الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

والذي يراه الإسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الإنسانية ، ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب المالية ونحوها ، وخفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الإسراف والتبذير والتظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط ، وتعديل ذلك بالتوحيد والأخلاق ، وصرف الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى وابتغاء ما عند الله من الفضل.

وهو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) الآية ، وقوله : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) : « الحجرات : ١٣ » ، وقوله : ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ) : « الذاريات : ٥٠ » ، وقد بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الأسباب الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل : إن الإسلام دين البطالة والخمود عن ابتغاء المقاصد الحيوية الإنسانية إلا رمية من غير مرمى جهلا ، هذا ملخص القول في هذا المقصد ، وقد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.

قوله تعالى : « وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » الآية ، الموالي جمع مولى ، وهو الولي وإن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيد العبد لولايته عليه ، والمولى للناصر لولايته على أمر المنصور ، والمولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمه ، ولا يبعد أن يكون في الأصل مصدرا ميميا أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة والمحكمة ونريد بهما الحاكم.

والعقد مقابل الحل ، واليمين مقابل اليسار ، واليمين اليد اليمنى ، واليمين الحلف وله غير ذلك من المعاني.

ووقوع الآية مع قوله قبل : ( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) ، في سياق واحد ، واشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه ، وأن الله جعل لكل موالي مما ترك الوالدان والأقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا ) إلخ بضميمة الآية السابقة تلخيصا للأحكام والأوامر التي في آيات الإرث ، ووصية إجمالية لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الإرث : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) الآية تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب الإرث تعود إليه تفاصيل أحكام الإرث.

٣٤١

ولازم ذلك أن ينطبق من أجمل ذكره من الوراث والمورثين على من ذكر منهم تفصيلا في آيات الإرث ، فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الأولاد والأبوين والإخوة والأخوات وغيرهم.

والمراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله : ( الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) الأصناف المذكورة في آيات الإرث ، وهم ثلاثة : الوالدان والأقربون والزوجان فينطبق قوله : ( الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) على الزوج والزوجة.

فقوله : « وَلِكُلٍّ » أي ولكل واحد منكم ذكرا أو أنثى ، جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال ، وقوله ( مِمَّا تَرَكَ ) ، من فيه للابتداء متعلق بالموالي كأن الولاية نشأت من المال ، أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما ترك ، وما ترك هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان والأقربون نسبا والزوج والزوجة.

وإطلاق « الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » على الزوج والزوجة إطلاق كنائي فقد كان دأبهم في المعاقدات والمعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت العقود ، وأبرمت العهود فالمراد : الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم وبينهم.

وقوله : « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » الضمير للموالي ، والمراد بالنصيب ما بين في آيات الإرث ، والفاء للتفريع ، والجملة متفرعة على قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) ، ثم أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ).

وهذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها ، وربما ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث ، ولا دليل عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة.

وربما قيل : إن « من » في قوله ( مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) ، بيانية والمراد بما الورثة الأولياء ، والمعنى : ولكل منكم جعلنا أولياء ، يرثونه وهم الذين تركهم وخلفهم الوالدان والأقربون.

وربما قيل : إن المراد بـ ( الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) الحلفاء ، فقد كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف.

٣٤٢

وعلى هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها ، والمعنى : والحلفاء آتوهم سدسهم ، ثم نسخ ذلك بقوله : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ). وقيل : إن المراد : آتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد ، ولا ميراث ، وعلى هذه فلا نسخ في الآية.

وربما قيل : إن المراد بهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، وكانوا يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث.

وربما قيل : أريد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم بوصية ، وذلك قوله تعالى : ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ).

وهذه معان لا يساعدها سياق الآية ولا لفظها على ما لا يخفى للباحث المتأمل ، ولذلك أضربنا عن الإطناب في البحث عما يرد عليها.

قوله تعالى : « الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ » القيم هو الذي يقوم بأمر غيره ، والقوام والقيام مبالغة منه.

والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء ، وهو زيادة قوة التعقل فيهم ، وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد من الأعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة ، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن ونفقاتهن.

وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله : « الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ » غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلا اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع ، إنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء ، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء.

وعلى هذا فقوله : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ذو إطلاق تام ، وأما قوله بعد : ( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) « إلخ » الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو

٣٤٣

فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه.

قوله تعالى : « فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ » المراد بالصلاح معناه اللغوي ، وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس. والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع.

ومقابلتها لقوله : ( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ) إلخ ، تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات ، وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا ، وأن قوله : ( قانِتاتٌ حافِظاتٌ ) ـ الذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن ـ حكم مربوط بشئون الزوجية والمعاشرة المنزلية ، وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شئون الزوجية.

وبعبارة أخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة ولا تصرف ، ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية ، والدفاع عنها ، والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور ، وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره ، وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال ، وسلطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزلية.

فقوله : ( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح ، وإذا كن صالحات فهن لا محالة قانتات ، أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ، ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

٣٤٤

وأما قوله : « بِما حَفِظَ اللهُ » فالظاهر أن ما مصدرية ، والباء للآلة والمعنى : أنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة ، وأوجب عليهن الإطاعة وحفظ الغيب لهم.

ويمكن أن يكون الباء للمقابلة ، والمعنى حينئذ : أنه يجب عليهن القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري ، وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة ، والمعنى الأول أظهر.

وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد على شيء منها.

قوله تعالى : « وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ » ، النشوز العصيان والاستكبار عن الطاعة ، والمراد بخوف النشوز ظهور آياته وعلائمه ، ولعل التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان وعلائمه.

والأمور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله : « فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ » وإن ذكرت معا وعطف بعضها على بعض بالواو فهي أمور مترتبة تدريجية : فالموعظة ، فإن لم تنجح فالهجرة ، فإن لم تنفع فالضرب ، ويدل على كون المراد بها التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام ، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو.

وظاهر قوله : ( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها ، وإن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنه بعيد ، وربما تأيد المعنى الأول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا.

قوله تعالى : « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً » « إلخ » أي لا تتخذوا عليهن علة تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم ، ثم علل هذا النهي بقوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) ، وهو إيذان لهم أن مقام ربهم علي كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من القوة والشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء والاستكبار عليهن.

٣٤٥

قوله تعالى : « وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا » ، الشقاق البينونة والعداوة ، وقد قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور والتحكم ، وقوله : « إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما » أي إن يرد الزوجان نوعا من الإصلاح من غير عناد ولجاج في الاختلاف ، فإن سلب الاختيار من أنفسهما وإلقاء زمام الأمر إلى الحكمين المرضيين يوجب وفاق البين.

وأسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الإصلاح ، والمطاوعة لما حكم به الحكمان لأنه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الأسباب بالمسببات وهو المعطي لكل ذي حق حقه ، ثم تمم الكلام بقوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) ، ومناسبته ظاهرة.

(كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء)

تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الإنساني السليم ، وترجيحه إياه على الهوى واتباع الشهوات ، والخضوع لحكم العواطف والإحساسات الحادة وحضه وترغيبه في اتباعه ، وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ، ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحا وتلويحا وبكل لسان وبيان.

ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ، ومهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد ، ويقوم بها صلب المجتمع كقوله : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) : ـ الفتح ٢٩ ، وقوله : ( لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) : ـ الروم ٢١ ، وقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف ٣٢ ، لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعا لحكم العقل.

وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الإسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الأعمال والأحوال والأخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشئون المجتمع كشرب الخمر والقمار وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والافتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين.

٣٤٦

والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الأمور الكلية والجهات العامة الاجتماعية ـ التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب ـ إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف ، وهو قبيل الرجال دون النساء.

وهو كذلك ، قال الله تعالى : « الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ » والسنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك ، وسيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن.

وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك ، والسيرة النبوية تمضي كثيرا منها ، والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة والعمل في كثير من شئون الحياة إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال ، وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح ، وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا.

اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور ، والحفظ في الغيبة ، ولا يمضي لها من شئونها الجائزة ما يزاحم ذلك.

(بحث روائي)

في المجمع ، في قوله تعالى : ( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ ) الآية : أي لا يقل أحدكم : ليت ما أعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي ـ فإن ذلك يكون حسدا ، ولكن يجوز أن يقول : اللهم أعطني مثله ، قال : وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أقول : وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام مثله.

في تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عن الباقر والصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) ، وفي قوله : ( وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ

٣٤٧

بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ) ـ أنهما نزلتا في علي عليه‌السلام.

أقول : والرواية من باب الجري والتطبيق.

وفي الكافي ، وتفسير القمي ، عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها ـ حلالا يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئا من الحرام ـ قاصها به من الحلال الذي فرض لها ـ وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قول الله عز وجل : ( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ).

أقول : ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروي هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق عليه‌السلام ، وروى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام.

وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في ذيل قوله : ( وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) : « البقرة : ٢١٢ » ، في الجزء الثاني فراجعه.

وفي صحيح الترمذي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج.

وفي التهذيب ، بإسناده عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » ، قال : عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث ، ولم يعن أولياء النعمة ـ فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها.

وفيه ، أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال : سأل أبا جعفر عليه‌السلام رجل وأنا عنده قال : فقال رجل لامرأته : أمرك بيدك ، قال : أنى يكون هذا والله يقول : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ )؟ ليس هذا بشيء.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تستعدي على زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٣٤٨

القصاص ، فأنزل الله : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) الآية ـ فرجعت بغير قصاص :

أقول : ورواه بطرق أخرى عنه (ص) ، وفي بعضها : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أردت أمرا وأراد الله غيره ، ولعل المورد كان من موارد النشوز ، وإلا فذيل الآية : « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً » ينفي ذلك.

وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ، ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حكمه وتشريعه وهو ينافي عصمته ، وليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به ، والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لأمته فإن ذلك تخطئة باطلة.

وفي تفسير القمي ، : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : ( قانِتاتٌ ) يقول : مطيعات.

وفي المجمع ، في قوله تعالى : ( فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ ) الآية ، : عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : يحول ظهره إليها ، وفي معنى الضرب عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنه الضرب بالسواك.

وفي الكافي ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : « فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها » قال : الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا ، وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز ، وإن جمعا فجائز.

أقول : وروي هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق أخر فيه وفي تفسير العياشي.

وفي تفسير العياشي ، عن ابن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة تزوجها رجل ، وشرط عليها وعلى أهلها إن تزوج عليها امرأة ـ وهجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق ، فقال : شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه ، وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها ـ وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك ، قال الله في كتابه : « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ » وقال : « أحل لكم مما ملكت أيمانكم » وقال : « وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ـ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ

٣٤٩

وَاضْرِبُوهُنَّ ـ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ».

وفي الدر المنثور ، أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بين أصحابه ـ فقالت : بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك ، وأعلم نفسي لك الفداء ـ أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب ـ سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي.

إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء ـ فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك ، وإنا معشر النساء محصورات مقسورات ، قواعد بيوتكم ، ومقضي شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا ـ أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابكم ، وربينا لكم أموالكم (١) ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه بوجهه كله ، ثم قال : هل سمعتم مقالة امرأة قط ـ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا : يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ، فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها ـ ثم قال لها : انصرفي أيتها المرأة ـ وأعلمي من خلفك من النساء : أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ، فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا.

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة وأهل السنة ، ومن أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه‌السلام : « جهاد المرأة حسن التبعل » ، ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على أس ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة ، ورواه أيضا في الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن كثير عن الصادق عليه‌السلام عن علي عليه أفضل السلام ، وبإسناده أيضا عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه‌السلام في رسالته إلى ابنه : إن المرأة ريحانة ، وليست بقهرمانة.

وما روي في ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها » وقد كان يتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ، ففي الكافي ، أيضا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيضرب

__________________

(١) أولادكم ظ.

٣٥٠

أحدكم المرأة ثم يظل معانقها؟! » وأمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث ، ومن التأمل فيها يظهر رأي الإسلام فيها.

ولنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية فنقول : يظهر من التأمل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين ، ومختلف ما قرره الإسلام في حقهن أنهن على احتجابهن واختصاصهن بالأمور المنزلية من شئون الحياة غالبا لم يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الأمر ، والسعي في حل ما ربما كان يشكل عليهن ، وهذه حرية الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلامية في آخر سورة آل عمران.

ويستفاد منه ومن نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخلية وتربية الأولاد ، وهذه وإن كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب والتحريض الندبي ـ والظرف ظرف الدين ، والجو جو التقوى وابتغاء مرضاة الله ، وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا والتربية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبة الأولاد والتعلق بالحياة المنزلية ـ كانت تحفظ هذه السنة.

وكان الاشتغال بهذه الشئون والاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال ، واختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله لهن ، ويشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت إليهن وإليهم هلاك الأخلاق ، وفساد الحياة وهم لا يشعرون ، وسوف يعلمون ، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء ، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكن كذبوا فأخذوا.

وثانيا : أن من السنة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية.

وثالثا : أن الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة ، وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا ـ وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد ـ قدر لكن الظرف

٣٥١

الإسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانية المرضية عند الله سبحانه ، وهو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل إنسان مسلكه الذي ندب إليه ، وللزومه الطريق الذي خط له ، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانية وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية ، وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوي ، ولا لقاض يتكي على مسند القضاء ، وهما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق وجرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرض لمهالك ومخاطر تهددهما حينا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين و ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) ـ فأي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما ، وخط له خطا وأشار إليه بلزومه وسلوكه.

فهذه المفاخر إنما يحييها ويقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربي أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض ، واختلاف الشئون الاجتماعية والأعمال الإنسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره.

هو ذا الجندي الذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك ، وهو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة ومزيدا ، وهو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدى بنفسه وطنه ويفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت وبطلان ، وليس إلا بغية وهمية ، وكرامة خرافية ، وكذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات ويعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية وقد كان ما يعتورنه من الشغل وما يعطين من أنفسهن للملإ دهرا طويلا في المجتمعات الإنسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء ، وأشنع ما يعيرن به ، فليس ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول ويعظم الحقير ، ويهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الإسلام أمورا نستحقرها ونحن في هذه الظروف المضطربة ، أو يحقر أمورا نستعظمها ونتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلا ظرف التقوى وإيثار الآخرة على الأولى

* * *

( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي

٣٥٢

الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً ـ ٣٦. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ـ ٣٧. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً ـ ٣٨. وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً ـ ٣٩. إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ـ ٤٠. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ـ ٤١. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ـ ٤٢. )

(بيان)

آيات سبع فيها حث على الإحسان والإنفاق في سبيل الله ووعد جميل عليه ، وذم على تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس.

قوله تعالى : « وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً » هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي ، وهو إتيان الأعمال الحسنة ـ ومنها الإحسان الذي هو مورد الكلام ـ طلبا لمرضاة الله وابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى والشرك به.

والدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله : ( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا

٣٥٣

بِهِ شَيْئاً ) ، وعلله بقوله : ( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً ) ، وذكر أنه البخيل بماله والمنفق لرئاء الناس ، فهم الذين يشركون بالله ولا يعبدونه وحده ، ثم قال : ( وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا ) ، وظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر ، وقال تعالى : ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) : « ـ ص : ٢٦ » فبين أن الضلال باتباع الهوى ـ وكل شرك ضلال ـ إنما هو بنسيان يوم الحساب ، ثم قال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ) : « الجاثية : ٢٣ » فبين أن اتباع الهوى عبادة له وشرك به.

فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله وهو على ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات والعقوبات ، وأن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر ـ ولو آمن به لم ينسه ـ وأن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس ونحو ذلك ، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربه ، وأشرك به.

فالمراد بعبادة الله والإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته ، وابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى.

قوله تعالى : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » إلى قوله : « أَيْمانُكُمْ » الظاهر أن قوله : ( إِحْساناً ) مفعول مطلق لفعل مقدر ، تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، والإحسان يتعدى بالباء وإلى معا يقال : أحسنت به وأحسنت إليه ، وقوله : ( وَبِذِي الْقُرْبى ) ، هو وما بعده معطوف على الوالدين ، وذو القربى القرابة ، وقوله : ( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا ، وبالجار الجنب ـ وهو الأجنبي ـ الجار البعيد دارا ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : تحديد الجوار بأربعين ذراعا ، : وفي رواية : أربعون دارا ، ولعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب.

وقوله : والصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك ، وهو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق ومصاحب الحضر والمنزل وغيرهم ، وقوله : وابن السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سألك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه ، وأما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج

٣٥٤

من مفهوم اللفظ ، وقوله : وما ملكت أيمانكم المراد به العبيد والإماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم ، وقد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً » المختال التائه المتبختر المسخر لخياله ، ومنه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته ، والفخور كثير الفخر ، والوصفان أعني الاختيال وكثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال والجاه ، والإفراط في حبهما ، ولذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى ، وما ذكره تعالى في تفسيره بقوله : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ) إلخ وقوله : ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) إلخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء والفخر : فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال ، والثانية بالجاه وإن كان بين الجاه والمال تلازم في الجملة.

وكان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل والكتمان وغيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى.

قوله تعالى : « الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ » الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم أولي ثروة ومال يتقرب إليهم الناس ويخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر وزاجر كقولهم ، وأما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم ، وخوفهم على أنفسهم لو منعوا وخشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم ، والمراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها ، ومنه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ » ، إلخ أي لمراءاتهم ، وفي الآية دلالة على أن الرئاء في الإنفاق ـ أو هو مطلقا ـ شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس واستحسانهم فعله ، وشرك من جهة العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة ، وإنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا ، وعلى أن المرائي قرين الشيطان وساء قرينا.

قوله تعالى : « وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا » الآية ، استفهام للتأسف أو التعجب ، وفي الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالإيمان بالله وباليوم الآخر حقيقة وإن تلبس به ظاهرا.

٣٥٥

وقوله : « وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً » تمهيد لما في الآية التالية من البيان ، والأمس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ » الآية. المثقال هو الزنة ، والذرة هو الصغير من النمل الأحمر ، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يرى صغرا. وقوله : ( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا.

وقوله : ( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ) ، قرئ برفع حسنة وبنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة ، وعلى تقدير النصب تقديره : وإن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها ، وتأنيث الضمير في قوله : ( إِنْ تَكُ ) إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرة.

والسياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق ، والتقدير : ومن الأسف عليهم أن لم يؤمنوا ولم ينفقوا فإنهم لو آمنوا وأنفقوا والله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال وترك الجزاء ، وإن تك حسنة يضاعفها. والله أعلم.

قوله تعالى : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ » الآية. قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) : « البقرة : ١٤٣ » من الجزء الأول من هذا الكتاب ، وسيجيء بعض آخر في محله المناسب له.

قوله تعالى : « يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ » الآية. نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة ، وقوله : ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى : ( وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) : « النبأ : ٤٠ ».

وقوله : « وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً » ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله : ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وفائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت ، وهو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شيء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم ، وشهادة أعضائهم وشهادة الأنبياء والملائكة وغيرهم عليهم ، والله من ورائهم محيط

٣٥٦

فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا وليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم وقبائح أفعالهم.

وأما قوله تعالى : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) : « المجادلة : ١٨ » فسيجيء إن شاء الله تعالى أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء وكتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شيء.

(بحث روائي)

في تفسير العياشي ، في قوله تعالى : ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) الآية : عن سلام الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي علي عليه‌السلام.

ثم قال : وروي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال : قال : وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا وعلي أبوا هذه الأمة.

أقول : وقال البحراني في تفسير البرهان ، بعد نقل الحديث : قلت : وروى ذلك صاحب الفائق.

وروى العياشي هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ، ورواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر عليه‌السلام. والذي تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنساني لوجود الإنسان والمربي له ، فمعلم الإنسان ومربيه للكمال أبوه فمثل النبي والولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدي به ، المقتبس من أنوار علومه ومعارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية والتربية في الجسم فالنبي والولي أبوان ، والآيات القرآنية التي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن وإن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين.

وفي تفسير العياشي ، أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس في قول الله : ( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) قال : الذي ليس بينك وبينه قرابة ، والصاحب بالجنب قال : الصاحب في السفر.

٣٥٧

أقول : قوله : الذي ليس بينك ، تفسير الجار ذي القربى والجنب معا وإن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط ، وقوله : الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق.

وفيه ، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة : ختم على الأفواه فلا تكلم ، وتكلمت الأيدي ، وشهدت الأرجل ، وأنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.

واعلم ، أن الأخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود ، وهي وإن كان يؤيدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم وولعهم بجمع المال وادخاره وكذا وسوستهم للمؤمنين وترغيبهم على الكف عن الإنفاق في سبيل الله وتفتينهم إياهم وإخزائهم لهم ، وإفساد الأمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول ، ولذلك تركنا نقلها على كثرتها.

واعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إحسان الوالدين وذي القربى واليتامى وغيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الإحصاء على معروفيتها وشهرتها ، وهو الموجب للإغماض عن إيرادها هاهنا على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن ، ذكر ما يخصها من الأخبار هناك أنسب.

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ـ ٤٣. )

٣٥٨

(بيان)

قد تقدم في الكلام على قوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) : « البقرة : ٢١٩ » ، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف ، وإن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا » الآية نزلت بعد قوله تعالى : ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) : « النحل : ٦٧ » ، وقوله : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ ) : « الأعراف : ٣٣ » ، وقبل قوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) : « البقرة : ٢١٩ » ، وقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) : « المائدة : ٩٠ » ، وهذه آخر الآيات نزولا.

ويمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء ، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة ولعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب ، ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة ، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

وأما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض ـ وهو غير عزيز في القرآن ـ وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات ولما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة وإنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع ، أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى :

٣٥٩

( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) : الآيات « القيامة : ٢٠ » ، انظر إلى موضع قوله : ( لا تُحَرِّكْ ) إلى قوله : « بَيانَهُ ».

وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها ، وارتباط ما بعدها بها ، على أن القرآن إنما نزل نجوما ، ولا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » إلى قوله : « ما تَقُولُونَ » المراد بالصلاة المسجد ، والدليل عليه قوله : ( وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، والمقتضي لهذا التجوز قوله ( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) إذ لو قيل : لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله : « حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون ، وهذا المعنى كما ترى ـ يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة ـ على السنة ـ وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى.

وعلى هذا فقوله : ( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون وليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى : « وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ » إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) : « المائدة : ٦ ».

بحث روائي

في تفسير العياشي ، عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ـ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » قال : هذا قبل أن تحرم الخمر.

أقول : ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها ، وإلا

٣٦٠