الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

وهنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل ، والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الأكثر ، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه ، وهي الراحة الكبرى ( وإن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا ) ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق ، وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الإسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها ، وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.

وأما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.

ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم ، وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال ، وأما الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.

ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين ، وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية.

ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي

١٠١

العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والإحساسات وسمي فتوة وبشرا وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان ، وبين الرجال والنساء المحصنات أو الأبكار ، وبين النساء والكلاب ، وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم ، وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين.

وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن الإحساسية من التعقل ـ كما عرفت ـ إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شيء ولا يمنع منها شيء إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال « الانتحار » و « دئل » وغيرهما ، فللنفس ما تريده وتهواه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع!.

إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.

ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ، ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.

والذي ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ ) : « التوبة : ٣٣ » وقال تعالى : ( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ ) : « المؤمن : ٢٠ » وقال في وصف المؤمنين : ( وَتَواصَوْا بِالْحَقِ ) : « العصر : ٣ » وقال : ( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) : « الزخرف : ٧٨ » فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم ، ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يئول إلى الفساد فقال : ( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ

١٠٢

وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) : « المؤمنون : ٧١ » ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية. وقال تعالى : ( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) : « يونس : ٣٢ » والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جدا وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا وعشرين مرة.

وأما قولهم : إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة ، فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور : أحدها أن الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الإنسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر (١) ، فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة ، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها « سخونتها الغالبية » أثر دائم لها وهكذا ، وهذا هو الحق.

والثاني : أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا ألقي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.

والثالث : أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله ، وأما نظر الإنسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.

إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع

__________________

(١) في الكلام على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب

١٠٣

في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم والإدراك ، وبعبارة أخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم ، فالوقوع الدائمي والأكثري أيضا بوجه من الحق ، وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه ، ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى : ( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) : « المؤمنون : ٧٠ » فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.

وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها ، قال تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) : « المائدة : ٦ » ، وقال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) : « البقرة : ١٨٣ » إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.

وأما قولهم : إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الأفراد طهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه وكان مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كرارا أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الإنسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.

١٠٤

وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه ، وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي ( مع أن الحق خلافه ) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ، ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.

وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى وأما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وأن منافعه جزء من منافع مجتمعة يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه وكل وصف وحال له وصفا وحالا لنفسه فهذا الإنسان يتفكر نحوا آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعة وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعة فلا يهتم به ولا يقدره شيئا.

واستوضح ذلك بما نورده من المثال : الإنسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الإنسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا وفعلا تحت استقلاله فالعين والأذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للإنسان ، وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الإنسان به ، وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الإحسان أو الإساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا ، وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسيء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.

فهذا حال أجزاء الإنسان وهي تسير سيرا واحدا اجتماعيا ، وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية

١٠٥

أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود والأعراب وعدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ، ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا ، وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع ، وأشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله وبنيته ، وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والأبرار.

ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الأخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الأمم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم.

فهذه هي التي يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاءوا فليستعجبوا وإن شاءوا فليتعجبوا.

ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوربية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم والأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلئوا رأفة ونصحا للبشر يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والأخذ بيد المظلوم المهضوم حقا وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر ، ويوما بالاستعمار ، ويوما بالاستملاك ، ويوما بالقيمومة ، ويوما باسم حفظ المنافع المشتركة ، ويوما باسم الإعانة على حفظ الاستقلال ، ويوما باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده ، ويوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوما ... ويوما ....

١٠٦

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحي والنبوة من معنى السعادة.

وكيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، ويسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى ، والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي ما عندهم سعادة وصلاحا فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشية.

٦ ـ بما ذا يتكون ويعيش الاجتماع الإسلامي؟ لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد ، وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع.

والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه ، ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض ، وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله ، ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله.

وهذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لأدى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان.

١٠٧

وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر ورؤية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ ، ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والإبطال تتغير سريعا وتنقرض ، ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الإرادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.

ومن هنا يظهر أولا : أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها.

وثانيا : أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الإنسان بالشعور والإرادة بعد التعديل ، ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الإلهية والأخلاق ، وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي ، ولذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضي عليه وتدحضه ، ويوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته ، ويوما تطوي عنه كشحا فتخليه وشأنه.

وثالثا : أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل ، وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو زمان الثقافة والمدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية ، وأضف إلى هذا النقص نقصا آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته ، ( ولنرجع إلى أول الكلام ).

وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة

١٠٨

الدنيا وهي السعادة عندهم ، لكن الإسلام لما كان يرى أن الحياة الإنسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة ، ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد ، ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة ، ويرى أن هذه الأخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ ( أعني الإسلام ) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد ، ولم يكتف فيه على تعديل الإرادات والأفعال فقط بل تممه بالعباديات وأضاف إليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة.

ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولا ، ثم في عهدة المجتمع ثانيا ، وذلك بالتربية الصالحة علما وعملا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين ، وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع ، فالجميع من أجزاء الدين الإسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد ، والتوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق والأعمال ، فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

فإن قلت : ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الإسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الإسلامي ، وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما!.

قلت : حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس وعلوما تحفظها الصدور وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالإرادات الإنسانية تتعلق بها ، فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين ، وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع

١٠٩

حتى تقوم القوانين على ساقها والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات أعني إرادة الأكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة ، فمهما كانت الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع ، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الإتراف والتمتع ، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية. وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة أمنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشي ، وعمدة الانشعابات الواقعة في الأمم الأوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى والثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب.

وليس ذلك ( أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه ) إلا لأن المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها وسيطرتها وهي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة وفقد النصفة ، والسخط وتراكم الغيظ والحنق ، وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهي تهدد الإنسانية ثالثة وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع ، هذا.

ولكن الإسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها وعلى عهدتها فهي مع الإنسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم.

نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة

١١٠

وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا.

أما أولا فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الإسراف والإفراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه ، وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا وحرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين؟.

على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا ، ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم ، والتمتع بما في أيديهم ، واسترقاق نفوسهم ، والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا ، والدعوة إلى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.

وأما ثانيا : فلأن الأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها وليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم وهو يحب الخير والصلاح ، ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ومن الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية فإنما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها ( أحسن التأمل فيه ).

ففيما كان للإنسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت؟ وأما ما يتوهم ـ وكثيرا ما يخطئ فيه الباحث ـ من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن وحب النوع والثناء الجميل ونحو ذلك فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية وأمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلما ذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته.

١١١

وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع ، والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا وعقل ، وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوة وهو سفه وجنون.

فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للإنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه ولذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شئونه القول بالمعاد ، ولازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان ويجتنب الإساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم ، وسواء حمده حامد أو لم يحمد ، وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت ووراءه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ، وفيه تجزى كل نفس بما كسبت.

٧ ـ منطقان منطق التعقل ومنطق الإحساس : أما منطق الإحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع وأحس به الإنسان فالإحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه ، وإذا لم يحس الإنسان بالنفع فهو خامد هامد ، وأما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحس مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس فإن ما عند الله خير وأبقى ، وقس في ذلك بين قول عنترة وهو على منطق الإحساس :

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

يريد أني استثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولي لها : اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام ، وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال ، وبين قوله تعالى ـ وهو على منطق التعقل ـ : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

١١٢

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) : « التوبة : ٥٢ » ، يريد أن أمر ولايتنا وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شيء مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له والالتزام لدينه كما قال تعالى : ( لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) : « التوبة : ١٢١ ».

وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شيء كان لنا عظيم الأجر والعاقبة الحسنى عند ربنا وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا ، فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين ، وفي إحدى الحالين وهو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا.

فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبني إحساسي وهو أن للثابت أحد نفعين : إما حمد الناس وأما الراحة من العدو ، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة ، أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة ، أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة ، أو لم يسترح الإحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي واللكنة.

وهذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون : أن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها وإن الخادم والخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا وأنعم عيشا ، ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص من قهر القانون وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفي أمره ويلتبس

١١٣

على الناس شخصه ، ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس ، ويضحك منه الدنيا الحاضرة ، ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلا : ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش وذلة الحياة هذا.

وأما المنطق الآخر وهو منطق الإسلام فهو يبني أساسه على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني ، ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد ، ولا يسقط كليته من العموم والاطراد ، فالعمل ـ أعم من الفعل والترك ـ إنما يقع لوجهه تعالى وإسلاما له واتباعا للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء والله بما تعملون خبير.

فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت ، رقيب شهيد قائم بما كسبت ، سواء شهده الناس أو لا ، حمدوه أو لا ، قدروا فيه على شيء أو لا.

وقد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم ( القتل فما دونه ) ابتغاء رضوان الله وتطهيرا لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات ، وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الديني في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء وأعزها عندهم وهي الحياة وما في تلوها ولو لا أن البحث قرآني لأوردنا طرفا من الأمثلة التاريخية فيه.

٨ ـ ما معنى ابتغاء الأجر عند الله والإعراض عن غيره؟ ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الأخروي وهو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية يوجب سقوط الأغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية وفيه فساد نظام الاجتماع ، والانحطاط إلى منحط الرهبانية ، وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الأخرى؟ وهل هذا إلا تناقض؟.

لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الإلهية والأسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث

١١٤

السابقة من هذا الكتاب ، قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) : الروم : ٣٠.

وحاصلة : أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيئت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء وهذا ( لو تفهمه المتوهم ) هو الدين الإسلامي بعينه ولما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر لأمرها فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له والخضوع لأمره وهذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي.

ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والإسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية وأخرى أخروية وله مقاصد مادية وأخرى معنوية لكنه لا يعتنى في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى أن الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه والانقطاع إليه والإخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه ومبتغي غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية.

ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستوثرت.

ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية.

والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مئونة زائدة وتكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي

١١٥

يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع ، وقد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الأخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها.

٩ ـ ما معنى الحرية في الإسلام؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائيا في الأذهان وأمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة.

والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية.

غير أن الإنسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات وفعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الإطلاق الابتدائي والحرية الأولية.

والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها وبلوازمها ، وفي أمر الأخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الإنسان من الإرادات والأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم.

وأما الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت فلا شيء مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا وللشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه.

نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الإسلامية

١١٦

والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل أمة قوية وضعيفة.

وأما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الآية : « الأعراف : ٣٢ » ، وقال تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) : « البقرة : ٢٩ » ، وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) : « الجاثية : ١٣ ».

ومن عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الإسلام بقوله تعالى : ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) : « البقرة : ٢٥٦ » ، وما يشابهه من الآيات الكريمة.

وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة والذي نضيف إليها هاهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الإسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه.

وبعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملا اختياريا للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير ، وإنما الذي يقبل الحظر والإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل المخالفين لها ، فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ، ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد ( التوحيد والنبوة والمعاد ) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ( أهل الكتاب ) فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدما لأصل الدين ، نعم هاهنا حرية أخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل ١٤ الآتي.

١٠ ـ ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الإسلامي؟ ربما أمكن

١١٧

أن يقال : هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة ، والمجتمع الإسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل وهو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشيء وتفاعلها حتى تولد بالكسر والانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الإسلام يرفع الأضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.

أقول : وهو من إشكالات المادية التحولية ( ماترياليسم ديالكتيك ) وفيه خلط عجيب فإن العقائد والمعارف الإنسانية على نوعين نوع يقبل التحول والتكامل وهو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما ، وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك.

ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو العلوم والمعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدإ والمعاد والسعادة والشقاء وغير ذلك قضاء قاطعا واقفا غير متغير ولا متحول وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراء كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا : إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته ، وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان ، وإن الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع ، وقولنا : إن العالم موجود حقيقة لا وهما وإن الإنسان جزء من العالم ، وإن الإنسان جزء من العالم الأرضي وإن الإنسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم ، وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بني عليها الإسلام مجتمعة وتحفظ عليها كل التحفظ ومن المعلوم أنه مما لا يوجب

١١٨

باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا وخسة.

والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة ، وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم وتطبيق العمل على العلم دائما والإسلام لا يمنع من ذلك شيئا.

وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكي والديمقراطية والكمونيزم ونحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الإنساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط والصواب لا فرق الناقص والكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الإنسان بفطرته وهو العدالة الاجتماعية واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكنا واتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك؟ ومجرد وجوب التحول على الإنسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة.

فإن قلت : لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات والأخلاق الكلية ونحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية والمحيطات المختلفة ومرور الأزمنة فلا يجوز أن ينكر أن الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم ، وكذا الإنسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الإستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة ، وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم وبدوي وحضري ومثر ومعدم وفقير وغني ونحو ذلك ، فالأفكار والآراء تختلف باختلاف العوامل وتتحول بتحول الأعصار بلا شك كائنة ما كانت.

قلت : الإشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الإنسانية ولازمها كون الحق والباطل والخير والشر أمورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدإ والمعاد وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للإنسان وكون

١١٩

العدل خيرا ( حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد ) تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الأزمنة والأوضاع والأحوال ، وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها.

وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية.

وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت ( أي كانت كلية مطلقة ثابتة ) أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها ، ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال ، وبعبارة أخرى لو صح أن « كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوما » وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك.

١١ ـ هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟ ربما يقال : هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شئون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى.

والجواب : أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شئونها ، وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ، ولباس يلبسه ، ودار يقطن فيه ويسكنه ، ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ، ومجتمع يعيش بين أفراده ، وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك ، وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية ، والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.

وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.

١٢٠