الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سورة الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية)

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * حم ـ ١. عسق ـ ٢. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ ٣. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ـ ٤. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ـ ٥. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ـ ٦. )

بيان

تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لأنبيائه ورسله كما يدل عليه ما في مفتتحها من قوله : « كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ » الآية وما في مختتمها من قوله : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً إلخ » الآيات ، ورجوع الكلام إليه مرة بعد أخرى في قوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا » الآية ، وقوله :

٥

« شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً » الآية ، وقوله : « اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ » الآية وما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجيء.

فالوحي هو الموضوع الذي يجري عليه الكلام في السورة وما فيها من التعرض لآيات التوحيد وصفات المؤمنين والكفار وما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم ورجوعهم إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني وكلام جره كلام.

والسورة مكية وقد استثني قوله : « وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ » إلى تمام ثلاث آيات ، وقوله : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » إلى تمام أربع آيات وسيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « حم عسق » من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية ، وذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية.

وقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسيرها وقد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها :

أحدها : أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو.

الثاني : أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها.

الثالث : أنها أسماء القرآن أي لمجموعه.

الرابع : أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله : « الم » معناه أنا الله أعلم ، وقوله : « المر » معناه أنا الله أعلم وأرى ، وقوله : « المص » معناه أنا الله أعلم وأفصل ، وقوله : « كهيعص » الكاف من الكافي ، والهاء من الهادي ، والياء من الحكيم ، والعين من العليم ، والصاد من الصادق ، وهو مروي عن ابن عباس ، والحروف المأخوذة من الأسماء مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي ، ومنها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم ، ومنها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم.

الخامس : أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول : الر وحم ون يكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها وهو مروي عن سعيد بن جبير.

السادس : أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه

٦

وهي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة ، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وأصول لغات الأمم على اختلافها.

السابع : أنها إشارات إلى آلائه تعالى وبلائه ومدة الأقوام وأعمارهم وآجالهم.

الثامن : أن المراد بها الإشارة إلى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل.

التاسع : أن المراد بها حروف المعجم وقد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال : أب ويراد به جميع الحروف.

العاشر : أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن وأن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله : « لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ » الآية ، فربما صفروا وربما صفقوا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلاوته ، فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا إليها وتفكروا فيها واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.

الحادي عشر : أنها من قبيل تعداد حروف التهجي والمراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى ، وإنما كررت الحروف في مواضع استظهارا في الحجة ، وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الأصبهاني وإليه يميل جمع من المتأخرين.

فهذه أحد عشر قولا وفيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس في « الم » أن الألف إشارة إلى الله واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما عن بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كان يقال : إن « ن » إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و « ق » إشارة إلى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة ، وما عن بعضهم أن هذه الحروف للإيقاظ.

والحق أن شيئا من هذه الأقوال لا تطمئن إليه النفس :

أما القول الأول فقد تقدم في بحث المحكم والمتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب

٧

أنه أحد الأقوال في معنى المتشابه وعرفت أن الإحكام والتشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها ، وأن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها ومتشابهاتها ، وعلى هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات ولا معانيها المراد بها تأويلات لها.

وأما الأقوال العشرة الآخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال ولا دليل يدل على شيء منها.

نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام بعض التأييد للقول الرابع والسابع والثامن والعاشر وسيأتي نقلها والكلام في مفادها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

والذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى وهي تسع وعشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد وهي ص و ق و ن ، وبعضها بحرفين وهي سور طه وطس ويس وحم. وبعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي « الم » و « الر » و « طسم » وبعضها بأربعة أحرف كما في سورتي « المص » و « المر » وبعضها بخمسة أحرف كما في سورتي « كهيعص » و « حم عسق ».

وتختلف هذه الحروف أيضا من حيث أن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل « ن » وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل « الم » و « الر » و « طس » و « حم ».

ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور.

ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله : « تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ » أو ما هو في معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله : « تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ » أو ما هو في معناه ، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.

ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذا الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة

٨

بها ارتباطا خاصا ، ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص ، وكذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات.

ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا.

ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض تبين له الأمر أزيد من ذلك.

ولعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي عليه‌السلام ـ على ما في المجمع ـ أن لكل كتاب صفوة ـ وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ..

قوله تعالى : « كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ إلى قوله ـ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته والإشارة إلى غايته وآثاره أن تكون الإشارة بقوله : « كَذلِكَ » إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب فيكون كقولنا في تعريف الإنسان مثلا هو كزيد.

وعليه يكون قوله : « إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ » في معنى إليكم جميعا ، وإنما عبر بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة ، والمعنى أن الوحي الذي نوحيه إليكم معشر الأنبياء ـ نبيا بعد نبي سنة جارية ـ هو كهذا الذي تجده وتشاهده في تلقي هذه السورة.

وقد أخذ جمهور المفسرين قوله : « كَذلِكَ » إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل عليها السورة وتتضمنها واستنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى جميع الأنبياء فهو من الوحي المشترك فيه ، وقد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة ويأباه سياق آياتها.

٩

وقوله : « الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » خمسة من أسمائه الحسنى ، وقوله : « لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » في معنى المالك ، وهو واقع موقع التعليل لأصل الوحي ولكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة وليس المانع أن يمنعه تعالى عن ذلك لأنه عزيز غير مغلوب فيما يريد ، ولا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لأنه حكيم متقن في أفعاله ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته.

ومن حقه تعالى أن يتصرف فيهم وفي أمورهم كيف يشاء ، لأنه مالكهم وله أن يعبدهم ويستعبدهم بالأمر والنهي لأنه على عظيم فلكل من الأسماء الخمسة حظه من التعليل ، وينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولي غيره.

قوله تعالى : « تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ » إلخ التفطر التشقق من الفطر بمعنى الشق.

الذي يهدي إليه السياق والكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثاره أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه والسماوات طرائق إلى الأرض قال تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ » المؤمنون : ١٧.

والوجه في تقييد « يَتَفَطَّرْنَ » بقوله : « مِنْ فَوْقِهِنَ » ظاهر فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق والعظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن.

على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله ولكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن.

فالآية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله ومروره على السماوات نظيره قوله : « حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ » سبأ : ٢٣ في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه ، ونظيره قوله : « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ

١٠

عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ » الحشر : ٢١ في إعظامه على فرض نزوله على جبل ونظيره قوله : « إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً » المزمل : ٥ في استثقاله واستصعاب حمله. هذا ما يعطيه السياق.

وقد حمل القوم الآية على أحد معنيين آخرين :

أحدهما : أن المراد تفطرهن من عظمة الله وجلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى قبله بالعلي العظيم.

وثانيهما : أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض وقولهم : « اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً » فقد قال تعالى فيه : « تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ » مريم : ٩٠ فأدى ذلك إلى التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله : « مِنْ فَوْقِهِنَ » وخاصة على المعنى الثاني ، وكذا في توجيه اتصال قوله : « وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ » إلخ بما قبله كما لا يخفى على من راجع كتبهم.

وقوله : « وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ » أي ينزهونه تعالى عما لا يليق بساحة قدسه ويثنون عليه بجميل فعله ، ومما لا يليق بساحة قدسه أن يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي وهو منه فعل جميل ، ويسألونه تعالى أن يغفر لأهل الأرض ، وحصول المغفرة إنما هو بحصول سببها وهو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الأرض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك.

ويشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي وكذا تعلق الاستغفار بمن في الأرض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال : « اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً » وقد حكى الله تعالى عنهم : « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » الآية : المؤمن : ٧ فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها وهو تشريع الدين لأهل الأرض ليغفر لمن تدين به.

وقوله : « أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » أي إن الله سبحانه لاتصافه بصفتي المغفرة والرحمة وتسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الأرض ما ينالون

١١

به المغفرة والرحمة من عنده وهو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق الوحي والتكليم.

قيل : وفي قوله : « أَلا إِنَّ اللهَ » إلخ إشارة إلى قبول استغفار الملائكة وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ » لما استفيد من الآيات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره وهو يتولى أمر من في الأرض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا ، ولازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه ، أشار في هذه الآية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية والألوهية فذكر أنه ليس بغافل عما يعملون وأن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها ، وليس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسئولا عن أعمالهم.

فقوله : « اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ » أي يحفظ عليهم شركهم وما يتفرع عليه من الأعمال السيئة.

وقوله : « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ » أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم بهدايتهم إلى الحق ، والكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بحث روائي

في الدر المنثور ، أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال : مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو يتلو فاتحة سورة البقرة « الم ذلِكَ الْكِتابُ » فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ـ فقال : تعلمون؟ والله لقد سمعت محمدا ـ يتلو فيما أنزل عليه « الم ذلِكَ الْكِتابُ » فقالوا : أنت سمعته؟ قال نعم.

فمشى أولئك النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك « الم ذلِكَ الْكِتابُ »؟ قال : بلى. قالوا : قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال : نعم. قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ـ ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه؟ وما أجل أمته غيرك.

١٢

فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه : الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة.

ثم أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال : نعم. قال : ماذا؟ قال : ( المص ) قال : هذا أثقل وأطول الألف واحدة ، واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم. قال : ما ذا؟ قال : ( الر ). قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم قال : ما ذا؟ ، قال ( المر ) قال : فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان.

ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون فقالوا : لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ».

أقول : وروي قريبا منه عن ابن المنذر عن ابن جريح ، وروى مثله أيضا القمي في تفسيره ، عن أبيه عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) ، وليس في الرواية ما يدل على إمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لدعواهم ولا كانت لهم على ما ادعوه حجة ، وقد تقدم أن الآيات المتشابهة غير الحروف المقطعة في فواتح السور.

وفي المعاني ، بإسناده عن جويرية عن سفيان الثوري قال : قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز وجل : ( الم ) و ( المص ) و ( الر ) و ( المر ) و ( كهيعص ) و ( طه ) و ( طس ) و ( طسم ) و ( يس ) و ( ص ) و ( حم ) و ( حم عسق ) و ( ق ) و ( ن )؟

قال عليه‌السلام أما ( الم ) في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك ، وأما ( الم ) في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد ، و ( المص ) فمعناه أنا الله المقتدر الصادق ، و ( الر ) فمعناه أنا الله الرءوف ، و ( المر ) فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق ، و ( كهيعص ) معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم

١٣

الصادق الوعد ، فأما ( طه ) فاسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به.

وأما ( طس ) فمعناه أنا الطالب السميع ، وأما ( طسم ) فمعناه أنا الطالب السميع المبدئ المعيد ، وأما ( يس ) فاسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومعناه يا أيها السامع للوحي والقرآن الحكيم ـ إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم.

وأما ( ص ) فعين تنبع من تحت العرش وهي التي توضأ منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما عرج به ويدخلها جبرئيل كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج منها فينفض أجنحته فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا يسبح الله ويقدسه ويكبره ويحمده إلى يوم القيامة.

وأما ( حم ) فمعناه الحميد المجيد ، وأما ( حم عسق ) فمعناه الحليم المثيب العالم ـ السميع القادر القوي ، وأما ( ق ) فهو الجبل المحيط بالأرض ـ وخضرة السماء منه ـ وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها ، وأما ( ن ) فهو نهر في الجنة ـ قال الله عز وجل اجمد فجمد فصار مدادا ـ ثم قال عز وجل للقلم : اكتب ـ فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان ـ وما هو كائن إلى يوم القيامة ـ فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور ـ واللوح لوح من نور.

قال سفيان : فقلت له : يا ابن رسول الله ـ بين لي أمر اللوح والقلم والمداد فضل بيان ـ وعلمني مما علمك الله ـ فقال : يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك ـ فنون ملك يؤدي إلى القلم وهو ملك ، والقلم يؤدي إلى اللوح وهو ملك ، واللوح يؤدي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدي إلى الأنبياء والرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : ثم قال لي : قم يا سفيان فلا آمن عليك ..

أقول : ظاهر ما في الرواية من تفسير غالب الحروف المقطعة بأسماء الله الحسنى أنها حروف مأخوذة من الأسماء إما من أولها كالميم من الملك والمجيد والمقتر ، وإما من بين حروفها كاللام من الله والياء من الولي فتكون الحروف المقطعة إشارات على سبيل الرمز إلى أسماء الله تعالى ، وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس والربيع بن أنس وغيرهما لكن لا يخفى عليك أن الرمز في الكلام إنما يصار إليه في الإفصاح عن الأمور التي لا يريد المتكلم أن يطلع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه

١٤

بما لا يتعداه ومخاطبه ولا يقف عليه غيرهما وهذه الأسماء الحسنى قد أوردت وبينت في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحا وتلويحا وإجمالا وتفصيلا ولا يبقى مع ذلك فائدة في الإشارة إلى كل منها بحرف مأخوذ منه رمزا إليه.

فالوجه ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن يحمل على كون هذه الأحرف دالة على هذه المعاني دلالة غير وضعية فتكون رموزا إليها مستورة عنا مجهولة لنا دالة على مراتب من هذه المعاني هي أدق وأرقى وأرفع من أفهامنا ، ويؤيد ذلك بعض التأييد تفسيره الحرف الواحد كالميم في المواضع المختلفة بمعان مختلفة ، وكذا ما ورد أنها من حروف اسم الله الأعظم.

وقوله : « وأما ( ق ) فهو الجبل المحيط بالأرض وخضرة السماء منه » إلخ وروى قريبا منه القمي في تفسيره ، وهو مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره ، ولفظ بعضها جبل من زمرد محيط بالدنيا على كنفي (١) السماء ، وفي بعضها أنه جبل محيط بالبحر المحيط بالأرض والسماء الدنيا مترفرفة عليها وأن هناك سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات.

وفي بعض ما عن ابن عباس: خلق الله جبلا يقال له : ق محيط بالعالم ـ وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ـ فإذا أراد الله أن يزلزل قرية ـ أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية ـ فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية.

والروايات بظاهرها أشبه بالإسرائيليات ، ولو لا قوله : « وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها » لأمكن حمل قوله : « وأما ( ق ) فهو الجبل المحيط بالدنيا وخضرة السماء منه » على إرادة الهواء المحيط بالأرض بضرب من التأويل.

وأما قوله : إن طه ويس من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعنى الذي فسره به فينبغي أن يحمل أيضا على ما قدمناه به ويفسر الروايات الكثيرة الواردة من طرق العامة والخاصة في أن طه ويس من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأما قوله في ن إنه نهر صيره الله مدادا كتب به القلم بأمره على اللوح ما كان وما يكون

__________________

(١) الكنف بفتحتين الجانب وكنفا السماء جانباه.

١٥

إلى يوم القيامة ، وأن المداد والقلم واللوح من النور ثم قوله : إن المداد ملك والقلم ملك واللوح ملك فهو نعم الشاهد على أن ما ورد في كلامه تعالى من العرش والكرسي واللوح والقلم ونظائر ذلك وفسر بما فسر به في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام من باب التمثيل أريد به تقريب معارف حقيقية هي أعلى وأرفع من سطح الأفهام العامة بتنزيلها منزلة المحسوس.

وفي المعاني ، أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « الم » هو حرف من حروف اسم الله الأعظم ـ المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام ـ فإذا دعا به أجيب. الحديث.

أقول : كون هذه الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره ، وقد تبين في البحث عن الأسماء الحسنى في سورة الأعراف أن الاسم الأعظم الذي له أثره الخاص به ليس من قبيل الألفاظ ، وأن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره بنوع من الصرف المناسب له.

وفيه ، بإسناده عن محمد بن زياد ومحمد بن سيار عن العسكري عليه‌السلام أنه قال : كذبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين تقوله ـ فقال الله : « الم ذلِكَ الْكِتابُ » أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ـ هو الحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم ـ وهو بلغتكم وحروف هجائكم ـ فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ـ واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. الحديث.

أقول : والحديث من تفسير العسكري وهو ضعيف.

وفي تفسير القمي ، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى : « يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ » أي يتصدعن.

وعن جوامع الجامع في قوله تعالى : « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ » قال الصادق (ع) : لمن في الأرض من المؤمنين.

أقول : وروي ما في معناه في المجمع ، عنه عليه‌السلام ورواه القمي مضمرا.

١٦

* * *

( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ـ ٧. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ـ ٨. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ٩. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ـ ١٠. فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ـ ١١. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ ١٢. )

بيان

فصل ثان من الآيات يعرف فيه الوحي من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل السابق بالإشارة إليه نفسه.

فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحي إنذار الناس وخاصة الإنذار المتعلق بيوم الجمع الذي يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير إذ لو لا الإنذار بيوم الجمع الذي فيه الحساب والجزاء لم تنجح دعوة دينية ولم ينفع تبليغ.

ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذي شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين وإنذار

١٧

الناس يوم الجمع من طريق الوحي لأنه وليهم الذي يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه.

ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية وأنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شيء منها.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السياق ، وأم القرى هي مكة المشرفة والمراد بإنذار أم القرى إنذار أهلها ، والمراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده توصيف القرآن بالعربية.

وذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة العشيرة الأقربين كما قال : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » الشعراء ، ٢١٤ ثم توسعت فتعلقت بالعرب عامة كما قال : « قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » حم السجدة : ٣ ثم بجميع الناس كما قال : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ».

ومن الدليل على ما ذكرناه من الأمر بالتوسع تدريجا قوله تعالى : « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ـ إلى أن قال ـ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » ص : ٨٧ فإن الخطاب على ما يعطيه سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض ، فإذا كان للجميع فلا معنى لأن يسأل بعضهم ـ كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعضا عليه أجرا.

على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب وخاصة باليهود والنصارى من ضروريات القرآن ، وكذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من ضروريات التاريخ.

وقيل المراد بقوله : « مَنْ حَوْلَها » سائر الناس من أهل قرى الأرض كلها ويؤيده التعبير عن مكة بأم القرى.

والآية ـ كما ترى ـ تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الإلقاء الإلهي وهو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة والإنذار.

قوله تعالى : « وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » عطف

١٨

على « لِتُنْذِرَ » السابق وهو من عطف الخاص على العام لأهميته كأنه قيل : لتنذر الناس وتخوفهم من الله وخاصة من سخطه يوم الجمع.

وقوله : « يَوْمَ الْجَمْعِ » مفعول ثان لقوله : « لِتُنْذِرَ » وليس بظرف له وهو ظاهر ، ويوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى : « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ـ إلى أن قال ـ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » هود : ١٠٥.

وقوله : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » في مقام التعليل ودفع الدخل كأنه قيل : لما ذا ينذرهم يوم الجمع؟ فقيل : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » أي إنهم يتفرقون فريقين : سعيد مثاب وشقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء والهبوط في مهبط الهلكة.

قوله تعالى : « وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً » إلى آخر الآية لما كانت الآية مسوقة لبيان لزوم الإنذار والنبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الأسبق إلى الذهن من جعلهم أمة واحدة مطلق رفع التفرق والتميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة واحدة من غير فرق وميز ، ولم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة والإنذار.

وقوله : « وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ » استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق ولم يشأ جعلهم أمة واحدة يدل على ذلك قوله : « يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ » الدال على الاستمرار ، ولم يقل : ولكن أدخل ونحوه.

وقد قوبل في الآية قوله : « مَنْ يَشاءُ » بقوله : « وَالظَّالِمُونَ » فالمراد بمن يشاء غير الظالمين وقد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله : « فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ » الأعراف : ٤٥ فهم المعاندون المنكرون للمعاد.

وقوبل أيضا بين الإدخال في الرحمة وبين نفي الولي والنصير فالمدخلون في رحمته هم الذين وليهم الله ، والذين ما لهم من ولي ولا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته ، وأيضا الرحمة هي الجنة وانتفاء الولاية والنصرة يلازم السعير.

فمحمل معنى الآية : أن الله سبحانه إنما قدر النبوة والإنذار المتفرع على الوحي لمكان

١٩

ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين ، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير.

ولو أراد الله لجعلهم أمة واحدة فاستوت حالهم ولم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة والإنذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت سنته على أن يتولى أمر قوم منهم وهم غير الظالمين فيدخلهم الجنة وفي رحمته ، ولا يتولى أمر آخرين وهم الظالمون فيكونوا لا ولي لهم ولا نصير ويصيروا إلى السعير لا مخلص لهم من النار.

فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة وإدخال الجميع في السعير أي أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين وجرت سنته على ذلك ووعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ومع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب ولم تتغير فقوله : « وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ » إلى تمام الآيتين في معنى قوله في سورة هود : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ » إلى تمام سبع آيات فراجع وتدبر.

وقيل : المراد بجعلهم أمة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة ، قال في الكشاف : والمعنى ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان ولكنه شاء مشيئة حكمة فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ، ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه.

واستدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى : « وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها » الم السجدة : ١٣ وقوله : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً » يونس : ٩٩ والدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله : « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ».

وفيه أن الآيات ـ كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته وأن تفرق في الناس يوم الجمع : فريقين سبب يستدعي وجود النبوة والإنذار من طريق الوحي ، وقوله : « وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً » مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك

٢٠