الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

مختص بصورة تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله : ( تَنازَعْتُمْ ) ، ولم يقل : فإن تنازع أولو الأمر ، ولا قال : فإن تنازعوا ، والرد إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسنة للمتمكن منه ، وعند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه ، فلا يكون قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ) « إلخ » زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل.

فقد تبين من جميع ما تقدم : أن المراد بأولي الأمر في الآية رجال من الأمة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة ، وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر ، وذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلي وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ » إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ ) « إلخ » حيث أوجب طاعة الله ورسوله ، وهذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض ، وكل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله ، وكان معنى الكلام : أطيعوا الله ، ولا تطيعوا الطاغوت ، وهو ما ذكرناه من الحصر.

وتوجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين أولي الأمر ، ولا تنازع مفروض بين أولي الأمر فإن الأول أعني التنازع بينهم وبين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم ، وكذا الثاني أعني التنازع بين أولي الأمر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل ، على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ).

ولفظ الشيء وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله وأولي الأمر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك : ( فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) يدل على أن المفروض هو النزاع

٤٠١

في شيء ليس لأولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك ، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.

فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله ورسوله ، والآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله ورسوله ، وأولو الأمر ومن دونهم في ذلك سواء.

وقوله : ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ، تشديد في الحكم وإشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشئ من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الإيمان بالله ورسوله ، واستبطان للكفر ، وهو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية.

وقوله : ( ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ، والتأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل وقد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى : ( وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ) الآية : « آل عمران : ٧ » في الجزء الثالث من الكتاب.

قوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ » إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا ، بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع ، ولكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك ، والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت والجبروت والملكوت غير أنه ربما يطلق ويراد به اسم الفاعل مبالغة يقال : طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته ، وكان استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة وهو خروج الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع ، فالطاغوت هو الظالم الجبار ، والمتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى وهكذا ، وإليه يعود ما قيل : إن الطاغوت كل معبود من دون الله.

وقوله : ( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) ، بمنزلة أن يقال : بما أنزل الله على رسله ، ولم يقل : آمنوا بك وبالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه وبذلك يظهر أن المراد بقوله : « وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » الأمر في الكتب السماوية

٤٠٢

والوحي النازل على الأنبياء : محمد ومن قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقوله : ( أَلَمْ تَرَ ) إلخ ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل : ما وجه ذكر قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) « إلخ » فقيل : ألم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ والاستفهام للتأسف والمعنى : من الأسف ما رأيته أن بعض الناس ، وهم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الأنبياء والكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وقد بينه الله تعالى لهم بقوله : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) : « البقرة : ٢١٣ » يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق ، وقد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت ، وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه.

وفي قوله « ( وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) ، دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان وإغوائه ، والوجهة فيه الضلال البعيد.

قوله تعالى : « وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا » إلى آخر الآية ، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي وهو الارتفاع ، وصد عنه يصد صدودا أي أعرض ، وقوله : ( إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ) ، بمنزلة أن يقال : إلى حكم الله ومن يحكم به ، وفي قوله : ( يَصُدُّونَ عَنْكَ ) ، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.

ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم الرسول نفاق البتة.

قوله تعالى : « فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ » إلخ إيذان بأن هذا الإعراض والانصراف عن حكم الله ورسوله ، والإقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله ورسوله ، والتحاكم إلى الطاغوت ، وقوله : ( ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ ) ، اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم

٤٠٣

إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب والرسول إلا الإحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم.

قوله تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ » إلخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به ، ولم يذكر حال ما في قلوبهم ، وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله : « فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ » على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق ويصدق في قوله.

وقوله : ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع ، وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.

قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ » ، رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت ، والإعراض عن الرسول ، والحلف والاعتذار بالإحسان والتوفيق. فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا ، وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله ، وليس لأحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله ، وإنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه ، وترك الرسول في جانب ، وإلا كان إشراكا بالله ، وعبادة لرسوله معه ، وربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة : أبأمر من الله أم منك؟

فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجوب مطلق ، وليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) الآية : « النساء : ٨٠ ».

ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله ، ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر ، وذلك قوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) إلخ ، الشجر ـ بسكون الجيم ـ والشجور : الاختلاط يقال : شجر شجرا وشجورا أي اختلط ، ومنه التشاجر

٤٠٤

والمشاجرة كأن الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض ، ومنه قيل للشجر : شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض ، والحرج الضيق.

وظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى : فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك « إلخ ».

لكن شمول حكم الغاية أعني قوله : ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) « إلخ » لغير المنافقين ، وكذا قوله بعد ذلك : « وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ » إلى قوله : « ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم وغيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما أنزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف والأحكام إيمان بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه حقيقة ، وليس كذلك بل الإيمان تسليم تام باطنا وظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه ويخالفه ، أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه ، وقد قال الله تعالى لرسوله : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) : « النساء : ١٠٥ ».

فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن حكم الله تحرج لأنه الذي شرفه بافتراض الطاعة ونفوذ الحكم.

وإذا كانوا سلموا حكم الرسول ، ولم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي والتكويني ، وهذا موقف من مواقف الإيمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها : التسليم لأمر الله ، ويسقط فيه التحرج والاعتراض والرد من لسان المؤمن وقلبه ، وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقا.

ومن هنا يظهر أن قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ ) إلى آخر الآية ، وإن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب اللفظ لأن مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله ورسوله جميعا ، ولحكم التشريع والتكوين جميعا كما عرفت.

بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل سيرة سار بها أو عمل عمل به لأن الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله ورسوله بأي نحو كان لا يتأتى

٤٠٥

لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه ، وقد قال تعالى : ( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) : « يوسف : ١٠٦ ».

قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ » إلى قوله : « ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » قد تقدم في قوله : ( وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) نساء ٤ إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد وهو المجتمع ، وأن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الأفراد ، ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين : المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين.

على هذا فقوله « ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم ، واستثناء القليل لدفع التوهم.

فالمعنى : ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا ، ثم لما استشعر أن قوله : ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم ، ولم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.

ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه ، وخروجه من داره كما في قوله تعالى : ( فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) : « البقرة : ٥٤ » ، فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد.

قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً » في تبديل الكتابة في قوله : ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) ، بالوعظ في قوله : ( ما يُوعَظُونَ بِهِ ) إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم.

وقوله : ( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم وأخراهم ، وذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه ، وقوله : « وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً » أي

٤٠٦

لنفوسهم وقلوبهم بالإيمان لأن الكلام فيه ، قال تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية : « إبراهيم : ٢٧ ».

قوله تعالى : « وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً » أي حين تثبتوا بالإيمان الثابت ، والكلام في إبهام قوله : « أَجْراً عَظِيماً » كالكلام في إطلاق قوله : « لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ».

قوله تعالى : « وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً » قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : « الحمد : ٦ » في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ » إلى قوله : « حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » جمع بين الله والرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لإطاعة الرسول والتسليم لحكمه وقضائه ، لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله : ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) « إلخ » فالطاعة المفترضة طاعته تعالى وطاعة رسوله ، وقد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) الآية.

وقوله : ( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) ، يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم ، وهم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) : « الحمد : ٧ » ، وبالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله : « وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » من تلويح إليه ، وقد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية.

وأما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب ، ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار ، وقد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال ، وأن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله.

وأما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق ، ومن الصدق ما هو في القول ، ومنه ما هو في الفعل ، وصدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف ، وصدق القول مطابقته لما في الواقع ، وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه وأنه حق ، ففي قوله الصدق الخبري والمخبري جميعا.

٤٠٧

فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس ، ولا يقول إلا ما يرى أنه حق ، ولا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الأشياء ، ويقول الحق ، ويفعل الحق.

وعلى ذلك فيترتب المراتب فالنبيون وهم السادة ، ثم الصديقون وهم شهداء الحقائق والأعمال ، والشهداء وهم شهداء الأعمال ، والصالحون وهم المتهيئون للكرامة الإلهية.

وقوله تعالى : « وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » أي من حيث الرفاقة فهو تمييز ، قيل : ولذلك لم يجمع ، وقيل : المعنى : حسن كل واحد منهم رفيقا ، وهو حال نظير قوله : ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) : « الحج : ٥ ».

قوله تعالى : « ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً » تقديم « ذلِكَ » وإتيانه بصيغة الإشارة الدالة على البعيد ودخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل ، وختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان التي لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الإلهي.

واعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله : « وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ » كما مر غائبين ، وكذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ ) الآية ، ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ) الآية ، ثم الغيبة في قوله : ( بِإِذْنِ اللهِ ) الآية ، ثم المتكلم مع الغير في قوله : ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا ) الآية ، ثم الغيبة في قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ) الآية.

وكذلك الرسول أخذ غائبا في صدر الآيات في قوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) الآية ، ثم مخاطبا في قوله : ( ذلِكَ خَيْرٌ ) الآية ، ثم غائبا في قوله : ( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) الآية ، ثم مخاطبا في قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ ) الآية ، ثم غائبا في قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ) الآية ، ثم مخاطبا في قوله : ( وَحَسُنَ أُولئِكَ ) الآية ، فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي والنكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.

(بحث روائي)

في تفسير البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : لما أنزل

٤٠٨

الله عز وجل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ـ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ـ فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هم خلفائي يا جابر ـ وأئمة المسلمين من بعدي : أولهم علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ـ ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميي محمد وكنيي حجة الله في أرضه ـ وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك ـ الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة ـ لا يثبت فيه على القول بإمامته ـ إلا من امتحن الله قلبه للإيمان.

قال جابر : فقلت له يا رسول الله ـ فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله إي والذي بعثني بالنبوة ـ إنهم يستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس ـ وإن تجلاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ـ ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله.

أقول : وعن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي عليه‌السلام ما في معنى الرواية السابقة ، ورواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه عليه‌السلام ، وهناك روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة ، وفيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة وكتاب غاية المرام للبحراني وغيرهما.

وفي تفسير العياشي ، عن جابر الجعفي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » قال : الأوصياء.

أقول : وفي تفسير العياشي ، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن عليه‌السلام مثله وفيه : علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده.

وعن ابن شهرآشوب : سأل الحسن بن صالح عن الصادق عليه‌السلام عن ذلك ـ فقال : الأئمة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : وروى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقر عليه‌السلام وفيه : قال : الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة.

٤٠٩

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنا نكلم أهل الكلام ـ فنحتج عليهم بقول الله عز وجل : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » فيقولون : نزلت في قربى المسلمين قال : فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته ، فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع؟ فقال : أصلح نفسك ثلاثا وأطبه ، قال : وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال ـ فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ـ ثم أنصفه ، وابدأ بنفسك ، وقل : اللهم رب السموات السبع ورب الأرضين السبع ـ عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ـ إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا ـ فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما ، ثم رد الدعوة عليه فقل : وإن جحد حقا وادعى باطلا ـ فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما.

ثم قال لي : فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه ، فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » قال : هي في علي وفي الأئمة ـ جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا ولا يحرمونه.

أقول : والاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله ورسوله.

وفي الكافي ، بإسناده عن بريد بن معاوية قال : تلا أبو جعفر عليه‌السلام : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ـ فإن خفتم تنازعا في الأمر ـ فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم.

قال : كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم ـ إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ).

أقول : الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه عليه‌السلام تفسير للآية وبيانا للمراد منها ، وقد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك ، وليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله : تلا أبو جعفر عليه‌السلام.

ويدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي ، بإسناده

٤١٠

عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نزلت : « فإن تنازعتم في شيء ـ فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم ».

وما في تفسير العياشي ، عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام » وهو رواية الكافي ، السابقة ) وفي الحديث : ثم قال للناس : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » إيانا عنى خاصة « فإن خفتم تنازعا في الأمر ـ فارجعوا إلى الله وإلى الرسول وأولي الأمر منكم » هكذا نزلت ، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ـ ويرخص لهم في منازعتهم ـ إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ».

وفي تفسير العياشي ، : في رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نزلت ( يعني آية ( أَطِيعُوا اللهَ ) ، في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ قلت له : إن الناس يقولون لنا : فما منعه أن يسمي عليا وأهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قولوا لهم : إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا ـ حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي فسر ذلك ( لهم ) وأنزل الحج ولم ينزل طوفوا أسبوعا ـ حتى فسر ذلك لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله أنزل : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » تنزلت في علي والحسن والحسين عليه‌السلام ، وقال في علي من كنت مولاه فعلي مولاه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي ـ إني سألت الله أن لا يفرق بينهما ـ حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك ، وقال : فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلال ، ولو سكت رسول الله ولم يبين أهلها ـ لادعى آل عباس وآل عقيل وآل فلان ، ولكن أنزل الله في كتابه : « إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليه‌السلام تأويل هذه الآية ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي وفاطمة والحسن والحسين صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأدخلهم تحت الكساء في بيت أم سلمة ـ وقال : اللهم إن لكل نبي ثقلا وأهلا فهؤلاء ثقلي وأهلي ، وقالت أم سلمة : ألست من أهلك؟ قال : إنك إلى خير ، ولكن هؤلاء ثقلي وأهلي ، الحديث.

أقول : وروي في الكافي ، بإسناده عن أبي بصير عنه عليه‌السلام مثله مع اختلاف يسير في اللفظ.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد : أنها نزلت في أمير المؤمنين

٤١١

حين خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ـ فقال : يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟

فقال : يا أمير المؤمنين ـ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له : « اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ » فقال الله : ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ).

قال : علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد ، وحين خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ـ فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه.

وفيه ، عنه عن أبانة الفلكي : أنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي عليه‌السلام ، الخبر.

وفي العبقات ، عن كتاب ينابيع المودة ، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال : وأما أدنى ما يكون به العبد ضالا ـ أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده ، الذي أمر الله عباده بطاعته ، وفرض ولايته.

قال سليم : قلت : يا أمير المؤمنين صفهم لي ، قال : الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » فقلت له : جعلني الله فداك أوضح لي ، فقال : الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواضع ـ وفي آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه : إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ـ إن تمسكتم بهما كتاب الله عز وجل ، وعترتي أهل بيتي ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا ـ حتى يردا علي الحوض كهاتين ـ وجمع بين مسبحتيه ـ ولا أقول : كهاتين وجمع مسبحته والوسطى ـ فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا.

أقول : والروايات عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام في المعاني السابقة كثيرة جدا وقد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها ، وعلى من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث.

وأما الذي روي عن قدماء المفسرين فهي ثلاثة أقوال : الخلفاء الراشدون ، وأمراء السرايا والعلماء ، وما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه : أنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هم الدعاة الرواة ، وظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء.

واعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة ، وقصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظري من رواتها ، ولذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها ، وإن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع

٤١٢

إلى الدر المنثور ، وتفسير الطبري ، وأشباههما.

وفي محاسن البرقي ، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) الآية ، قال : التسليم ، الرضا ، والقنوع بقضائه.

وفي الكافي ، بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وحجوا البيت ، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا الشيء صنعه الله وصنع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم صنع هكذا وكذا ، ولو صنع خلاف الذي صنع ، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ، ثم تلا هذه الآية : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : عليكم بالتسليم.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : والله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وحجوا البيت ، وصاموا شهر رمضان ـ ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم صنع كذا وكذا؟ ووجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين ، ثم قرأ : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ـ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ) ـ مما قضى محمد وآل محمد ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).

أقول : وفي معنى الروايتين روايات أخر ، والذي ذكره عليه‌السلام تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين : من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا ، ومن جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله.

واعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) إلى آخر الآيات على ولاية علي عليه‌السلام أو على ولاية أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، وهو من مصاديق التطبيق على المصاديق ، فإن الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل البيت عليه‌السلام مصاديق الآيات وهي جارية فيهم.

وفي أمالي الشيخ ، بإسناده إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله ما أستطيع فراقك ، وإني لأدخل منزلي فأذكرك ـ فأترك ضيعتي وأقبل حتى أنظر إليك حبا لك ، فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت الجنة ـ فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ـ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ـ وَحَسُنَ

٤١٣

أُولئِكَ رَفِيقاً » ـ فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك.

أقول : وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور ، عن الطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة ، وعن الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس ، وعن سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي ، وعن ابن جرير عن سعيد بن جبير.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ـ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ » يعني محمدا ـ و « الصِّدِّيقِينَ » يعني عليا وكان أول من صدق ـ و « الشُّهَداءِ » ـ يعني عليا وجعفرا وحمزة والحسن والحسين عليه‌السلام.

أقول : وفي هذا المعنى أخبار أخر.

وفي الكافي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : أعينونا بالورع ـ فإنه من لقي الله بالورع كان له عند الله فرحا ـ فإن الله عز وجل يقول : ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ) ، وتلا الآية ـ ثم قال : فمنا النبي ومنا الصديق ومنا الشهداء والصالحون.

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام : المؤمن مؤمنان : مؤمن وفى الله بشروطه ـ التي اشترطها عليه ـ فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ وحسن أولئك رفيقا ، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له ، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا وو لا أهوال الآخرة ، ومؤمن زلت به قدم ـ فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ ، وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة ـ ويشفع له ، وهو على خير.

أقول : في الصحاح : الخامة : الغضة الرطبة من النبات انتهى ، ويقال : كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف ورجع ، وهو عليه‌السلام يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله : ( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) : « الفاتحة : ٧ » أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) : « يونس : ٦٣ » ولا سبيل لأهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه.

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ـ ٧١. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ

٤١٤

أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ـ ٧٢. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ـ ٧٣. فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ـ ٧٤. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ـ ٧٥. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً ـ ٧٦. )

(بيان)

الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها ـ كما ترى ـ بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى المقدمة وهي تحث وتستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله ، وقد كانت المحنة شديدة على المؤمنين أيام كانت تنزل هذه الآيات ، وهي كأنها الربع الثاني من زمن إقامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة كانت العرب هاجت عليهم من كل جانب لإطفاء نور الله ، وهدم ما ارتفع من بناية الدين يغزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشركي مكة وطواغيت قريش ، ويسري السرايا إلى أقطار الجزيرة ، ويرفع قواعد الدين بين المؤمنين ، وفي داخلهم جمع المنافقين وهم ذو قوة وشوكة ، وقد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير (١).

وكانوا يقلبون الأمور على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويتربصون به الدوائر ، ويثبطون المؤمنين وفيهم مرضى القلوب سماعون لهم ، وحولهم اليهود يفتنون المؤمنين ويغزونهم

__________________

(١) وقد تقدم في أحاديث أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى أحد في ألف ثم رجع منهم ثلاثمائة من المنافقين مع عبد الله بن أبي ، وبقي مع النبي سبعمائة.

٤١٥

وكانت عرب المدينة تحترمهم ، وتعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول ومضلات الأحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم ، وينتقض به مبرم جدهم ، ومن جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم ، ويطيبون نفوسهم في مقاومتهم ، والبقاء والثبات على كفرهم وجحودهم ، وتفتين من عندهم من المؤمنين.

فالآيات السابقة كالمسوقة لإبطال كيد اليهود للمسلمين ، وإمحاء آثار إلقاءاتهم على المؤمنين ، وما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين ، وتكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، وعلى حذر من الداء المستكن الذي دب في داخلهم ، ونفذ في جمعهم ، وليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين بهم ، ويرتد أنفاسهم إلى صدورهم ، وليتم نور الدين في سطوعه ، والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً » الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح ، وربما قيل : إنه مصدر كالحذر بفتحتين ، والنفر هو السير إلى جهة مقصودة ، وأصله الفزع ، فالنفر من محل السير فزع عنه وإلى محل السير فزع إليه ، والثبات جمع ثبة ، وهي الجماعة على تفرقة ، فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن أولى ، وثالثة عن ثانية ، ويؤيد ذلك مقابلة قوله : « فَانْفِرُوا ثُباتٍ » قوله : « أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ».

والتفريع في قوله : ( فَانْفِرُوا ثُباتٍ ) ، على قوله : ( خُذُوا حِذْرَكُمْ ) ، بظاهره يؤيد كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إلى الجهاد ويكون المعنى : خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج واخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة ( سرايا ) أو اخرجوا إليهم جميعا ( عسكرا ).

ومن المعلوم أن التهيؤ والإعداد يختلف باختلاف عدة العدو وقوته فالترديد في قوله : أو انفروا ، ليس تخييرا في كيفية الخروج وإنما الترديد بحسب تردد العدو من حيث العدة والقوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة ، وإن كان كثيرا فجميعا.

فيئول المعنى ـ وخاصة بملاحظة الآية التالية : ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ ) ، ـ إلى نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم ، وينسلخوا عن الجد وبذل الجهد في أمر الجهاد فيموت عزمهم ويفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق ، ويتكاسلوا أو يتبطئوا أو يتثبطوا في قتال أعداء الله ، وتطهير الأرض من قذارتهم.

٤١٦

قوله تعالى : « وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ » ، قيل : إن اللام الأولي لام الابتداء لدخولها على اسم إن ، واللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر وهي جملة فعلية مؤكدة بنون التأكيد الثقيلة ، والتبطئة والإبطاء بمعنى ، وهو التأخير في العمل.

وقوله : «وَإِنَّ مِنْكُمْ» ، يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، على ما هو ظاهر كلمة «مِنْكُمْ» كما يدل عليه ما سيأتي من قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا كانوا من المؤمنين ، مع قوله تعالى بعد ذلك : فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ، وقوله : وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ « إلخ » وكذا قوله : فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ ، وقوله : وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وقوله : الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، كل ذلك تحريض واستنهاض للمؤمنين وفيهم هؤلاء المبطئون على ما يلوح إليه اتصال الآيات.

على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول ، مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على إيمانهم في الجملة كقوله تعالى : ( فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ ) ، وقوله تعالى : ( رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ) « إلخ ».

نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله : ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ ) ، المنافقون ، وأن معنى كونهم منهم دخولهم في عددهم ، أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم مع المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء والإرث ونحو ذلك لتظاهرهم بالشهادتين ، وقد عرفت أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه.

وإنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الإسلام ( كل من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمن به ) والبحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ من سيرتهم وحياتهم مع النبي وبعد يضعف هذا الظن ، والخطابات القرآنية الحادة في خصوصهم توهن هذا التقدير.

ولم تسمح الدنيا حتى اليوم بأمة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير استثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط ( إلا ما نقل في حديث الطف ) بل مؤمنو صدر الإسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق والمريض قلبه والمتبع هواه والطاهر سره.

والذي يمتاز به الصدر الأول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا يقدمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويغشاهم نور الإيمان ، ويحكم فيهم سيطرة الدين ، هذا حال مجتمعهم

٤١٧

من حيث إنه مجتمع ، وإن كان يوجد بينهم من الأفراد الصالح والطالح جميعا ، وفي صفاتهم الروحية الفضيلة والرذيلة معا وكل لون من ألوان الأخلاق والملكات.

وهذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم ، ويبينه من صفاتهم قال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ـ إلى أن قال ـ : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) : « الفتح : ٢٩ » ، فقد بدأ تعالى بذكر صفاتهم وفضائلهم الاجتماعية مطلقة ، وختم بذكر المغفرة والأجر لأفرادهم مشروطة.

قوله تعالى : « فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ » أي من قتل أو جرح « قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً » حتى أبتلى بمثل ما ابتلي به المؤمنون.

قوله تعالى : « وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ » من قبيل غنيمة الحرب ونحوها ، والفضل هو المال وما يماثله ، وقوله : ( لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ ) ، تشبيه وتمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون ، والمسلمون يد واحدة يربط بعضهم ببعض أقوى الروابط ، وهو الإيمان بالله وآياته الذي يحكم على جميع الروابط الأخر من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لأنفسهم أدنى ربط يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم والحضور في جهادهم كما يتمنى الأجنبي فضلا ناله أجنبي فيقول أحدهم : ( يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) ، ومن علائم ضعف إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم ، وعدهم حيازة الفضل والمال فوزا عظيما ، وكل مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب نقمة.

قوله تعالى : « فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ » ، قال في المجمع : يقال شريت أي بعت ، واشتريت أي ابتعت ، فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي يبيعون حياتهم الدنيا ويبدلونها بالآخرة.

والآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد ، وذم من يبطئ في الخروج إليه ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون ، قد شروا بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) : « التوبة : ١١١ » ، ثم صرح على فائدة القتال الحسنة وأنها الأجر العظيم على أي حال بقوله : ( وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) « إلخ ».

فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين : أن يقتل

٤١٨

في سبيل الله ، أو يغلب عدو الله ، وله أي حال أجر عظيم ، ولم يذكر ثالث الاحتمالين ـ وهو الانهزام ـ تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم.

وقدم القتل على الغلبة لأن ثوابه أجزل وأثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله وإن كان يكتب له الأجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الأعمال الموجبة لحبط الأعمال الصالحة ، واستتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا حياة بعده إلا حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما ، وأما الغالب في سبيل الله فأمره مراعى في استيفاء أجره.

قوله تعالى : « وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ » « إلخ » عطف على موضع لفظ الجلالة ، والآية تشتمل على حث وتحريض آخر على القتال في لفظ الاستفهام بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه ، وهو الذي لا بغية لكم في حياتكم السعيدة إلا رضوانه ، ولا سعادة أسعد من قربه ، وفي سبيل المستضعفين من رجالكم ونسائكم وولدانكم.

ففي الآية استنهاض وتهييج لكافة المؤمنين وإغراء لهم : أما المؤمنون خالصو الإيمان وطاهرو القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق ويلبوا نداء ربهم ويجيبوا داعيه ، وأما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك فليكفهم أن قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم ونسائهم وذراريهم فليغيروا لهم وليتعصبوا.

والإسلام وإن أبطل كل نسب وسبب دون الإيمان إلا أنه أمضى بعد التلبس بالإيمان الأنساب والأسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل به بالسبب الذي هو الإيمان ، وعن أقربائه من رجاله ونسائه وذراريه إذا كانوا على الإسلام فإن ذلك يعود بالآخرة إلى سبيل الله دون غيره.

وهؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم وأفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل قوله : ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا ) « إلخ » ، وهم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون ويستغيثون بقولهم : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، وقد أطلق الظلم ، ولم يقل : الظالم أهلها على أنفسهم ، وفيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب والإيذاء وكذلك كان الأمر.

وقد عبر عن استغاثتهم واستنصارهم بأجمل لفظ وأحسن عبارة فلم يحك عنهم أنهم يقولون : يا للرجال ، يا للسراة ، يا قوماه ، يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم

٤١٩

ويستغيثون بمولاهم الحق فيقولون : ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها ) ثم يشيرون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى من معه من المؤمنين المجاهدين بقولهم : ( وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) ، فهم يتمنون وليا ، ويتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون أن يسألوا ربهم الولي والنصير.

(كلام في الغيرة والعصبية)

انظر إلى هذا الأدب البارع الإلهي الذي أتى به الكتاب العزيز وقسه إلى ما عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا.

لا شك أن في البنية الإنسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه ويعظمه كالذراري والنساء والجاه وكرامة المحتد ونحو ذلك وهو حكم توجبه الفطرة الإنسانية وتلهمه إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا وللحق ، وربما كان مذموما يستتبع الشقاء وفساد أمور الحياة إذا كان باطلا وعلى الحق.

والإسلام يحفظ من هذا الحكم أصله وهو ما للفطرة ، ويبطل تفاصيله أولا ثم يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شيء ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك الجميع في قالب التوحيد بالإيمان بالله فيندب الإنسان أن يتعصب لرجاله ونسائه وذراريه ولكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالإسلام يؤيد حكم الفطرة ، ويهذبه من شوب الأهواء والأماني الفاسدة ويصفي أمره في جميع الموارد ، ويجعلها جميعا شريعة إنسانية يسلكها الإنسان على الفطرة ، ويخلصها من ظلمة التناقض إلى نور التوافق والتسالم ، فما يدعو إليه الإسلام ويشرعه لا تناقض ولا تضاد بين أجزائه وأطرافه ، يشترك جميعها في أنها من شئون التوحيد ، ويجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الأحكام حينئذ كلية ودائمة وثابتة من غير تخلف واختلاف.

قوله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ » إلى قوله « الطَّاغُوتِ » مقايسة بين الذين آمنوا والذين كفروا من جهة وصف قتالهم ، وبعبارة أخرى من جهة نية كل من الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم وأن سبيل المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه ويعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك محرضا آخر للمؤمنين على قتالهم.

قوله تعالى : « فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً » الذين كفروا لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك

٤٢٠