الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم ، ويطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ومن ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم ويتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.

وثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين وهو أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه وبين يوم القيامة ، وقد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ) الآية : « البقرة : ١٥٤ ».

قوله تعالى : « يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ » الآية ، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم وبحال أنفسهم والدليل عليه قوله : ( وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فإنه بإطلاقه شامل للجميع ، ولعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار وكذا تكرار الفضل فتدبر في الآية.

وقد نكر الفضل والنعمة وأبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن ، ولذا أبهم الخوف والحزن ليدل في سياق النفي على العموم.

والتدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا ، وأن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا ، وأن هذا الرزق نعمة من الله وفضل ثالثا ، وأن الذي يشخص هذه النعمة والفضل هو أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رابعا.

وهذه الجملة أعني قوله : أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف ورقة وسهولة بيان ، وأول ما يلوح من معناها أن الخوف والحزن مرفوعان عنهم ، والخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها ، وكذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك ، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله.

فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه

٦١

النعم في معرض الزوال ، وارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء ولا بعد الوجدان ، فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه ، وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال ، وهذا هو خلود السعادة للإنسان وخلوده فيها.

ومن هنا يتضح أن نفي الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول : ( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ ) : « آل عمران : ١٩٨ » ، ويقول : ( وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) : « النحل : ٩٦ » فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء.

ويتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل وهو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى : ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) : « النساء : ٦٩ » ، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية ، وعلى ذلك فالمعنى : أن الله يتولى أمرهم ويخصهم بعطية منه.

وأما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل ، والنعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله : ( وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق ، وقد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله : ( عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وقوله : ( فَرِحِينَ بِما ) إلخ وقوله : ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ ) إلخ ، وقوله : ( وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) مآلها إلى حقيقة واحدة.

وفي الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ) : « البقرة : ١٥٤ » ، ولعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجيء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.

* * *

( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ـ ١٧٢.

٦٢

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ـ ١٧٣. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ـ ١٧٤. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ـ ١٧٥. )

(بيان)

الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد ، ويشعر بذلك قوله : ( مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ ) وقد قال فيها : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ).

قوله تعالى : « الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ » الآية الاستجابة والإجابة بمعنى واحد ـ كما قيل ـ وهي أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول.

ولعل ذكر الله والرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو لكونهم في وقعة أحد عصوا الله والرسول ، فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار والتولي وقد نهاهم الله عنه وأمر بالجهاد ، وأما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذي أصدره على الرماة بلزوم مراكزهم وحين كانوا يصعدون وهو يدعوهم في أخراهم فلم يجيبوا دعوته ، فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله والرسول وقوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » ، قصر الوعد على بعض أفراد المستجيبين لأن الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الإحسان والتقوى اللذين عليهما مدار الأجر العظيم ، وهذا من عجيب مراقبة القرآن في بيانه حيث لا يشغله شأن عن شأن ، ومن هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الأجر من الله سبحانه ، وربما يقال : إن « من » في قوله : « مِنْهُمْ » بيانية كما قيل مثله في قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) ـ إلى أن قال ـ : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً

٦٣

وَأَجْراً عَظِيماً ) : « الفتح : ٢٩ » ، وهو تأول بما يدفعه السياق.

ويتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله : ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) إلى آخر الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية.

قوله تعالى : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » الآية ، الناس هو الأفراد من الإنسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض ، والناس الأول غير الثاني ، فإن الثاني هو العدو الذي كان يجمع الجموع ، وأما الأول فهم الخاذلون المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين ، فالناس الثاني أريد به المشركون ، والناس الأول أيديهم على المؤمنين وعيونهم فيهم ، وظاهر الآية كونهم عدة وجماعة لا واحدا ، وهذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن بقي من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر الصغرى ، وسيجيء القصتان في البحث الروائي الآتي.

وقوله : ( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) ، أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا ( والله أعلم ).

وقوله : ( فَزادَهُمْ إِيماناً ) ، وذلك لما في طبع الإنسان أنه إذا نهي عما يريده ويعزم عليه ، فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراء فأوجب انتباه قواه واشتدت بذلك عزيمته ، وكلما أصر عليه بالمنع أصر على المضي على ما يريده ويقصده ، وهذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره ، ولذا كان المؤمنون كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم وشدة في عزمهم وبأسهم.

ويمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر الوحي أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله وقد وعدهم النصر ولا يكون نصر إلا في نزال وقتال.

وقوله : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) أي كافينا الله وأصل الحسب من الحساب لأن الكفاية بحساب الحاجة ، وهذا اكتفاء بالله بحسب الإيمان دون الأسباب الخارجية الجارية في السنة الإلهية والوكيل هو الذي يدبر الأمر عن الإنسان ، فمضمون الآية يرجع إلى معنى قوله : « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » الطلاق ـ ٣ ، ولذلك عقب قوله : ( وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) بقوله : ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ

٦٤

وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) « إلخ » ليكون تصديقا لوعده تعالى ، ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه فقال : واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.

(كلام في التوكل)

وحقيقة الأمر أن مضي الإرادة والظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب طبيعية وأخرى روحية والإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمه وهيأ من الأسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه وبين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية كوهن الإرادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن وغير ذلك وهي أمور هامة عامة ، وإذا توكل على الله سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة وهو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شيء من الأسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا وسعادة.

وفي التوكل على الله جهة أخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله : « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ » الآية ، وقد تقدم شطر من البحث المتعلق بالمقام في الكلام على الإعجاز.

قوله تعالى : « ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » الآية ، ظاهر الآية أن الإشارة إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا ، فيكون هذا من الموارد التي أطلق فيها القرآن الشيطان على الإنسان كما يظهر ذلك من قوله : « مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » : الناس ـ ٦ ، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك : ( فَلا تَخافُوهُمْ ) أي الناس القائلين لكم ما قالوا لأن ذلكم الشيطان ، وسنبحث في هذا المعنى بما يكشف القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى.

(بحث روائي)

الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية ، وهي مختلفة اختلافا شديدا في جهات القصة ربما أدت إلى سوء الظن بها ، وأكثرها اختلافا ما ورد منها في أسباب

٦٥

نزول كثير من آيات القصة وهي تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب ، ولا يلبث الناظر المتأمل فيها دون أن يقضي بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق بلسانها بما تنتفع به ، وهذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه بجوامع الحديث ومطولات التفاسير.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الضحى قال : نزلت « وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » فقتل منهم يومئذ سبعون منهم أربعة من المهاجرين ـ منهم حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ، والشماس بن عثمان المخزومي ، وعبد الله بن جحش الأسدي ، وسائرهم من الأنصار.

أقول : وظاهر الرواية أن أبا الضحى أخذ الشهداء في الآية بمعنى المقتولين في المعركة ، وعلى ذلك جرى جمهور المفسرين ، وقد مر في البيان السابق أن لا دليل عليه من ظاهر الكتاب بل الظاهر أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال.

( وفي تفسير العياشي ، : في قوله تعالى : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ » الآية ، عن الصادق عليه‌السلام قال : إن الله علم بما هو مكونه قبل أن يكونه ـ وهم ذر وعلم من يجاهد ممن لا يجاهد ـ كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم ، ولم ير موتهم وهم أحياء.

أقول : إشارة إلى ما تقدم أنه فرق بين العلم قبل الإيجاد والعلم الفعلي الذي هو الفعل وأن المراد ليس هو العلم قبل الإيجاد.

وفي تفسير القمي ، عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : « وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ » الآية : أن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى ـ بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك ـ فقالوا : اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه ـ فأراهم الله يوم أحد إياه فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم ـ فذلك قوله : ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ) الآية : أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي.

وفي تفسير القمي ، قال عليه‌السلام إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يوم أحد ، وعهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه : إن رسول الله قد قتل ، النجا ،

٦٦

فلما رجعوا إلى المدينة أنزل الله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) إلى قوله : ( انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) يقول : إلى الكفر ( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً ).

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية ـ قال : ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ـ وتداعوا نبي الله قالوا : قد قتل ـ وقال أناس منهم : لو كان نبيا ما قتل ، وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم ـ حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، وذكر لنا أن رجلا من المهاجرين ـ مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه ـ فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فأنزل الله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ـ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) ـ يقول : ارتددتم كفارا بعد إيمانكم.

وفيه أخرج ابن جرير عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتل ـ فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ـ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ـ يا قوم إن محمدا قتل فارجعوا إلى قومكم ـ قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ـ قال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ـ فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ فشد بسيفه فقاتل حتى قتل ـ فأنزل الله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) الآية.

أقول : وروي هذه المعاني بطرق أخر كثيرة.

وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام أنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة ـ وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه ـ فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان ـ وقد خفنا عليه ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة ، وجعل يمسحه بيده ويقول : إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر ، فكان القرح الذي يمسحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلتئم ـ فقال علي : الحمد لله إذ لم أفر ولم أول الدبر ـ فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن ـ وهو قوله : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ، و ( سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ).

أقول : يعني شكر الله له ثباته لا قوله : الحمد لله الذي.

٦٧

وفي تفسير العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام أنه قرأ : وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ، قال : ألوف وألوف ثم قال : إي والله يقتلون.

أقول : وروي هذه القراءة والمعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود وغيره ، وروي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ربيون قال : جموع.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد « مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ » قال : نصر الله المؤمنين على المشركين ـ حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وذلول ـ ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم ـ فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ـ فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ـ ما أسمعه إلا كالحلم ـ : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله : « ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً » ـ إلى قوله : ( ، ما قُتِلْنا هاهُنا ) » لقول معتب بن قشير.

أقول : وقد روي هذا المعنى عن الزبير بن العوام بطرق كثيرة.

وفيه أخرج ابن مندة في معرفة الصحابة عن ابن عباس في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) الآية ، قال : نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وحارثة بن زيد.

أقول : وروي ما يقرب منه في عدة طرق عن عبد الرحمن بن عوف وعكرمة وابن إسحاق وأضيف إليهم في بعضها أبو حذيفة بن عقبة والوليد بن عقبة وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان.

وعلى أي حال ذكر عثمان ومن عد منهم بأسمائهم من باب ذكر المصداق وإلا فالآية نزلت في جميع من تولى من الأصحاب وعصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي يخص عثمان هو أنه ومن معه فروا حتى بلغوا الجلعب ( جبل بناحية المدينة مما يلي الأغوص ) فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة.

وأما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم ، ولم يبق مع

٦٨

رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين وسبعة من الأنصار ثم إن المشركين هجموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقتل دون الدفاع عنه الأنصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه منهم أحد.

وروي أن الذين ثبتوا معه أحد عشر ، وروي ثمانية عشر حتى روي ثلاثون ، وهو أضعف الروايات.

ولعل هذا الاختلاف بحسب اختلاف اطلاعات الرواة وغير ذلك ، والذي تدل عليه روايات دفاع نسيبة المازنية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لم يكن عنده ساعتئذ أحد ، وكان من ثبت منهم ولم ينهزم مشغولا بالقتال ، ولم يتفق كلمة الرواة في ذلك على أحد إلا علي عليه‌السلام ولعل أبا دجانة الأنصاري سماك بن خرشة كذلك إلا أنه قاتل بسيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولا ثم وقى بنفسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين جلى عنه أصحابه يدفع عنه النبال بمجنه وبظهره حتى أثخن رضي الله عنه.

وأما بقية أصحابه فمن ملحق به حين ما عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم أنه لم يقتل ، وملحق به بعد حين ، وهؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم النعاس غير أن الله تعالى عفا عن الجميع وقد عرفت فيما تقدم من البيان معنى العفو ، وذكر بعض المفسرين أن معنى العفو في هذه الآية صرفه تعالى المشركين عنهم حيث لم يبيدوهم ولم يقتلوهم عن آخرهم.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ـ ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيا.

وفيه أخرج الطبراني في الأوسط ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار.

وفي نهج البلاغة ، : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.

وفيه ، : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استبد برأيه.

وفي الصافي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا وحدة أوحش من العجب ، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة.

٦٩

أقول : والروايات في المشاورة كثيرة جدا ، وموردها ما يجوز للمستشير فعله وتركه بحسب المرجحات ، وأما الأحكام الإلهية الثابتة فلا مورد للاستشارة فيها كما لا رخصة في تغييرها لأحد وإلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى.

وفي المجالس ، عن الصادق عليه‌السلام : أن رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ـ ألم ينسبوه يوم بدر أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء؟ حتى أظهره الله على القطيفة ، وبرأ نبيه من الخيانة ، وأنزل في كتابه : ( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ ) ، الآية.

أقول : وذكر ذلك القمي في تفسيره ، وفيه : فجاء رجل إلى رسول الله عليه‌السلام فقال : إن فلانا غل قطيفة حمراء فاحفرها هنالك ـ فأمر رسول الله عليه‌السلام بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة.

وقد روي هذا المعنى وما يقرب منه في الدر المنثور بطرق كثيرة ولعل المراد بكون الآية نزلت فيها كون الآية مشيرة إليها وإلا فسياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة أحد كما تقدم بيانه.

وفي تفسير القمي ، عن الباقر عليه‌السلام : من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار ـ ثم يكلف أن يدخل إليه فيخرجه من النار.

أقول : وهو استفادة لطيفة من قوله تعالى : ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ).

وفي تفسير العياشي ، : في قوله تعالى : ( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ) ـ عن الصادق عليه‌السلام : الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة ، وهم والله درجات عند الله للمؤمنين ، وبولايتهم ومودتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ، ويرفع الله لهم الدرجات العلى ، والذين باءوا بسخط من الله ـ هم الذين جحدوا حق علي وحق الأئمة منا أهل البيت ـ فباءوا لذلك بسخط من الله.

أقول : وهو من الجري والانطباق.

وفيه ، عن الرضا عليه‌السلام : الدرجة ما بين السماء والأرض.

وفي تفسير العياشي ، أيضا : في قوله تعالى : ( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ) ـ عن الصادق عليه‌السلام : كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا : قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين ـ فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا ـ فاغتموا

٧٠

بذلك فنزلت.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة والترمذي ـ وحسنه ـ وابن جرير وابن مردويه عن علي قال : جاء جبرئيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ـ وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس فذكر ذلك لهم ـ فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وأقوامنا نأخذ فداءهم ـ فنقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا بعدتهم فليس في ذلك ما نكره ـ فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.

أقول : ورواه في المجمع عن علي عليه‌السلام ، وأورده القمي في تفسيره.

وفي المجمع ، في قوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) الآيات ـ عن الباقر عليه‌السلام نزلت في شهداء بدر وأحد معا.

أقول : وعلى ذلك روايات كثيرة رواها في الدر المنثور وغيره وقد عرفت أن معنى الآيات عام شامل لكل من قتل في سبيل الله حقيقة أو حكما وربما قيل : إن الآيات نازلة في شهداء بئر معونة ، وهم سبعون رجلا أو أربعون من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسلهم لدعوة عامر بن الطفيل وقومه وكانوا على ذلك الماء فقدموا أبا ملحان الأنصاري إليهم بالرسالة فقتلوه أولا ثم تتابعوا على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقاتلوهم فقتلوهم جميعا رضي الله عنهم.

وفي تفسير العياشي ، عن الصادق قال : هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة ، واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل ـ علموا واستيقنوا أنهم كانوا على الحق وعلى دين الله عز وجل ـ فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم ـ من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين.

أقول : وهو من الجري ، ومعنى علمهم واستيقانهم بأنهم كانوا على الحق أنهم ينالون ذلك بعين اليقين بعد ما نالوه في الدنيا بعلم اليقين لا أنهم كانوا في الدنيا شاكين مرتابين.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وهناد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والحاكم ـ وصححه ـ والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما أصيب إخوانكم بأحد ـ جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ـ ترد أنهار

٧١

الجنة ، وتأكل من ثمارها ـ وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ـ.

فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم ـ قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، وفي لفظ : قالوا : إنا أحياء في الجنة ـ نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ـ فقال الله : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء ـ الآيات : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ) الآية وما بعدها.

أقول : وفي هذا المعنى روايات كثيرة رووها عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي العالية وابن عباس وغيرهم ، وفي بعضها : في صور طير خضر كرواية أبي العالية ، وفي بعضها : في طير خضر كرواية أبي سعيد ، وفي بعضها : كطير خضر كرواية ابن مسعود ، والألفاظ متقاربة.

وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت : أن الرواية عرضت عليهم فأنكروها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعضها : أنهم أولوها ، ولا شك ـ بالنظر إلى الأصول الثابتة المسلمة ـ في لزوم تأويل الرواية لو لم تطرح.

والروايات مع ذلك ليست في مقام بيان حالهم في جنة الآخرة بل المراد بها جنة البرزخ والدليل عليه ما في رواية ابن جرير عن مجاهد قال : يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها ، وما في رواية ابن جرير عن السدي : أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة ، وتبيت في القناديل.

وقد عرفت فيما تقدم من البحث في البرزخ أن مضمون هاتين الروايتين إنما يستقيم في جنة الدنيا وهي البرزخ لا في جنة الآخرة.

وفي الدر المنثور ، : في قوله تعالى : ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ ) الآية ـ أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل ـ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ـ قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمراء الأسد ـ وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم ، فبلغه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج في أصحاب يطلبهم ـ فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه ، ومر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم ،

٧٢

فلما مر الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمراء الأسد ـ أخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله والمؤمنون معه : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله في ذلك : ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) الآيات.

أقول : ورواه القمي في تفسيره مفصلا وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخرج معه إلى حمراء الأسد ـ من أصحابه من كان به جراحة ، وفي بعض الروايات أنه إنما أخرج معه من كان في أحد ، والمآل واحد.

وفيه أخرج موسى بن عقبة في مغازيه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا ـ فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم ، وقالوا : قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل ـ يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم فالحذر الحذر ، فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ورسوله ، وخرجوا ببضائع لهم ، وقالوا : إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له ، وإن لم نلقه ابتعنا بضائعنا ، وكان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا ـ حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم ، وأخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو ولا أصحابه ، ومر عليهم ابن حمام فقال : من هؤلاء؟ قالوا : رسول الله وأصحابه ينتظرون أبا سفيان ـ ومن معه من قريش ، فقدم على قريش فأخبرهم فأرعب أبو سفيان ـ ورجع إلى مكة ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة بنعمة من الله وفضل ، فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق ـ وكانت في شعبان سنة ثلاث.

أقول : ورواه من غير هذا الطريق ، ورواه في المجمع مفصلا عن الباقر عليه‌السلام ، وفيها : أن الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى ، والمراد بجيش السويق جيش أبي سفيان فإنه خرج من مكة في جيش من قريش وقد حملوا معهم أحمالا من سويق فنزلوا خارج مكة فاقتاتوا بالسويق ثم رجعوا إلى مكة لما أخذهم الرعب من لقاء المسلمين ببدر ، فسماهم الناس جيش السويق تهكما واستهزاء.

وفيه أيضا أخرج النسائي وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فندب المسلمين فانتدبوا ـ حتى بلغ حمراء الأسد أو بئر أبي عتبة ـ شك سفيان ـ فقال المشركون نرجع قابل

٧٣

فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت تعد غزوة ـ فأنزل الله : ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) الآية ، وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا ـ فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة ـ فأتوه فلم يجدوا به أحدا وتسوقوا فأنزل الله : ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ) الآية.

أقول : وإنما أوردنا هذه الرواية مع مخالفته للاختصار والتلخيص المؤثر في المباحث الروائية بإيراد أنموذج جامع من كل باب ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها ، وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول.

وأضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث أن لاختلاف المذاهب تأثيرا في لحن هذه الروايات وسوقها إلى ما يوجه به المذاهب الخاصة.

على أن للأجواء السياسية والبيئات الحاكمة في كل زمان أثرا قويا في الحقائق من حيث إخفاؤها أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الأسباب الدخيلة في فهم الحقائق والله الهادي.

(بحث تاريخي)

شهداء المسلمين يوم أحد سبعون رجلا وهاك فهرس أسمائهم :

١ ـ حمزة بن عبد المطلب بن هاشم.

٢ ـ عبد الله بن جحش.

٣ ـ مصعب بن عمير.

٤ ـ شماس بن عثمان وهؤلاء الأربعة هم الشهداء من المهاجرين.

٥ ـ عمرو بن معاذ بن النعمان.

٦ ـ الحارث بن أنس بن رافع.

٧٤

٧ ـ عمارة بن زياد بن السكن.

٨ ـ سلمة بن ثابت بن وقش.

٩ ـ عمرو بن ثابت بن وقش.

١٠ ـ ثابت بن وقش.

١١ ـ رفاعة بن وقش.

١٢ ـ حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان.

١٣ ـ صيفي بن قيظي.

١٤ ـ حباب بن قيظي.

١٥ ـ عباد بن سهل.

١٦ ـ الحارث بن أوس بن معاذ.

١٧ ـ إياس بن أوس.

١٨ ـ عبيد بن التيهان.

١٩ ـ حبيب بن يزيد بن تيم.

٢٠ ـ يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع.

٢١ ـ أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد.

٢٢ ـ حنظلة بن أبي عامر وهو غسيل الملائكة.

٢٣ ـ أنيس بن قتادة.

٢٤ ـ أبو حبة بن عمر بن ثابت.

٢٥ ـ عبد الله بن جبير بن النعمان وهو أمير الرماة.

٢٦ ـ أبو سعد خيثمة بن خيثمة.

٢٧ ـ عبد الله بن سلمة.

٢٨ ـ سبيع بن حاطب بن الحارث.

٢٩ ـ عمرو بن قيس.

٣٠ ـ قيس بن عمرو بن قيس.

٣١ ـ ثابت بن عمرو بن يزيد.

٣٢ ـ عامر بن مخلد.

٣٣ ـ أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو.

٧٥

٣٤ ـ عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو.

٣٥ ـ أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت.

٣٦ ـ أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٧ ـ قيس بن مخلد.

٣٨ ـ كيسان عبد لبني النجار.

٣٩ ـ سليم بن الحارث.

٤٠ ـ نعمان بن عبد عمرو.

٤١ ـ خارجة بن زيد بن أبي زهير.

٤٢ ـ سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير.

٤٣ ـ أوس بن الأرقم.

٤٤ ـ مالك بن سنان من بني خدرة وهو والد أبي سعيد الخدري.

٤٥ ـ سعيد بن سويد.

٤٦ ـ عتبة بن ربيع.

٤٧ ـ ثعلبة بن سعد بن مالك.

٤٨ ـ سقف بن فروة بن البدي.

٤٩ ـ عبد الله بن عمرو بن وهب.

٥٠ ـ ضمرة حليف لبني طريف.

٥١ ـ نوفل بن عبد الله.

٥٢ ـ عباس بن عبادة.

٥٣ ـ نعمان بن مالك بن ثعلبة.

٥٤ ـ المجدر بن زياد.

٥٥ ـ عبادة بن الحسحاس وقد دفن نعمان والمجدر وعبادة في قبر واحد.

٥٦ ـ رفاعة بن عمرو.

٥٧ ـ عبد الله بن عمرو من بني حرام.

٥٨ ـ عمرو بن الجموح من بني حرام دفنا في قبر واحد.

٥٩ ـ خلاد بن عمرو بن الجموح.

٦٠ ـ أبو أيمن مولى عمرو بن الجموح.

٧٦

٦١ ـ سليم بن عمرو بن حديدة.

٦٢ ـ عنترة مولى سليم.

٦٣ ـ سهل بن قيس بن أبي كعب.

٦٤ ـ ذكوان بن عبد قيس.

٦٥ ـ عبيد بن المعلى.

٦٦ ـ مالك بن تميلة.

٦٧ ـ حارث بن عدي بن خرشة.

٦٨ ـ مالك بن إياس.

٦٩ ـ إياس بن عدي.

٧٠ ـ عمرو بن إياس.

فهؤلاء سبعون رجلا على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

* * *

( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ ١٧٦. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ـ ١٧٧. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ـ ١٧٨. ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ـ ١٧٩. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

٧٧

هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ـ ١٨٠. )

(بيان)

الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها وخاصة الآيات الأربع الأول منها تتمة لها لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء والامتحان الإلهي لعباده ، وعلى ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء والامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر ولا مؤمن ، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار ويتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.

قوله تعالى : « وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » إلى آخر الآية تسلية ورفع للحزن ببيان حقيقة الأمر فإن مسارعتهم في الكفر وتظاهرهم على إطفاء نور الله وغلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب وأنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية والتشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية والنعمة والقدرة ـ وهو الاستدراج والمكر الإلهي ـ إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان والمعصية ، والمؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان

المشوب بغيره ، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت وأئمة الكفر.

فمعنى الآية : لا يحزنك الذين يسرعون ولا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك وليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لأنهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة ( وهو آخر حدهم في الكفر ) ولهم عذاب أليم فقوله : ( لا يَحْزُنْكَ ) ، أمر إرشادي ، وقوله : ( إِنَّهُمْ ) « إلخ » تعليل للنهي ، وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ ) « إلخ » تعليل وبيان لعدم ضررهم.

٧٨

ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر وغيرهم ، وهو كالبيان الكلي بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهي ( لا يحزنك ) وأن يعلل به علته ( أنهم لن يضروا « إلخ » ) لأنه أعم يعلل به الأخص ، والمعنى : وإنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لأن الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا.

قوله تعالى : « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم إن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم ، فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء والإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم ، ووراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلا الهوان ، كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.

قوله تعالى : « ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ » « إلخ » ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره ، ويتميز الخبيث من الطيب.

ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب وهو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي ، وذلك قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ).

ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء ، غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله ويحفظ طيبه ، ولذلك قال أولا : ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) ثم تممه ثانيا بقوله : ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ).

وقد ظهر من الآية أولا : أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه.

وثانيا : أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران

٧٩

مدار الإيمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم ، وهذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد ، ويدل عليها قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) : البقرة ١٤٨ ، إذا انضم إلى قوله : ( وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) : المائدة ٤٨ ، وسيجيء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ ) الآية الأنفال ٣٧.

وثالثا : أن الإيمان بالله ورسله مادة لطيب الحياة وهو طيب الذات ، وأما الأجر فيتوقف على التقوى والعمل الصالح ، ولذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب والخبيث ثم فرع عليه قوله : ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) ، ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال : ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ).

وبذلك يتبين في قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) : « النحل : ٩٧ » ، إن الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه ، والجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيبة ، وأما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها وتحققها إلى روح حيواني ، وبقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى والأعضاء ، ولو سكنت الجميع بطلت وأبطلت الحياة.

وقد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية ، والثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر وليس إلا للدلالة على مصدر الجلال والجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو بألوهيته وهو الامتحان ، والاطلاع على الغيب ، واجتباء الرسل ، وأهلية الإيمان به.

قوله تعالى : « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » الآية ، لما بين حال إملاء الكافرين وكان الحال في البخل بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله مثله ، فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم وبين أنه شر لهم ، وفي التعبير عن المال بقوله : ( بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) إشعار بوجه لومهم وذمهم ، وقوله : ( سَيُطَوَّقُونَ ) إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم ، وقوله : ( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ ) ، الظاهر أنه حال من يوم القيامة ، وكذا قوله : ( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ).

٨٠