براءة الذمة.

وقد اتفقنا على وجوب الزكاة في مائة وثلاثين فعندنا وعند الأكثر من المخالفين أن في ذلك حقة وابنتي لبون ، وعند أبي حنيفة حقتان وشاتان ، ولم يقم دليل على أن فيما بين العشرين والثلاثين حقا ، فوجب البقاء على حكم الأصل.

ونعارض المخالف بما روى من طرقهم أنه وجد في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الإبل إذا زادت على مائة وعشرين فليس فيما زاد شي‌ء دون ثلاثين ومائة ، فإذا بلغتها ففيها ابنتا لبون وحقة. (٢)

وأما الواجب في البقر ففي كل ثلاثين منها تبيع (٣) حولي أو تبيعة وهو

__________________

(١) في الأصل : وفي خمس وسبعين.

(٢) جامع الأصول : ٤ ـ ٥٩٠ وكنز العمال : ٦ ـ ٣١٨ برقم ١٥٨٣٢ وسنن البيهقي : ٤ ـ ٩٣ وسنن الدار قطني : ٢ ـ ١١٣ برقم ٢.

(٣) قال ابن البراج : وقد ذكر أن التبيع هو الذي له سنتان ، وذكر أن هذا الاسم لا يدل على شي‌ء ، ذكر ذلك عن أبي عبيدة ، وذكر غيره انه إنما سمي بهذا الاسم لأنه يتبع أمه في المرعى ، وذكر غير من ذكرناه انه الذي يتبع قرنه أذنه. وإذا لم يستقر من جهة اللغة في حقيقة التبيع ما يعتمد عليه في هذا الباب ، فان المعول على ما ورد في الشرع ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : «تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة» وفسر ذلك الباقر والصادق عليهما‌السلام بالحول. المهذب ج ١ ، ص ١٦٣ ولاحظ الوسائل : ج ٦ ، ب ٤ من أبواب زكاة الأنعام ، ح ١ وسنن البيهقي : ٤ ـ ٩٨ ـ ٩٩.

١٢٢

الجذع منها ، وفي كل أربعين مسنة وهي الثنية فصاعدا ، ولا شي‌ء فيما دون الثلاثين ، ولا فيما بين النصابين ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا فالأصل براءة الذمة من الحقوق في الأموال ، فمن ادعى أن فيما بين الأربعين والستين حقا واجبا ، لزمه الدليل الشرعي ، ويعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا شي‌ء في الأوقاص (١) ، والوقص يقع على ما بين النصابين.

وأما الواجب في الغنم ففي كل أربعين منها شاة ، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان ، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه ، وفي ثلاث مائة وواحدة أربع شياه ، فإذا زادت على ذلك ، سقط هذا الاعتبار ، وأخرج عن كل مائة شاة ، ولا شي‌ء فيما دون الأربعين ، ولا فيما بين النصابين ، والمأخوذ من الضأن الجذع ، ومن المعز الثني ، ولا يؤخذ دون الجذع ، ولا يلزم فوق الثني ، بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الثالث

وأما المستحق لذلك فالأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في قوله (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) (٢) الآية.

فالفقراء هم الذين لهم دون كفايتهم.

والمساكين هم الذين لا شي‌ء لهم ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وقد نص على ذلك الأكثر من أهل اللغة.

والعاملون عليها هم عمالها والسعاة في جبايتها.

والمؤلفة قلوبهم هم الذين يستمالون إلى الجهاد ، بلا خلاف.

__________________

(١) سنن البيهقي : ٤ ـ ٩٩ ، كتاب الزكاة.

(٢) التوبة : ٦٠.

١٢٣

وأما الرقاب فالمكاتبون ، بلا خلاف أيضا ، ويجوز عندنا أن يشترى من مال الزكاة كل عبد هو في ضر وشدة ، ويعتق ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا فظاهر الآية يقتضيه.

وأما الغارمون فهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ، بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط.

وأما سبيل الله فالجهاد ، بلا خلاف. وعندنا أنه يجوز صرفها فيما عدا ذلك مما فيه مصلحة للمسلمين ، كعمارة الجسور والسبل وفي الحج والعمرة وتكفين أموات المؤمنين ، وقضاء ديونهم ، للإجماع المشار إليه ، ولاقتضاء ظاهر الآية له ، لأن سبيل الله هو الطريق إلى ثوابه وما أفاد التقرب إليه (١) ، وإذا كان ما ذكرناه كذلك ، جاز صرف الزكاة فيه.

وأما ابن السبيل فهو المنقطع به ، وإن كان في بلده غنيا ، وروي أيضا أنه الضيف الذي ينزل بالإنسان وإن كان في بلده غنيا أيضا. (٢)

ويجب أن يعتبر فيمن تدفع الزكاة إليه من الأصناف الثمانية ـ إلا المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها ـ الإيمان والعدالة.

وأن لا يكون ممن يمكنه الاكتساب لما يكفيه.

وأن لا يكون ممن تجب على المرء نفقته ، وهم الأبوان ، والجدان ، والولد ، والزوجة ، والمملوك.

وأن لا يكون من بني هاشم المستحقين للخمس المتمكنين من أخذه ، بدليل الإجماع المتكرر ، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة.

وقد روي من طرق المخالف : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي ، وفي

__________________

(١) في «س» : المتقرب إليه.

(٢) الوسائل : ٦ ـ ١٤٦ ب ١ من أبواب المستحقين للزكاة ح ٩.

١٢٤

رواية أخرى : ولا لذي قوة مكتسب. (١) فإن كان مستحق الخمس غير متمكن من أخذه ، أو كان المزكي هاشميا مثله ، جاز دفع الزكاة إليه ، بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الرابع

وأما مقدار المعطى منها فأقله للفقير الواحد ما يجب في النصاب الأول ، فإن كان من الدنانير فنصف دينار ، وإن كان من الدراهم فخمسة دراهم ، وكذا في الأصناف الباقية ، بدليل الإجماع وطريقة الاحتياط ، وقد روي أن الأقل من ذلك ما يجب في أقل نصب الزكاة ، وذلك من الدنانير عشر مثقال ، ومن الدراهم درهم واحد ، ويجوز أن يدفع إليه منها الكثير وإن كان فيه غناه ، بدليل الإجماع المذكور.

الفصل الخامس :

في ما يتعلق بالزكاة من الأحكام

يجب إخراجها على الفور ، فإن أخرها من وجبت عليه لغير عذر ضمن هلاكها ، ويجب حملها إلى الإمام ليضعها مواضعها ، وإلى من نصبه لذلك ، فإن تعذر ذلك وكان من وجبت عليه عارفا لمستحقها ، جاز له إخراجها إليه ، وإن لم يكن عارفا به حملها إلى الفقيه المأمون من أهل الحق ، ليتولى إخراجها.

ولا يجوز لأحد سوى الإمام أو من نصبه أن يصرف شيئا من مال الزكاة إلى المؤلفة ، ولا إلى العاملين ، ولا في الجهاد ، لأن تولي ذلك مخصوص بهما ، كل ذلك

__________________

(١) صحيح الترمذي : ٣ ـ ٤٢ ، كتاب الزكاة ، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة وسنن ابن ماجة : ١ ـ ٥٨٩ كتاب الزكاة ، وجامع الأصول : ٤ ـ ٦٦١ وفيه : المرة : القوة والشدة.

١٢٥

بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط ، ومن يجوز له أخذها من بني هاشم أولى بها من غيرهم ، ومن لا تجب نفقته من الأقارب أولى من الأجانب ، والجيران أولى من الأباعد ، وأهل البلد أولى من قطان (١) غيره ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ومن لم يدفعها إلى من يعلمه مستحقا لها في بلده ، وحملها إلى غيره ، ضمن هلاكها ، ولم يضمن إذا لم يعلم لها في بلده مستحقا ، وإن حملها مع خوف الطريق بغير إذن مستحقها ضمن ، ولا ضمان عليه مع استئذانه ، بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط.

ويجوز إخراج الزكاة إلى أيتام المستحق لها عند فقده ، ويجوز إخراجها قبل وقت وجوبها على جهة القرض ، بدليل الإجماع المشار إليه ، فإن دخل الوقت والمعطى من أهل الاستحقاق ، أجزأت عن مخرجها ، وإن لم يكن من أهله لم تجز عنه ، بدليل الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط.

ومن وجب عليه سن ولم يكن عنده ، فإن كان عنده أعلى منها بدرجة ، أخذت منه ، ويرد عليه شاتان أو عشرون درهما فضة ، وإن كان عنده أدنى منها بدرجة أخذت منه ، ومعها شاتان أو عشرون درهما ، مثال ذلك أن يجب عليه بنت مخاض ، وعنده بنت لبون ، أو يجب عليه بنت لبون ، وعنده بنت مخاض ، وعلى هذا الحساب يؤخذ مع ما علا أو دنا بدرجتين أو ثلاث ، بالإجماع المشار إليه ، فإن أصحابنا لا يختلفون في جواز أخذ القيمة في الزكاة ، وعندنا أن بنت المخاض يساويها في القيمة ابن اللبون الذكر.

__________________

(١) قطن بالمكان : أقام به فهو قاطن والجمع قطان مثل كافر وكفار. المصباح المنير.

١٢٦

الفصل السادس :

في زكاة الرؤوس

زكاة الفطرة واجبة على كل حر بالغ كامل العقل مالك لمقدار أول نصاب تجب فيه الزكاة عنه وعن كل من يعول ، من ذكر وأنثى وصغير وكبير وحر وعبد ومسلم وكافر وقريب وأجنبي ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وطريقة الاحتياط ، واليقين لبراءة الذمة.

ويعارض المخالف في الزوجة والعبد والكافر والضيف بما روى من طرقهم عن ابن عمر (١) أنه قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدقة الفطرة عن الصغير والكبير والحر والعبد ومن تمونون (٢) لأنه قال : والعبد. ولم يفصل بين المسلم والكافر ، وقال : فمن تمونون والزوجة والضيف طول شهر رمضان كذلك.

ومقدار الواجب صاع عن كل رأس من فضلة ما يقتات الإنسان به ، سواء كان حنطة أو شعيرا أو تمرا أو زبيبا أو ذرة أو أرزا أو أقطا أو غير ذلك ، وقد بينا مقدار الصاع فيما مضى ، ويجوز إخراج قيمة الصاع ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ووقت وجوبها من طلوع الفجر من يوم العيد ، إلى قبيل صلاته ، فإن أخر إخراجها إلى بعد الصلاة لغير عذر ، أخل بواجب ، وسقط وجوبها ، وجرت إن أخرجها مجرى ما يتطوع به من الصدقات ، بدليل الإجماع المشار إليه.

وقد روي من طرق المخالف عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض صدقة الفطرة

__________________

(١) عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيه وأبي بكر وعثمان وأبي ذر ومعاذ بن جبل ، وروى عنه ابن عباس وجابر ، مات سنة ٧٣ ه‍. لاحظ أسد الغابة : ٣ ـ ٢٢٧.

(٢) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٤١ برقم ١٢ وسنن البيهقي : ٤ ـ ١٦١ ، كتاب الزكاة ، باب إخراج زكاة الفطرة عن نفسه وغيره.

١٢٧

طهرة للصائم من اللغو الرفث وطعمة للمساكين (١) ، فمن أداها قبل الصلاة كانت له زكاة ، ومن أداها بعد الصلاة كانت صدقة من الصدقات ، وإن كان عزلها من ماله انتظارا لمستحقها ، فهي مجزية عنه ، بدليل الإجماع المشار إليه ، والمستحق لها هو المستحق لزكاة الأموال ، وأقل ما يعطى منها الواحد ما يجب عن رأس واحد لمثل ما قدمناه.

الفصل السابع

وأما المسنون من الزكاة ففي أموال التجارة إذا طلبت برأس المال أو الربح ، وفي كل ما يخرج من الأرض مما يكال ويوزن ، سوى ما قدمناه ، فإن الزكاة واجبة فيه ، وفي الحلي والسبائك من الذهب والفضة ، إذا لم يفر بذلك من الزكاة ، والمال الغائب الذي لا يتمكن مالكه من التصرف فيه ، إذا قدر على ذلك ، وقد مضى عليه حول أو أحوال ، والمال الصامت لمن ليس بكامل العقل ، إذا اتجر به الولي نظرا لهم.

وفي الإناث من الخيل في كل رأس من العتاق ديناران ، ومن البراذين دينار واحد ، وشرائط الاستحباب مثل شرائط الوجوب ، ويسقط في الخيل اعتبار النصاب ، والمقدار المستحب إخراجه ، مثل المقدار الواجب ، إلا في الخيل على ما بيناه ، ويستحب إخراج الفطرة لمن لا يملك النصاب ، وذلك كله بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الثامن

واعلم أن مما يجب في الأموال الخمس ، والذي يجب فيه الغنائم الحربية ، والكنوز ، ومعادن الذهب والفضة ، بلا خلاف ، ومعدن الصفر ، والنحاس ،

__________________

(١) جامع الأصول : ٤ ـ ٦٤٤ برقم ٢٧٣٢ وسنن أبي داود : ٢ ـ ١١١ برقم ١٦٠٩.

١٢٨

والحديد ، والرصاص ، والزئبق ، على خلاف في ذلك ، والكحل والزرنيخ والقير والنفط والكبريت والموميا والزبرجد والياقوت والفيروزج والبلخش (١) والعنبر والعقيق ، والمستخرج بالغوص ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وطريقة الاحتياط ، واليقين ببراءة الذمة ، وظاهر قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) (٢).

وهذه الأشياء إذا أخذها الإنسان كانت غنيمة ، وقد روي من طرق المخالف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : في الركاز الخمس ، فقيل : يا رسول الله وما الركاز؟ فقال : الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها. (٣) وهذه صفة المعادن.

ويجب الخمس أيضا في الفاضل عن مؤنة الحول على الاقتصاد من كل مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أي وجه كان ، بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط ، وفي المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه ، وفي الأرض التي يبتاعها الذمي من مسلم ، بدليل الإجماع المتردد ، ووقت وجوب الخمس حين الاستفادة لما يجب فيه.

ويعتبر في الكنوز بلوغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة ، وفي المأخوذ بالغوص بلوغ قيمة دينار فصاعدا ، بدليل الإجماع المتكرر ، والكنز يجب فيه الخمس ، ويكون الباقي لمن وجده ، إذا وجد في دار الحرب على كل حال ، وكذا إن وجد في دار الإسلام في المباح من الأرض ، وفيما لا يعرف له مالك من الديار الدارسة ، فإن وجد في ملك مسلم أو ذمي وجب تعريفه منه ، فإن عرفه أخذه ، وإن لم يعرفه وكان عليه سكة الإسلام ، فهو بمنزلة اللقطة ، وإن لم يكن كذلك ، كان بعد إخراج

__________________

(١) البلخش معرب بلخچ ، وهو الزاج الأسود.

(٢) الأنفال : ٤١.

(٣) سنن البيهقي : ٤ ـ ١٥٢ كتاب الزكاة ، باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس.

١٢٩

الخمس لمن وجده ، بدليل الإجماع المشار إليه.

والخمس يقسم على ستة أسهم : ثلاثة منها للإمام القائم بعد النبي عليه‌السلام مقامه ، وهي (١) سهم الله وسهم رسوله وسهم ذي القربى وهو الإمام ، وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل ، ممن ينتسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعفر وعقيل والعباس رضي‌الله‌عنهم ، لكل صنف منهم سهم يقسمه الإمام بينهم على قدر كفايتهم للسنة على الاقتصاد ، ولا بد فيهم من اعتبار الإيمان أو حكمه ، وذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

وليس لأحد أن يقول إن ذلك مخالف لظاهر قوله تعالى (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢). لأنا نخص ذلك بالدليل ، وهذه الآية مخصوصة بلا خلاف ، لأن ذي القربى مخصوص بقربى النبي عليه‌السلام ، واليتامى والمساكين وابن السبيل مخصوص بمن له صفة مخصوصة من الإسلام وغيره ، على أن ظاهر قوله تعالى (وَلِذِي الْقُرْبى) معنا (٣) لأنه لفظ توحيد ولو أراد الجمع لقال : ولذوي القربى.

__________________

(١) كذا في الأصل ولكن في «ج» و «س» : وهو.

(٢) الأنفال : ٤١.

(٣) في «س» : «معينا» وهو تصحيف والصحيح ما في المتن.

١٣٠

كتاب الصيام

يحتاج في الصوم إلى العلم بأقسامه وشروطه وما يفسده وما يتعلق بذلك من الأحكام.

أما أقسامه فعلى ضرب ثلاثة : واجب ومندوب ومحظور ، والواجب على ضربين : أحدهما يجب مطلقا من غير سبب ، والثاني يجب عند السبب ، فالأول صوم شهر رمضان ، وشروطه على ضربين : أحدهما يشترك فيه الوجوب وصحة الأداء ، والثاني يختص صحة الأداء ، فالأول : البلوغ وكمال العقل والسلامة من المرض والكبر والسفر ودخول الوقت ، والثاني : الإسلام والنية والطهارة من الجنابة ، على تفصيل نذكره ، ومن الحيض والاستحاضة المخصوصة والنفاس.

وعلامة دخوله ـ أعني الشهر ـ رؤية الهلال ، وبها يعلم انقضاؤه ، بدليل الإجماع من الأمة بأسرها من الشيعة وغيرها على ذلك ، وعملهم به من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما بعده إلى أن حدث خلاف قوم من أصحابنا فاعتبروا العدد دون الرؤية ، وتركوا ظواهر القرآن والمتواتر من روايات أصحابنا ، وعدلوا إلى ما لا يجوز (١) الاعتماد عليه من أخبار آحاد شاذة ، ومن الجدول الذي وضعه عبد الله

__________________

(١) كذا في الأصل ولكن في «ج» و «س» : وعولوا على ما لا يجوز.

١٣١

بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (١) ، ونسبه إلى الصادق عليه‌السلام ، والخلاف الحادث لا يؤثر في دلالة الإجماع السابق.

وكما لا يؤثر حدوث خلاف الخوارج في رجم الزاني المحصن في دلالة الإجماع على ذلك ، فكذلك حدوث خلاف هؤلاء ، وهذا عبد الله بن معاوية مقدوح في عدالته بما هو مشهور ، من سوء طريقته ، مطعون في جدوله بما تضمنه من قبيح مناقضته ، ولو سلم من ذلك كله لكان واحدا لا يجوز في الشرع العمل بروايته.

ويدل أيضا على أصل المسألة قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ) (٢) وهذا نص صريح بأن الأهلة هي الدلالة على أوائل الشهور ، وأيضا قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (٣) وهذا أيضا نص ظاهر على أن العلم بعدد السنين والحساب مستفاد من زيادة القمر ونقصانه.

ويعارض المخالف بما روى من قوله عليه‌السلام : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين (٤) ، وقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيّاماً مَعْدُوداتٍ) (٥) ، لا يدل على ما ظنه المخالف على صحة مذهبه في العمل بالعدد دون الرؤية ، ولا على أن رمضان

__________________

(١) هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ، قدم الكوفة وتزوج بالكوفة بنت الشرقي بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعي الرياحي ، وقتله أبو مسلم ، لاحظ الأغاني : ١٢ ـ ٢١٥ ـ ٢٣٨.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) يونس : ٥.

(٤) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٦٠ برقم ١٥ و ٢٠.

(٥) البقرة : ١٨٣ و ١٨٤.

١٣٢

لا يكون إلا ثلاثين يوما على ما يزعمه ، لأنه يفيد أن أيام الصيام معدودة ، وهذا لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف فيما به يعلم أول هذا المعدود وآخره.

وليس في الآية ما يدل عليه ، على أن المراد بقوله تعالى (مَعْدُوداتٍ) أنها قليلات ، كما قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (١) وقال حكاية عن الكفار (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً) (٢) ، والفائدة في ذلك التسهيل لفرض الصيام ، وأنه سبحانه (٣) لم يكلف العباد ما لا يطيقون ، وإذا كان ذلك هو المراد لم يكن لهم فيها دلالة على أنه لا يمتنع أن يكون للمعدود حدان ، لا يتجاوز أكثرهما ولا ينقص عن أقلهما ، كما نقول في أيام الحيض : أنها معدودة محصورة ، وإن كان لأكثرها حد لا يزيد عليه وهو عشرة أيام ، ولأقلها حد لا ينقص عنه وهو ثلاثة أيام ، فكذلك أيام شهر رمضان لا يمتنع أن يسمى معدودة ، ولها حدان أعلاهما ثلاثون وأدناهما تسعة وعشرون.

على أن أهل التفسير قد قالوا : إن المراد بهذه الأيام عشر المحرم ، وأنه تعالى كان كتب صيامها وجعل على من أفطر مع القدرة على الصوم فدية من طعام ، ثم نسخ ذلك بما فرضه عقيبه بلا فصل من صوم شهر رمضان (٤) ، وإذا كانت الآية منسوخة بطل التعلق بها على كل حال.

وقوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٥) لا يدل على وجوب إكمال رمضان ثلاثين يوما على ما ظنوه ، لأن الله سبحانه محال أن يتعبد المكلفين بفعل الأيام وإكمالها ، وإنما تعبدهم بإكمال العمل فيها ، وذلك بأن يصام إلى آخرها ، سواء كانت ثلاثين ، أو تسعة وعشرين ، كما أن إكمال العدة للمعتدة بالشهور إذا طلقها أو مات عنها زوجها إنما هو باستيفاء أيام الشهور ، سواء كان كل واحد منها ثلاثين أو تسعة وعشرين ، وقد قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ

__________________

(١) يوسف : ٢٠.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) في «ج» : إذ انه سبحانه.

(٤) لاحظ مجمع البيان : ٢ ـ ٢٧٣.

(٥) البقرة : ١٨٥.

١٣٣

كامِلَيْنِ) (١) ، فأطلق عليهما اسم الكمال ، مع جواز أن يزيد أحدهما على الآخر يوما واحدا عند المخالف ، لأنه يقول : إن ذي الحجة يكون ثلاثين يوما إذا كانت السنة كبيسة.

فدل ذلك على أن المراد بالكمال ، الاستيفاء في العمل لا الزيادة في العدد ، على أن سياق الكلام في الآية يدل على أن المراد كمال العدد في قضاء الفائت كائنا ما كان ، لأنه تعالى قال (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٢) ، ويكون المراد بقوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، الأمر بتعظيمه وما يجب من شكره ، وذلك يكون بألفاظ كثيرة يجوز أن يعبر عند الأمر به (٣) بأحدها ، وإن لم يكن المقصود ذلك الواحد بعينه.

وإذا رأى الهلال قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة ، بدليل الإجماع المتردد ، لأن من خالف من أصحابنا في ذلك (٤) لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع ، ويعارض المخالف من غيرهم بما روى من قوله عليه‌السلام : إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا (٥) ، وهذا يدل على أن الصوم بعد الرؤية لا قبلها ، وكذا قوله عليه‌السلام : صوموا لرؤيته (٦) ، فظاهر الاستعمال يدل على أن الصوم بعد الرؤية. كما دل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) (٧) على أن الصلاة بعد الدلوك.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

(٢) البقرة : ١٨٤ و ١٨٥.

(٣) في «س» : عند الأمر بها.

(٤) السيد المرتضى : الناصريات ، المسألة ١٢٦.

(٥) سنن البيهقي : ٤ ـ ٢٠٦ و ٢٠٧ ومسند أحمد بن حنبل : ٢ ـ ٢٥٩ و ٣ ـ ٣٢٩.

(٦) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٦٧ و ١٦٠ وسنن البيهقي : ٤ ـ ٢٤٧.

(٧) الإسراء : ٧٨.

١٣٤

ويقوم مقام رؤية الهلال شهادة عدلين مع وجود العوارض من غيم أو غيره ، ومع انتفائها شهادة خمسين ، فإن فقد الأمران وجب تكميل عدة شعبان ثلاثين يوما ، ثم الصوم بنية الفرض ، بدليل الإجماع المتكرر ، ويعارض المخالف في شهادة الواحد بما روى من طرقهم من قوله عليه‌السلام : فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا ، رواه الدار قطني (١) ولا تقبل في ذلك شهادة النساء ، بدليل الإجماع المشار إليه.

ويستحب صوم يوم الشك بنية أنه من شعبان ، بدليل الإجماع المتردد وطريقة الاحتياط ، لأنه إن كان من رمضان أجزأ عندنا عن الفرض ، وإن كان من شعبان أحرز الأجر به ، وأيضا قوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) ، ولا يخرج من ذلك إلا ما أخرجه دليل قاطع ، وأيضا قوله عليه‌السلام : الصوم جنة من النار (٣) ، ولم يفرق ، وأيضا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان (٤). وأيضا فإنه يوم في الحكم من شعبان بدليل قوله عليه‌السلام : فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين (٥) ، فجاز صومه بهذه النية.

وما رواه المخالف من النهي عن صوم يوم الشك أخبار آحاد (٦) ثم إنا نحمل ذلك على النهي عن صومه بنية أنه من رمضان ، أو من غير نية أصلا ، كما حمله مالك والشافعي (٧) على النهي عن صومه منفردا مما قبله ، أو لمن لم يوافق عادة

__________________

(١) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٦٨ برقم ٣ باب الشهادة على رؤية الهلال.

(٢) البقرة : ١٨٤.

(٣) جامع الأصول : ٩ ـ ٤٥٥ ومسند أحمد بن حنبل : ٢ ـ ٤١٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٢ ـ ٨٠ برقم ١ باب صوم يوم الشك ، والأم للشافعي : ٢ ـ ٩٤ كتاب الصيام.

(٥) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٦٠ برقم ٢٠ وسنن البيهقي : ٤ ـ ٢٠٥.

(٦) سنن البيهقي : ٤ ـ ٢٠٧ باب النهي عن استقبال. والنهي عن صوم يوم الشك.

(٧) لاحظ الأم للشافعي : ٢ ـ ٩٥ كتاب الصوم ، والمغني لابن قدامة : ٣ ـ ٥ كتاب الصيام ، والذخيرة تأليف القرافي : ٢ ـ ٥٠٢.

١٣٥

له أو نذرا ، وحمله أبو حنيفة على ما إذا لم ينو به التطوع ، وحمله أحمد على ما إذا كان صحوا. (١)

ونية الصوم يجب أن تتعلق بكراهة المفطرات التي نذكرها من حيث كانت إرادة ، والإرادة لا تتعلق إلا بحدوث الفعل ، ولا تتعلق بأن لا يفعل الشي‌ء على ما دل عليه في غير موضع ، وكان المرجع بالإمساك عن المفطرات إلى أن لا يفعل ، فلا بد من فعل تتعلق النية به ، وليس إلا الكراهة على ما قلناه.

ووقت النية من أول الليل إلى طلوع الفجر ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وإنما سقط وجوب المقارنة ها هنا رفعا للحرج ، ويجوز لمن فاتته ليلا تجديدها إلى قبل الزوال ، بدليل الإجماع المتردد وقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) ، ولم يذكر مقارنة النية.

ويعارض المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى أهل السواد في يوم عاشوراء فقال : من لم يأكل فليصم ومن أكل فليمسك بقية يومه ، وكان صوم عاشوراء واجبا (٣) وما يرويه المخالف من قوله عليه‌السلام : لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل (٤) خبر واحد ، ويعارضه ما قدمناه ، ويجوز حمله على نفي الفضيلة والكمال ، لقوله عليه‌السلام : ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (٥) ولا صدقة وذو رحم محتاج. (٦)

__________________

(١) لاحظ الأم للشافعي : ٢ ـ ٩٥ كتاب الصوم ، والمغني لابن قدامة : ٣ ـ ٥ كتاب الصيام ، والذخيرة تأليف القرافي : ٢ ـ ٥٠٢.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) جامع الأصول : ٦ ـ ٣١٠ وسنن البيهقي : ٤ ـ ٢٨٨.

(٤) جامع الأصول : ٦ ـ ٢٨٥ ، وفيه : التبييت : أن ينوي الصيام من الليل. وسنن الدار قطني : ٢ ـ ١٧٢ برقم ١ ولفظ الحديث : «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له».

(٥) سنن البيهقي : ٣ ـ ٥٧ و ١١١ و ١٧٤ وكنز العمال : ٧ ـ ٦٥٠ برقم ٢٠٧٣٧.

(٦) وسائل الشيعة : ٦ ـ ٢٦٤ و ٢٦٧ و ٢٨٦ كتاب الزكاة ومستدرك الوسائل : ٧ ـ ١٩٦.

١٣٦

فأما الصوم النفل فيجوز النية له إلى بعد الزوال (١) بدليل ما قدمناه من الإجماع المتكرر ، وأيضا قوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) ، لأنه يتناول ما قبل الزوال وبعده ، وليس لأحد من المخالفين أن يقول : كيف تؤثر النية المتأخرة فيما مضى من النهار خاليا منها؟ لأن ما مضى يلحق في الحكم بما يأتي ، كما يقوله الأكثر منهم فيمن نوى (٣) التطوع قبل الزوال ، وليس لهم أن يقولوا : قبل الزوال مضي أقل العبادة وليس كذلك بعد الزوال ، لأن النية إذا أثرت فيما مضى خاليا منها حكما فلا فرق بين الأكثر والأقل.

وقد أجاز أبو حنيفة والشافعي وغيرهما أن يصير لصلاة المفرد حكم الجماعة بالنية المستأنفة ، ولم يفرقوا (٤) بين مضي الأكثر منها والأقل ، فما أنكروا من مثل ذلك ها هنا ، ولا يلزم جواز النية في آخر جزء من اليوم ، لأنها يجب أن تكون بحيث يصح وقوع الصوم بعدها ، وهذا لا يتأتى في آخر جزء.

ونية القربة تجزئ في صوم رمضان ، ولا يفتقر إلى نية التعيين بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٥) فأمر بالإمساك فيه ، ومن أمسك مع نية القربة ممتثل للمأمور به فيجب أن تجزئه ، وأيضا فنية التعيين يفتقر إليها في زمان الصوم الذي يصح أن يقع الصوم فيه على وجهين ، كالصوم الواجب في الذمة مثل صوم القضاء والنذر وغير متعين بيوم مخصوص وغير ذلك من أنواع الصوم الواجب ، وكصوم النفل.

فأما شهر رمضان فلا يصح أن يقع الصوم فيه إلا عن الشهر ، حتى أنه لو

__________________

(١) كذا في الأصل ولكن في «س» : إلى ما بعد الزوال.

(٢) البقرة : ١٨٤.

(٣) في «ج» و «س» : فيمن ينوي.

(٤) في «ج» : ولم يفرقا.

(٥) البقرة : ١٨٥.

١٣٧

نوى صوم آخر من قضاء أو نفل لم يقع إلا عن رمضان ، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى نية التعيين فيه.

ونية واحدة في أول شهر رمضان تكفي لجميعه ، وتجديدها لكل يوم أفضل ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن حرمة الشهر حرمة واحدة ، فأثرت في جميعه النية الواقعة في ابتدائه ، كما أثرت في جميع اليوم إذا وقعت في ابتدائه.

وما يفسد الصوم فيه على ضربين :

أحدهما : يوجب مع القضاء الكفارة.

والثاني : لا يوجبها ، فالأول ما يصل إلى جوف الصائم ، مع ذكره للصوم عن عمد منه واختيار ، سواء كان بأكل ، أو شرب ، أو شم ، أو ازدراد لما لا يؤكل في العادة ، أو حقنة في مرض لا يلجأ إليها (١) ، وأن يحصل جنبا في نهار الصوم ، مع الشرط الذي ذكرناه ، سواء كان ذلك بجماع أو غيره ، وسواء كان مبتدئا بذلك فيه ، أو مستمرا عليه من الليل ، ويجري مجرى ذلك إدراك الفجر له جنبا بعد الانتباه مرتين ، وترك الغسل من غير ضرورة ، وتعمده الكذب على الله تعالى ، أو على رسوله ، أو أحد الأئمة عليهم‌السلام ، وتعمده الارتماس في الماء إن كان رجلا ، وإن كان امرأة فجلوسها فيه إلى وسطها ، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة.

ويعارض المخالف في الكفارة في غير الجماع بما روى من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر (٢) ولم يفصل ، وبما روى من أن رجلا قال : يا رسول الله إني أفطرت في رمضان ، فقال عليه‌السلام : أعتق رقبة (٣)

__________________

(١) في «ج» و «س» : ولا يلجأ إليها.

(٢) سنن الدار قطني : ٢ ـ ١٩٠ برقم ٥٢ مع اختلاف في اللفظ.

(٣) سنن الدار قطني : ٢ ـ ٢٠٨ برقم ٢٢ وموطإ مالك : ١ ـ ٢٠١ باب كفارة من أفطر.

١٣٨

والسؤال يصير مضمرا في الجواب ، فكأنه قال : أعتق رقبة لأنك أفطرت ، ولم يفصل.

ويعارض المخالف في الفطر في البقاء على الجنابة بما روى عن أبي هريرة من قوله : من أصبح جنبا فلا صوم له ، ما أنا قلته ، قاله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورب الكعبة (١) ، وحملهم ذلك على من أصبح مجامعا ترك لظاهرة ، وقولهم : حكم الجنابة لا ينافي الصوم ، بدلالة ما إذا احتلم نهارا ، غير لازم ، لأنا لم نبطل الصوم للمنافاة ، بل لاعتماد الجنابة في النهار.

والكفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، مخير في ذلك ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، ويعارض المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر من أفطر في شهر رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا (٢). ولفظة «أو» للتخيير ، وحملها على معنى الواو في الخبر ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل للمخالف على ذلك.

والضرب الثاني الذي يوجب القضاء وحده ، إدراك الفجر لمن نام جنبا بعد الانتباه مرة واحدة ، والحقنة والسعوط (٣) في المرض المحوج إليهما (٤). وتعمد القي‌ء ، وبلع ما يحصل في الفم والحلق منه إذا ذرعه (٥) ، ووصول الماء إلى الجوف بالمضمضة والاستنشاق للتبرد ، بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط ، وتناول ما يفطر مع الشك في دخول الليل ولم يكن داخلا ، أو طلوع الفجر وكان

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٢ ـ ٢٨٤ و ٢٨٦ وسنن ابن ماجة : ١ ـ ٥٤٣ برقم ١٧٠٢ مع تقديم وتأخير في اللفظ.

(٢) موطإ مالك : ١ ـ ٢٠١ وسنن الدار قطني : ٢ ـ ٢٠٨ برقم ٢٢ وجامع الأصول : ٦ ـ ٤٢٣.

(٣) السعوط ـ على وزن رسول ـ : دواء يصب في الأنف. المصباح المنير.

(٤) في «س» : في المرض من المحوج إليهما.

(٥) ذرعه القي‌ء : إذا غلبه وسبق إلى فيه. لسان العرب.

١٣٩

طالعا ، أو لإخبار الغير بأنه لم يطلع ، بدليل الإجماع الماضي ذكره وطريقة الاحتياط ، وأيضا قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) ، وقوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (٢) ، وهذا لم يصم إلى الليل وأفطر ولم يتبين له الفجر ، فوجب عليه القضاء ، وهذا حكم من أقدم على الإفطار من غير رصد للفجر ومن لم يترك تناول ما يفطر مع إخبار الغير له بطلوعه.

ويوجب القضاء السفر الذي بيناه أنه يوجب قصر الصلاة ، والمرض الذي لا يستطاع معه الصوم ، أو يستطاع بمشقة تظهر بها الزيادة في المرض ، بدليل الإجماع المشار إليه وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (٣) ، لأنه سبحانه علق القضاء بنفس المرض والسفر ، ومن أضمر في الآية فأفطر يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.

الفصل الأول

واعلم أن الشاب الذي به عطاش لا يرجى زواله يفطر ويكفر عن كل يوم بإطعام مدين أو مد من طعام ، وهذا حكم الشيخ الكبير إذا أطاق الصوم بمشقة تدخل عليه الضرر العظيم ، فأما إذا لم يطقه أصلا ، فلا خلاف في أنه لا صوم ولا كفارة عليه ، والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما ، أفطرتا وكفرتا عن كل يوم بما ذكرناه ، وعليهما القضاء.

ويوجبه على النساء بلا خلاف خروج دم الحيض والنفاس ، ولا حكم لشي‌ء مما ذكرنا أنه يفطر مع النسيان للصوم ، أو الاضطرار إلا ما يضطر إليه ، من المرض والحيض والنفاس بلا خلاف.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) البقرة : ١٨٤.

١٤٠