الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج ، وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه ألوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته ، وألوان يستلذ منها بصره ، وطعوم يستطيبها ذوقه ، وكيفيات يتنعم بها لمسه ، وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعة وإطفاء نائرة شهوته.

وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا ، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.

وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع كالأحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته وفيما أمره إليه ، فلولي الأمر أن يعزم على أمور من شئون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) : « آل عمران : ١٥٩ » ، كل ذلك في الأمور العامة.

وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث منها شيء ويزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ إليها ولبيانه التفصيلي محل آخر.

١٢ ـ من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته؟ كان ولاية أمر المجتمع الإسلامي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وافتراض طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم.

١٢١

قال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) : « التغابن : ١٢ » ، وقال تعالى : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) : « النساء : ١٠٥ » ، وقال تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) : « الأحزاب : ٦ » ، وقال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) : « آل عمران : ٣١ » ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتضمن كل منها بعض شئون ولايته العامة في المجتمع الإسلامي أو جميعها.

والوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ويمتلئ منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق والقوانين المشرعة في الأحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات ، فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي والبيان الوافي ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام البتة.

وهاهنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها ، وهو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة ، كقوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) : « النساء : ٧٧ » ، وقوله : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) : « البقرة : ١٩٥ » ، وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) : « البقرة : ١٨٣ » ، وقوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) : « آل عمران : ١٠٤ » ، وقوله : ( وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) : « المائدة : ٣٥ » ، وقوله : ( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) : « الحج : ٧٨ » ، وقوله : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما ) : « النور : ٢ » ، وقوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) : « المائدة : ٣٨ » ، وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) : « البقرة : ١٧٩ » ، وقوله : ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) : « الطلاق : ٢ » ، وقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) : « آل عمران : ١٠٣ » وقوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) : « الشورى : ١٣ » ، وقوله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) : « آل عمران : ١٤٤ » إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر ، ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم ، فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير

١٢٢

مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم ، والنبي ومن دونه في ذلك سواء ، قال تعالى : ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) « آل عمران : ١٩٥ » ، فإطلاق الآية يدل على أن التأثير الطبيعي الذي لأجزاء المجتمع الإسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا وأنه تعالى لا يضيعه ، وقال تعالى : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) : « الأعراف : ١٢٨ ».

نعم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعوة والهداية والتربية ، قال تعالى : ( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) : « الجمعة : ٢ » ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدنيا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حيا.

لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديمقراطية وغيرها فإن بينها وبين الإسلام فروقا بينة مانعة من التشابه والتماثل.

ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الإنسان وعمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه. ويعتذر ـ لو اعتذر ـ إن ذلك من شئون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ، ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ، ويستدل عليه بسيفه ، كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء

١٢٣

الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده.

ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الإسلامي مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) « الحجرات : ١٣ » ، وقال تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) : « البقرة : ١٤٨ » فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرءوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغني والفقير والصغير والكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشئون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية.

ومنها أن القوة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق أخر لا يخفى على الباحث المتتبع.

هذا كله في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام.

ولكن على أي حال أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال ، والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي سنة الإمامة دون الملوكية والإمبراطورية والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير ،

١٢٤

والتولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافة إلى قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) : « الأحزاب : ٢١ ».

١٣ ـ ثغر المملكة الإسلامية هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية ألغى الإسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الأرضي ، وهذان أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الإنساني شعوبا وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله.

ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطنا يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم.

وهذا وإن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد ، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها وتقويها بالتراكم والتوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح ، وهذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصرا ثم ... ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا.

والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الأخرى فيصير واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى فتنعزل الإنسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة ( أعني الآحاد الاجتماعية ) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك ، والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.

وهذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات ،

١٢٥

وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك ، حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث ، فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلا.

ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الأحوال ، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والإشارة في الأعمال المفروضة عليه.

ومن هنا يظهر أن المجتمع الإسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف. ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) الآية : « النحل : ١٠٦ » وقوله : ( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) : « آل عمران : ٢٨ » وقوله : ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (١) وقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) : « آل عمران : ١٠٢ ».

١٤ ـ الإسلام اجتماعي بجميع شئونه : يدل على ذلك قوله تعالى : ( وَصابِرُوا وَرابِطُوا ـ وَاتَّقُوا اللهَ. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الآية على ما مر بيانه وآيات أخر كثيرة.

وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معا في بحثه :

فالجهة الأولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع ، وشرع وجوب الصوم والحج مثلا للمستطيع غير المعذور ولازمه اجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين : الفطر والأضحى ،

__________________

(١) سورة التغابن : ١٦

١٢٦

والصلاة المشروعة فيهما ، وشرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ. وهذا نوع آخر.

والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت وألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة وعلى الناس أن يقيموا السنة (١) وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة : ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب ـ فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم. وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت.

وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الإسلامي.

وأهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى وهي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال ( العبادية والمعاملية والسياسية ) ومن الأخلاق الكريمة ومن المعارف الأصلية.

نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد ، وهذا أول التآلف والتآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أن « الحق يجب اتباعه ».

ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) « الأنفال : ٤٢ » وقال تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) « النساء : ٩٩ » انظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ، وهذا يعطي الحرية

__________________

(١) باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل

١٢٧

التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها. على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر.

ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الإسلامي كما تقدم.

إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس وفن الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور إما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم والمعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف وقضاؤه الذهني كإدراك الشموس المتعسف ، ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجي الذي يتبع كل ناعق والغوي الذي لا يدري أين يريد؟ ولا أنى يراد به ، والتربية الدينية تكفي مئونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية من المعارف والعلوم ، وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول وهي مكارم الأخلاق قال تعالى : ( كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) : « الأحقاف : ٣٠ » وقال تعالى : ( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) : « المائدة : ١٦ » وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) : « العنكبوت : ٦٩ » وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر.

وإما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الإنسانية ومن هذا القبيل أقسام الإغواء والوساوس يلقن الإنسان وخاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الأفهام وتتخلف عن اتباع الحق! وقد كفى مئونة هذا أيضا الإسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا ، وكلف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانيا ، وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثا. قال تعالى :

١٢٨

( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) الآية : « آل عمران : ١٠٤ » فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس ، وقال تعالى : ( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ ) الآيات : « الأنعام : ٧٠ » ، ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح ، ويذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في معارفه ، وأخذه بالهزل واللعب واللهو ، وأن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا ، وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى.

وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلا صحيحا كالجربزة والبلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والإرفاق في الدعوة والتربية ، وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الإسلام ، قال تعالى : ( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) : « يوسف : ١٠٨ » ، ومن المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحد إلا مقدار ما يعيه منه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما رواه الفريقان : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم ، وقال تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) : « التوبة : ١٢٢ » ، فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع.

وقد قرر الإسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا

١٢٩

تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) : « الأنعام : ١٥٣ » فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ، ثم قال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) : « آل عمران : ١٠٣ » وقد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين ، أو هو والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يظهر من قوله تعالى قبله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) : « آل عمران : ١٠١ ».

تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف وقد قال تعالى : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) : « النساء : ٨٢ » ، وقال : ( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) : « العنكبوت : ٤٣ » وقال : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) : « النحل : ٤٣ » فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين.

وتدل على أن الإرجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه ، قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) : « النحل : ٤٤ » ، وقريب منه قوله تعالى : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) : « النساء : ـ ٨٣ » ، وقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) : « النساء : ٥٩ » ، فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الإسلام.

ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ، ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكرا واجتهادا بالاجتماع والمرابطة ، وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها

١٣٠

فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي ، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا ، قال تعالى ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) : « الزمر : ١٨ ».

والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.

هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية ، وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوة وقهرا والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده ، وإنما هو خصيصة نصرانية وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب ـ وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين ـ بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه.

ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها ( الاجتماع الفكري وحرية العقيدة ) كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله ( و ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم.

١٥ ـ الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة والعاقبة للتقوى فإن النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معا حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والأخروي وقد عرفت أن هذا هو الإسلام ودين التوحيد.

وأما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطإ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة ، والغاية التي يعقبها

١٣١

الصنع والإيجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل ، قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا وإن علمته فطرتهم إجمالا ) ، « إلى أن قال : ( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، » إلى أن قال : ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) : « الروم : ٣٠ ٤١ » ، وقال تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) : « المائدة : ٥٤ » ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) : « الأنبياء : ١٠٥ » وقال تعالى : ( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) : « طه : ١٣٢ » فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة.

ولا تصغ إلى قول من يقول : إن الإسلام وإن ظهر ظهورا ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني ولن يقبله أبدا ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا وحكومته على النوع تامة.

وذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني وكماله الذي هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة ، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلية.

على أن شيئا من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس ، وكذا ما أتى به برهما وبوذا وماني وغيرهم ، وتلك سنن المدنية المادية كالديمقراطية والكمونيسم وغيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الإنسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.

وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي ولا نصب ، ولا

١٣٢

تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية.

(بحث روائي)

في المعاني ، عن الصادق عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ) الآية : اصبروا على المصائب ، وصابروهم على الفتنة. ورابطوا على من تقتدون به.

وفي تفسير العياشي ، عنه عليه‌السلام : اصبروا على دينكم ، وصابروا عدوكم ، ورابطوا إمامكم.

أقول : وروي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الكافي ، عنه عليه‌السلام : اصبروا على الفرائض ، وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة.

وفي المجمع ، عن علي عليه‌السلام : رابطوا الصلوات ـ قال أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذ.

أقول : اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الأوامر.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله ـ قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط.

أقول : ورواه بطرق أخرى عنه (ص) والأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى.

١٣٣

(سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ـ ١. )

(بيان)

غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات ومحرمات النكاح وغير ذلك ، وأحكام المواريث ، وفيها أمور أخرى من أحكام الصلاة والجهاد والشهادات والتجارة وغيرها ، وتعرض لحال أهل الكتاب.

ومضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة ، وظاهرها أنها نزلت نجوما لا دفعة واحدة وإن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها.

وأما هذه الآية في نفسها فهي وعدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى والنساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث والمحارم وأما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه وإن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمي الذي وقع في الآية كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ » إلى قوله : « وَنِساءً » يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوي حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والأحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم ، وحفظ

١٣٤

وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين.

ومن هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال : ( اتَّقُوا اللهَ ) ونحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني قوله : ( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) « إلخ » يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين ، وهو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شئون الألوهية.

وأما قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » « إلخ » فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشيء يقال : جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين ـ النفس والعين ـ لهذا المعنى ( ما به الشيء شيء ) مختلفا ، ونفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان ، وهو مجموع روح الإنسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ) الآية : « البقرة : ١٥٤ ».

وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه‌السلام ، ومن زوجها زوجته ، وهما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) ، : « الزمر : ٦ » وقوله تعالى : ( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ) : « الأعراف : ٢٧ » ، وقوله تعالى : حكاية عن إبليس : ( لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ) : « إسراء : ٦٢ ».

وأما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق الذكور والإناث من الإنسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيئول المعنى إلى نحو قولنا : خلق كل واحد منكم من أب وأم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) : « الحجرات : ١٣ » ، حيث إن ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه : ذكر وأنثى.

ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء وآية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانية ،

١٣٥

ونفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وأم إنسانين فلا ينبغي أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى ، وأما آية النساء فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة ، وأنهم على كثرتهم رجالا ونساء إنما اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشإ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله : ( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) ، وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة وزوجها مطلق الذكر والأنثى الناسلين من الإنسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه.

وأما قوله : ( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) فقد قال الراغب : يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة : زوج ، ولكل قرينين فيها وفي غيرها : زوج كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا : زوج ، إلى أن قال : وزوجه لغة رديئة ، انتهى.

وظاهر الجملة أعني قوله : ( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) : الروم ٢١ ، وقوله تعالى : ( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) : النحل ٧٢ ، وقوله تعالى : ( فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) : الشورى ١١ ، ونظيرها قوله : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) : الذاريات ٤٩ ، فما في بعض التفاسير : أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار : أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية.

وأما قوله : ( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) ، البث هو التفريق بالإثارة ونحوها قال تعالى : ( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) : الواقعة ٦ ، ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث ويراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الإنسان بالطبع ، قال تعالى : ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) : يوسف ٨٦ ، أي غمي وحزني.

وظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم وزوجته من غير

١٣٦

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، ولم يقل : منهما ومن غيرهما ، ويتفرع عليه أمران :

أحدهما : أن المراد بقوله : ( رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل : وبثكم منهما أيها الناس.

وثانيهما : أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم وزوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الإخوة والأخوات ( ازدواج البنين بالبنات ) إذ الذكور والإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ ، ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر ، قال تعالى : ( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) : الرعد ٤١ ، وقال : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) : ـ يوسف ٤٠ ، وقال : ( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) : ـ الكهف ٢٦ ، وقال : ( وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) : ـ القصص ٧٠.

قوله تعالى : « وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ » المراد بالتساؤل سؤال بعض الناس بعضا بالله ، يقول أحدهم لصاحبه : أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو إقسام به تعالى ، والتساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الإنسان إنما يقسم بشيء يعظمه ويحبه.

وأما قوله : ( وَالْأَرْحامَ ) فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة ، والمعنى : واتقوا الأرحام ، وربما قيل : إنه معطوف على محل الضمير في قوله : به وهو النصب يقال : مررت بزيد وعمرا ، وربما أيدته قراءة حمزة : والأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور ـ وإن ضعفه النحاة ـ فيصير المعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام يقول أحدكم لصاحبه : أسألك بالله وأسألك بالرحم ، هذا ما قيل ، لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله : ( وَالْأَرْحامَ ) إن جعل صلة مستقلة للذي ، وكان تقدير الكلام : واتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام كان خاليا من الضمير وهو غير جائز ، وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهي تنافي أدب القرآن.

وأما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء

١٣٧

الأرحام إلى صنعه وخلقه تعالى ، وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) : « البقرة : ٢٨١ » ، وقوله : ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) : « آل عمران : ١٣١ » ، وقوله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) : « الأنفال : ٢٥ ».

وكيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق والتضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا ) إلى قوله : ( وَنِساءً ) ، فإن محصل معنى الشطر الأول : أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم ، ومن جهة خلقه وجعله إياكم ـ معاشر أفراد الإنسان ـ من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة متكثرة بتكثركم ، وذلك هو النوعية الجوهرية الإنسانية ، ومحصل معنى هذا الشطر : أن اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم ( وذلك من شئون الربوبية وفروعها ) واتقوا الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم ( والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية بين أفراد الإنسان ).

ومن هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة وهي إفادة الاهتمام التام بأمر الأرحام.

والرحم في الأصل رحم المرأة وهي العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا ، ثم أستعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة ، فالرحم هو القريب والأرحام الأقرباء ، وقد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والأمة ، فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير ، وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ ، قَدِيراً ) : « الفرقان : ٥٤ » وقال تعالى : ( وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) : « الحجرات : ١٣ » ، وقال تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) : « الأحزاب : ٦ » ، وقال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) : « سورة محمد : ٢٢ » ،

١٣٨

وقال تعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية : « النساء : ٩ » ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً » الرقيب الحفيظ والمراقبة المحافظة ، وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم ، أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه ، وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لإصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها ، فكأنه حفظ الشيء مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة والانتظار والمحاذرة والرصد ، والله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) : « سبأ : ٢١ » ، وقال : ( اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) : « الشورى : ٦ » ، وقال : ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) : « الفجر : ١٤ ».

وفي تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها اللازمة لها ، بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة ، وبالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغي والظلم والفساد في الأرض والطغيان وغير ذلك ، وما وقع فيها من التهديد والإنذار ، بهذا الغرض الإلهي وهو وقاية الوحدة الإنسانية من الفساد والسقوط.

(كلام في عمر النوع الإنساني والإنسان الأولي)

يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا وأنثى زوجين اثنين من هذا النوع وفرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن والخصب والرفاهية ومساعدة سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد ( رأس المائة ) الألف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

١٣٩

ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الإنسان من العوامل المضادة له في الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الأخرى غير العامة ، وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ ، وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الألف ، وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف.

ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة ( ٧٠ قرنا ) وجدناه تجاوز بليونين ونصفا ، وهو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي.

فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي ( علم طبقات الأرض ) ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين ، وقد وجدوا من الفسيلات الإنسانية والأجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه ، فهذا ما عندهم ، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأمم الماضية من غير انقطاع ، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الأمر على ذلك عدة أدوار ، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) الآية : « البقرة : ٣٠ » ، سبق دورة إنسانية أخرى على هذه الدورة الحاضرة ، وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآية.

نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ما يثبت للإنسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة وسيجيء في البحث الروائي.

١٤٠