الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم ـ وهم نفس واحدة والنفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها ـ فليس من المؤمنين ، فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون ، وإنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين وغيرهم ، ولذلك بني الكلام على العموم فقيل : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ، ولم يقل : ومن يفعل ذلك منكم.

وذيل الآية أعني قوله. ( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله : ذلك هو النهي عن قتل الأنفس بناء على كون قوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ناظرا إلى تعليل النهي عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين ، فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم ورأفة ، وإلا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير ، ومع ذلك فعود التعليل وكذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الأولى أعني النهي عن أكل المال بالباطل والنهي عن قتل النفس لا ضير فيه.

وأما قول بعضهم : إن التعليل والتهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهي من أول السورة إلى هذه الآية ، وكذا قول آخرين : إن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهي من قوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) الآية ( مريم ١٩ ) إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه الآيات فمما لا دليل على اعتباره.

وتغيير السياق في قوله : فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله : « ذلِكَ » عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول ، ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله : ( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) إشعار بالتعليل ، أي وذلك عليه يسير لأنه هو الله عز اسمه.

(بحث روائي)

في المجمع ، في قوله تعالى : ( بِالْباطِلِ ) ـ قولان : أحدهما أنه الربا والقمار والبخس والظلم ، قال : وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام.

٣٢١

وفي نهج البيان ، عن الباقر والصادق عليه‌السلام : أنه القمار والسحت والربا والأيمان.

وفي تفسير العياشي ، عن أسباط بن سالم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه رجل ـ فقال له : أخبرني عن قول الله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) ، قال : عنى بذلك القمار ، وأما قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) ـ عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده ـ يجيء في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك

أقول : الآية عامة في الأكل بالباطل ، وذكر القمار وما أشبهه من قبيل عد المصاديق وكذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر.

وفيه ، عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال : حدثني الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجبائر تكون على الكسير ـ كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال : يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فإن كان في برد يخاف على نفسه ـ إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ).

وفي الفقيه ، قال الصادق عليه‌السلام : من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها ، قال الله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ـ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ـ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ).

أقول : والروايات كما ترى تعمم معنى قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) الآية كما استفدناه فيما تقدم ، وفي معنى ما تقدم روايات أخر.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن ماجة وابن المنذر عن ابن سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما البيع عن تراض.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باع رجلا ثم قال له : اختر فقال : قد اخترت فقال : هكذا البيع.

وفيه ، أخرج البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما للآخر : اختر.

أقول : قوله : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروي من طرق الشيعة أيضا ، وقوله : أو يقول أحدهما للآخر : اختر لتحقيق معنى التراضي.

٣٢٢

* * *

( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ـ ٣١. )

(بيان)

الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.

قوله تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ » ـ إلى قوله : ـ « سَيِّئاتِكُمْ » الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة ، فإن الإنسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه ، وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه فاجتنبه ، فالاجتناب هو الترك ، قال الراغب : وهو أبلغ من الترك ، انتهى ، وليس إلا لأنه مبني على الاستعارة ، ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والأجنبي.

والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها ، والكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ، ومن هنا كان المستفاد من قوله : ( كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة ، فيتبين من الآية : أولا : أن المعاصي قسمان : صغيرة وكبيرة ، وثانيا : أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.

نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الإنسان وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.

وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها ولا يخلو قوله تعالى : ( ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، من إشعار أو دلالة على ذلك ، والدليل على أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك.

٣٢٣

قوله تعالى : « وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً » المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان والمراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه وإن كان مرجعهما واحدا.

(كلام في الكبائر والصغائر وتكفير السيئات)

لا ريب في دلالة قوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) ، الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر سميت في الآية بالسيئات ، ونظيرها في الدلالة قوله تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الآية : « الكهف : ٤٩ » ، إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة والكبيرة صغائر الذنوب وكبائرها.

وأما السيئة فهي بحسب ما تعطيه مادة اللفظ وهيئته هي الحادثة أو العمل الذي يحمل المساءة ، ولذلك ربما يطلق لفظها على الأمور والمصائب التي يسوء الإنسان وقوعها كقوله تعالى : ( وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية : « النساء : ٧٩ » ، وقوله تعالى : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ) الآية : « الرعد : ٦ » ، وربما أطلق على نتائج المعاصي وآثارها الخارجية الدنيوية والأخروية كقوله تعالى : ( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) ، الآية : « النحل : ٣٤ » ، وقوله تعالى : ( سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) : « الزمر : ٥١ » ، وهذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق ، وربما أطلق على نفس المعصية كقوله تعالى : ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الآية : « الشورى : ٤٠ » ، والسيئة بمعنى المعصية ربما أطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر والكبائر كقوله تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) : « الجاثية : ٢١ » ، إلى غير ذلك من الآيات.

وربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية ، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر.

وبالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.

وكذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان ، وهي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة

٣٢٤

إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر ، فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار ، فإن ذلك لا معنى له لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك ، وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه ، وهذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه ، فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي تعد غفران الذنوب كقوله تعالى : « ( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) الآية : « الزمر : ٥٤ » فكما لا يصح أن يقال هناك : أن الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة وتطييب النفوس بذلك فكذا هاهنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآيسة بالرجاء.

ومن هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر ويميزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلق بها ، ولا أقل من أن يقال : إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.

وذلك أن الإنسان إذا عرف الكبائر وميزها وشخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة وتوبة نصوح ونفس هذا العلم مما يوجب تنبه الإنسان وانصرافه عن ارتكابها.

وأما الشفاعة فإنها وإن كانت حقة إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه واستهزأ بالتوبة والندامة. واقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل وتهاون في أمر الله سبحانه وهو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا.

ومن هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهي الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم.

٣٢٥

ومما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر ، وهي كثيرة : منها ما قيل : إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا حدا. وفيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة

لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا ، وكذا ولاية الكفار وأكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.

ومنها قول بعضهم : إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن ، وربما أضاف إليه بعضهم السنة. وفيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا.

ومنها قول بعضهم : إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين واستحسنه الرازي. وفيه أنه عنوان الطغيان والاعتداء وهي إحدى الكبائر وهناك ذنوب كبيرة موبقة وإن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم وزنا المحارم وقتل النفس المؤمنة من غير حق.

ومنها قول بعضهم : إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض ، وهذا كالمقابل للقول السابق. وفيه أن الطغيان والاستهانة ونحو ذلك من أكبر الكبائر وهي عناوين طارية ، وبطروها على معصية وعروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.

ومنها قول بعضهم : إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية ، وكان المراد أن قوله : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والزنا ونحو ذلك. وفيه أنه ينافي إطلاق الآية.

ومنها قول بعضهم ( وينسب إلى ابن عباس ) : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، ولعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما ، وفيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة والصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض ، وهذا الذي ذكره مبني على قياس حال الإنسان في مخالفته ـ وهو عبد ـ إلى الله سبحانه ـ وهو رب كل شيء ـ ومن الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى : ( كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا : إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم ولا سيئة مع اجتناب المعاصي ، وإن أريد تكفير

٣٢٦

سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول ، وهو خلاف ظاهر الآية من العموم ، ولو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي واجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه ، وهذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن السيئة واللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.

ومنها : أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه ، والكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه ، نسب إلى المعتزلة وفيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية ولا غيرها من آيات القرآن ، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه ، وقد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وقالوا أيضا : يجب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ولا تحسن المؤاخذة عليها ، وهذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.

ومنها : أن الكبر والصغر اعتباران يعرضان لكل معصية ، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية واستهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة ، وهي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.

ولما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد والاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها عنادا واعتداء فهي كبيرة وإلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد والاعتداء.

قال بعضهم : إن في كل سيئة وفي كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر وصغيرة أو صغائر ، وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والأمر واحترام التكليف ، ومنه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالأمر والنهي فالله تعالى يقول : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه ( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.

وفيه : أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا واستعلاء

٣٢٧

على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شيء من هذه العناوين عليه ، فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وقتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض ، نعم كلما عرض شيء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه وكبرت المعصية وعظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس وغلبة الشهوة والجهالة كالزنا بالاستباحة.

على أن هذا المعنى ( أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها ) معنى رديء لا يحتمله قوله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام.

ومنها : ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه (١) من الجمع بين الأقوال وهو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة وصغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية وإن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر ، فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن.

فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل وجرم الفعل ، ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب ووباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعه مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل.

فإذا اقترف الإنسان شيئا من المعاصي وقد هيأ لنفسه شيئا من النور والصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية ونور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية ووبال الذنب نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته ، وهذه هي المعصية الكبيرة ، وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء أزالت ظلمة الجهل وقذارة الذنب ببطلان مقدار

__________________

(١) نقله الفخر الرازي في تفسيره عن الغزالي في منتخبات كتاب الإحياء.

٣٢٨

يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة ، ويبقى الباقي من نورها وصفائها تتنور وتصفو به النفس ، وهذا معنى التحابط ، وهو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات ، وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.

وأما تكافؤ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب فهو وإن كان مما يحتمله العقل في بادي النظر ، ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية ، ولا نور لنفسه ولا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ». انتهى ملخصا.

وقد رده الرازي بأنه يبتني على أصول المعتزلة الباطلة عندنا ، وشدد النكير على الرازي في المنار قائلا :

وإذا كان هذا ( يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة والكبيرة في نفسها ) صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له : هل الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير :

أنه قال : هي إلى السبعمائة أقرب ، وإنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الأشعرية.

وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية وقال : معاصي الله كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة وكبيرة بإضافة (١) ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين : صغائر وكبائر ، وهذا ليس بصحيح انتهى ، وأول الآية تأويلا بعيدا.

وهل يئول الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم ، وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين ، وسترى ما ينقله الرازي عن الغزالي ، ويرده لأجل ذلك ، وأين الرازي من الغزالي ، وأين معاوية من علي. انتهى. ويشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي والرازي.

__________________

(١) أي الإضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا إضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.

٣٢٩

وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات.

الأولى : أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص ، وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم الثاني ، ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.

والثانية : أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا. وأي دليل من طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي وثواب الطاعات؟.

والذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا ، فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء ، وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة ، وشيئا منها للرذيلة خاصة ، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوي عن ابتلاع أموال الناس ، ولا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ، ويجتهد في الصلوات المفروضة ، ويبالغ في خضوعه وخشوعه ، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء وهتك الأعراض والإفساد في الأرض ويخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات والقربات ، وهذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها ، وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض ، ولا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان ويغيب كل عند ظهور الأخرى وانتهاضها وإمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا.

٣٣٠

والثالثة : أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة والتمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها وعدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب وهو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضي.

قال الغزالي في الإحياء : اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره ، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا ، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ، انتهى.

وقال أيضا في محل آخر : كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها ، والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو ، فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو ، انتهى كلامه.

وكلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول.

والكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات والسيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة وبالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه ، ويدل عليه اعتبار حال الأخلاق والحالات النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب والعقاب.

وأما الكبائر والصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس

٣٣١

بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية وشرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة وبعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط والتكفير بالكلية.

ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها وما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية ، ومن المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب

الكبائر وما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها ويقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم ، وتنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.

فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر وتتوق نفسه إليه منها وهي الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.

وأما إن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الإنسان إذا لم يقترف الكبائر خلي ما بينه وبين الصغائر والطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) : « هود : ١١٤ » ، ظاهر الآية ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية ) أن للاجتناب دخلا في التكفير ، وإلا كان الأنسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله : ( إِنَّ الْحَسَناتِ ) الآية ، أو إن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية.

والدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.

(بحث روائي)

في الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : الكبائر ، التي أوجب الله عليها النار.

وفي الفقيه ، وتفسير العياشي ، عن الباقر عليه‌السلام : في الكبائر قال : كل ما أوعد الله عليها النار.

٣٣٢

وفي ثواب الأعمال ، عن الصادق عليه‌السلام : من اجتنب ما أوعد الله عليه النار ـ إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما ، والكبائر السبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف.

أقول : والروايات من طرق الشيعة وأهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها وقد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية ولعله عليه‌السلام أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر ويشير إليه قوله : إذا كان مؤمنا.

وفي المجمع ، : روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : دخل عمرو بن عبيد البصري ـ على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، فلما سلم وجلس تلا هذه الآية : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) ثم أمسك ، فقال أبو عبد الله : ما أسكتك؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله ، قال : نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله ـ لقول الله عز وجل : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) ، وقال : ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ ) ، وبعده اليأس من روح الله لأن الله يقول : ( لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ، ثم الأمن من مكر الله لأن الله يقول : ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) ، ومنها عقوق الوالدين لأن الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا ـ في قوله : ( وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) ، ومنها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) الآية ، وقذف المحصنات لأن الله يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ـ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ، وأكل مال اليتيم لقوله : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ) الآية ، والفرار من الزحف لأن الله يقول : ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ـ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ، وأكل الربا لأن الله يقول : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ ـ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ ) ، ويقول : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ، والسحر لأن الله يقول : ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) ، والزنا لأن الله يقول : ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ـ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) ، واليمين الغموس لأن الله يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ

٣٣٣

ثَمَناً قَلِيلاً ـ أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) الآية ، والغلول قال الله : ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ، ومنع الزكاة المفروضة لأن الله يقول : ( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ـ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) الآية ، وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله يقول : ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) ، وشرب الخمر لأن الله عدل بها عبادة الأوثان ، وترك الصلاة متعمدا وشيئا مما فرض الله تعالى ـ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من ترك الصلاة متعمدا فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله ، ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن الله يقول : ( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ).

قال : فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه وهو يقول : هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم.

أقول : وقد روي من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس ، ويتبين بالرواية أمران.

الأول : أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهي عنها إما بالإصرار والبلوغ في النهي أو بالإيعاد بالنار ، من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله عليه‌السلام ، ومنه يظهر معنى ما مر في ( حديث الكافي ، : أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار ) ، وما مر في ( حديث الفقيه ، وتفسير العياشي ، : أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار ) ، فالمراد بإيجابها وإيعادها أعم من التصريح والتلويح في كلام الله أو حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالإيعاد بالنار أعم من التصريح والتلويح في قرآن أو حديث ، ويشهد بذلك ما في ( تفسير الطبري ، عن ابن عباس قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ) ، ويتبين بذلك أن ما نقل عنه أيضا في ( تفسير الطبري ، وغيره : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ) ليس خلافا في معنى الكبيرة وإنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الإنسان إلى عظمة ربه كما مر.

والثاني : أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم وما يأتي من الروايات ، أو في ثمانية ، أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة ، أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات أخرى كل ذلك باعتبار اختلاف

٣٣٤

مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر : وأكبر الكبائر الشرك بالله.

وفي الدر المنثور ، أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اجتنبوا السبع الموبقات ـ قالوا : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.

وفيه ، أخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أهل اليمن كتابا ـ فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم.

قال : وكان في الكتاب ـ أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله ـ وقتل النفس المؤمنة بغير حق ، والفرار يوم الزحف ، وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة ، وتعلم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم.

وفيه ، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، عن أنس : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية.

* * *

( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ـ ٣٢. وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ـ ٣٣. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ

٣٣٥

حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ـ ٣٤. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ـ ٣٥. )

(بيان)

الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث وأحكام النكاح يؤكد بها أمر الأحكام السابقة ، ويستنتج منها بعض الأحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في المعاشرة بين الرجال والنساء.

قوله تعالى : « وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ » التمني قول الإنسان : ليت كذا كان كذا ، والظاهر أن التسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة المعنى ، وإنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا أو كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر.

وظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل وزيادة موجودة ثابتة بين الناس ، وأنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال والنساء بهذا الفضل ، وأنه ينبغي الإعراض عن التعلق بمن له الفضل ، والتعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى ، وبهذا يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي الرجال والنساء بتشريع الأحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات ، وزيادة السهم في الميراث ، ومزية النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهن ، ووجوب نفقتهن على الرجال.

فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر والفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الإنسانية لما أودعه الله في النفوس

٣٣٦

من حبها والسعي لها لعمارة هذه الدار ، فيظهر الأمر أولا في صورة التمني فإذا تكرر تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى مقام العمل والفعل الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الأرض ، ويهلك الحرث والنسل.

ومن هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ الأحكام المشرعة المذكورة ، وليس بنهي مولوي.

وفي نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه ، والتعبير بقوله : ( بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) إيقاظ لصفة الخضوع لأمر الله بإيمانهم به ، وغريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه المفضل عليه أن المفضل بعض منه غير مبان.

قوله تعالى : « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ » ذكر الراغب : أن الاكتساب إنما يستعمل فيما استفاده الإنسان لنفسه ، والكسب أعم مما كان لنفسه أو لغيره ، والبيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق عن التمني وبمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند من يختص بها لأنه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما اختصوا بجواز اتخاذ أربع نسوة مثلا وحرم ذلك على النساء لأن موقعهم في المجتمع الإنساني موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء ، وخصوا في الميراث بمثل حظ الأنثيين لذلك أيضا ، وكذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال وجعل نفقتهن على الرجال وخصصن بالمهر لاستدعاء موقعهن ذلك ، وكذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص ، وما الله يريد ظلما للعباد.

ومن هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة والاختصاص أعم من أن يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه ينتهي إلى تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الإنسان بذكورية أو أنوثية توجب له سهما ونصيبا كذا.

وأئمة اللغة وإن ذكروا في الكسب والاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الإنسان

٣٣٧

بعمل اختياري كالطلب ونحوه لكنهم ذكروا أن الأصل في معنى الكسب هو الجمع ، وربما جاز أن يقال : اكتسب فلان بجماله الشهرة ونحو ذلك ، وفسر الاكتساب في الآية بذلك بعض المفسرين ، وليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه والاستعارة.

وأما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الإنسان بعمله ، ويكون المعنى : للرجال نصيب مما استفادوه لأنفسهم من المال بعملهم وكذا النساء ويكون النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو حرفة فهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية ، وانقطاع رابطتها مع ما تقدم من آيات الإرث والنكاح.

وكيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى : ولا تتمنوا الفضل والمزية المالي وغير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال والنساء ففضل به بعضكم على بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لأنه أحرزه بنفسيته في المجتمع الإنساني أو بعمل يده بتجارة ونحوها ، وله منه نصيب ، وإنما ينال كل نصيبه مما اكتسبه.

قوله تعالى : « وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ » ، الإنعام على الغير بشيء مما عند المنعم لما كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا ، ولما صرف الله تعالى وجوه الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل والرغبة فيه ، وكان حب المزايا الحيوية بل التفرد بها والتقدم فيها والاستعلاء من فطريات الإنسان لا يسلب عنه حينا صرفهم تعالى إلى نفسه ، ووجه وجوههم نحو فضله ، وأمرهم أن يعرضوا عما في أيدي الناس ، ويقبلوا إلى جنابه ، ويسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله ، وهو الذي أعطى كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به وتفضلون بذلك على غيركم ممن ترغبون فيما عنده ، وتتمنون ما أعطيه.

وقد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة « مِنْ » عليه ، وفيه من الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء والمسألة من جنابه تعالى فإن الأليق بالإنسان المبني على الجهل بما ينفعه ويضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه وما يضرهم ، القادر على كل شيء أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه ، ولا يطنب في تشخيص ما يسأله منه وتعيين الطريق إلى وصوله ، فكثيرا ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه ومنزلة أو صحة وعافية وكان

٣٣٨

يلح في الدعاء والمسألة لأجلها لا يريد سواها ثم لما استجيب دعاؤه ، وأعطي مسألته كان في ذلك هلاكه وخيبة سعيه في الحياة.

وثانيا : الإشارة إلى أن يكون المسئول ما لا يبطل به الحكمة الإلهية في هذا الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين ، فمن الواجب أن يسألوا شيئا من فضل الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة وفسدت الأحكام والقوانين المشرعة فافهم.

فينبغي للإنسان إذا دعا الله سبحانه عند ما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده وإذا سأله مما عنده أن لا يعلم لربه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيرا من عنده.

وأما قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً » فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شيء عليم لا يجهل طريق المصلحة ولا يخطئ في حكمه.

(كلام في حقيقة قرآنية)

اختلاف القرائح والاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الإنسان مما ينتهي إلى أصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات الحياة وعلى ذلك جرى الحال في المجتمعات الإنسانية من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم.

فقد كانت الأفراد القوية من الإنسان يستعبدون الضعفاء ويستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم وهوى نفوسهم من غير قيد أو شرط ، وكان لا يسع لأولئك الضعفاء المساكين إلا الانقياد لأوامرهم ، ولا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه ويريدونه منهم لكن القلوب ممتلئة غيظا وحنقا والنفوس متربصة ولا يزال الناس على هذه السنة التي ابتدأت سنة شيوخية وانتهت إلى طريقة ملوكية وإمبراطورية.

حتى إذا وفق النوع الإنساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة وإلزام أولياء الحكومة والملك على اتباع الدساتير والقوانين الموضوعة لصلاح المجتمع وسعادته فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافية ، وسيطرة السنن الاستبدادية ظاهرا وارتفع

٣٣٩

اختلاف طبقات الناس وانقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان ومملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض غير الأرض ، ومنظر غير منظره السابق ، والثمرة هي الثمرة ، وهو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض ، وصفارة الكف عند آخر ، وبعد ما بين القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلا أن ينفذ بثروته في جميع شئون حياة المجتمع ، ولا المسكين المعدم إلا أن ينهض للبراز ويقاوم الاضطهاد.

فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة وإلغاء المالكية ، وإبطال رءوس الأموال ، وأن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه وهيأه كماله النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة والجدة غير أنه أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة وهو بطلان حرية إرادة الفرد ، وانسلاب اختياره ، والطبيعة تدفع ذلك ، والخلقة لا توافقه ، وهيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة ويضطهد الخلقة.

على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الإنسانية لا تنشط إلا لعمل فيه إمكان التميز والسبق ، ورجاء التقدم والفخر ومع إلغاء التمايزات تبطل الأعمال ، وفيه هلاك الإنسانية ، وقد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى الغايات والمقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية ، وعاد بذلك المحذور جذعا فإن الإنسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها ، وإن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادي.

وقد احتالت الديمقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنة بتوسعة التبليغ وبضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب والمتاجر ، ولما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد طريق هجوم الشر على سنتهم أنفسهم ولا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم ومظالمهم ، وهم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط وتداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط ووضع اليد عليه وإدارته ما يستفاد من ملكه.

فلا هؤلاء عالجوا الداء ولا أولئك ، ولا دواء بعد الكي ، وليس إلا لأن الذي جعله البشر غاية وبغية لمجتمعه ، وهو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى قطب الفساد ، ولن تنقلب عن شأنها أينما حولت ، ومهما نصبت.

٣٤٠