الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

(كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم وزوجته)

ربما قيل : إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا ، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية ، والصفرة كلون أهل الصين واليابان ، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادي الأول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وأم واحدة ، والدليلان ـ كما ترى ـ مدخولان :

أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع ، ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها ، وقد ظفر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء (١).

وأما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين ، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة ، وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات ، وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس ، وسهل إلى جبل وبالعكس ، وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما يشرحه علوم

__________________

(١) وقد ورد في الجرائد في هذه الأيام : أن جمعا من الأطباء قد اكتشفوا فورمول طبي يغير به لون بشرة الإنسان كالسواد إلى البياض مثلا.

١٤١

طبقات الأرض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا.

وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الأب والأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم ، وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة ، قال تعالى : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) : « الم السجدة : ٨ » وقال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) : « آل عمران : ٥٩ » وقال تعالى : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) الآية : « البقرة : ٣١ » وقال تعالى : ( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الآيات : « ص : ٧٢ » فإن الآيات ـ كما ترى ـ تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب ، وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه ، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل.

وربما قيل : إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كان مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل والإيلاد سمي بآدم ، وربما استظهر ذلك من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) : « الأعراف : ١١ » فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال : ( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ) ، وهكذا قوله تعالى : ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) « إلى أن قال : ( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) « إلى أن قال : ( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) : « ص : ٨٣ » حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا.

ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى ـ بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الأعراف : ( يا بَنِي آدَمَ

١٤٢

لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) : « الأعراف : ٢٧ » فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.

وكذا قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ) : « إسراء : ٦٢ » ، وكذا الآية المبحوث عنها : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) الآية ، بالتقريب الذي مر بيانه.

فالآيات ـ كما ترى ـ تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر ، وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » الآية ، وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعي في حد التفريط ، والإفراط الذي يقابله قول بعضهم : إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة.

(كلام في أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر)

الآيات السابقة تكفي مئونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالإنسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا.

والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي « أن الإنسان حيوان تحول إنسانا » مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.

فإنهم فرضوا أن الأرض ـ وهي أحد الكواكب السيارة ـ قطعة من الشمس

١٤٣

مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة ، وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان ، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور.

وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها.

واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع ، وإنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علمي.

(كلام في تناسل الطبقة الثانية من الإنسان)

الطبقة الأولى من الإنسان وهي آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين وبنات ( إخوة وأخوات ) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم إخوة وأخوات أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى : ( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الإنسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من

١٤٤

غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ولم يذكر القرآن للبث إلا إياهما ، ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال : ( وَبَثَّ مِنْهُما ) ومن غيرهما ، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ ، ومن المعلوم أن انحصار مبدإ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما.

وأما الحكم بحرمته في الإسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير ، وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

والقول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لأنبيائه دين فطري ، قال تعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) « الروم : ٣٠ » ، فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها عن هذا النوع من المباشرة ( مباشرة الأخ الأخت ) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الإنساني ، ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم ، وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الإخوة والأخوات والمشية الإلهية متعلقه بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة ( على ما يقصه التاريخ ) وشيوعه قانونيا في روسيا ( على ما يحكى ) وكذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في أوربا (١).

وربما يقال : إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجري في الإنسان قبل عقده

__________________

(١) من العادات الرائجة في هذه الأزمنة في الملل المتمدنة من أوربا وأمريكا : أن الفتيات يزلن بكارتهن قبل الازدواج القانوني والبلوغ إلى سنه وقد أنتج الإحصاء أن بعضها إنما هو من ناحية آبائهن أو إخوانهن.

١٤٥

المجتمع الصالح لإسعاده فإن الاختلاط والاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق والميل الغريزي بين الإخوة والأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق (١).

وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولا ، ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا ، ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع ، ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية.

(بحث روائي)

في التوحيد ، عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين.

أقول : ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر عليه‌السلام ما في معناه ، ورواه الصدوق في الخصال أيضا.

وفي الخصال ، عن الصادق عليه‌السلام قال : إن الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم ـ كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ـ ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم.

وفيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : لقد خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ـ ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض ـ فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ـ ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه ، الحديث.

وفي نهج البيان ، للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : من أي شيء خلق الله حواء؟ فقال عليه‌السلام : أي شيء يقولون هذا الخلق؟

قلت يقولون : إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم ـ فقال : كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت : جعلت فداك من أي شيء خلقها؟ فقال : أخبرني أبي عن آبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين ـ فخلطها

__________________

(١) مونتسكيو في كتابه روح القوانين.

١٤٦

بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق منها آدم ، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء.

أقول : ورواه الصدوق عن عمرو مثله ، وهناك روايات أخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر ، وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين ، وهذا المعنى وإن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم.

وفي الإحتجاج ، عن السجاد عليه‌السلام في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل ـ وتزويج قابيل بإقليما أخت هابيل ، قال : فقال له القرشي : فأولداهما؟

قال : نعم ، فقال له القرشي : فهذا فعل المجوس اليوم ، قال : فقال : إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله ، ثم قال له : لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت ، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ـ ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك ، الحديث.

أقول : وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار ، وهناك روايات أخر تعارضها وهي تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور والجان وقد عرفت الحق في ذلك.

وفي المجمع ، في قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ) ، عن الباقر عليه‌السلام : واتقوا الأرحام أن تقطعوها.

أقول : وبناؤه على قراءة النصب.

وفي الكافي ، وتفسير العياشي ، : هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها ، ألا ترى أنه جعلها معه؟

أقول : قوله : ألا ترى « إلخ » بيان لوجه التعظيم ، والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ).

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : ( الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ) قال : قال ابن عباس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله تعالى : صلوا أرحامكم ـ فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم.

١٤٧

أقول : قوله : فإنه أبقى لكم « إلخ » ، إشارة إلى ما ورد مستفيضا : أن صلة الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك ، ويمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية : « النساء : ٩ ».

ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوى بذلك الإنسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا والمصائب والأعداء.

وفي تفسير العياشي ، عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار ، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه ـ فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت ، وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادي : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ـ وذلك قول الله في كتابه : ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، وأيما رجل غضب وهو قائم ـ فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان.

أقول : والرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأم أو أحدهما ، وهي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية ، وروحية وجسمية غير قابلة الإنكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس.

وكيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة ، مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ، ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب ، وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثرا منها في مورد الأجانب.

وبذلك يظهر معنى قوله عليه‌السلام : فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه « إلخ » ، فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة.

١٤٨

وكذلك قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية : وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض « إلخ » ، فإن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستندا إلى هواها وإغفال الشيطان إياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية ، وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأن نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس ، عن الصادق عن أبيه عليه‌السلام : أنه ذكر الغضب فقال : إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا ، ويدخل بذلك النار ، فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس ـ فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان ، وإن كان جالسا فليقم ، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسه ـ فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت ، أقول : وتأثيره محسوس مجرب.

قوله عليه‌السلام : وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد « إلخ » أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر ، وفي الصحاح : الإنقاض صويت مثل النقر ، وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش : أن المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية فهي تحرك وحدها سلاسل العلل والأسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشئونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل والأثر.

والرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به واستنصرت ، وهو قوله عليه‌السلام : تنقضه انتقاض الحديد ، وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش والاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس والجامات وغيرها.

١٤٩

قوله عليه‌السلام : فتنادي اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، حكاية لفحوى التجائها واستنصارها ، وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها يقطعه وقد مر في البحث عن ارتباط الأعمال والحوادث الخارجية من أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات الصالحة ، ولن يهمل في ذلك ، وإذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف والإزالة ، وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره ، وأما أن الإنسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا غرو لأن الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الألم والعذاب.

* * *

( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ـ ٢. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا ـ ٣. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ـ ٤. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ـ ٥. وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ

١٥٠

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ـ ٦. )

(بيان)

الآيات تتمة التمهيد والتوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث وعمدة أحكام التزويج كعدد النساء وتعيين المحارم وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني وأعظمها ، ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه فإن النكاح يتعين به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التي تكونه ، والإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته وبقائه.

وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى والسفاح والنهي عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض وعند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال.

ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني ونشبت في أصوله وجذوره. وصرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم ، والتحمت عليه أفكارهم ، ونبتت عليه لحومهم ، ومات عليه أسلافهم ، ونشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر.

وهذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة ، يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الإنساني يومئذ بالعموم وفي وضع العالم العربي و ( دارهم دار نزول القرآن وظهور الإسلام ) بالخصوص ، وفي كيفية تدرج القرآن في نزوله وظهور الأحكام الإسلامية في تشريعها.

(كلام في الجاهلية الأولى)

القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية ، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم ، والمسيطر عليهم في كل شيء الباطل

١٥١

وسفر الرأي دون الحق ، وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم ، قال تعالى : ( يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) : آل عمران ١٥٤ ، وقال : ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) : ـ المائدة ٥٠ ، وقال : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) : الفتح ٢٦ ، وقال : « ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) : الأحزاب ٣٣.

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية ، وفي مغربها إمبراطورية الروم وهي نصرانية ، وفي شمالها الفرس وهم مجوس ، وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيتان وفي أرضهم طوائف من اليهود ، وهم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل ، وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم ، قال تعالى : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) : الأنعام ١١٦.

وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم ولا أمانة ، ولا سلم ولا سلامة ، والأمر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده.

أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادي والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل الميتة والدم وحشف التمر.

وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن إلى أنفسهن وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن ، ومن عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.

وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى ، ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء.

غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون

١٥٢

ماله ، ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.

وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق « الأنعام آية ١٥١ » ، وكانوا يئدون البنات « التكوير آية ٨ » ، وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى « الزخرف آية ١٧ ».

وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب والحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية وليس بها ، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة.

فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون ، ويظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم ، وأضف إلى ذلك بلاء الأمية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر والقبائل.

وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة ، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام وقوته بالمدينة ثانيا ، وفي الأوصاف التي تصفهم بها ، والأمور التي تذمها منهم وتلومهم عليها ، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها ، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك. على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه. وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

١٥٣

وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن يجمل القول فيه. أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء والحكام والعمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال ، وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض ونفس ، ولا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها ، وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وأتلفت بهم ، وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف.

وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الأول ( والناس على دين ملوكهم ) إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد ، وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد ، وكذا إلى الرجال المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شئون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا.

وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى : ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) : « آل عمران : ٦٤ » وقد أدرجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه إلى هرقل عظيم الروم ، وقد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وإلى نجران.

وكذا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) : « الحجرات : ١٣ » ، وقوله في ما وصى به التزوج بالإماء والفتيات : ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ ) : « النساء : ٢٥ ، وقوله في النساء : ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) : « آل عمران : ١٩٥ » ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ وأشأم من وضع أهل الكتاب ، والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن

١٥٤

خيبة سعيهم وخسران صفقتهم في جميع شئون الحياة وضروب السعادة ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ) : « الأنبياء : ١٠٩ » ، وقال تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) : « الأنعام : ١٩ ».

(كيف ظهرت الدعوة الإسلامية؟)

كان وضع المجتمع الإنساني يومئذ ( عهد الجاهلية ) ما سمعته من إكباب الناس على الباطل وسلطة الفساد والظلم عليهم في جميع شئون الحياة ، وهو ذا دين التوحيد وهو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق ويوليه عليهم تولية مطلقة ، ويطهر قلوبهم من ألواث الشرك ، ويزكي أعمالهم ويصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره وأغصانه وباطنه وظاهره.

وبالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح ، وما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهرهم وليتم نعمته عليهم ، فما هم عليه من الباطل وما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين وقطبين متخالفين ، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض ويصلح بهم الباقين من أهل الباطل ، ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان وبأي وسيلة تيسر كما قيل : إن أهمية الغاية تبيح المقدمة ولو كانت محظورة ، وهذا هو السلوك السياسي الذي يستعمله أهل السياسة.

وهذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الإيصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجري في باب الحق الصريح وهو الذي تؤمه الدعوة الإسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها ووسائلها وكيف يمكن أن يلد الباطل حقا وينتج السقيم صحيحا والوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه؟.

وبغية السياسة وهواها أن تبلغ السلطة والسيطرة ، وتحوز السبق والتصدر والتعين والتمتع بأي نحو اتفق ، وعلى أي وصف من أوصاف الخير والشر والحق والباطل انطبق ، ولا هوى لها في الحق ، ولكن الدعوة الحقة لا تبتغي إلا الغرض

١٥٥

الحق ، ولو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاء وإنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة.

ولهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والطاهرين من آله عليه‌السلام.

وبذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ربه ونزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة ( ولو يسيرا ) في أمر الدين ، قال تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) : « سورة الكافرون : ٦١ » وقال تعالى وفيه لحن التهديد (. وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ) : « الإسراء : ٧٥ » وقال تعالى : ( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) : « الكهف : ٥١ » وقال تعالى ـ وهو مثل وسيع المعنى ـ : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) : « الأعراف : ٥٨ ».

وإذا كان الحق لا يمازج الباطل ولا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعبأه ثقل الدعوة بالرفق والتدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة والمدعو والمدعو إليه من ثلاث جهات.

الأولى : من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة والقوانين المشرعة التي من شأنها إصلاح شئون المجتمع الإنساني ، وقطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس ولا سيما إذا كانت ناشبة في الأخلاق والأعمال وقد استقرت عليها العادات ، ودارت عليها القرون ، وسارت عليها الأسلاف ، ونشأت عليها الأخلاف ولا سيما إذا عمت كلمة الدين ودعوته جميع شئون الحياة ، واستوعبت جميع الحركات الإنسانية وسكناتها في ظاهرها وباطنها في جميع أزمنتها ولجميع أشخاصها وأفرادها ومجتمعاتها من غير استثناء ( كما أنه شأن الإسلام ) فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادي.

وصعوبة هذا الأمر ومشقته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الإنسان واعتياده ومساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد ، وهو أظهر لحسه وآثر عند

١٥٦

شهواته وأهوائه ، ولذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين والشرائع الإلهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما.

وبالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع ولا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض ، وهذا الذي ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فإنه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الإلهية والقوانين المشرعة في مكيتها ومدنيتها. الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول ، والمدنية ـ ونعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت ـ تفصل القول وتأتي بالتفاصيل من الأحكام التي سبقت في المكية كلياتها ومجملاتها ، قال تعالى : ( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى ) : « العلق : ١٤ » والآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني ، وفيها إجمال التوحيد والمعاد ، وإجمال أمر التقوى والعبادة.

وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) : « المدثر : ٣ » وهي أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة ، وقال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) : « الشمس : ١٠ » ، وقال تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) : « الأعلى : ١٥ » وقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) : « حم السجدة : ٨ » وهذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة.

وقال تعالى : ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) : « الأنعام : ١٥٣ »

١٥٧

فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا ، وفي الأوامر الشرعية ثانيا ، وإنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها ولزوم اجتنابها والكف عنها ذو مسكة ، وكذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق والضعف والوقوع في الهلكة والردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين ، ولذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين والإساءة إليهما ، وقتل الأولاد من إملاق ، وقتل النفس المحترمة ، وأكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإن العواطف الغريزية من الإنسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم والمعاصي ، وهناك آيات أخر يعثر عليها المتدبر ويرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.

وكيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية ، ومع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام والقوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا ونجوما.

ويكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها وهي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى : ( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ) : « النحل : ٦٧ » ، والآية مكية ذكر فيها أمر الخمر وسكت عنه إلا ما في قوله : ( وَرِزْقاً حَسَناً ) من الإيماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ ) : « الأعراف : ٣٣ » والآية أيضا مكية تحرم الإثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم ونبتت عليها لحومهم وشدت عظامهم ، ثم قال : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » : البقرة ـ ٢١٩ ، والآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الإثم الذي حرمته آية الأعراف ، ولسان الآية ـ كما ترى ـ لسان رفق ونصح ، ثم قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) : « المائدة : ٩١ » ، والآية مدنية ختم بها أمر التحريم.

١٥٨

ونظيرها الإرث فقد آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولا بين أصحابه وورث أحد الأخوين الآخر في أول الأمر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة ، ثم نزل قوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) : « الأحزاب : ٦ » وعلى هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة والناسخة.

ففي جميع هذه الموارد وأشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الأحكام وإجرائها أخذا بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل وحسن التلقي بالقبول ، قال تعالى : ( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) : « الإسراء : ١٠٦ » ولو كان القرآن نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) : « النحل : ٤٤ » ، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية والأخلاقية وكليات الأحكام العبادية والقوانين الجارية في المعاملات والسياسات وهكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصورها وحملها فضلا عن قبول الناس لها وعملهم بها وحكومتها على قلوبهم في إرادتها ، وعلى جوارحهم وأبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذي هيأ للدين إمكان القبول والوقوع في القلوب وقال تعالى : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) : « الفرقان : ٣٢ » وفي الآية دلالة على أنه سبحانه كان يرفق برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بأمته فتدبر في ذلك وتأمله وفي ذيل الآية قوله : ورتلناه ترتيلا.

ومن الواجب أن يتذكر أن السلوك من الإجمال إلى التفصيل والتدرج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق وحسن التربية ورعاية المصلحة غير المداهنة والمساهلة وهو ظاهر.

الثانية : السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين وأخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم ، ولا بمكان دون مكان ، ولا بزمان دون زمان ( ومرجع الأخيرين إلى الأول في الحقيقة ) البتة قال تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) : « الأعراف : ١٥٨ » وقال تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) : « الأنعام : ١٩ » وقال تعالى : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) : « الأنبياء : ١٠٧ ».

١٥٩

على أن التاريخ يحكي دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود وهم من بني إسرائيل ، والروم والعجم والحبشة ومصر وليسوا من العرب ، وقد آمن به من المشاهير سلمان وهو من العجم ومؤذنه بلال وهو من الحبشة وصهيب وهو من الروم ، فعموم نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه لا ريب فيه ، والآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان والأمكنة أيضا.

على أن قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) : « حم السجدة : ٤٢ » وقوله تعالى : ( وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) : « الأحزاب : ٤٠ » تدلان على عموم النبوة وشمولها للأمكنة والأزمنة أيضا ، والبحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.

وكيف كان فالنبوة عامة ، والمتأمل في سعة المعارف والقوانين الإسلامية وما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل وقذارة الفساد والبغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا ومكافحة الشرك والفساد حينئذ دفعة.

بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض وأن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم وهكذا كان ، قال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) : « إبراهيم : ٤ » وقال : ( وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) : « الشعراء : ١٩٩ » والآيات التي تدل على ارتباط الدعوة والإنذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة والإنذار ، وكذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالإعجاز ، ولا دليل في ذلك على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) الآية ، وقوله : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) : « يوسف : ٣ » وقوله : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) : « الشعراء : ١٩٥ » فاللسان العربي هو المظهر للمعاني والمقاصد الذهنية أتم إظهار ، ولذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن وقال : ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) : « الزخرف : ٣ ».

وبالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال : ( وَأَنْذِرْ

١٦٠