الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

ويحتمل على بعد أن يكون قوله : ( وَلِلَّهِ مِيراثُ ) حالا من فاعل قوله يبخلون ، وقوله : ( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.

(بحث روائي)

في تفسير العياشي ، عن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟

فقال : الموت خير للمؤمن والكافر ـ لأن الله يقول : ( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ) ، ويقول : ( لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ) ، الآية.

أقول : الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال : إن المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شيء من البر ، وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود.

* * *

( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ـ ١٨١. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ـ ١٨٢. الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ـ ١٨٣. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ ـ

٨١

١٨٤. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ ـ ١٨٥. )

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ـ ١٨٦. وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ـ ١٨٧. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ـ ١٨٨. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ١٨٩. )

(بيان)

الآيات مرتبط بما قبلها ، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس وترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وتحذيرهم عن الوهن والفشل والبخل فيرتبط بها قول اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء ، وتقليبهم الأمر على المسلمين ، وتكذيبهم آيات الرسالة ، وكتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه ، وهذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة والصبر والثبات ، والتحريض على الإنفاق في سبيل الله.

قوله تعالى : « لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ » القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء وغير ذلك.

٨٢

وإنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) الآية : « البقرة : ٢٤٥ » ويشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) ، الآية.

أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم ، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم فليس إلا فقيرا ونحن أغنياء.

قوله تعالى : « سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ » الآية ، المراد بالكتابة الحفظ والتثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم ، والمآل واحد ، والمراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان والعمد دون السهو والخطإ والجهالة ، وقد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما ، وقوله : ( عَذابَ الْحَرِيقِ ) ، الحريق النار أو اللهب وقيل : هو بمعنى المحرق.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ » الآية ، أي بما قدمتم أمامكم من العمل ونسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا ، وقوله : ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) عطف على قوله : ( بِما قَدَّمَتْ ) ، وتعليل للكتابة والعذاب ، فلو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال وفي ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك.

قوله تعالى : « الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا » الآية ، نعت للذين قبله والعهد هو الأمر ، والقربان ما يتقرب به من النعم وغيره ، وأكل النار كناية عن إحراقها ، والمراد بقوله : ( قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي ) ، أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.

قوله تعالى : « فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ » الآية ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكذيبهم له ، والزبر جمع زبور وهو كتاب الحكم والمواعظ ، وقد أريد بالزبر والكتاب المنير مثل كتاب نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل.

قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » ، الآية تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب وقد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس ، والتوفية هو الإعطاء الكامل ، وقد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء

٨٣

وأن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل ، وهو استدلال حسن ، والزحزحة هو الإبعاد ، وأصله تكرار الجذب بعجلة ، والفوز الظفر بالبغية ، والغرور مصدر غر أو هو جمع غار.

قوله تعالى : « لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ » الآية ، الإبلاء الاختبار ، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء والإبلاء على المؤمنين ، ثم ذكر قول اليهود وهو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي والأقاويل المؤذية من أهل الكتاب والمشركين ستتكرر على المؤمنين ، ويكثر استقبالها إياهم وقرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل والفشل ، ويكونوا أرباب عزم وإرادة ، وهذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم ، ويوطنوا عليه أنفسهم.

وقد وضع في قوله : ( وَلَتَسْمَعُنَ ) إلى قوله : ( أَذىً كَثِيراً ) ، الأذى الكثير موضع القول وهو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.

قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ » ، النبذ الطرح ، ونبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك وعدم الاعتناء كما أن قولهم : جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ واللزوم.

قوله تعالى : « ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ) إلى آخر الآيتين ، أي بما أنعم عليهم من المال ولازمه حب المال والبخل به ، والمفازة النجاة وإنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.

ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات والأرض ، وقدرته على كل شيء ، وهذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.

(بحث روائي)

في الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة: في قوله : ( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ ) الآية ، قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ـ فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ) ، قال : يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.

٨٤

وفي تفسير العياشي ، : في الآية عن الصادق عليه‌السلام قال : والله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير ، ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا : لو كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.

وفي المناقب ، عن الباقر عليه‌السلام : هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.

أقول : أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية ، وأما الثالثة فهي من الجري.

وفي الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : كان بين القائلين والقاتلين خمسمائة عام ـ فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.

أقول : ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي.

وفي الدر المنثور ، في قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الآية ، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب ـ قال : لما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاءت التعزية ـ جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه ـ فقال : السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته ـ كل نفس ذائقة الموت ـ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ـ إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب ، فقال علي : هذا الخضر.

وفيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ـ ثم تلا هذه الآية : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ).

أقول : ورواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره ، واعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري.

* * *

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ

٨٥

لِأُولِي الْأَلْبابِ ـ ١٩٠. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ ـ ١٩١. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ـ ١٩٢. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ ـ ١٩٣. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ـ ١٩٤. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ـ ١٩٥. لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ـ ١٩٦. مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ـ ١٩٧. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ـ ١٩٨. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ـ ١٩٩. )

٨٦

(بيان)

الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب في هذه السورة ، بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه ، والتفكر في آياته والاستجارة بالله من عذاب النار ، وسؤال المغفرة والجنة ، وأن الله استجاب لهم وسيرزقهم ما سألوه ـ هذه عامة حالهم ـ وأن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم ، وقد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.

قوله تعالى : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » ، كان المراد بالخلق كيفية وجودها وآثارها وأفعالها من حركة وسكون وتغير وتحول فيكون خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة وقد تقدم بيانها في سورة البقرة (١). وتقدم أيضا معنى أولي الألباب (٢).

قوله تعالى : « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً » « إلخ » أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام والقعود والاضطجاع ، وقد مر البحث في معنى الذكر والتفكر ، ومحصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السموات والأرض واختلاف الليل والنهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال ، وتفكرا في خلق السموات والأرض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته ويستنجزون وعده.

قوله تعالى : « رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً » ، إنما قيل « هذا » مع كون المشار إليه جمعا ومؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها وأسمائها ، والجميع في أنها خلق واحد ، وهذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم : ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) : « الأنعام : ٧٨ » ، لعدم علمه بعد بحقيقتها واسمها سوى أنها شيء.

والباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) : « الرعد : ١٧ » ولذلك لما نفوا البطلان عن

__________________

(١) تفسير آية : ١٦ من سورة البقرة

(٢) في تفسير الآية السابعة من هذه السورة.

٨٧

الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء ، وأنه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي وهو النار ، ولا راد يرد مصلحة العقاب وإلا لبطل الخلقة ، وهذا معنى قولهم : فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار.

قوله تعالى : « رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً » ، المراد بالمنادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله : ( أَنْ آمِنُوا ). بيان للنداء وأن تفسيرية ، ولما ذكروا إيمانهم بالمنادي وهو الرسول وهو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب والسيئات والموت على الكفر والذنب ، ويرغبهم في بعضها كالمغفرة والرحمة وتفاصيل الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم ويكفر عن سيئاتهم ويتوفاهم مع الأبرار وسألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة والرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا : ( فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) « إلخ » فقوله تعالى : ( عَلى رُسُلِكَ ) أي حملته على رسلك وضمنه عليك الرسل ، وقوله : ( وَلا تُخْزِنا ) ، أي بإخلاف الوعد ، ولذا عقبه بقوله : ( إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ).

وقد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله واليوم الآخر وبأن لله رسلا بالنظر في الآيات وأما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة ، وعلى السمع والطاعة فيما فيه ذلك.

قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ » « إلخ » التعبير بالرب وإضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الإلهية ويدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله : ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ) ، فلا فرق عنده تعالى بين عمل وعمل ، ولا بين عامل وعامل.

وعلى هذا فقوله تعالى في مقام التفريع : ( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا ) « إلخ » في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها ، والواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.

والآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة وتبالغ في التحريض والترغيب فيها ، وهو إيثار الدين على الوطن وتحمل الأذى في سبيل الله والجهاد.

والظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك والعشيرة والوطن لإطلاق اللفظ ، ولمقابلته قوله : ( وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ) ، وهو هجرة خاصة ، ولقوله

٨٨

بعده : ( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) ، فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب والتوبة ، فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك.

قوله تعالى : « لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ » إلخ ، هذا بمنزلة دفع الدخل والتقدير : هذا حال أبرار المؤمنين وهذا أجرهم ، وأما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال وترف الحياة ودر المعاش فلا يغرنك ذلك ( الخطاب للنبي والمقصود به الناس ) لأنه متاع قليل لا دوام له.

قوله تعالى : ( لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ) إلخ ، النزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما ، والمراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية ، وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل.

قوله تعالى : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ ، المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب ، والغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب وإن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله وبرسله فلو آمنوا كانوا هم والمؤمنون سواء.

وقد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات وهو التفريق بين رسل الله ، وكتمان ما أخذ ميثاقهم لبيانه اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا.

(بحث فلسفي ومقايسة)

المشاهدة والتجربة تقضيان أن الرجل والمرأة فردان من نوع جوهري واحد ، وهو الإنسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق ، وبروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك ، نعم يختلف الصنف بشدة وضعف في بعض الآثار المشتركة وهو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد ، وبذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر ، ومنها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان والطاعات والقربات ، وبذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه : « أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ».

وإذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين

٨٩

ففي سفر الجامعة من التوراة ، : « درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلا ، ولأعرف الشر أنه جهالة ، والحماقة أنها جنون ، فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك ، وقلبها أشراك ، ويداها قيود ، إلى أن قال : رجلا واحدا بين ألف ـ وجدت إما امرأة فبين كل أولئك لم أجد » وقد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله سبحانه ، وكانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان ، وكانت ترى الروم وبعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية ، وقرر مجمع فرنسا سنة ٥٨٦ م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل ، وكانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبا لا تعد جزء المجتمع الإنساني ، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء والعقائد وآداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.

(بحث روائي)

في الدر المنثور ، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله.

أقول : وروي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله بن سلام وابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله والرواية مروية من طرق الشيعة أيضا والمراد بالتفكر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه وقد قال تعالى : « وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً » : طه ـ ١١٠ ، وأما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى يعرف بها ، وقد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة.

وفيه ، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.

أقول : وفي بعض الروايات : من عبادة ليلة ، وفي بعضها : من عبادة سنة ، وهو مروي من طرق الشيعة أيضا.

وقد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى : ( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) ، الآية نزلت في أم سلمة ـ لما قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ـ فأنزل الله : ( فَاسْتَجابَ لَهُمْ ) ، الآية.

٩٠

وورد من طرق الشيعة: أن قوله : ( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا ) الآية ، نزلت في علي عليه‌السلام لما هاجر ومعه الفواطم : فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة بنت الزبير ، ثم لحق بهم في ضجنان أم أيمن ونفر من ضعفاء المؤمنين ـ فساروا وهم يذكرون الله في جميع أحوالهم ـ حتى لحقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد نزلت الآيات.

وورد من طرق أهل السنة: أنها نزلت في المهاجرين ، وورد أيضا أن قوله : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ) الآيات ، نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال وورد أيضا أن قوله : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) الآية ، نزل في النجاشي ونفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه يصلي على من ليس في دينه فأنزل الله : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) ، الآية.

فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص ، وليست بأسباب للنزول حقيقة.

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ـ ٢٠٠. )

(بيان)

الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة ، وفيه تخلص منه بأخذ النتيجة وإعطائها.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا » « إلخ » ، الأوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد ، والصبر في طاعة الله ، والصبر عن معصيته ، وعلى أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.

والمصابرة هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره ، وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد ، وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض وسنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.

٩١

قوله تعالى : ( وَرابِطُوا ) أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة ، الارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شئون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء ولما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة ـ وإلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة ـ عقب هذه الأوامر بقوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) يعني الفلاح التام الحقيقي.

(كلام في المرابطة في المجتمع الإسلامي)

١ ـ الإنسان والاجتماع : كون النوع الإنساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك ، ولم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض.

وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) ، الآية : « الحجرات : ١٣ » وقال تعالى : ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) : « الزخرف : ٣٢ » ، وقال تعالى : ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) : « آل عمران : ١٩٥ » ، وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) : « الفرقان : ٥٤ » ، إلى غير ذلك. (١)

٢ ـ الإنسان ونموه في اجتماعه : الاجتماع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء والزيادة بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثني هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الإنسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم والإرادة تدريجية الكمال في الإنسان والذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه

__________________

(١) وليرجع في دلالة كل واحدة من الآيات إلى المحل المختص بها من هذا التفسير

٩٢

الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذي وغيره ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام وهو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الأمة وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم وأشجعهم ثم أشجعهم ، وأكثرهم مالا وولدا وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها ( المنزلي وغيره ) وإن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلا بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الأخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.

والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلا واعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى : ( وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) : « يونس : ١٩ » ، وقال : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) : « البقرة : ٢١٣ » ، حيث ينبئ أن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ، ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.

وقال تعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) : « الشورى : ١٣ » ، فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.

والآية ـ كما ترى ـ تحكي هذه الدعوة ( دعوة الاجتماع والاتحاد ) عن نوح عليه‌السلام وهو أقدم الأنبياء أولي الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى (ع)

٩٣

وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الأحكام ، وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل وليس في شريعة موسى ـ على ما قيل ـ إلا ستمائة حكم تقريبا.

فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن ، والتاريخ يصدقه على ما سيجيء.

٣ ـ الإسلام وعنايته بالاجتماع : لا ريب أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شئونه فانظر ـ إن أردت زيادة تبصر في ذلك ـ إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ.

ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة.

وأما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة والمانوية والثنوية وغيرها فالأمر فيها أظهر وأجلى.

وأما الأمم المتمدنة وغيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام ، واجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي والوطني والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة ، ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتني أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره ، وتجعله موردا للبحث والعمل ، حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني إمبراطورية الروم والفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثها.

نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط

٩٤

وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقا وصحائف لا ترد مورد العمل ، ومثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج ، والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.

فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني ودعي به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الإهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين ، قال تعالى : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) : « الأنعام : ١٥٣ » ، وقال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، إلى أن قال : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) ( يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب ) ( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ) : « آل عمران : ١٠٥ » ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) : « الأنعام : ١٥٩ » ، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد.

وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) : « الحجرات : ١٠ » ، وقال : ( وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) : « الأنفال : ٤٦ » ، وقال : ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) : « المائدة : ٢ » ، وقال : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) : « آل عمران : ١٠٤ » إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإيضاح.

٤ ـ اعتبار الإسلام رابطة الفرد والمجتمع : الصنع والإيجاد يجعل أولا أجزاء ابتدائية لها آثار وخواص ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة فالإنسان مثلا له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك ، وربما لم تأتلف وبقيت على حال التباين والتفرق كالسمع والبصر والذوق والإرادة والحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة

٩٥

الواحد الحادث الذي هو الإنسان ـ ، وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ، ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها وتربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الأفعال المادية والروحية فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان وهو واحد ، وأفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد وهي ذات خواص كثيرة نوعها واحد وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.

وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقة هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) : « الفرقان : ٥٤ » ، وقال : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) : « الحجرات : ١٣ » ، وقال : ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) : « آل عمران : ١٩٥ ».

وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة أخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم وقواهم وخواصهم وآثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود ، ولذلك اعتبر القرآن للأمة وجودا وأجلا وكتابا وشعورا وفهما وعملا وطاعة ومعصية فقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) : « الأعراف : ٣٤ » ، وقال : ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) ، : « الجاثية : ٢٨ » وقال : ( زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) « الأنعام : ١٠٨ » ، وقال : ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ) : « المائدة : ٦٦ » ، وقال : ( أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ ) : « آل عمران : ١١٣ » ، وقال : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) : « غافر : ٥ » ، وقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) : « يونس : ٤٧ ».

ومن هنا ما نرى أن القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ، ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خالدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي

٩٦

بتبديل الأشخاص أمما ، وأول من سنه على ما يقال : « أغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة ١٨٥٧ ميلادية ».

وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد ، على أن الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معا ، فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها ، فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه ، وكذا الخوف العام والدهشة العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الإدراك والفكر.

وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الأخر ولا في سنن الملل المتمدنة ( ولعلك لا تكاد تصدق ذلك ) ، فإن تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس والتقدير.

فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج والصلاة والجهاد والإنفاق وبالجملة التقوي الديني على أساس الاجتماع ، وحافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ، ومضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الإسلامي ـ وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك ـ هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله ، وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان وسره ـ فضلا عما في ظاهره ـ وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا هو الذي ذكرنا أن الإسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.

٩٧

٥ ـ هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء والبقاء؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناء وأتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية ـ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.

وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاما ، وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم ، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة ، وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام ، وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا عقليا غير جائز النيل.

وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الأفراد وطهارتهم من الرذائل وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.

وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ، ولتوضيح ذلك نقول :

أما قولهم : إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ، ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه ، فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا

٩٨

حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل والشرائط بعد ، والتاريخ يشهد (١) بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديمقراطية والاشتراك ، وإلى مثله يشير قوله تعالى : « ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) : ـ آل عمران : ١٣٧ ، يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.

فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة.

والإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية ، فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر السنن وليس حال الإسلام اليوم ـ وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر ونشب في قلوبهم ـ بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم.

وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان.

وهذا الأنموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل

__________________

(١) ومن أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى ( وهي اليوم السنة العالمية المرضية الوحيدة ) تحولت في روسيا إلى الشيوعية والحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية الثانية ممالك أوربا الشرقية ومملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديمقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع البشري. وقد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد « ستالين » كان قد حرف مدى حكومته وهو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية الاستبدادية وحتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر ، وترتد عنها طائفة بعد الإيمان ، وهي تطوى وتبسط ، وهناك نماذج وأمثلة أخرى كثيرة في التاريخ.

٩٩

من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها ، وحول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم.

ولا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين من أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير ـ لو أنصف النظر ـ أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه‌السلام قائدها وحامل لوائها والمسيح يصرح (١) بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة؟ وهو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع والتآلف ويتصرف في جميع شئون المجتمع الإنساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح والإغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام ( وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) وإخماد ناره عن القلوب بغيا وعدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة.

وبالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم ، وما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية ، ولا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما ( مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقية ) وقد تقدم في تفسير قوله : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) : « البقرة : ٢١٣ » أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الإنساني ، وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) : « المائدة : ٥٤ » وقال : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) الآية : « النور : ٥٥ » ، وقال : ( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) : « الأنبياء : ١٠٥ » ، إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) راجع الجزء الثالث في تفسير آية ٧٩ ـ ٨٠ من سورة آل عمران.

١٠٠