الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة الطور مكية ، وهي تسع وأربعون آية )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠).

( بيان )

غرض السورة إنذار أهل التكذيب والعناد من الكفار بالعذاب الذي أعد لهم يوم القيامة فتبدأ بالإنباء عن وقوع العذاب الذي أنذروا به وتحققه يوم القيامة بأقسام مؤكدة وأيمان مغلظة ، وأنه غير تاركهم يومئذ حتى يقع بهم ولا مناص.

ثم تذكر نبذة من صفة هذا العذاب والويل الذي يعمهم ولا يفارقهم ثم تقابل ذلك بشمة من نعيم أهل النعيم يومئذ وهم المتقون الذين كانوا في الدنيا مشفقين في أهلهم يدعون الله مؤمنين به موحدين له.

ثم تأخذ في توبيخ المكذبين على ما كانوا يرمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أنزل عليه من القرآن وما أتي به من الدين الحق.

٥

وتختم الكلام بتكرار التهديد والوعيد وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتسبيح ربه. والسورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها.

قوله تعالى : « وَالطُّورِ » قيل : الطور مطلق الجبل وقد غلب استعماله في الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، والأنسب أن يكون المراد به في الآية جبل موسى عليه‌السلام أقسم الله تعالى به لما قدسه وبارك فيه كما أقسم به في قوله : « وَطُورِ سِينِينَ » التين : ٢ ، وقال : « وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ » مريم : ٥٢ ، وقال في خطابه لموسى عليه‌السلام : « فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً » طه : ١٢ ، وقال : « نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ » القصص : ٣٠.

وقيل : المراد مطلق الجبل أقسم الله تعالى به لما أودع فيه من أنواع نعمه قال تعالى : « وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها » حم السجدة : ١٠.

قوله تعالى : « وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ » قيل : الرق مطلق ما يكتب فيه وقيل : هو الورق ، وقيل : الورق المأخوذ من الجلد ، والنشر هو البسط ، والتفريق.

والمراد بهذا الكتاب قيل : هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرؤه ملائكة السماء ، وقيل : المراد به صحائف الأعمال تقرؤه حفظة الأعمال من الملائكة ، وقيل : هو القرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ ، وقيل : هو التوراة وكانت تكتب في الرق وتنشر للقراءة.

والأنسب بالنظر إلى الآية السابقة هو القول الأخير.

قوله تعالى : « وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ » قيل : المراد به الكعبة المشرفة فإنها أول بيت وضع للناس ولم يزل معمورا منذ وضع إلى يومنا هذا قال تعالى : « إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ » آل عمران : ٩٦.

وفي الروايات المأثورة أن البيت المعمور بيت في السماء بحذاء الكعبة تزوره الملائكة.

وتنكير « كِتابٍ » للإيماء إلى استغنائه عن التعريف فهو تنكير يفيد التعريف ويستلزمه.

قوله تعالى : « وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ » هو السماء.

٦

قوله تعالى : « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » قال الراغب : السجر تهييج النار ، وفي المجمع : المسجور المملوء يقال : سجرت التنور أي ملأتها نارا ، وقد فسرت الآية بكل من المعنيين ويؤيد المعنى الأول قوله : « وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ » التكوير : ٦ ، أي سعرت وقد ورد في الحديث أن البحار تسعر نارا يوم القيامة ، وقيل : المراد أنها تغيض مياهها بتسجير النار فيها.

قوله تعالى : « إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ » جواب القسم السابق والمراد بالعذاب المخبر بوقوعه عذاب يوم القيامة الذي أوعد الله به الكفار المكذبين كما تشير إليه الآية التالية ، وفي قوله : « ما لَهُ مِنْ دافِعٍ » دلالة على أنه من القضاء المحتوم الذي لا محيص عن وقوعه قال تعالى : « وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ » الحج : ٧.

وفي قوله : « عَذابَ رَبِّكَ » بنسبة العذاب إلى الرب المضاف إلى ضمير الخطاب دون أن يقال : عذاب الله تأييد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مكذبي دعوته وتطييب لنفسه أن ربه لا يخزيه يومئذ كما قال : « يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » التحريم : ٨.

قوله تعالى : « يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً » ظرف لقوله : « إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ».

والمور ـ على ما في المجمع ـ تردد الشيء بالذهاب والمجيء كما يتردد الدخان ثم يضمحل ، ويقرب منه قول الراغب : إنه الجريان السريع.

وعلى أي حال فيه إشارة إلى انطواء العالم السماوي كما يذكره تعالى في مواضع من كلامه كقوله : « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ » الانفطار : ٢ ، وقوله : « يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ » الأنبياء : ١٠٤ ، وقوله : « وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » الزمر : ٦٧.

كما أن قوله : « وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً » إشارة إلى زلزلة الساعة في الأرض التي يذكرها تعالى في مواضع من كلامه كقوله : « إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا » الواقعة : ٦ ، وقوله : « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » النبأ : ٢٠.

٧

( بحث روائي )

في تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ » قال : الطور جبل بطور سيناء.

وفي المجمع « وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ » وهو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة ـ يعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة. عن ابن عباس ومجاهد ، وروي أيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا.

أقول : كون البيت المعمور بيتا في السماء يطوف عليه الملائكة واقع في عدة أحاديث من طرق الفريقين غير أنها مختلفة في محله ففي أكثرها أنه في السماء الرابعة وفي بعضها أنه في السماء الأولى ، وفي بعضها السابعة.

وفيه : « وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ » وهو السماء عن علي (ع).

وفي تفسير القمي : « وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ » قال : السماء ، « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » قال : تسجر يوم القيامة.

وفي المجمع : « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » أي المملوء. عن قتادة ، وقيل : هو الموقد المحمي بمنزلة التنور. عن مجاهد والضحاك والأخفش وابن زيد. ثم قيل : إنه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا ـ ثم تفجر بعضها في بعض ثم تفجر إلى النار. ورد به الحديث.

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ

٨

رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨).

( بيان )

تذكر الآيات من يقع عليهم هذا العذاب الذي لا ريب في تحققه ووقوعه ، وتصف حالهم إذ ذاك ، وهذا هو الغرض الأصيل في السورة كما تقدمت الإشارة إليه وأما ما وقع في الآيات من وصف حال المتقين يومئذ فهو من باب التطفل لتأكيد الإنذار المقصود.

قوله تعالى : « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » تفريع على ما دلت عليه الآيات السابقة من تحقق وقوع العذاب يوم القيامة أي إذا كان الأمر كما ذكر ولم يكن محيص عن وقوع العذاب فويل لمن يقع عليه وهم المكذبون لا محالة فالجملة تدل على كون المعذبين هم المكذبين بالاستلزام وعلى تعلق الويل بهم بالمطابقة.

أو التقدير إذا كان العذاب واقعا لا محالة ولا محالة لا يقع إلا على المكذبين لأنهم الكافرون بالله المكذبون ليوم القيامة فويل يومئذ لهم ، فالدال على تعلق العذاب بالمكذبين

٩

هو قوله : « عَذابَ رَبِّكَ » لأن عذاب الله إنما يقع على من دعاه فلم يجبه وكذب دعوته.

قوله تعالى : « الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ » الخوض هو الدخول في باطل القول قال الراغب : الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار في الأمور وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه انتهى ، وتنوين التنكير في « خَوْضٍ » يدل على صفة محذوفة أي في خوض عجيب.

ولما كان الاشتغال بباطل القول لا يفيد نتيجة حقة إلا نتيجة خيالية يزينها الوهم للخائض سماه لعبا ـ واللعب من الأفعال ما ليس له إلا الأثر الخيالي ـ.

والمعنى : الذين هم مستمرون في خوض عجيب يلعبون بالمجادلة في آيات الله وإنكارها والاستهزاء بها.

قوله تعالى : « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا » الدع هو الدفع الشديد ، والظاهر أن « يَوْمَ » بيان لقوله : « يَوْمَئِذٍ ».

قوله تعالى : « هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ » أي يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون ، والمراد بالتكذيب بالنار التكذيب بما أخبر به الأنبياء عليهم‌السلام بوحي من الله من وجود هذه النار وأنه سيعذب بها المجرمون ومحصل المعنى هذه مصداق ما أخبر به الأنبياء فكذبتم به.

قوله تعالى : « أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ » تفريع على قوله : « هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ » والاستفهام للإنكار تفريعا لهم أي إذا كانت هذه هي تلك النار التي كنتم تكذبون بها فليس هذا سحرا كما كنتم ترمون إخبار الأنبياء بها أنه سحر وليس هذا أمرا موهوما خرافيا كما كنتم تتفوهون به بل أمر مبصر معاين لكم فالآية في معنى قوله تعالى : « وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ » الأحقاف : ٣٤.

وبما مر من المعنى يظهر أن « أَمْ » في قوله : « أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ » متصلة وقيل : منقطعة ولا يخلو من بعد.

قوله تعالى : « اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ، الصلي بالفتح فالسكون مقاساة حرارة النار فمعنى اصلوها قاسوا حرارة نار جهنم.

١٠

وقوله : « فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا » تفريع على الأمر بالمقاساة ، والترديد بين الأمر والنهي كناية عن مساواة الفعل والترك ، ولذا أتبعه بقوله : « سَواءٌ عَلَيْكُمْ » أي هذه المقاساة لازمة لكم لا تفارقكم سواء صبرتم أو لم تصبروا فلا الصبر يرفع عنكم العذاب أو يخففه ولا الجزع وترك الصبر ينفع لكم شيئا.

وقوله : « سَواءٌ عَلَيْكُمْ » خبر مبتدإ محذوف أي هما سواء وإفراد « سَواءٌ » لكونه مصدرا في الأصل.

وقوله : « إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » في مقام التعليل لما ذكر من ملازمة العذاب ومساواة الصبر والجزع.

والمعنى : إنما يلازمكم هذا الجزاء السيئ ولا يفارقكم لأنكم تجزون بأعمالكم التي كنتم تعملونها ولا تسلب نسبة العمل عن عامله فالعذاب يلازمكم أو إنما تجزون بتبعات ما كنتم تعملون وجزائه.

قوله تعالى : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ » الجنة البستان تجنيه الأشجار وتستره ، والنعيم النعمة الكثيرة أي إن المتصفين بتقوى الله يومئذ في جنات يسكنون فيها ونعمة كثيرة تحيط بهم.

قوله تعالى : « فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ » الفاكهة مطلق الثمرة ، وقيل : هي الثمرة غير العنب والرمان ، ويقال : تفكه وفكه إذا تعاطى الفكاهة ، وتفكه وفكه إذا تناول الفاكهة ، وقد فسرت الآية بكل من المعنيين فقيل : المعنى : يتحدثون بما آتاهم ربهم من النعيم ، وقيل : المعنى : يتناولون الفواكه والثمار التي آتاهم ربهم ، وقيل : المعنى : يتلذذون بإحسان ربهم ومرجعه إلى المعنى الأول ، وقيل : معناه فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم ، ولعل مرجعه إلى المعنى الثاني.

وتكرار « رَبُّهُمْ » في قوله : « وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ » لإفادة مزيد العناية بهم.

قوله تعالى : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » أي يقال لهم : كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرابا هنيئا ، فهنيئا وصف قائم مقام مفعول مطلق أو مفعول به.

وقوله : « بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » متعلق بقوله : « كُلُوا وَاشْرَبُوا » أو بقوله : « هَنِيئاً ».

١١

قوله تعالى : « مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ » الاتكاء الاعتماد على الوسادة ونحوها ، والسرر جمع سرير ، ومصفوفة من الصف أي مصطفة موصولة بعضها ببعض ، والمعنى : متكئين على الوسائد والنمارق قاعدين على سرر مصطفة.

وقوله : « وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ » المراد بالتزويج القرن أي قرناهم بهن دون النكاح بالعقد ، والدليل عليه تعديه بالباء فإن التزويج بمعنى النكاح بالعقد متعد بنفسها ، قال تعالى : « زَوَّجْناكَها » الأحزاب : ٣٧ كذا قيل.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » إلخ ، قيل : الفرق بين الاتباع واللحوق مع اعتبار التقدم والتأخر فيهما جميعا أنه يعتبر في الاتباع اشتراك بين التابع والمتبوع في مورد الاتباع بخلاف اللحوق فاللاحق لا يشارك الملحوق في ما لحق به فيه.

ولات وألات بمعنى نقص فمعنى ما ألتناهم ما نقصناهم شيئا من عملهم بالإلحاق.

وظاهر الآية أنها في مقام الامتنان فهو سبحانه يمتن على الذين آمنوا أنه سيلحق بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان فتقر بذلك أعينهم ، وهذا هو القرينة على أن التنوين في « بِإِيمانٍ » للتنكير دون التعظيم.

والمعنى : اتبعوهم بنوع من الإيمان وإن قصر عن درجة إيمان آبائهم إذ لا امتنان لو كان إيمانهم أكمل من إيمان آبائهم أو مساويا له.

وإطلاق الاتباع في الإيمان منصرف إلى اتباع من يصح منه في نفسه الإيمان ببلوغه حدا يكلف به فالمراد بالذرية الأولاد الكبار المكلفون بالإيمان فالآية لا تشمل الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل البلوغ ، ولا ينافي ذلك كون صغار أولاد المؤمنين محكومين بالإيمان شرعا.

اللهم إلا أن يستفاد العموم من تنكير الإيمان ويكون المعنى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان ما سواء كان إيمانا في نفسه أو إيمانا بحسب حكم الشرع.

وكذا الامتنان قرينة على أن الضمير في قوله : « وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » للذين آمنوا كالضميرين في قوله : « وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ » إذ قوله : « وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » مسوق حينئذ لدفع توهم ورود النقص في الثواب على تقرير الإلحاق وهو ينافي

١٢

الامتنان ومن المعلوم أن الذي ينافي الامتنان هو النقص في ثواب الآباء الملحق بهم دون الذرية.

فتحصل أن قوله : « وَالَّذِينَ آمَنُوا » إلخ ، استئناف يمتن تعالى فيه على الذين آمنوا بأنه سيلحق بهم أولادهم الذين اتبعوهم بنوع من الإيمان وإن كان قاصرا عن درجة إيمانهم لتقر به أعينهم ، ولا ينقص مع ذلك من ثواب عمل الآباء بالإلحاق شيء بل يؤتيهم مثل ما آتاهم أو بنحو لا تزاحم فيه على ما هو أعلم به.

وفي معنى الآية أقوال أخر لا تخلو من سخافة كقول بعضهم إن قوله : « وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على « بِحُورٍ عِينٍ » والمعنى : وزوجناهم بحور عين وبالذين آمنوا يتمتعون من الحور العين بالنكاح وبالذين آمنوا بالرفاقة والصحبة ، وقول بعضهم : إن المراد بالذرية صغار الأولاد فقط ، وقول بعضهم : إن الضميرين في « وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » للذرية والمعنى : وما نقصنا الذرية من عملهم شيئا بسبب إلحاقهم بآبائهم بل نوفيهم أعمالهم من خير أو شر ثم نلحقهم بآبائهم.

وقوله : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » تعليل لقوله : « وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » على ما يفيده السياق ، والرهن والرهين والمرهون ما يوضع وثيقة للدين على ما ذكره الراغب قال : ولما كان الرهن يتصور منه حبسه أستعير ذلك لحبس أي شيء كان. انتهى.

ولعل هذا المعنى الاستعاري هو المراد في الآية والمرء رهن مقبوض ومحفوظ عند الله سبحانه بما كسبه من خير أو شر حتى يوفيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب فلو نقص شيئا من عمله ولم يوفه ذلك لم يكن رهين ما كسب بل رهين بعض ما عمل وامتلك بعضه الآخر غيره كذريته الملحقين به.

وأما قوله تعالى : « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » المدثر : ٣٩ ، فالمراد كونها رهينة العذاب يوم القيامة كما يشهد به سياق ما بعده من قوله : « فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ » المدثر : ٤١.

وقيل : المراد كون المرء رهين عمله السيئ كما تدل عليه آية سورة المدثر المذكورة آنفا بشهادة استثناء أصحاب اليمين ، والآية أعني قوله : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » جملة معترضة من صفات أهل النار اعترضت في صفات أهل الجنة.

١٣

وحمل صاحب الكشاف الآية على نوع من الاستعارة فرفع به التنافي بين الآيتين قال : كان نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه فإن عمل صالحا فكها وخلصها وإلا أوبقها. انتهى.

وأنت خبير بأن مجرد ما ذكره لا يوجه اتصال الجملة أعني قوله : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » بما قبلها.

قوله تعالى : « وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ » بيان لبعض تتماتهم وتمتعاتهم في الجنة المذكورة إجمالا في قوله السابق : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً » إلخ.

والإمداد الإتيان بالشيء وقتا بعد وقت ويستعمل في الخير كما أن المد يستعمل في الشر قال تعالى : « وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا » مريم : ٧٩.

والمعنى : أنا نرزقهم بالفاكهة وما يشتهونه من اللحم رزقا بعد رزق ووقتا بعد وقت من غير انقطاع.

قوله تعالى : « يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ » التنازع في الكأس تعاطيها والاجتماع على تناولها ، والكأس القدح ولا يطلق الكأس إلا فيما كان فيها الشراب.

والمراد باللغو لغو القول الذي يصدر من شاربي الخمر في الدنيا ، والتأثيم جعل الشخص ذا إثم وهو أيضا من آثار الخمر في الدنيا ، ونفي اللغو والتأثيم هو القرينة على أن المراد بالكأس التي يتنازعون فيها كأس الخمر.

قوله تعالى : « وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ » المراد به طوافهم عليهم للخدمة قال بعضهم : قيل : « غِلْمانٌ لَهُمْ » بالتنكير ولم يقل : غلمانهم لئلا يتوهم أن المراد بهم غلمانهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فهم كالحور من مخلوقات الجنة كأنهم لؤلؤ مكنون مخزون في الحسن والصباحة والصفا.

قوله تعالى : « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » أي يسأل كل منهم غيره عن حاله في الدنيا وما الذي ساقه إلى الجنة والنعيم؟.

قوله تعالى : « قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ » قال الراغب : والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى : « وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ

١٤

مُشْفِقُونَ » فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر قال تعالى : « إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ » ، انتهى.

فالمعنى : أنا كنا في الدنيا ذوي إشفاق في أهلنا نعتني بسعادتهم ونجاتهم من مهلكة الضلال فنعاشرهم بجميل المعاشرة ونسير فيهم ببث النصيحة والدعوة إلى الحق.

قوله تعالى : « فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ » المن على ما ذكره الراغب الإنعام بالنعمة الثقيلة ويكون بالفعل وهو حسن ، وبالقول وهو قبيح من غيره تعالى ، قال تعالى : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » الحجرات : ١٧.

ومنه تعالى على أهل الجنة إسعاده إياهم لدخولها بالرحمة وتمامه بوقايتهم عذاب السموم.

والسموم ـ على ما ذكره الطبرسي ـ الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به ومنه ريح السموم.

قوله تعالى : « إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ » تعليل لقوله : « فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا » إلخ ، كما أن قوله : « إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ » تعليل له.

وتفيد هذه الآية مع الآيتين قبلها أن هؤلاء كانوا في الدنيا يدعون الله بتوحيده للعبادة والتسليم لأمره وكانوا مشفقين في أهلهم يقربونهم من الحق ويجنبونهم الباطل فكان ذلك سببا لمن الله عليهم بالجنة ووقايتهم من عذاب السموم ، وإنما كان ذلك سببا لذلك لأنه تعالى بر رحيم فيحسن لمن دعاه ويرحمه.

فالآيات الثلاث في معنى قوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ » العصر : ٣.

والبر من أسماء الله تعالى الحسنى ، وهو من البر بمعنى الإحسان ، وفسره بعضهم باللطيف.

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده عن أبي بكر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » قال : فقال : قصرت الأبناء

١٥

عن عمل الآباء ـ فألحقوا الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم.

أقول : ورواه أيضا في التوحيد ، بإسناده إلى أبي بكر الحضرمي عنه (ع).

وفي تفسير القمي ، حدثني أبي عن سليمان الديلمي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة عليه‌السلام ، وقوله : « أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » قال : يهدون إلى آبائهم يوم القيامة.

أقول : وروي في المجمع ، ذيل الحديث عنه عليه‌السلام مرسلا.

وفي التوحيد ، بإسناده عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا مات الطفل من أطفال المؤمنين ـ نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض ـ ألا إن فلان بن فلان قد مات ـ فإن كان قد مات والداه أو أحدهما ـ أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذوه ، وإلا دفع إلى فاطمة تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما ـ أو بعض أهل بيته من المؤمنين فيدفعه إليه.

وفي الفقيه : وفي رواية الحسن بن محبوب عن علي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة ـ أطفال المؤمنين يغذوانهم بشجرة في الجنة ـ لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة ـ فإذا كان يوم القيامة ألبسوا ـ وطيبوا وأهدوا إلى آبائهم ـ فهم ملوك في الجنة مع آبائهم ، وهذا قول الله تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ـ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ».

وفي المجمع ، روى زاذان عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، ثم قرأ هذه الآية.

وفي الدر المنثور ، أخرج البزار وابن مردويه عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله يرفع ذرية المؤمن إليه في درجته ـ وإن كانوا دونه في العمل ـ ثم قرأ « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ـ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » قال : وما نقصنا الآباء بما أعطينا الأبناء.

وفيه ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وذريته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ » الآية.

١٦

أقول : والآية لا تشمل الآباء المذكورين في الحديث ، والأنسب للدلالة عليه ما ذكره تعالى في دعاء الملائكة « رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ » الآية : المؤمن : ٨.

وفي تفسير القمي : قوله : « لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ » قال : ليس في الجنة غناء ولا فحش ، ويشرب المؤمن ولا يأثم « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » قال : في الجنة.

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا

١٧

يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤).

( بيان )

لما أخبر عن العذاب الواقع يوم القيامة وأنه سيصيب المكذبين ، والمتقون في جنات ونعيم قريرة العيون أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يمضي في دعوته وتذكرته مشيرا إلى أنه صالح لإقامة الدعوة الحقة ، ولا عذر لهؤلاء المكذبين في تكذيبه ورد دعوته.

فنفى جميع الأعذار المتصورة لهم وهي ستة عشر أمرا شطر منها راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو تحقق شيء منه فيه سلب صلاحيته للاتباع وكان مانعا عن قبول قوله ككونه كاهنا أو مجنونا أو شاعرا أو متقولا مفتريا على الله وكسؤاله الأجر على دعوته وشطر منها راجع إلى المكذبين أنفسهم مثل كونهم خلقوا من غير شيء أو كونهم الخالقين أو أمر عقولهم بالتكذيب إلى غير ذلك ولا تخلو الآيات مع ذلك عن توبيخهم الشديد على التكذيب.

قوله تعالى : « فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ » تفريع على ما مر من الإخبار المؤكد بوقوع العذاب الإلهي يوم القيامة ، وأنه سيغشى المكذبين والمتقون في وقاية منه متلذذون بنعيم الجنة.

فالآية في معنى أن يقال : إذا كان هذا حقا فذكر فإنما تذكر وتنذر بالحق ولست كما يرمونك كاهنا أو مجنونا.

وتقييد النفي بقوله : « بِنِعْمَةِ رَبِّكَ » يفيد معنى الامتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة وليس هذا الامتنان الخاص من جهة مجرد انتفاء الكهانة والجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهه تلبسه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنعمة الخاصة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون وغير ذلك.

قوله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » أم منقطعة ، والتربص

١٨

الانتظار ، وفي مجمع البيان : التربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها والمنون المنية والموت ، والريب القلق والاضطراب. فريب المنون قلق الموت.

ومحصل المعنى : بل يقولون هو أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاعر ننتظر به الموت حتى يموت ويخمد ذكره وينسى رسمه فنستريح منه.

قوله تعالى : « قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم بالتربص كما رضوا لأنفسهم ذلك ، وهو أمر تهديدي أي تربصوا كما ترون لأنفسكم ذلك فإن هناك أمر من حقه أن ينتظر وقوعه ، وأنا أنتظره مثلكم لكنه عليكم لا لكم وهو هلاككم ووقوع العذاب عليكم.

قوله تعالى : « أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا » الأحلام جمع حلم وهو العقل ، وأم منقطعة والكلام بتقدير الاستفهام والإشارة بهذا إلى ما يقولونه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتربصون به.

والمعنى : بل أتأمرهم عقولهم أن يقولوا هذا الذي يقولونه ويتربصوا به الموت؟ فأي عقل يدفع الحق بمثل هذه الأباطيل؟.

قوله تعالى : « أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » أي إن عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم.

قوله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ » قال في المجمع : التقول تكلف القول ولا يقال ذلك إلا في الكذب ، والمعنى بل يقولون : افتعل القرآن ونسبه إلى الله كذبا وافتراء. لا بل لا يؤمنون فيرمونه بهذه الفرية.

قوله تعالى : « فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ » جواب عن قولهم : « تَقَوَّلَهُ » بأنه لو كان كلاما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كلاما بشريا مماثلا لسائر الكلام ويماثله سائر الكلام فكان يمكنهم أن يأتوا بحديث مثله فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين في دعواهم التقول بل هو كلام إلهي لائحة عليه دلائل الإعجاز يعجز البشر عن إتيان مثله ، وقد تقدم الكلام في وجوه إعجاز القرآن في تفسير سورة البقرة الآية ٢٣ تفصيلا.

ويمكن أن تؤخذ الآية ردا لجميع ما تقدم من قولهم المحكي إنه كاهن أو مجنون أو

١٩

شاعر أو متقول لأن عجز البشر عن الإتيان بمثله يأبى إلا أن يكون كلام الله سبحانه لكن الأظهر ما تقدم.

قوله تعالى : « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ » إتيان « شَيْءٍ » منكرا بتقدير صفة تناسب المقام والتقدير من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر.

والمعنى : بل أخلق هؤلاء المكذبون من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر فصلح لإرسال الرسول والدعوة إلى الحق والتلبس بعبوديته تعالى فهؤلاء لا يتعلق بهم تكليف ولا يتوجه إليهم أمر ولا نهي ولا تستتبع أعمالهم ثوابا ولا عقابا لكونهم مخلوقين من غير ما خلق منه غيرهم.

وفي معنى الجملة أقوال أخر.

فقيل : المراد أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق فلا حاجة لهم إلى خالق يدبر أمرهم.

وقيل : المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات.

وقيل : المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون.

وقيل : المعنى أم خلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون.

وما قدمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية وأشمل.

وقوله : « أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ » أي لأنفسهم فليسوا مخلوقين لله سبحانه حتى يربهم ويدبر أمرهم بالأمر والنهي.

قوله تعالى : « أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ » أي أم أخلقوا العالم حتى يكونوا أربابا آلهة ويجلوا من أن يستعبدوا ويكلفوا بتكليف العبودية بل هم قوم لا يوقنون.

قوله تعالى : « أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ » أي بل أعندهم خزائن ربك حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ويمسكوها عمن شاءوا فيمنعوك النبوة والرسالة.

وقوله : « أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ » السيطرة ـ وربما يقلب سينها صادا ـ الغلبة والقهر والمعنى : بل أهم الغالبون القاهرون على الله سبحانه حتى يسلبوا عنك ما رزقك الله من النبوة والرسالة.

٢٠