الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

الوسائل ، ولذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدة من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعا وشمولا.

نعم ربما قال القائل من هؤلاء : إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الأساطير والتوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه ، والسخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال ، والحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره ، والرأفة تضعف القلب ، والصدق لا يلائم الحياة اليومية ، وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.

ولم يدر هذا القائل إن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والأموال والأعراض ، ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع ، ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال ومن في تلوهم ، وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا ، وأن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع ، وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة ، ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولأقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة.

ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول : الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح ، ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق ، ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما

١٨١

سنشرحه ، ووضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد والتربية ، ومن الأحاديث النبوية المشهورة

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢ ـ استيلاء الذكور على الإناث : ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الأنثى ، ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس ، وكذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث ، وليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والإناث كالقابل الخاضع ، وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذة ، وأما نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.

وهذا المعنى أعني لزوم الشدة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الإناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر وكل لين سهل الانفعال بالأنثى يقال : حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا.

وهذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوعة في الجملة وإن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة ونقيصة.

وقد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) : « النساء : ٣٤ » فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣ ـ تعدد الزوجات : وأمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث وتختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الأفراخ وتربيتها وربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعني بالتأهيل والتربية كما يشاهد من

١٨٢

أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها.

وأما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد وقد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء.

وأغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة.

وما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم ، وما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولا وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض.

على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم وهو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال ، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات ـ هذا.

والإسلام شرع الازدواج بواحدة ، وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) : « البقرة : ٢٢٨ ».

١٨٣

وقد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات :

أولا : أنه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن ويخيب آمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد ويقابلن الرجال بمثل ما أساءوا إليهن فيشيع الزنا والسفاح والخيانة في المال والعرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت.

وثانيا : أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم والأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والإناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد ، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

وثالثا : أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره والشهوة ، وتقوية لهذه القوة في المجتمع.

ورابعا : أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوى فيه بين مرأتين ورجل كما في الإرث والشهادة وغيرهما ، ولازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه وهذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع.

والجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الإسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الإلهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية والعواطف والإحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة ، كما أن كثيرا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين وبالعكس ، وكل أمة تختلف مع غيرها في بعضها.

١٨٤

والتربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد. ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأمم المتمدنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها وهوتهم من نسائهم من محارم وغيرها ومن بكر أو ثيب ومن ذات بعل أو غيرها ، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية ، وأما النساء وخاصة الأبكار وغير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب وأفظع.

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ وكيف لا تتألم عواطف الرجل وإحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الأقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات!! وهل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم ونزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والإحساسات ولا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف والإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.

وأما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية الأولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي وسائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات ، ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات

١٨٥

أخرى ، ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية ، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات ، ولا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شيء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك فعدم الرضاء والتألم فيما كان إنما منشؤه حالة عرضية ( التوحد بالبعل ) لا غريزة طبيعية.

والجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختل من وجوه.

منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل وشرائط أخرى لهذا الأمر فأولا الرشد الفكري والتهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح ، والرجال لا يتهيئون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين ( وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح ).

ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم ( والفرض تساوي عدد الذكور والإناث فيهم ) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الأولى المفروضة ، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهي مواليد السنة الأولى إلى السابعة ، ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة والعشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة ، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

وثانيا أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال ولازمه أن

١٨٦

تهيئ سنة الوفاة والموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال (١).

وثالثا : أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك ، وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريبا ، وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والأسباب الجارية.

ورابعا : أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها.

ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق : أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الإسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان ، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.

ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع

__________________

(١) ومما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيام ( جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي ) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله : قد تحصل بحسب الإحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل « ١٠٠ » مولودة من البنات « ١٠٥ » من البنين ، ومع ذلك فإن الإناث يربو عدتهم على عدة الذكور بما يعادل « ١٧٦٥٠٠٠ » نسمة ، ونفوس المملكة « ٤٠ مليونا تقريبا » والسبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض ويهلك بها « ٥ در صد » الزائد منهم إلي سنة « ١٩ » من الولادة.

ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين ٢٥ ـ ٣٠ من السنين حتى إذا بلغوا سني ٦٠ ـ ٦٥ لم يبق تجاه كل « ١٥٠٠٠٠٠ » من الإناث إلى « ٧٥٠٠٠٠ » من الذكور.

١٨٧

الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم والإسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم ، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا ولا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين وكذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء وإعوازهن على الرجال. بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الأزواج والاجتماع المنزلي واكتفين بالزنا.

ومنها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض أولي الطول والسعة من الناس لا لجميعهم.

على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والإغماض عن التكثير.

والجواب عن الثالث : أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية ومقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل ( على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة والجمال طبعا ) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل والمرأتين والثلاث.

ومن جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث

١٨٨

أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

ومن جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الإسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد.

فهذه الجهات وأمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.

على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص ، ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع والحبس ، فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه ، وهذا نوع تسكين لطيش النفس ، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرمة.

وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال : لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات (١).

والجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق (٢). المرأة في الإسلام : أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي

__________________

(١) رسالة المسترجان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد والقرآن ترجمة الفاضل : السعيدي بالفارسية.

(٢) البحث العلمي من الجزء الثاني ص ٢٦٠

١٨٩

سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الإسلام وسنزيد في ذلك وضوحا.

وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها.

وقد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي وما في منعه من المفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال والنساء من أراده فليراجع إلى مظانه.

وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة : ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة ، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر ، وعندئذ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودة والرحمة والإخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها ، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الأعمال والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه ، لا يؤمن فيه من شيء لشيء ، ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة ، ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة ، واختلاف الأولاد وتشاجرهم ، وربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج ، وقتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم ، وتتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت ، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة والظلم والبغي والفحشاء وانسلاب الأمن والوثوق وخاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك ، ورفع واحدة ووضع أخرى ، وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء ، وبذلك

١٩٠

يفسد النصف الآخر.

هذا محصل ما ذكروه ، وهو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه ، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين ، والناس على دين ملوكهم ، ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا ، وبالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط ، والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والأولاد وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم ، وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرهم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة.

وأما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل ، وإنما نظر في طبيعة الأفراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة ، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك ( كما مر تفصيله ) ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني ، وقيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات ، وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم ، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته فلا شأن للإسلام فيهم ، ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه.

على أن في أصل الإشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الإسلام ، وهما جهتا التشريع والولاية.

توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن

١٩١

الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة وعدم قبولها ، وما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات وعوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره؟ وما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان ، فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب والخيانة والخنا وهضم الحقوق وفشو البغي وفساد البيوت واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم ، ويستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية ومنه ينشأ هذا البغي والفساد ( وفيهم أبغى البغي وأخنى الخنا ، وكل الصيد في جوف الفراء ) ولو كان دينا واقعيا وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة ، ولم ينقلب وبالا عليهم!.

ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة ، وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة ، والإسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير كالأدوية والمعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها وإلى محل معد مهيأ لورودها وعملها ، ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير ، وربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها.

هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في

١٩٢

البلاد الأوربية؟ وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلبا وتعرقا فينا ونحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون ، وليس لنا حظ من العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها وألفاظا نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها ، ولا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها وينجع ولا يجري في الإسلام ولا ينجع؟.

وهب أن الإسلام لوهن أساسها ( والعياذ بالله ) عجز عن التمكن في قلوب الناس والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديمقراطية وكانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا وانمحت آثارها وخلفتها السنة الشيوعية؟ وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتوني وإستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغوسلاوي وغيرها ، وهي تهدد سائر الممالك وقد نفذت فيها نفوذا؟.

وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة ، وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار الديمقراطية وأن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة والأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد ( ستالين ) الذي كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة ، وأوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية ، ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شيء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيي ألوفا وتميت ألوفا وتسعد أقواما وتشقي

١٩٣

آخرين. والله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.

والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات ( أعم من الصحيحة والفاسدة ) ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.

فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنها سنة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل والأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار والعهود إلا وهي تنتج يوما وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من الزمان وترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.

وبالجملة القوانين الإسلامية والأحكام التي فيها ، تخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكرة المريدة.

فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته ، وإنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.

١٩٤

(بحث علمي آخر ملحق به )

(في تعدد أزواج النبي)

ومما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعي الشهوة : وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة.

والمسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن ، والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفي عند الكلام على الآية المربوطة بها ولذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له وإنما نشير هاهنا إلى ذلك إشارة إجمالية.

فنقول : من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست على هذه السذاجة ( أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة ) بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كان تزوج ـ أول ما تزوج ـ بخديجة رضي الله عنها وعاش معها مقتصرا عليها نيفا وعشرين سنة ( وهي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج ) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين ، وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ، ومن المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن والوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك.

على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج والدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة ، وهذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه بنى بالثيب بعد البكر وبالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة وهي مسنة ، وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة وأم حبيبة وهكذا.

١٩٥

وقد خير صلى‌الله‌عليه‌وآله نساءه بين التمتيع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) : ـ الأحزاب ٢٩ ، وهذا المعنى أيضا ـ كما ترى ـ لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن.

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره والشبق والتلهي.

فقد تزوج صلى‌الله‌عليه‌وآله ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة وازديادا للعضد والعشيرة ، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا من بعض الشرور ، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة ، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملا لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد ، وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني وكانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل فيها الآيات.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والإكراه على الكفر.

وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد وكانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.

وتزوج بأم سلمة واسمها هند وكانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة

١٩٦

النبي وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة وكانت زاهدة فاضلة ذات دين ورأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل أبوها مع بني قريظة ، وكانت في سبي خيبر فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك من الذل ووصل سببه ببني إسرائيل.

وتزوج بجويرية واسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق وقد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء والذراري ، فتزوج صلى‌الله‌عليه‌وآله بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك ، ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جما غفيرا وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب.

وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتزوج بها وقد نزل فيها القرآن.

وتزوج بأم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان وكانت زوجة عبيد الله بن جحش وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الإسلام وأبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحصنها.

وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر وبقيت أرملة وتزوج بعائشة بنت أبي بكر وهي بكر.

فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره وآخره وما سار به من الزهد وترك الزينة وندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس ، أضف إلى ذلك جمل صنائعه صلى‌الله‌عليه‌وآله في النساء ، وإحياء ما كانت قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة ، وأخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به صلى‌الله‌عليه‌وآله هو توصيتهن لجامعة الرجال قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ، الله الله

١٩٧

في النساء فإنهن عوان في أيديكم » الحديث.

وكانت سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله في العدل بين نسائه وحسن معاشرتهن ورعاية جانبهن مما يختص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ( على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله ) وكان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة ، وهذه الخصال وظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به.

* * *

( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ـ ٧. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ـ ٨. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ـ ٩. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ـ ١٠. )

(بيان)

شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات ، وقد قدم بيان جملي لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الأرحام والقرابات كتحريم صغار الورثة والنساء ، وزيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما وقد شدد الله في النهي عنه. وقد ذكر مع ذلك مسألة رزق

١٩٨

أولي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة ولم يكونوا ممن يرث تطفلا.

قوله تعالى : « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » الآية ، النصيب هو الحظ والسهم ، وأصله من النصب بمعنى الإقامة لأن كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره ، والتركة ما بقي من مال الميت بعده كأنه يتركه ويرتحل فاستعماله الأصلي استعمال استعاري ثم ابتذل ، والأقربون هم القرابة الأدنون ، واختيار هذا اللفظ على مثل الأقرباء وأولي القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الإرث أقربية الميت من الوارث على ما سيجيء البحث عنه في قوله تعالى : ( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) : « النساء : ١١ » ، والفرض قطع الشيء الصلب وإفراز بعضه من بعض ، ولذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه وامتثال الأمر به مقطوعا معينا من غير تردد ، والنصيب المفروض هو المقطوع المعين.

وفي الآية إعطاء للحكم الكلي وتشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين ، فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل وقد كانت العادات والرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس وتحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.

وقد مهد له في الإسلام أولا بتحكيم الحب في الله والإيثار الديني بين المؤمنين فعقد الإخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الأخوين ، وانتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث ، وانقلع المؤمنون من الأنفة والعصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين ، وقام صلبه شرع التوارث بين أولي الأرحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية.

وبهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح ورفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) ، فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا ، كما أن موضوعه أعني الرجال عام غير مخصص بشيء متصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار.

ثم قال : ( وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) وهو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد ، وقد أظهر في قوله ( مِمَّا تَرَكَ

١٩٩

الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) مع أن المقام مقام الإضمار إيفاء لحق التصريح والتنصيص ، ثم قال : ( مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) زيادة في التوضيح وأن لا مجال للمسامحة في شيء منه لقلة وحقارة ، ثم قال : ( نَصِيباً ) « إلخ » ، وهو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدري ، وهو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد وزيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط والإبهام.

وقد استدل بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره ، وعلى بطلان التعصيب في الفرائض.

قوله تعالى : « وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى » « إلخ » ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصي ونحو ذلك ، وهو ظاهر.

وعلى هذا فالمراد من أولي القربى الفقراء منهم ، ويشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى والمساكين ، ولحن قوله : ( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) ، الظاهر في الاسترحام والاسترفاق ، ويكون الخطاب حينئذ لأولياء الميت والورثة.

وقد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب ، وهو بحث فقهي خارج عن وضع هذا الكتاب ، كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأن آية المواريث تعين فرائض الورثة ، وهذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ وخاصة بناء على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه.

قوله تعالى : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ الآية » الخشية التأثر القلبي مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم وإكبار ، وسداد القول وسدده كونه صوابا مستقيما.

ولا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) الآية لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث ، ويكون حينئذ قوله : ( وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) كناية عن اتخاذ

٢٠٠