غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع

المؤلف:

السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي [ ابن زهرة ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

المشار إليه.

وليس من شرط صحته أيضا رضا المضمون عنه ، ولا معرفته ومعرفة المضمون له ، لأنه لا دليل على ذلك.

ويحتج على المخالف بما رووه من أن عليا عليه‌السلام وأبا قتادة (١) لما ضمنا الدين عن الميت أجازه النبي عليه‌السلام ولم يحصل رضاه لموته ، ولا سألهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معرفته ولا معرفة صاحب الدين (٢) ، فدل على أن ذلك ليس من شرط صحة الضمان. (٣)

وإذا صح الضمان انتقل الحق إلى ذمة الضامن ، وبري‌ء المضمون عنه منه ومن المطالبة به ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي لما ضمن الدرهمين عن الميت : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك (٤) ، وقوله لأبي قتادة لما ضمن الدينارين : هما عليك والميت منهما بري‌ء؟ قال : نعم (٥) فدل أن المضمون عنه يبرأ من الدين بالضمان.

ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بما ضمنه إذا ضمن بغير إذنه ، فإن كان أذن له في الضمان رجع عليه ، بدليل الإجماع المشار إليه ، سواء أذن في الأداء أو لم يأذن ، لأنا قد بينا أن الحق انتقل إلى ذمته ، فلا حاجة إلى استئذانه في القضاء.

ويحتج على المخالف في المسألة الأولى بخبر علي عليه‌السلام وأبي قتادة ، لأن

__________________

(١) أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلدمة وقيل اسمه النعمان مات سنة ٥٤ ه‍ ـ لاحظ أسد الغابة : ٥ ـ ٢٧٤.

(٢) سنن الدار قطني : ٣ ـ ٧٨ و ٧٩ برقم ٢٩١ و ٢٩٣ وسنن أبي داود : ٣ ـ ٢٤٧ برقم ٣٣٤٣ وسنن النسائي : ٤ ـ ٦٥ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٢ و ٧٣ كتاب الضمان والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٧ ومستدرك الوسائل : ١٣ ـ ٤٣٥ كتاب الضمان ، الباب ٢ ، ح ١ والباب ٣ ، ح ٤ و ٣.

(٣) في «ج» و «س» : صحته الضمان.

(٤ و ٥) سنن الدار قطني : ٣ ـ ٧٨ و ٧٩ برقم ٢٩١ و ٢٩٣ وسنن أبي داود : ٣ ـ ٢٤٧ وسنن النسائي : ٤ ـ ٦٥ ومستدرك الوسائل : ١٣ ـ ٤٣٥ كتاب الضمان وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٣ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٧.

٢٦١

ضمانهما لما كان بغير إذن لم يكن لهما الرجوع على المضمون عنه ، لأن ذلك لو كان لهما لم يكن في الضمان فائدة ، ولكان الدين باقيا على الميت كما كان.

ويصح ضمان الدين عن الميت المفلس ، لأنه لا مانع من ذلك ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاز الضمان مطلقا في الخبر المتقدم ، ولم يستفهم عن حال الميت.

وإذا تكفل ببدن إنسان ، وضمن إحضاره بشرط البقاء ، صح بلا خلاف ، إلا ما رواه المروزي (١) من قول آخر للشافعي (٢) ، وإذا طولب بإحضاره ، وهو حي ، فلم يحضره ، لزمه أداء ما يثبت عليه في قول من أجاز كفالة الأبدان ، وإن مات قبل ذلك بطلت الكفالة ، ولم يلزمه أداء شي‌ء مما كان عليه ، بلا خلاف بين من أجاز هذه الكفالة إلا من مالك (٣) وابن سريج (٤).

ويدل على ذلك إجماع الطائفة ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، وأيضا فهذه الكفالة إنما كانت ببدنه لا بما في ذمته ، ولا يجب عليه ما لم يتكفله ، ولو قال : إن لم آت به في وقت كذا فعلي ما يثبت عليه ، لزمه ذلك إذا لم يحضره ـ حيا كان أو ميتا ـ بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأنه قد تكفل بما في ذمته ، فيلزمه أداؤه.

__________________

(١) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر أبو يعقوب الحنظلي المعروف بابن راهويه المروزي ، روى عن ابن عيينة وابن علية وجرير وحفص ابن غياث وغيرهم ، وروى عنه جماعة مات سنة ٢٣٨ ه‍ ـ لاحظ تهذيب التهذيب : ١ ـ ٢١٦.

(٢) لاحظ المغني لابن قدامة : ٥ ـ ٩٥ وبداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٥.

(٣) لاحظ المغني لابن قدامة : ٥ ـ ١٠٥.

(٤) أحمد بن عمر بن سريج ، القاضي أبو العباس البغدادي ، فقيه الشافعية في عصره ، تفقه عند أبي القاسم الأنباطي وغيره ، مات سنة ٣٠٦ ه‍ ـ في بغداد ، طبقات الشافعية : ١ ـ ٩٠ برقم ٣٥ ، والأعلام للزركلي : ١ ـ ١٨٥.

٢٦٢

فصل في الشركة

ومن شرط صحة الشركة :

أن يكون في مالين متجانسين إذا خلطا اشتبه أحدهما بالآخر.

وأن يخلطا حتى يصيرا مالا واحدا.

وأن يحصل الإذن في التصرف في ذلك ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك كله ، وأيضا فلا خلاف في انعقاد الشركة بتكامل ما ذكرناه ، وليس على انعقادها مع عدمه أو اختلال بعضه دليل ، وهذه الشركة التي تسميها الفقهاء شركة العنان. (١)

وعلى ما قلناه لا يصح شركة المفاوضة وهي : أن يشتركا في كل ما لهما وعليهما ، وما لا هما متميزان ، ولا شركة الأبدان وهي : الاشتراك في أجرة العمل ، ولا شركة الوجوه وهي : أن يشتركا على أن يتصرف كل واحد منهما بجاهه لا برأس ماله (٢) ، على أن يكون ما يحصل من فائدة ، بينهما.

__________________

(١) قال في الحدائق : ٢١ ـ ١٦١ في بيان وجه هذه التسمية ما هذا نصه : فقيل : من عنان الدابة ، إما لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف واستحقاق الربح على قدر رأس المال ، كاستواء طرفي العنان. وإما لأن لكل واحد منهما أن يمنع الآخر من التصرف كما يشتهي ويريد ، كما يمنع العنان الدابة. وقيل : من «عن» إذا ظهر ، إما لأنه ظهر لكل واحد منهما مال صاحبه أو لأنها أظهر أنواع الشركة ولهذا أجمع على صحتها ، وقيل : من «العانة» وهي المعارضة لأن كل واحد منهما عارض بما أخرجه الآخر.

(٢) في الأصل و «س» : برأس مال.

٢٦٣

ويدل على فساد هذه الشركة أيضا أنه عليه‌السلام قد نهى عن الغرر (١) وهو حاصل فيها ، لأن كل واحد من الشريكين لا يعلم أيكسب الآخر شيئا أم لا ، ولا يعلم مقدار ما يكسبه ، ويدخل فيه شركة المفاوضة على أن يشاركه فيما يلزمه بعدوان وغضب وضمان ، وذلك غرر عظيم.

وإذا انعقدت الشركة اقتضت أن يكون لكل واحد من الشريكين من الربح بمقدار رأس ماله ، وعليه من الوضيعة بحسب ذلك ، فإن اشترطا تفاضلا في الربح ، أو الوضيعة مع التساوي في رأس المال ، أو تساويا في كل ذلك مع التفاضل في رأس المال ، لم يلزم الشرط ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وكذا إن جعل أحد الشريكين للآخر فضلا في الربح بإزاء عمله لم يلزم ذلك ، وكان للعامل أجر مثله ، ومن الربح بحسب رأس ماله ، ويصح كل من ذلك بالتراضي ، ويحل تناول الزيادة بالإباحة دون عقد الشركة ، ويجوز الرجوع بها لمبيحها مع بقاء عينها ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ولأن الأصل جواز ذلك ، والمنع يفتقر إلى دليل.

فإن قال المخالف : اشتراط الفضل في الوضيعة بمنزلة أن يقول : ما ضاع من مالك فهو علي ، وهذا فاسد ، قيل له : ما أنكرت أن يكون بمنزلة أن يقول : ما ضاع فهو من مالي ومالك إلا أني قد رضيت أن يكون من مالي خاصة ، وتبرعت لك بذلك؟ ـ وهذا لا مانع منه ، ويلزم أبا حنيفة على ذلك أن لا يجيز اشتراط التفاضل في الربح ، لأنه بمنزلة أن يقول : ما أستفيده في مالي فهو لك.

والتصرف في مال الشركة على حسب الشرط ، إن شرطا أن يكون لهما معا على الاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن ينفرد به ، وإن شرطا أن يكون تصرفهما على الاجتماع والانفراد ، فهو كذلك ، وإن اشترطا التصرف لأحدهما ، لم يجز للآخر إلا بإذنه ، وكذا

__________________

(١) الوارد في المصادر هو النهي عن بيع الغرر دون النهي عن مطلق الغرر سواء كان في البيع أم في غيره نعم نقل الشيخ في الخلاف ـ كتاب الضمان المسألة ١٣ وكتاب الشركة المسألة ٥ ـ انه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه نهى الغرر.

٢٦٤

القول في صفة التصرف في المال ، من السفر به ، والبيع بالنسيئة ، والتجارة في شي‌ء معين ، ومتى خالف أحدهما ما وقع عليه الشرط ، كان ضامنا.

والشركة عقد جائز من كلا الطرفين ، يجوز فسخه لكل واحد منهما متى شاء ، ولا يلزم شرط التأجيل فيها ، وتنفسخ بالموت.

والشريك المأذون له في التصرف مؤتمن على مال الشركة ، والقول قوله ، فإن ارتاب به شريكه حلف على قوله.

وإذا تقاسم الشريكان لم يقتسما الدين ، بل يكون الحاصل منه بينهما والمنكسر عليهما ، ولو اقتسماه فاستوفى أحدهما ولم يستوف الآخر ، لكان له أن يقاسم شريكه على ما استوفاه ، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

فإذا باع من له التصرف في الشركة ، وأقر على شريكه الآخر بقبض الثمن ـ مع دعوى المشتري ذلك وهو جاحد ـ لم يبرأ المشتري من شي‌ء منه ، أما ما يخص البائع فلأنه ما اعترف بتسليمه إليه ولا إلى من وكله على قبضه ، فلا يبرأ منه ، وأما ما يخص الذي لم يبع ، فلأنه منكر لقبضه ، وإقرار شريكه البائع عليه لا يقبل ، لأنه وكيله ، وإقرار الوكيل على الموكل بقبض الحق الذي وكله في استيفائه ، غير مقبول ، لأنه لا دليل على ذلك ، ولو أقر الذي لم يبع ، ولا أذن له في التصرف ، أن البائع قبض الثمن ، بري‌ء المشتري من نصيب المقر منه (١) بلا خلاف.

وتكره شركة المسلم للكافر بلا خلاف إلا من الحسن البصري ، فإنه قال : إن كان المسلم هو المنفرد في التصرف لم تكره. (٢)

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولكن في «ج» و «س» : من النصيب المقربة.

(٢) المغني لابن قدامة : ٥ ـ ١١٠ والمحلى : ٦ ـ ٤١٦ ـ المسألة ١٢٤٤.

٢٦٥

فصل في المضاربة

المضاربة والقراض عبارة عن معنى واحد ، وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليتجر به ، على أن ما رزق الله تعالى من ربح ، كان بينهما على ما يشترطانه.

ومن شرط صحة ذلك ، أن يكون رأس المال فيه ، دراهم أو دنانير معلومة مسلمة إلى العامل ، ولا يجوز القراض بالفلوس ولا بالورق المغشوش ، لأنه لا خلاف في جواز القراض مع حصول ما ذكرناه ، وليس على صحته إذا لم يحصل دليل.

وتصرف المضارب موقوف على إذن صاحب المال ، إن أذن له في السفر به ، أو في البيع نسيئة ، جاز له ذلك ، ولا ضمان عليه لما يهلك أو يحصل من خسران ، وإن لم يأذن له في البيع بالنسيئة ، أو في السفر ، أو أذن له فيه إلى بلد معين ، أو شرط أن لا يتجر إلا في شي‌ء معين ولا يعامل إلا إنسانا معينا ، فخالف لزمه الضمان ، بدليل إجماع الطائفة ، ويحتج على المخالف في صحة القراض مع هذه الشروط بقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (١) ، لأنه لم يفصل.

وإذا سافر بإذن رب المال ، كانت نفقة السفر من المأكول والمشروب والملبوس من غير إسراف من مال القراض ، ولا نفقة للمضارب منه في الحضر ،

__________________

(١) البحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ وبداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٦ وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون ... والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣.

٢٦٦

ومن أصحابنا من اختار القول بأنه لا نفقة له حضرا ولا سفرا ، قال : لأن المضارب دخل على أن يكون له من الربح سهم معلوم ، فليس له أكثر منه إلا بالشرط. (١)

وإذا اشترى العامل من يعتق على رب المال بإذنه ، صح الشراء وعتق عليه ، وانفسخ القراض إن كان الشراء بجميع المال ، لأنه خرج عن كونه مالا ، وإن كان ببعض المال انفسخ من القراض بقدر قيمة العبد ، وإن كان الشراء بغير إذنه وكان بعين المال ، فالشراء باطل ، لأنه اشترى ما يتلف ويخرج عن كونه مالا عقيب الشراء ، وإذا اشترى بثمن في الذمة ، صح الشراء ووقع الملك للعامل ، ولا يجوز له أن يدفع الثمن من مال القراض ، فإن فعل لزمه الضمان ، لأنه تعدى بدفع مال غيره في ثمن لزمه في ذمته.

وإذا اشترى المضارب من يعتق عليه قوم ، فإن زاد ثمنه على ما اشتراه ، انعتق منه بحساب نصيبه من الربح ، واستسعى في الباقي لرب المال ، وإن لم يزد ثمنه على ذلك ، أو نقص عنه ، فهو رق ، بدليل إجماع الطائفة.

والمضاربة عقد جائز من كلا الطرفين ، لكل واحد منهما فسخه متى شاء ، وإذا بدا لصاحب المال من ذلك بعد ما اشترى المضارب المتاع لم يكن له غيره ، ويكون للمضارب أجر مثله.

والمضارب مؤتمن لا ضمان عليه إلا بالتعدي ، فإن شرط عليه رب المال ضمانه ، صار الربح كله له دون رب المال ، ويكره أن يكون المضارب كافرا ، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

__________________

(١) الشيخ : المبسوط : ٣ ـ ١٧٢.

٢٦٧

فصل في الوكالة

لا تصح الوكالة إلا فيما يصح دخول النيابة فيه ، مع حصول الإيجاب والقبول ممن يملك عقدها بالإذن فيه ، أو بصحة التصرف منه فيما هي وكالة فيه بنفسه.

فلا تصح الوكالة في أداء الصلاة والصوم عن المكلف بأدائهما ، لأن ذلك مما لا يدخل النيابة فيه ، ولا يصح من محجور عليه أن يوكل فيما قد منع من التصرف فيه ، ولا تصح الوكالة من العبد ، وإن كان مأذونا له في التجارة ، لأن الإذن له في ذلك ليس بإذن في الوكالة ، وكذلك الوكيل لا يجوز له أن يوكل فيما جعل له التصرف فيه إلا بإذن موكله.

ولا يصح أن يتوكل المسلم على تزويج المشركة من الكافر ، ولا أن يتوكل الكافر على تزويج المسلمة من المسلم ، لأنهما لا يملكان ذلك لأنفسهما ، ولا يجوز للمسلم أن يوكل الكافر ، ولا يتوكل له على مسلم ، بدليل إجماع الطائفة.

وتصح وكالة الحاضر ، ويلزم الخصم مخاصمة الوكيل ، ولا يعتبر رضاه بالوكالة ، بدليل الإجماع المشار إليه ، ويحتج على المخالف بعموم الأخبار الواردة في جواز الوكالة ، لأن الأصل جواز ذلك ، ومن منع منه فعليه الدليل.

وتصرف الوكيل موقوف على ما يقع العقد عليه ، إن كان مطلقا عمت الوكالة كل شي‌ء إلا الإقرار بما يوجب حدا أو تأديبا ، فإن كان مشروطا بشي‌ء اختصت الوكالة به دون ما سواه ، ومتى فعل الوكيل ما لم يجعل له لم يصح ، ولزمه الدرك فيه.

ولو أقر الوكيل في الخصومة ـ دون الإقرار ـ بقبض موكله الحق الذي وكله

٢٦٨

في المخاصمة عليه ، لم يلزمه إقراره ، لأن الأصل براءة الذمة ، وعلى من ألزمه ذلك بإقرار الوكيل الدليل ، فإن أذن له في الإقرار عنه لزمه ما يقر به ، لأن الأصل جواز ذلك ، والمنع يفتقر إلى دليل ، وقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (١) ، يدل عليه.

والوكيل مؤتمن لا ضمان عليه إلا أن يتعدى.

ومطلق الوكالة بالبيع أن يبيع بثمن المثل من نقد البلد حالا ، فإن خالف لم يصح البيع ، لأنه لا خلاف في صحته مع حصول ما ذكرناه ، وليس على صحته إذا لم يحصل دليل ، وإذا اشترى الوكيل وقع الملك للموكل من غير أن يدخل في ملك الوكيل ، ولهذا لو وكله على شراء من يعتق عليه فاشتراه لم ينعتق.

والوكالة عقد جائز من كلا الطرفين ، يجوز لكل واحد منهما فسخه ، فإذا فسخه الوكيل وعزل نفسه انفسخ ـ سواء كان موكله حاضرا أو غائبا ـ ولم يجز له بعد ذلك التصرف فيما وكل فيه.

ومتى أراد الموكل فسخه وعزل الوكيل ، افتقر ذلك إلى إعلامه إن أمكن ، فإن لم يمكن فليشهد به ، وإذا فعل ذلك انعزل الوكيل ، ولم ينفذ بعده شي‌ء من تصرفه ، وإن اقتصر على عزله من غير إشهاد ، أو على الإشهاد من غير إعلام ـ وهو متمكن ـ لم ينعزل ، ونفذ تصرفه إلى أن يعلم.

فإن اختلفا في الإعلام ، فعلى الموكل البينة به ، فإن فقدت فعلى الوكيل اليمين أنه ما علم بعزله ، فإن حلف مضى ما فعله ، وإن نكل عن اليمين ، بطلت وكالته من وقت قيام البينة بعزله ، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

وتنفسخ الوكالة بموت الموكل ، أو عتقه للعبد الذي وكل في بيعه ، أو بيعه له قبل بيع الوكيل ، بلا خلاف.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ ـ ٢٩٦ والبحر الزخار : ٥ ـ ٧٦ باب الضمان وسنن البيهقي : ٦ ـ ٧٩ و ٧ ـ ٢٤٩ وكنز العمال : ٤ ـ ٣٦٣ برقم ١٠٩١٨ و ١٠٩١٩ ولفظ الحديث في بعض المصادر : المسلمون ... والتهذيب : ٧ ـ ٣٧١ برقم ١٥٠٣ كما في المتن.

٢٦٩

فصل في الإقرار

لا يصح الإقرار على كل حال إلا من مكلف غير محجور عليه لسفه أو رق ، فلو أقر المحجور عليه للسفه بما يوجب حقا في ماله ، لم يصح ، ويقبل إقراره فيما يوجب حقا على بدنه ، كالقصاص والقطع والجلد.

ولا يقبل إقرار العبد على مولاه بما يوجب حقا في ماله ، من قرض أو أرش جناية ، بل يلزمه ذلك في ذمته ، يطالب به إذا عتق إلا أن يكون مأذونا له في التجارة ، فيقبل فيما يتعلق بها خاصة ، نحو أن يقر بثمن مبيع ، أو أرش عيب أو ما أشبه ذلك ، ولا يقبل إقراره بما يوجب حقا على بدنه ، بدليل إجماع الطائفة ، ولأن في ذلك إتلافا لمال الغير وهو السيد ، وذلك لا يجوز ، ومتى صدقه السيد قبل إقراره في كل ذلك بلا خلاف.

ويصح إقرار المحجور عليه لفلس ، وإقرار المريض للوارث وغيره ، بدليل الإجماع المشار إليه ، وأيضا قوله تعالى (كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (١) ، والشهادة على النفس هي الإقرار ولم يفصل ، وعلى من ادعى التخصيص الدليل.

ويصح إقرار المبهم مثل أن يقول : لفلان علي شي‌ء ، ولا تصح الدعوى المبهمة ، لأنا إذا رددنا الدعوى المبهمة ، كان للمدعي ما يدعوه إلى تصحيحها وليس كذلك الإقرار ، لأنا إذا رددناه لا نأمن أن لا يقر ثانيا.

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

٢٧٠

والمرجع في تفسير المبهم إلى المقر ، ويقبل تفسيره بأقل ما يتمول في العادة ، وإن لم يفسره ، جعلناه ناكلا ، ورددنا اليمين على المقر له ، فيحلف على ما يقول ويأخذه ، فإن لم يحلف فلا حق له.

وإذا قال : له علي مال عظيم ، أو جليل ، أو نفيس ، أو خطير ، لم يقدر ذلك بشي‌ء ، ويرجع في تفسيره إلى المقر ، ويقبل تفسيره بالقليل والكثير ، لأنه لا دليل على مقدار معين ، والأصل براءة الذمة ، وما يفسر به مقطوع عليه ، فوجب الرجوع إليه.

ويحتمل أن يكون أراد به عظيم عند الله تعالى من جهة المظلمة ، وأنه نفيس جليل عند الضرورة إليه ، وإن كان قليل المقدار ، وإذا احتمل ذلك وجب أن يرجع إليه في تفسيره ، لأن الأصل براءة الذمة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (١) ولأنه يقتضي إلا يؤخذ منه أكثر مما يفسر به.

وإذا قال : له علي مال كثير ، كان إقرارا بثمانين ، بدليل إجماع الطائفة ، وروي في تفسير قوله تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (٢) ، أنها كانت ثمانين موطنا. (٣)

وإذا قال : له علي ألف ودرهم ، لزمه درهم ، ويرجع في تفسير الألف إليه ، لأنها مبهمة ، والأصل براءة الذمة ، وقوله «ودرهم» زيادة معطوفة على الألف ، و

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٠٠ و ٨ ـ ١٨٢ وسنن الدار قطني : ٣ ـ ٢٦ وكنز العمال : ١ ـ ٩٢ برقم ٣٩٧ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٧٢ و ١١٣.

(٢) التوبة : ٢٥.

(٣) تفسير العياشي : ٢ ـ ٨٢ ح ٣٧ والكافي : ٧ ـ ٤٦٣ ح ٢١ ، وسائل الشيعة : ١٦ ب ٣ من أبواب النذر والعهد ح ١ و ٤ وتفسير التبيان : ٥ ـ ١٩٧ ومجمع البيان : ٥ ـ ١٧ في ذيل الآية : ٢٥ من سورة التوبة.

٢٧١

ليست بتفسير لها ، لأن المفسر لا يكون بواو العطف ، وكذا الحكم لو قال : ألف ودرهمان ، فأما إذا قال : وثلاثة دراهم ، أو ألف وخمسون درهما ، أو خمسون وألف درهم ، أو ما أشبه ذلك ، فالظاهر أن الكل دراهم ، لأن ما بعده تفسير.

وإذا قال : له علي عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة ، فإن قال : إلا درهم ، بالرفع ، كان إقرارا بعشرة ، لأن المعنى غير درهم ، وإن قال : ما له علي عشرة إلا درهما ، لم يكن مقرا بشي‌ء ، لأن المعنى ما له علي تسعة ، ولو قال : ما له علي عشرة إلا درهم ، كان إقرارا بدرهم ، لأن رفعه بالبدل من العشرة ، فكأنه قال : ما له علي إلا درهم.

فإذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما ، كان إقرارا بثمانية ، لأن المراد إلا ثلاثة لا يجب إلا درهما من الثلاثة يجب ، لأن الاستثناء من الإيجاب نفي ، ومن النفي إيجاب ، واستثناء الدرهم يرجع إلى ما يليه فقط ، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدم ، لسقوط الفائدة ، على ما بيناه في أصول الفقه ، وإذا كان الاستثناء الثاني معطوفا على الأول ، كانا جميعا راجعين إلى الجملة الأولى ، فلو قال : علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهما ، كان إقرارا بستة.

وإذا استثنى بما لا يبقى معه من المستثنى منه شي‌ء كان باطلا ، لأنه يكون بمنزلة الرجوع عن الإقرار فلا يقبل ، وإن استثنى بمجهول القيمة (١) كقوله : علي عشرة إلا ثوبا ، فإن فسر قيمته بما يبقى معه من العشرة شي‌ء ، وإلا كان باطلا.

ويجوز استثناء الأكثر من الأقل بلا خلاف إلا من ابن درستويه النحوي (٢)

__________________

(١) في «ج» و «س» : مجهول القيمة.

(٢) أبو محمد ، عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي ، كان عالما فاضلا ، أخذ الأدب عن ابن قتيبة والمبرد ببغداد ، وأخذ من الدار قطني وغيره ، وله تصانيف عديدة ، مات ببغداد سنة ٣٤٧ ه‍ ـ لاحظ الكنى والألقاب : ١ ـ ٢٧٩ وميزان الاعتدال : ٢ ـ ٤٠٠ برقم ٤٢٤٦.

٢٧٢

وابن حنبل (١) ويدل على صحته قوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٢) وقال حكاية عن إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) ، فاستثنى من عباده «الغاوين» مرة ، و «المخلصين» أخرى ، ولا بد أن يكون أحد الفريقين أكثر من الآخر.

وإذا قال : علي كذا درهم ، بالرفع لزمه درهم ، لأن التقدير هو درهم ، أي الذي أقررت به درهم ، وإن قال : كذا درهم ، بالخفض ، لزمه مائة درهم ، لأن ذلك أقل عدد يخفض ما بعده ، ولا يلزم أن يكون إقرارا بدون الدرهم ، لأنه أقل ما يضاف إلى الدرهم ، لأن ذلك ليس بعدد صحيح ، وإنما هو كسور ، وإن قال : كذا درهما ، لزمه عشرون درهما ، لأنه أقل عدد ينتصب ما بعده.

وإن قال : كذا كذا درهما ، لزمه أحد عشر ، لأن ذلك أقل عددين ركبا وانتصب ما بعدهما ، وإن قال : كذا وكذا درهما ، كان إقرارا بأحد وعشرين ، لأن ذلك أقل عددين عطف أحدهما على الآخر وانتصب الدرهم بعدهما.

وإذا أقر بشي‌ء وأضرب عنه واستدرك غيره ، فإن كان مشتملا على الأول ، بأن يكون من جنسه وزائدا عليه وغير متعين ، لزمه دون الأول ، كقوله : علي درهم لا بل درهمان ، وإن كان ناقصا عنه ، لزمه الأول دون الثاني ، كقوله : علي عشرة لا بل تسعة ، لأنه أقر بالعشرة ثم رجع عن بعضها فلم يصح رجوعه ، ويفارق ذلك ما إذا قال : له علي عشرة إلا درهما ، لأن عن التسعة عبارتين : أحدهما لفظ التسعة ،

__________________

(١) لاحظ المغني لابن قدامة : ٥ ـ ٣٠٢ كتاب الإقرار. وقال الشيخ في المبسوط : ٣ ـ ٨ : الاستثناء من الجمل جائز. ولا فرق بين أن يستثني الأقل ويبقى الأكثر وبين أن يستثني الأكثر ويبقى الأقل بلا خلاف إلا من ابن درستويه النحوي ، فإنه قال : لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل ، وبه قال أحمد بن حنبل.

(٢) الحجر : ٤٢.

(٣) ص : ٨٢ و ٨٣.

٢٧٣

والآخر لفظ العشرة ، مع استثناء الواحد ، فبأيهما أتى فقد عبر عن التسعة.

وإن كان ما استدركه من غير جنس الأول كقوله : علي درهم لا بل دينار ، أو قفيز حنطة لا بل قفيز شعير ، لزمه الأمران معا ، لأن ما استدركه لا يشتمل على الأول ، فلا يسقط برجوعه عنه ، وإن كان ما أقر به أولا وما استدركه متعينين (١) فبالإشارة إليهما أو بغيرهما (٢) مما يقتضي التعريف ، لزمه أيضا الأمران ، سواء كانا من جنس واحد ، أو من جنسين ، أو متساويين في المقدار ، أو مختلفين ، لأن أحدهما ـ والحال هذه ـ لا يدخل في الآخر ، فلا يقبل رجوعه عما أقر به أولا ، كقوله : هذا الدرهم لفلان لا بل هذا الدينار ، أو هذه الجملة من الدراهم لا بل هذه الأخرى.

وإذا قال : له علي ثوب في منديل ، لم يدخل المنديل في الإقرار ، لأنه يحتمل أن يريد في منديل لي ، ولا يلزم من الإقرار إلا المتعين دون المشكوك فيه ، لأن الأصل براءة الذمة ، وكذا القول في كل ما جرى هذا المجرى.

وإذا قال : له علي ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأن لفظة «علي» للإيجاب ، وكما يكون الحق في ذمته ، فيجب عليه تسليمه بإقراره ، كذلك يكون في يده فيجب عليه رده وتسليمه إلى المقر له بإقراره.

ولو ادعى التلف بعد الإقرار قبل ، لأنه لم يكذب إقراره ، وإنما ادعى تلف ما أقر به بعد ثبوته بإقراره ، بخلاف ما إذا ادعى التلف وقت الإقرار ، بأن يقول : كان عندي أنها باقية فأقررت لك بها وكانت تالفة في ذلك الوقت ، فإن ذلك لا يقبل منه ، لأنه يكذب إقراره المتقدم ، من حيث كان تلف الوديعة من غير تعد (٣) يسقط حق المودع.

__________________

(١) في «ج» و «س» معينين.

(٢) كذا في «ج» و «س» ، ولكن في الأصل : «أو بغيرها».

(٣) في «ج» : من غير تفريط.

٢٧٤

وإذا قال : له علي ألف درهم إن شئت ، لم يكن إقرارا ، لأن الإقرار إخبار عن حق واجب سابق له ، وما كان كذلك لم يصح تعليقه بشرط مستقبل.

وإذا قال : له من ميراثي من أبي ألف درهم ، لم يكن إقرارا ، لأنه أضاف الميراث إلى نفسه ، ثم جعل له منه جزء ، ولا يكون له جزء من ماله إلا على وجه الهبة.

ولو قال : له من ميراث أبي ألف ، كان إقرارا بدين في تركته ، وكذا لو قال : داري هذه لفلان ، لم يكن إقرارا ، لمثل ما قدمناه.

ولو قال : هذه الدار التي في يدي لفلان ، كان إقرارا ، لأنها قد تكون في يده بإجارة ، أو عارية ، أو غصب.

ويصح إقرار المطلق للحمل ، لأنه يحتمل أن يكون من جهة صحيحة ، مثل ميراث ، أو وصية ، لأن الميراث يوقف له ، ويصح له الوصية ، والظاهر من الإقرار عندنا الصحة ، فوجب حمله عليه.

ومن أقر بدين في حال صحته ، ثم مرض فأقر بدين آخر في حال مرضه صح ، ولا يقدم دين الصحة على دين المرض إذا ضاق المال عن الجميع ، بل يقسم على قدر الدينين ، بدليل قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (١) ، من غير فصل ، ولأن الأصل تساويهما في الاستيفاء ، من حيث تساويا في الاستحقاق ، وعلى من ادعى تقديم أحدهما على الآخر ، الدليل.

__________________

(١) النساء : ١١.

٢٧٥

فصل في العارية

العارية على ضربين : مضمونة وغير مضمونة ، فالمضمونة العين والورق (١) على كل حال ، وما عداهما بشرط التضمين أو التعدي ، وغير المضمونة ما عدا ما ذكرناه ، بدليل إجماع الطائفة المحقة.

وإذا اختلف المالك والمستعير في التضمين والتعدي ، وفقدت البينة ، فعلى المستعير اليمين ، وإذا اختلفا في مبلغ العارية أو قيمتها ، أخذ ما أقر به المستعير ، وكان القول قول المالك مع يمينه فيما زاد على ذلك ، بدليل الإجماع المشار إليه.

وإذا اختلف مالك الدابة وراكبها ، فقال المالك : آجرتكها ، أو غصبتنيها ، وقال الراكب : بل أعرتنيها ، فالقول قول الراكب مع يمينه ، وعلى المالك البينة ، لأن الأصل براءة الذمة ، والمالك مدع للضمان بالغصب ، أو الأجرة بالكراء (٢) فعليه البينة ، وكذلك الحكم إذا اختلف مالك الأرض وزارعها. (٣)

وإذا استعار من غيره دابة ليحمل عليها وزنا معينا ، فحمل أكثر منه ، أو ليركبها إلى مكان فتعداه ، كان متعديا ، ولزمه الضمان ولو ردها إلى المكان المعين ، بلا خلاف.

وإذا أذن مالك الأرض للمستعير في الغراس أو البناء ، فزرع ، جاز ، لأن

__________________

(١) الورق ـ بكسر الراء والإسكان للتخفيف ـ : النقرة المضروبة ، ومنهم من يقول : النقرة مضروبة كانت أو غير مضروبة. المصباح المنير.

(٢) في «ج» و «س» : أو الأجر بالكراء.

(٣) في «ج» و «س» : وزراعها.

٢٧٦

ضرر الزرع أخف من ضرر ما أذن له فيه ، ولا يجوز له الغراس أو البناء إذا أذن له في الزرع ، لأن ضرر ذلك أكثر ، والإذن في القليل لا يكون إذنا في الكثير ، وكذا لا يجوز له أن يزرع الدخن أو الذرة إذا أذن له في زرع الحنطة ، لأن ضرر ذلك أكثر ، ويجوز له أن يزرع الشعير لأن ضرره أقل.

وإذا أراد مستعير الأرض للغراس والبناء قلعه كان له ذلك ، لأنه عين ماله ، وإذا لم يقلعه (١) وطالبه المعير بذلك بشرط أن يضمن له أرش النقص ـ وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ـ أجبر المستعير على ذلك ، لأنه لا ضرر عليه فيه ، وليس للمستعير أن يطالب بالتبقية بشرط أن يضمن أجرة الأرض ، فإن طالبه المعير بالقلع من غير أن يضمن أرش النقصان ، لم يجبر عليه ، لأنه لا دليل على ذلك.

ويحتج على المخالف فيه بما رووه من قوله عليه‌السلام : من بنى في رباع قوم بإذنهم فله قيمته (٢) ، فأما إن أذن له إلى مدة معلومة ، ثم رجع قبل مضيها ، وطالب بالقلع ، فإن ذلك لا يلزمه إلا بعد أن يضمن الأرش ، بلا خلاف.

وإذا أعار شيئا بشرط الضمان ، فرده المستعير إليه أو إلى وكيله ، بري‌ء من ضمانه ، ولا يبرأ إذا رده إلى ملكه ، مثل أن يكون دابة فيشدها في إصطبل صاحبها ، لأن الأصل شغل ذمته ها هنا ، ومن ادعى أن ذلك يبرئ ذمته ، فعليه الدليل.

__________________

(١) في «ج» : لم يفعله.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ٩١ وسنن الدار قطني : ٤ ـ ٢٤٣ برقم ١٤٢ وكنز العمال : ١٠ ـ ٦٤٣ برقم ٣٠٣٧٣.

٢٧٧

فصل في الغصب

من غصب شيئا له مثل ـ وهو ما تساوت قيمة أجزائه ، كالحبوب ، والأدهان ، والتمور (١) وما أشبه ذلك ـ وجب عليه رده بعينه ، فإن تلف فعليه مثله ، بدليل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) ، ولأن المثل يعرف مشاهدة ، والقيمة يرجع فيها إلى الاجتهاد ، والمعلوم مقدم على المجتهد فيه ، ولأنه إذا أخذ المثل أخذ وفق حقه ، وإذا أخذ القيمة ، ربما زاد ذلك أو نقص.

فإن أعوز المثل أخذت القيمة ، فإن لم يقبض بعد الإعواز حتى مضت مدة اختلفت القيمة فيها ، كان له المطالبة بالقيمة حين القبض لا حين الإعواز ـ وإن كان قد حكم بها الحاكم حين الإعواز ـ لأن الذي ثبت في ذمته المثل ، بدليل أنه متى زال الإعواز قبل القبض ، طولب بالمثل ، وحكم الحاكم بالقيمة لا ينقل المثل إليها ، وإذا كان الواجب المثل ، اعتبر بدل مثله (٣) حين قبض البدل ، ولم ينظر إلى اختلاف القيمة بعد الإعواز ولا قبله.

وإن غصب ما لا مثل له ـ ومعناه لا يتساوى قيمة أجزائه ، كالثياب ، والرقيق ، والخشب ، والحطب ، والحديد ، والرصاص والعقار ، وغير ذلك من الأواني وغيرها ـ وجب أيضا رده بعينه.

__________________

(١) التمور جمع التمرة : المصباح المنير.

(٢) البقرة : ١٩٤.

(٣) في الأصل : بذل مثله.

٢٧٨

فإن تعذر ذلك بتلفه وجب قيمته ، لأنه لا يمكن الرجوع فيه إلى المثل ، لأنه إن ساواه في القدر ، خالفه في الثقل ، وإن ساواه فيهما ، خالفه من وجه آخر وهو القيمة ، فإذا تعذرت المثلية ، كان الاعتبار بالقيمة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : من أعتق شقصا من عبد قوم عليه (١) ، فأوجب عليه القيمة دون المثل.

ويضمن الغاصب ما يفوت من زيادة قيمة المغصوب بفوات الزيادة الحادثة فيه ، لا بفعله ، كالسمن والولد وتعلم الصنعة والقرآن ـ سواء رد قيمة المغصوب أو مات في يده ـ لأن ذلك حادث في ملك المغصوب منه ، لأنه لم يزل بالغصب ، وإذا كان كذلك فهو مضمون على الغاصب ، لأنه حال بينه وبينه.

فإما زيادة القيمة لارتفاع السوق ، فغير مضمونة مع الرد ، لأن الأصل براءة الذمة ، وشغلها يفتقر إلى دليل ، فإن لم يرد حتى هلكت العين ، لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ، لأنه إذا أدى ذلك برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا لم يؤده.

وإذا صبغ الغاصب الثوب بصبغ يملكه ، فزادت لذلك قيمته ، كان شريكا فيه بمقدار الزيادة فيه ، وله قلع الصبغ ، لأنه عين ماله ، بشرط أن يضمن ما ينقص من قيمة الثوب ، لأن ذلك يحصل بجنايته.

ولو ضرب النقرة دراهم ، والتراب لبنا ، ونسج الغزل ثوبا ، وطحن الحنطة ، وخبز الدقيق ، فزادت القيمة بذلك ، لم يكن له شي‌ء ، لأن هذه آثار أفعال ، وليست بأعيان أموال ، ولا يدخل المغصوب بشي‌ء من هذه الأفعال في ملك الغاصب ، ولا يجبر صاحبه على أخذ قيمته ، لأن الأصل ثبوت ملك المغصوب منه ، ولا دليل على زواله بعد التغيير.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ ـ ٣١٧.

٢٧٩

ويحتج على المخالف بقوله عليه‌السلام : على اليد ما قبضت حتى تؤدي (١) ، وقوله : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. (٢)

ومن غصب زيتا فخلطه بأجود منه ، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من ذلك ، ويلزم المغصوب منه قبوله ، لأنه تطوع له بخير من زيته ، وبين أن يعطيه مثله من غيره ، لأنه صار بالخلط كالمستهلك ، ولو خلطه بأردأ منه ، لزمه أن يعطى من غير ذلك ، مثل الزيت الذي غصبه ، ولا يجوز أن يعطيه منه بقيمة زيته الذي غصبه ، لأن ذلك ربا ، وإن خلطه بمثله ، فالمغصوب منه شريكه فيه ، يملك مطالبته بقسمته.

ومن غصب حبا فزرعه ، أو بيضة فأحضنها ، فالزرع والفرخ لصاحبهما دون الغاصب ، لأنا قد بينا أن المغصوب لا يدخل في ملك الغاصب بتغييره ، وإذا كان باقيا على ملك صاحبه ، فما تولد منه ينبغي أن يكون له دون الغاصب ، ومن أصحابنا من اختار القول : بأن الزرع والفرخ للغاصب وعليه القيمة ، لأن عين الغصب تالفة (٣) ، والمذهب هو الأول.

ومن غصب ساجة (٤) فأدخلها في بنائه ، لزمه ردها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدمناه من الدليل في مسألة ضرب النقرة ، وطحن الحنطة ، وكذا لو غصب لوحا ، فأدخله في سفينة ، ولم يكن في رده هلاك ما له حرمة ، وعلى الغاصب أجرة مثل ذلك من حين الغصب إلى حين الرد ، لأن الخشب يستأجر

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ ـ ٩٠ و ٩٥ و ١٠٠ و ٨ ـ ٢٧٦ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٨ و ١٣ وكنز العمال : ١٠ ـ ٢٩٨١١ ولفظ الحديث : على اليد ما أخذت.

(٢) سنن البيهقي : ٦ ـ ١٠٠ وكنز العمال : ١ ـ ٢٩ برقم ٣٩٧ ومسند أحمد بن حنبل : ٥ ـ ٧٢ والبحر الزخار : ٤ ـ ١٧٣.

(٣) الشيخ : الخلاف ، كتاب الغصب ، المسألة ٣٨ ، والقاضي : المهذب : ١ ـ ٤٥٢.

(٤) الساج : ضرب عظيم من الشجر ، الواحدة ساجة وجمعها ساجات. المصباح المنير.

٢٨٠