الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) ).

بيان

فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلي يلخص سنة الله في عباده وما يستتبعه الشرك في الأمم الظالمة من الهلاك في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.

قوله تعالى : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » الإشارة إلى ما تقدم من القصص ، ومن تبعيضية أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن والبلاد أو أهلهم نقصه عليك.

٥

وقوله : « مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » الحصد قطع الزرع ، شبهها بالزرع يكون قائما ويكون حصيدا ، والمعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول قصتهم في القرآن كما قال : « وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » : العنكبوت : ٣٥ وقال : « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ » : الصافات : ١٣٨ ، ومنها ما انمحت آثاره وانطمست أعلامه كقرى قوم نوح وعاد.

وإن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الأمم والأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتة كأمة نوح وصالح ، ومنهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط ولم يكن لوط منهم.

قوله تعالى : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ » إلى آخر الآية ، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم وإهلاكهم إثر شركهم وفسوقهم ولكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا وخرجوا عن زي العبودية ، وكلما كان عمل وعقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل وإما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.

فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم ولذا عقبه بقوله : « فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ » إلخ .. لأن محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم ، فالمفرع عليه هو الذي يدل عليه قوله : « وَما ظَلَمْناهُمْ » إلخ ، والمعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم ، التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير وتدفع عنهم الشر ، ولم تغنهم شيئا لما جاء أمر ربك وحكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك.

وقوله : « وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ » التتبيب التدمير والإهلاك من التب وأصله القطع لأن عبادتهم الأصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم ولما أحسوا بالعذاب والبؤس فالتجئوا إلى الأصنام ودعوها لكشفه ودعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم وتغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.

ونسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز وهو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها ، وهو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ »

٦

الإشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى ، وذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنه أليم شديد ، وهذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الأفراد وهو نوع من فن التشبيه شائع وقوله : « إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » بيان لوجه الشبه وهو الألم والشدة.

والمعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الأمم الظالمة : قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون أخذا أليما شديدا ، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون.

قوله تعالى : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ » إلى آخر الآية الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا. وأنبأ أن أخذه كذلك يكون ، وفي ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة وعلامة تدل على أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم ، وإن أخذه سيكون أليما شديدا فيوجب اعتباره بذلك وتحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى.

وقوله : « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ » أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة ، « ولذلك أتي بلفظ المذكر » كما قيل ، ويمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر.

ووصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال. سيجمع أو يجمع له الناس إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه ولا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر.

فمشخص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله ـ واللام للغاية ـ فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد ولا يتخلف عنه متخلف : وللناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع ، ويمتزج فيه الأول مع الآخر والآخر مع الأول ويختلط فيه الكل بالبعض والبعض بالكل ، وهو حساب أعمالهم من جهة الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، وبالجملة من حيث السعادة والشقاوة.

فإن من الواضح أن العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة ، ويرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من

٧

الأحوال القلبية ، وكذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير والتأثر ، وكذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين وأعمال اللاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين ، وفي المتقدمين أئمة الهدى والضلال المسئولون عن أعمال المتأخرين ، وفي المتأخرين الأتباع والأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين ، قال تعالى : « فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ » : الأعراف ٦ ، وقال : « وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » : يس : ١٢.

ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل.

وهذا الشأن على هذا النعت لا يتم إلا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ.

ومن هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم وجزاءهم فيها بشيء من الثواب والعقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ وتذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة والجزاء المقضي به هناك من الجنة والنار الخالدتين فإن الذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة ، وما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهيئ للقاء والحكم ، وليس ما هناك حسابا تاما ولا حكما فصلا ولا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله. « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » : المؤمن : ٤٦ ، وقوله : « يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ » : المؤمن : ٧٢ فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها وهو أشد العذاب ، وتعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار وهو الاشتعال وقوله تعالى : « بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » : آل عمران : ١٧٠ فالآية صريحة في عالم القبر ولم تذكر حسابا ولا جنة الخلد وإنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا.

وقوله تعالى : « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » : المؤمنون : ١٠٠ تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب ولهو والحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا

٨

إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » : العنكبوت : ٦٤.

وبالجملة الدنيا دار عمل والبرزخ دار تهيؤ للحساب والجزاء ، والآخرة دار حساب وجزاء ، قال تعالى : « يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا » : التحريم : ٨ فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور وهيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم وإذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو واللعب.

وقوله : « وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ » كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة. « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ » إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس وإطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس والملائكة والجن ، والآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن والشياطين وحضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر.

قوله تعالى : « وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ » أي إن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله والله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، ولا يؤخر اليوم إلا لأجل يعده فإذا تم العدد وحل الأجل حق القول ووقع اليوم.

قوله تعالى : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » فاعل « يَأْتِ » ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه ، قال تعالى : « مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ » : العنكبوت : ٥.

وذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة والجزاء ، ولازمه إرجاع الضمير إلى القيامة والجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه ، وهو تكلف لا حاجة إليه.

وذكر آخرون ـ كما في تفسير صاحب المنار ـ أن المعنى في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي.

وهو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا : في الوقت الذي يجيء فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين ، والتفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصا ومعينا والآخر عاما ومرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية

٩

الشيء لنفسه ومظروفية الزمان ـ وهو ظرف بذاته ـ لزمان آخر وهو محال لا ينقلب ممكنا بتغيير اللفظ.

وما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق والتحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فإن اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف وذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا وتحديدا وسعة وضيقا ، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من الحوادث وتلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجة ويوم عاشوراء في المحرم ، قال تعالى : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ » : الجاثية : ٢٧ فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.

وقوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه ، وحذف أحد التاءين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي.

والباء في قوله : « بِإِذْنِهِ » للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله : « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » : النبأ : ٣٨ والمعنى لا تتكلم نفس بشيء من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما اختاره وأراده ، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.

وقد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له ، وليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس ولا يحدث أي حادث من الحوادث دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة.

وقد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه وغيره كقوله تعالى : « يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ » : المؤمن ـ ١٦ وقوله ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) : المؤمن : ٣٣ وقوله : « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » : الانفطار : ١٩ إلى غير ذلك من الآيات ، ومن المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شيء دائما ، وليس لشيء منه عاصم دائما ، ولا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما ، وله الخلق والأمر دائما.

لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى : « لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا

١٠

عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » : ق : ٢٢ وقوله حكاية عن المجرمين : « رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » : الم السجدة : ١٢ ، وقوله : « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ـ إلى أن قال ـ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » : يونس : ٣٠ إن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد ويزيل الستر والحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهورا تاما وينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة وعند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أو ريب ، ولا يهجس قلوبهم هاجس ، ويعاينون أن الله هو الحق المبين ، ويشاهدون أن القوة لله جميعا ، وأن الملك والعصمة والأمر والقهر له وحده لا شريك له.

وتسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا وينقطع البين وتزول روابط التأثير التي بين الأشياء وعند ذلك تنتثر كواكب الأسباب وتنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها ، ولا تبقى لذي ملك ملك يستقل به ، ولا لذي سلطان وقوة ما يتعزز معه ، ولا لشيء ملجأ وملاذ يلجأ إليه ويلوذ به ويعتصم بعصمته ، ولا ستر يستر شيئا عن شيء ويحجبه دونه ، والأمر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو (١).

وهذا معنى قوله : « يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ » وقوله : « ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ » وقوله : « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » إلى غير ذلك من الآيات وهي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهوا ولعبا إن هذه الأسباب تملك معنى التأثير ، وتتلبس بأوصاف الملك والسلطنة والقوة والعصمة والعزة والكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا ، وأنها هي المعطية والمانعة والنافعة والضارة لا بغية في سواها ولا خير فيما عداها.

ومن هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله. « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وقد تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى : « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً » : النبأ : ٣٨ ، وقوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ » :

__________________

(١) وفي هذه الأوصاف آيات كثيرة جداً لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.

١١

المرسلات : ٣٥.

وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم « يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ » : الطارق ـ ٩ ويقول : « إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » : البقرة : ٢٨٤ فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال والأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.

فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة ، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا ، والتكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا ، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.

والتكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة وهو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان ، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية ويعاينها كما يهتدي ـ مثلا البصر إلى الأضواء والألوان واللمس إلى الحرارة والبرودة والخشونة ـ والملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاما ، وكذا لو كان النوع الإنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة.

كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو وراء الحس ، والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع عليه ، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شيء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك.

وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله : « يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ » ، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى : « لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » إلى أن قال : « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ » : الرحمن : ٤١.

١٢

فإن قلت فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى : « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ » : الأنعام : ٢٤ وقوله تعالى : « يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ » : المجادلة ـ ١٨.

قلت : هذا من ظهور الملكات كما أن الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب ، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية ، وربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة والباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم والنطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.

وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا وعاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية وإلا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة ، وصحيفته منشورة ، والأشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة ، والأسباب ومنها الكذب ساقطة هالكة ، وقد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة ، وينجو بذلك.

وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم ، قال تعالى : « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ » : القلم : ٤٣ فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم ، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه.

فإن قلت : لو كان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وما في معناها من الآيات؟

وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.

قلت : لا ريب أن الإنسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله

١٣

نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله وتركه وهما بالقياس إليه سواء ، فإذا اقترف الفعل مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لا خبر عن الاختيار بعد ذلك ، والآثار الضرورية التي تترتب على الفعل ومنها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق.

والنشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنساني وليس هناك إلا الإنسان وعمله الذي أتى به وقد لزمه لزوما ضروريا ، وما يرتبط به العمل من الصحائف والأشهاد وربه الذي إليه يرجع الأمر وبيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطرارا ، كما قال تعالى « يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ » : » طه : ١٠٨ وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون ، وإذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره وكاشفا عن أمر خبيء في نفسه فقد ختم على فمه ولا سبيل له إلى التكلم بما يريد ، وكيفما يريد ، قال تعالى : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » : يس : ٦٥ ، وقال : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » : المرسلات : ٣٦ فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار ولتحققه إمكان وجود وعدم وأما العمل السيئ المفروغ منه والجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه ، قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » : التحريم : ٧ أي إن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه ، ولا يتغير ذلك بعذر ولا تعلل وإنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه ويشاؤه.

وبالجملة : إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه ومطابقا لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة ، ولو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم وعملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه ويستنطق سمعه وبصره وجلده ويده ورجله ويحضر العمل الذي عمله ويستشهد الأشهاد والله على كل شيء شهيد.

فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختياريا عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هو من

١٤

لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله ومشيئته ، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإنسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه ورجوع الغيب شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة.

وذكر بعضهم أن معنى قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لأن الناس ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح وأما غير القبيح فهو مأذون فيه.

وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح ، والإلجاء الذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن والقبح إنما يعنون بهما الأفعال الاختيارية.

على أن الله تعالى يقول : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » ومن المعلوم أن الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شيء.

وقال آخرون : إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه.

وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » : طه : ١٠٩ وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال : لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله : « لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ».

وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات النافية له.

توضيحه : أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان : صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله : « لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » : الرحمن : ٣٩ ،

١٥

وقوله : « يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها » : النحل : ١١١.

وصنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ » : المرسلات : ٣٥ ، وقوله : « فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ » : الشعراء : ١٠١.

والصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى : « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » : النبأ : ٣٨ والصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجئون في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون ويريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف.

وبذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية : ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقا انتهى. وقد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ » وقوله : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ » الآية.

وذلك أنه ـ أولا ـ لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا ، وليس كذلك.

و ـ ثانيا ـ لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به.

وقد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر وهو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف ، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها ، وقد ورد ذلك في بعض الروايات.

وهذا الجواب وإن كان بظاهره متميزا من الوجه السابق إلا أنه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه.

وقد يجاب بأن المراد بعدم التكلم والنطق أنهم لا ينطقون بحجة ، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم ، ولو بعضهم بعضا ، وطرح بعضهم الذنوب على بعض ، وهذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام ولا يشتمل على حجة : ما تكلمت بشيء ولا نطقت بشيء

١٦

فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء.

وفيه : أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ » وأما مثل قوله : « يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » فلا يرجع إلى معنى محصل.

وقد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر والدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ، ويؤذن لهم في بعض آخر منه.

وفيه أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله ، وعلى قولهم يكون مثلا معنى قوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ » هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر ، ويرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإن مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني وهذا الوجه الرابع واحد وإنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة وهذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى وعدم اشتماله عليه.

وقد يجاب بما يظهر من قول بعضهم : أن الاستثناء في قوله : « لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ » منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ومحصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدرة من الإنسان ، والجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى.

وفيه : أن تكلم الإنسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى وإذنه فكلما تكلم الإنسان أو فعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى ويعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا منها هو إذنه تعالى ، ويصير الاستثناء متصلا ويرجع إلى ما قدمناه من الوجه أولا أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي ، والجائز ما كان مستندا إلى السبب الإلهي فقط وهو إذنه وإرادته ، والظرف ظرف الاضطرار والإلجاء لكنهم يرون

١٧

أن سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجئون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار وقول الصدق واتباع الحق ، وقد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل وبروز الحقائق عند ذلك.

قوله تعالى : « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » السعادة والشقاوة متقابلان فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذ به فهي في الإنسان ـ وهو مركب من روح وبدن ـ أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية فيتنعم به ويلتذ ، وشقاوته أن يفقد ذلك ويحرم منه ، فهما بحسب الاصطلاح من العدم والملكة ، والفرق بين السعادة والخير إن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص والخير أعم.

وظاهر قوله تعالى : « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين.

وهو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن وكافر ومستضعف كالأطفال والمجانين وكل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل والاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم وهو أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود لا يتخلف عنه أحد ، وأنه ينتهي إلى جنة أو نار.

والمستضعفون وإن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة ومن استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى ولا يدوم عليهم الحال بالإبهام والانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين : السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار ، قال تعالى : « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » : التوبة : ١٠٦ ولازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين : السعداء والأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي.

فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر : « وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ » : الشورى : ٨ حيث إن الجملة « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » بمعونة السياق تفيد الحصر وإن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.

والذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء وإما سعيد متلبس بالسعادة وأما إن هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ وأنهما هل هما ذاتيان

١٨

لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب وعمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شيء من ذلك غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح ، والندب إلى اختيار الطاعة وترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى : « ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » : عبس : ٢٠.

وبذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة والشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية : اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه. وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا ، وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا ، وإن الشقي لا ينقلب سعيدا.

قال : وروي عن عمر أنه قال : لما نزل قوله تعالى : « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » قلت :يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال : على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ـ ولكن كل ميسر لما خلق له. قال وقالت المعتزلة : روي عن الحسن أنه قال : فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.

وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا. انتهى.

وهو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته وأثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم وهو الآن كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضيء بعد كم ساعة ـ وهو حكم حق ـ لا يوجب إضاءة الهواء ليلا. وحكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة ، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.

فقوله : « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » وهو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم القيامة وآخرون سعداء يوم القيامة أن كان حكما بشقاوتهم وسعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا وكذا يوم القيامة ومن المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في

١٩

ظرفه وإلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا وعلمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا هذا الآن ، ولا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا دائما. وهو ظاهر.

وليت شعري ما الذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما وفي الجنة قبل يوم القيامة وفي النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها وفي غيرها كالشقاوة والسعادة على حد سواء.

وأما ما أورده من الرواية وفيها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولكن كل ميسر لما خلق له » فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا وسيجيء توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

وأما قوله أخيرا : « لا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا » يريد أن تعلق القضاء بالعمل ـ ومن المحال أن يتخلف متعلقه عما قضى عليه ـ توجب صيرورته ضروري الثبوت ، ويكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل والترك بالنسبة إلى الفاعل ، لا تأثير للفاعل فيه ولا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة ، وإنما بين الفاعل وفعله ، وبين الفعل والأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة ، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك وذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين ولا تأثير حقيقي لأحدهما في الآخر.

وهذه مغالطة أخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب ونسبة الإمكان فإن للعمل علة تامة يجب بها وجوده ، وهي إرادة الإنسان ، وسلامة أدوات العمل منه ، ووجود مادة قابلة للعمل ، والزمان ، والمكان ، وعدم الموانع والعوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت وتمت وكملت كان ثبوت العمل ضروريا ، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب ، وله إلى كل واحد من أجزاء علته التامة ومن جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن وإنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العلة.

٢٠