الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ ، وإنما يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء والرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة.

وأما قوله : لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا ، فكلامه يعطي أنه جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء وصبه ـ أخذا بالأصل اللغوي المشتق منه ـ ثم جعله أمرا منوطا بالقصد ، ولزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاح لا نكاح ، وقد غفل عن أن الأصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع ، ففي لسان العرب : قال الأزهري : أصل النكاح في كلام العرب الوطء ولازم ما سلكه أن يكون النكاح أيضا سفاحا ، ويختل به المقابلة بين النكاح والسفاح.

على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاحا ، وهل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك؟ فإن قال : بين النكاح الدائم والمؤجل في ذلك فرق ، فإن النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الإحصان بالازدواج وإيجاد النسل ، وتشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجل. فهذا منه مكابرة ، فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا ، والتوقي عن اختلال الأنساب ، وإيجاد النسل والولد ، وتأسيس البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل ، ويختص بأن فيه نوع تسهيل وتخفيف على هذه الأمة ، يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة ، أو لغربة ، أو لعوامل مختلفة أخر تمنعه عن النكاح الدائم.

وكذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل ـ مما عده ملاكا للسفاح ـ كقصد صب الماء وقضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم ، ودعوى أن النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة ، ونكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة ـ على أن تكون مضارا ـ دعوى واضحة الفساد.

وإن قال : إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه : بأن السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا ، وربما شمل النكاح الدائم ولا سيما إذا كان بقصد صب الماء.

وأما قوله : فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه إلخ ، فمن عجيب الكلام ،

٣٠١

وليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل والمرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا ، وتكون المرأة لا يصح منها هذا القصد؟ وهل هذا إلا مجازفة.

وأما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية وأخروية لا يستهان بها ـ سواء كان نكاح المتعة محرما أو مباحا ـ.

فما ذا ينفع الشعر وهو نسيج خيالي ، الباطل أعرف عنده من الحق ، والغواية أمس به من الهداية.

وهلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات ، ولا سيما في ذيل قول عمر في رواية الطبري المتقدم : « فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق ».

وهل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله ورسوله في أصل تشريع هذا النوع من النكاح تأسيسا أو إمضاء وقد كان دائرا بين المسلمين في أول الإسلام بمرأى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسمع بلا شك؟.

فإن قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر وإكباب الفاقة على عامة المسلمين ، وعروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة.

قلنا : مع فرض تداوله في أول الإسلام بين الناس وشهرته باسم نكاح المتعة والاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها ، وعدم صلاحية شيء من الآيات والروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من غير دليل.

سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أشد وأعظم منها بعده ، ولا سيما في زمن الراشدين ، وقد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الأرض ومغاربها بالألوف بعد الألوف من الغزاة؟ وأي فرق بين أوائل خلافة عمر وأواخرها من حيث تحول هذه الضرورة من فقر وغزوة واغتراب في الأرض وغير ذلك؟ وما هو الفرق بين الضرورة والضرورة؟.

وهل الضرورة المبيحة اليوم وفي جو الإسلام الحاضر أشد وأعظم أو في زمن

٣٠٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنصف الأول من عهد الراشدين؟ وقد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين ، وقد مصت حكومات الاستعمار والدول القاهرة المستعلية والفراعنة من أولياء أمور المسلمين كل لبن في ضرعهم ، وحصدوا الرطب من زرعهم واليابس.

وقد ظهرت الشهوات في مظاهرها ، وازينت بأحسن زينتها وأجملها ، ودعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها ولا يزال الأمر يشتد ، والبلية تعم البلاد والنفوس ، وشاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين والجنديين وعملة المعامل ، وهم الذين يكونون المعظم من سواد الإنسانية ، ونفوس المعمورة.

ولا يشك شاك ولن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا واللواط وكل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت ، والمشاغل الموقتة المؤجلة المانعة من اتخاذ المنزل والنكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة ونحو ذلك. فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الإسلام ـ وهي أقل وأهون عند القياس ـ نكاح المتعة لكنها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد وقد أحاطت البلية وعظمت الفتنة؟.

ثم قال : ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عز وجل في صفة المؤمنين : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) : « المؤمنون : ٧ » أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم ، وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ) الآية ، بل هي بمعناها فلا نسخ ، والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف ، كما قال الله تعالى : وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها ، فلا يعدونها من الأربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء ، ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا ، وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين : « مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ » وهذا تناقض صريح منهم.

ونقل عنهم بعض المفسرين : أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة ، والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ، ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه البتة.

٣٠٣

أقول : أما قوله : ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا « إلخ » ، محصله : أن آيات المؤمنون : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) الآيات تقصر الحل في الأزواج ، والمتمتع بها ليست زوجة ، فالآيات مانعة من حلية المتعة ، أولا ومانعة من شمول قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) الآية لها ثانيا.

فأما أن الآيات تحرم المتعة ، فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية ، والمتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة ، فهل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة؟ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن ، أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة : « وَالَّذِينَ هُمْ » الآيات ، ثم منع عنها القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فحييت بذلك الآيات بعد موتها ، واستحكمت بعد نسخها؟ وهذا أمر لا يقول به ، ولا قال به أحد من المسلمين ، ولا يمكن أن يقال به.

وهذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة ، وأن المتعة نكاح ، وأن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا ، وإلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته.

وبتقرير آخر : آيات المؤمنون والمعارج : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ) الآيات ، أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات ، فمن المتفق عليه بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة وهي مكية ، ومن الضروري بحسب النقل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رخص في المتعة ، ولو لا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات وهي غير منسوخة ، فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات ، واستلزامه نسخها ، وقد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق.

وكيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة والمتعة نكاح ، وناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة والتابعين بنكاح المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقي عن عمر في خطبته ، ورواية مسلم عن أبي نضرة ، حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار : « بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح » فإن معناه أن المتعة نكاح

٣٠٤

لا يتبين من السفاح ، وأنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين ويتميز منه ، والدليل على ذلك قوله : بينوا.

وبالجملة كون المتعة نكاحا وكون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن ولسان السلف من الصحابة ومن تلاهم من التابعين مما لا ينبغي الارتياب فيه ، وإنما تعين اللفظان ( النكاح والتزويج ) في النكاح الدائم بعد نهي عمر ، وانتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم ، فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله : وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها « إلخ » ، يسأل عنه فيه : ما هو المراد بالزوجة؟

أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء ، وأما الزوجة في عرف المتشرعة ـ كما ذكر ـ المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها ولا محذور.

وأما قوله : وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتع قوله تعالى : « مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ » وهذا تناقض صريح منهم ، ففيه أنا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالإحصان إحصان التعفف دون الازدواج ، ولو سلم أن المراد بالإحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة ، وأما عدم رجم الزاني المتمتع ( مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا ) فإنما هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث والنفقة والطلاق والعدد.

وتوضيح ذلك أن آيات الأحكام إن كانت مسوقة على الإهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص ولا تقييد ، وإن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير محذور التناقض والمرجع في ذلك علم أصول الفقه.

وهذه الآيات أعني آيات الإرث والطلاق والنفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص والتقييد كالإرث والطلاق في المرتدة والطلاق عند ظهور العيوب المجوزة

٣٠٥

لفسخ العقد والنفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة ، فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث والطلاق والنفقة مخصصات أو مقيدات ، وتعين ألفاظ التزويج والنكاح والإحصان ونحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما توهمه فإذا قال الفقيه مثلا : الزاني المحصن يجب رجمه ، ولا رجم في الزاني المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالإحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية ، ولا ينافي ذلك كون الإحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة والمنقطعة معا ، وله في كل منهما آثار خاصة.

وأما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع الشيعة ، وهذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان ، وقد تقدم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

ثم قال : وأما الأحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا.

وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا ، وأقام معها ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها.

أقول : ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهي ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهي المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات على ما فيها من التدافع والتطارد فعليك بالرجوع إليها ( وقد تقدم أكثرها ) حتى ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا.

ثم قال : ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر ، وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ، ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر.

أقول : أما قوله : إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا ، وقد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج

٣٠٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه ، وأبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا.

ولعمري أنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التي لم يرد الله بها إلا تطهير هذه الأمة ، وإتمام النعمة عليهم.

ففيه أولا : ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج والمؤمنون : « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ » الآيات ـ وهي مكية ـ على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ وأحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها وهكذا ، وهل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وثانيا : أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) : « الإسراء : ٣٢ » وأي لسان أصرح من هذا اللسان ، والآية مكية واقعة بين آيات المناهي ، وكذا قوله : ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) ـ إلى أن قال : ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) : « الأنعام : ١٥١ » ، كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهي مفيدة لاستغراق النهي كل فاحشة وزنا ، والآية مكية ، وكذا قوله : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) : ـ الأعراف : ٣٣ » ، والآية أيضا مكية ، وكذا قوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) : ـ المؤمنون : ٧ ، المعارج : ٣١ ، والسورتان مكيتان ، والآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا.

فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة ، وجميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم والمنع؟ أو أنه يقول ـ كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة ـ : إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا ، ثم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول ، وقد شدد الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الخلة بعينها ، قال تعالى : ( وَإِنْ كادُوا

٣٠٧

لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) : « الإسراء : ٧٥ ».

وثالثا : أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرة بعد مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل ، والفرض كون المتعة زنا وفاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لربه لو كان من عند نفسه ، وهو معصوم بعصمة الله تعالى ، ولو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء ، وقد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه : ( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الآية : « الأعراف : ٢٨ ».

وإن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا وفاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم ومعها فريضة المهر كالنكاح الدائم ، والعدة المانعة عن اختلاط المياه واختلال الأنساب ، ومعها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة وليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود وإخلاله بالمصلحة العامة ومنعه عن القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم.

ورابعا : أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ ، واصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي ، إذ لا عين منه في كتب التاريخ ولا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية وتسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة أودهم ، ووقايتهم من انتشار الزنا وسائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لإقامة هذه السنة وإذا لم تكن الحكومات الإسلامية تغمض في أمر الزنا وسائر الفواحش هذا الإغماض الذي ألحقها تدريجا بالسنن القانونية ، وامتلأت بها الدنيا فسادا ووبالا.

وأما قوله : « وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ، ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر » ظاهرة أن مراده بالفاحشتين الزنا وشرب الخمر ، وهو كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالأشعار التي قيلت في ذلك ، وقد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علينا.

٣٠٨

ويدل عليه أيضا مسألة الادعاء والتبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية ونسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة والقوة بالإلحاق ، ويستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الأزواج منهن ، وأما الإماء فهم ولا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن ، والمعاشقة والمغازلة معهن ، وإنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتسابا واسترباحا.

ومن الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الإلحاق في السير والآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان ، وما شهد به شاهد الأمر عند ذلك ، وغيرها من القصص المنقولة.

نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند البيعة : وهل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان ، والتأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتي بدر وأحد يرفع اللبس ويكشف ما هو حقيقة الأمر.

ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث ، ورفعه التدافع الواقع بينها على زعمه : والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه : أولها : ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح والطلاق والعدة إن لم نقل لنصوصه ، وثانيها : الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ : وثالثها : نهي عمر عنها وإشارته بتحريمها على المنبر ، وإقرار الصحابة له على ذلك وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر ، وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.

ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه ، وإنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال : حرم الشافعي النبيذ وأحله أبو حنيفة.

أقول : أما الوجه الأول والثاني فقد عرفت آنفا وفي البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه ، وأما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يدعيه هذا القائل ، وسواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له وخوفا من تهديده ، أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره ، أو لعدم

٣٠٩

وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن علي وجابر وابن مسعود وابن عباس فتحريمه وحلفه على رجم مستحلها وفاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها ، وعدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات وأحكامها مما لا غبار عليه.

وقد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الإسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه وفي نسخها إلى كتاب أو سنة وما كان يعرفها المسلمون ولا وقعت إلا في كتب الشيعة.

أقول : وهذا الكلام المبني على الصفح عما يدل عليه الكتاب والحديث والإجماع والتاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نهي عنها في عهد عمر ونفذ النهي عند عامة الناس ، ووجه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها وخالف في ذلك عدة من الأصحاب (١) وجم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز واليمن وغيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث « وكان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة (٢) » ومثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة (٣) ، هذا ، ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة ، وراموا تفسيرها بالنكاح الدائم ، وذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نسخت بالحديث ، ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة ، ثم ذكر هذا القائل الأخير : أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الإسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة ، والله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان.

__________________

(١) ومن عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية : أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما لجهلهم باللغة ، وذلك أنهم ذكروا أن قوله : « فما استمتعتم به منهن » من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام ، ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح ، وليتني أدري أن أي فصل من كلامه يقبل الإصلاح؟ أرميه أمثال ابن عباس وأبي وغيره بالجهل باللغة؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة؟ أم دعواه الخبرة باللغة وقد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح؟!.

(٢) راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال.

(٣) راجع للحصول على هذه الأقوال الكتب الفقهية ، وفي تفصيل أبحاثها الفقهية والكلامية ما ألفه أساتذة الفن من القدماء والمتأخرين وخاصة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج.

٣١٠

(بحث علمي)

رابطة النسب ـ وهي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة وجامع الرحم ـ هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب والقبائل ، وتحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم ، وهي المبدأ للآداب والرسوم والسنن القومية بما تختلط وتمتزج بسائر الأسباب والعلل المؤثرة.

وللمجتمعات الإنسانية المترقية وغير المترقية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين الاجتماعية في الجملة : في نكاح وإرث وغير ذلك ، وهم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة وتضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما وكانوا يرون قرابة الدعي وبنوته ، وكما أن الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب والمسلم ، ويلحق الولد للفراش وغير ذلك.

ولما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال ، والحرية التامة في الإرادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة ، وصار بذلك الابن والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسمي ، وكذلك الأب والأم ، والأخ والأخت ، والجد والجدة ، والعم والعمة ، والخال والخالة ، صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين ، فصار ابن البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن وهكذا ما نزل ، وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين للإنسان على حد سواء ، وعلى ذلك جرت الأحكام في المناكح والمواريث ، وقد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ » الآية دالة على ذلك.

وقد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة وأشباهها ( وهي مسألة اجتماعية وحقوقية ) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة ، فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا ، فمن معمم ومن مخصص ، وكل ذلك من الخطإ.

وقد ذكر بعضهم : أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن ، وأما ابن البنت وكل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي

٣١١

لا يعدهم العرب أبناء للإنسان ، وأما قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحسنين : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا وغير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي ، وأنشد في ذلك قول القائل :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ونظيره قول الآخر :

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللأنساب آباء

أقول : وقد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث ، وهو غفلة عن أن الآثار والأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة والبنوة ونحوهما لا تتبع اللغات ، وإنما تتبع نوع بنية المجتمع والسنن الدائرة فيها ، وربما تغيرت هذه الأحكام والآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها ، وهذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا.

وأما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا ـ وليس إلا زخرفة خيالية وتزويقا وهميا ـ حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ ولا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل وليس بالهزل.

وأما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن والبنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم ، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق ، وتربية الأولاد ونحوها.

وبالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب ، ومن آثاره البارزة في الإسلام الميراث وحرمة النكاح ، نعم هناك أحكام ومسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم أولي القربى من السادات وكل تتبع ملاكها الخاص بها.

(بحث علمي آخر)

النكاح والازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانية

٣١٢

أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم ، وهو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية.

على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والأنثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل والتوالد كما ذكرناه مرارا ، والطائفتان ( الذكر والأنثى ) في ابتغاء ذلك شرع سواء وإن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع والعواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد.

ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد ، وتقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيا ببقاء نسله ، وتذعن بكون المرأة سكنا للرجل وبالعكس ، وتحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك والاختصاص ، وتحترم لزوم تأسيس البيت.

والمجتمعات التي تحترم هذه الأصول والأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال والنساء على نحو يبطل الأنساب وإن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة وقوة التوالد الذي يوجبه شيوع الزنا والفحشاء.

هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد ، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة ومصاحبة بين الزوجين.

فالفحشاء والسفاح الذي يقطع النسل ويفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح ، ولا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة والمجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال والنساء في المواصلات والمخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة ، وتراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.

والإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع ، ولا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا ، ولا يجتنب الذكر من الإنسان أما ولا أختا ولا بنتا ولا

٣١٣

غيرهن ، ولا الأنثى منه أبا ولا أخا ولا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ والنقل يثبت نكاح الأمهات والأخوات والبنات وغيرهن في الأمم العظيمة الراقية والمنحطة ، والأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الإخوة والأخوات ، والآباء والبنات وغيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شيء ، وما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات والأخوات والبنات وما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب والرسوم القومية.

وإنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين والسنن الدائرة في الدنيا وتأملت فيها منصفا وجدتها أدق وأضمن لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب وسائر المصالح الإنسانية الفطرية ، وجميع ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح وما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب وسد سبيل الزنا.

فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء ، وبذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.

وأما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها وهي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان ـ وهو في المجتمع المنزلي ـ أكثر ما يعاشر ويختلط ويسترسل ويديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر ، ودوام المصاحبة ومساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس وركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول والعواطف الحيوانية وهيجان دواعي الشهوة ، وبعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه ، وتتوق له نفسه ، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة ، وتكرر هجوم الوساوس النفسانية وورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا.

بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا ، وتقع عليه التربية الدينية حتى

٣١٤

يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن والنيل منهن ، ويميت ذلك تعلق الشهوة بهن ويقطع منبتها ويقلعها من أصلها ، وهذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم ، وهتك ستر الأمهات والبنات ، ولو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا ونحوه.

وهذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب ، والمنع عن اختلاط الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، ولو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان وبين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين : إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة ، وإما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة ، لا يبصر مثاله فيما يبصر ، ولا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.

وتصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا ، وتعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء ، ولا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه ، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات والبنات والأمهات ، ثم إلى ما بين الرجال والغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم ... وثم ... آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر ، ونعمة يقيم بها صلب الإنسانية ، ويطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي واقتصادي واجتماعي ووسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع والفرد ، وعادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية ، ولعبا ولهوا بتمام معنى الكلمة ، وقد اتسع الخرق على الراتق.

هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات وغيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.

وتأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا وتسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا وسريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت.

وقد تقدم أن قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) الآية ، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة ، ويمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم :

٣١٥

( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) : « النساء : ٢٨ » فإن تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهن والميل إليهن والنيل منهن على إمكان من الأمر ، وقد خلق الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية ، والدواعي الشهوانية ، وقد قال تعالى : ( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) : « يوسف : ٢٨ » فإن من أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات ، ويصاحبهن في الخلوة والجلوة ، ويتصل بهن ليلا ونهارا ويمتلئ سمعه وبصره من لطيف إشاراتهن وحلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن ولا يجيبها في ما تتوق إليه ، والحاجة إحدى الحاجتين الغذاء والنكاح ، وما سواهما فضل يعود إليهما ، وكأنه هو الذي

أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « من تزوج أحرز نصف دينه ـ فليتق الله في النصف الآخر » (١).

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ـ ٢٩. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ـ ٣٠. )

(بيان)

في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل وكانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل والتعدي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ » إلى قوله : « مِنْكُمْ »

__________________

(١) مروية في نكاح الوسائل.

٣١٦

الأكل معروف وهو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه وبلعه مثلا ، ولما فيه من معنى التسلط والإنفاد يقال : أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول والبلع ، ويقال أيضا : أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه ، وذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإنسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه وأمسه منه ، ولذلك سمي التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك ونحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه والتصرف فيه كما ينفد الأكل الغذاء بالأكل.

والباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي ، والتجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال : وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى ، فتنطبق على المعاملة بالبيع والشري.

وفي تقييد قوله : « لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ » بقوله : « بَيْنَكُمْ » الدال على نوع تجمع منهم على المال ووقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته فيما بينهم ونقله من واحد إلى آخر بالتعاور والتداول ، فتفيد الجملة أعني قوله : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) ، بعد تقييدها بقوله : ( بِالْباطِلِ ) النهي عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته ونجاحه بل تضرها وتجرها إلى الفساد والهلاك ، وهي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا والقمار والبيوع الغررية كالبيع بالحصاة والنواة وما أشبه ذلك.

وعلى هذا فالاستثناء الواقع في قوله : ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ، استثناء منقطع جيء به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل ـ ونوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل والانتقال المالي كالربويات والغرريات والقمار وأضرابها باطلة بنظر الشرع ـ كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع وتلاشي أجزائها وفيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع ، وتقيم صلبه ، وتحفظه على استقامته ، وهي التجارة عن تراض ومعاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع ، وذلك نظير قوله تعالى : ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) : « الشعراء : ٨٩ » فإنه لما نفي النفع عن المال والبنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ ولا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإنسان إنما هو المال والبنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس والخيبة فأجيب أن هناك

٣١٧

أمرا آخر نافعا كل النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين وهو القلب السليم.

وهذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية وكون قوله : ( بِالْباطِلِ ) قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ ) الآية : « البقرة : ١٨٨ » وعلى هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة والأمور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك ويبيح التصرف في المال كالهبة والصلح والجعالة وكالأمهار والإرث ونحوها.

وربما يقال : إن الاستثناء متصل وقوله : ( بِالْباطِلِ ) قيد توضيحي جيء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى وتعلق النهي ، والتقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك : لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا ، وهذا النحو من الاستعمال وإن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.

وربما قيل : إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله ، وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. وربما قيل : إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض ، وأنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور : ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ـ إلى قوله ـ ( أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) : « النور : ٦١ » وقد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني.

ومن غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله : ( بِالْباطِلِ ) قيدا احترازيا فقال ما حاصله : أن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل ومن غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا.

فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر ، وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير

٣١٨

غش ولا خداع ولا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب.

وكل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة وتسهيلا لأهلها ، ولو لم يجز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة واختل نظام المجتمع الديني. انتهى ملخصا.

وفساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه ، وأثر البيع والتجارة تبدل المالين وتغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه وينال إربه بالمعادلة ، وذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شيء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى يعادل بانضمامها الكثير ، والكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين ، ومع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة.

على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به ويهدي إليه وقد قال تعالى في وصفه : ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) : ـ الأحقاف : ٣٠ ، وكيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل؟.

على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شيء من الباطل وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها ، ولا يفي إلا ببعض شأنها؟ وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل وهل الفارق بين الحق والباطل في الأعمال إلا اهتداء الفطرة وعدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله : ( بِالْباطِلِ ) قيدا توضيحيا.

وأعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لأنه لا ثبات له ولا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير وأبقى انتهى.

٣١٩

وهو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع ، على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ـ العنكبوت : ٦٤ » وقوله تعالى : ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) : ـ النحل : ٩٦ ، وقوله تعالى : ( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ) : ـ الجمعة : ١١ ، وأما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل ، ويجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان.

قوله تعالى : « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » ظاهر الجملة أنها نهي عن قتل الإنسان نفسه لكن مقارنتها قوله : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) ، حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه ونفس غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه ، وبهذه العناية تكون الجملة أعني قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) مطلقة تشمل الانتحار ـ الذي هو قتل الإنسان نفسه ـ وقتل الإنسان غيره من المؤمنين.

وربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) أن المراد من قتل النفس المنهي عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدي إلى قتله ، وذلك أن تعليل النهي عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق وأنسب كما لا يخفى ، ويزيد على هذا معنى الآية عموما واتساعا ، وهذه الملاءمة بعينها تؤيد كون قوله : ( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) تعليلا لقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فقط.

قوله تعالى : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً » الآية العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى : ( فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) : ـ البقرة : ١٩٣ ، وقال تعالى : « ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) : ـ المائدة : ٢ ، فهو أعم موردا من الظلم ، ومعناه في الآية تعدي الحدود التي حدها الله تعالى ، والإصلاء بالنار الإحراق بها.

وفي الآية من حيث اشتمالها على قوله : « ذلِكَ » التفات عن خطاب المؤمنين إلى

٣٢٠