الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

أَجْرُ الْعامِلِينَ » الفاحشة ما تتضمن الفحش والقبيح من الأفعال ، وشاع استعماله في الزنا ، فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة ، أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي وهي الكبائر ، وفي قوله : ( ذَكَرُوا اللهَ ) إلخ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد ونحوه ، وقوله : ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ) تشويق وإيقاظ لقريحة اللواذ والالتجاء في الإنسان.

وقوله : ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، إنما قيد به الاستغفار لأنه يورث في النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى وهي الاستهانة بأمر الله ، وعدم المبالاة بهتك حرماته ، والاستكبار عليه تعالى ، ولا تبقى معه عبودية ولا ينفع معه ذكر ، ولذلك بعينه قيده بقوله : ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، وهذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضا ، وذلك أن الإصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله والتحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر ، فقوله : ( ما فَعَلُوا ) أعم من الكبيرة ، والمراد بما فعلوا هو الذي ذكر في صدر الآية ، وإذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة.

وقوله : ( أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ) بيان لأجرهم الجزيل ، وما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ) إلخ ومن ذلك يعلم أن الأمر إنما كان بالمسارعة إلى الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس والاستغفار.

قوله تعالى : « قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا » ، السنن جمع سنة وهي الطريقة المسلوكة في المجتمع ، والأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الأمم الغابرة ، والملوك والفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم ، ولا ذخائر كنوزهم ، ولا عروشهم ولا جموعهم ، وقد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون ، ويتفكه بها المغفلون.

وأما حفظ آثارهم وكلاءة تماثيلهم والجهد في الكشف عن عظمتهم ومجدهم الظاهر الدنيوي الذي في أيامهم فمما لا يعتني به القرآن ، فإنما هي الوثنية التي لا تزال تظهر كل حين في لباس ، وسنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه معنى الوثنية.

٢١

قوله تعالى : « هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ » الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ وإبانة لبعض وهدى وموعظة لآخرين.

(بحث روائي)

في المجمع ، : في قوله تعالى : ( جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) ، : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض ـ فأين تكون النار؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟

أقول : ورواه السيوطي في الدر المنثور ، عن التنوخي في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك ، ورواه أيضا بطريق آخر عن أبي هريرة : أن رجلا سأله عن ذلك فأجاب بذلك.

وما فسر كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن المراد كون النار في علم الله تعالى ـ كما أن الليل عند مجيء النهار في علم الله تعالى ـ فإن أريد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أن هذا الجواب لا يدفع الإشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها ، وإن أريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات والأرض تكون النار متمكنة فيها فهو وإن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة والنار بالنهار والليل حينئذ لا تكون في محلها ، فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات والأرض عند مجيء النهار فالحق أنه تفسير غير مرضي.

وأظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر وتوضيحه : أن الآخرة بنعيمها وجحيمها وإن كانت مشابهة للدنيا ولذائذها وآلامها وكذلك الإنسان الحال فيها وإن كان هو الإنسان الذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة غير أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا ، فإنما الآخرة دار أبدية وبقاء ، والدنيا دار زوال وفناء ، ولذلك كان الإنسان يأكل ويشرب وينكح ويتمتع في الجنة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا ، وكذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم ، ويقاسي الآلام والمصائب في مأكله ومشربه ومسكنه وقرينه في النار ولا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها وهو في الدنيا ، ويعمر عمر الأبد ولا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما

٢٢

وهكذا ، وليس إلا أن العوارض والطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق النظام الأعم منه ومن النظام الأخروي ، فالدنيا دار التزاحم والتمانع دون الآخرة.

ومما يدل عليه أن الذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الأمس وحوادث اليوم ، والليل والنهار وغير ذلك ، وأما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذي نشاهده أولا ويغيب عنا ثانيا ولا الذي نجده بعده ولا مزاحمة بينهما ، فالليل والنهار وكذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادة والحركة ، وهي بعينها لا تتزاحم ولا تتمانع بحسب نظام آخر ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) : « الفرقان : ـ ٤٦ ».

وإذا أمكن ذلك في مثل الليل والنهار وهما متزاحمان جاز في السماوات والأرض أن تسع ما يساويهما سعة ، وتسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة والنار مثلا لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة ، ولهذا نظائر في الأخبار كما ورد : أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، وما ورد : أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره.

فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال ، وكذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجيء النهار اعترض عليه السائل بأن الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الأرض ، وإن اعتبرا من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من إنارة الشمس ، وهو يدور حول الكرة الأرضية بحسب الحركة اليومية فالليل والنهار سائران حول الأرض دائما من غير بطلان ولا عينيه.

وللرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) ، : الأنفال ـ ٣٧ من قوله عليه‌السلام : إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث ، وسيجيء البحث عنها.

وفي الدر المنثور ، : في قوله تعالى : ( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) الآية :

٢٣

أخرج البيهقي عن علي بن الحسين : إن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة ـ فسقط الإبريق من يدها على وجهه ـ فشجه فرفع رأسه إليها ، فقالت : إن الله يقول : ( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال : قد كظمت غيظي ، قالت : ( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال : قد عفا الله عنك ، قالت ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، قال : اذهبي فأنت حرة.

أقول : وهو مروي من طرق الشيعة أيضا ، وظاهر الرواية أنه عليه‌السلام يفسر الإحسان بما يزيد على هذه الصفات وهو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أن الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرف بها الإحسان.

واعلم أن هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق وسائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق والكظم والعفو ونحوها واردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها.

وفي المجالس ، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي : أن قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) « إلخ » نزل في بهلول النباش ، وكان ينبش القبور ـ فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار ـ فأخرجها ونزع أكفانها ـ وكانت بيضاء جميلة ـ فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم ـ فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرده ، ثم اعتزل الناس وانقطع عنهم يتعبد ـ ويتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل الله توبته ـ ونزل فيه القرآن.

أقول : والرواية مفصلة نقلناها ملخصة ، ولو صحت الرواية لكانت سببا آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصة.

وفي تفسير العياشي ، عن الباقر عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ) الآية ـ قال : الإصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله ـ ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ـ ما كانت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله : وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

وفي الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار.

وفي تفسير العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال وفي كتاب الله نجاة من

٢٤

الردى ، وبصيرة من العمى ، وشفاء لما في الصدور ـ فيما أمركم الله به من الاستغفار والتوبة ـ قال الله : ( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ـ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ـ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، وقال : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ـ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ) ، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار ، واشترط معه التوبة والإقلاع عما حرم الله ـ فإنه يقول : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ، وبهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى الله ـ إلا العمل الصالح والتوبة.

أقول : قد استفاد عليه‌السلام الإقلاع وعدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار ، وكذا احتياج التوبة والاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) الآية.

وفي المجالس ، عن الصادق عليه‌السلام قال لما نزلت هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) ، صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور ـ فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه ـ فقالوا له : يا سيدنا لم تدعونا؟ قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا ـ فقال : لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذاك ـ فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخناس : أنا لها ـ قال : بما ذا؟ قال أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة ـ فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار ، فقال : أنت لها ، فوكله بها إلى يوم القيامة.

أقول : والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا.

* * *

( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ـ ١٣٩. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ـ ١٤٠. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ـ ١٤١. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا

٢٥

مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ـ ١٤٢. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ـ ١٤٣. )

( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ـ ١٤٤. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ـ ١٤٥. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ـ ١٤٦. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ـ ١٤٧. فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ـ ١٤٨. )

(بيان)

الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، كما أن الآيات السابقة بأوامرها ونواهيها توطئة لهذه الآيات التي تشتمل على أصل المقصود من أمر ونهي وثناء وتوبيخ.

قوله تعالى : « وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » الوهن : هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب ، والمراد به هنا ضعفهم من حيث

٢٦

العزيمة والاهتمام على إقامة الدين وقتال أعدائه ، والحزن خلاف الفرح وإنما يعرض الإنسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له.

وفي قوله تعالى : ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) ، دلالة على أن سبب وهنهم وحزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم ، واستعلاء الكفار عليهم ، فإن المشركين وإن لم ينالوا كل الغلبة والظفر على المؤمنين ولم تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد وأوجع وهو شهادة سبعين من سراتهم وشجعانهم ، ووقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم وحزنهم ، ووقوع قوله : ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) « إلخ » موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهيا عن وهن وحزن واقعين لا مقدرين ولا متوقعين.

وقد أطلق قوله : ( الْأَعْلَوْنَ ) من غير تقييد ولكن اشترط بالإيمان فمحصل المعنى : لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم ، ولا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم ، والانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان ، فإن الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو يلازم التقوى والصبر وفيهما ملاك الفتح والظفر ، وأما القرح الذي أصابكم فلستم بمتفردين فيه بل القوم ـ وهم المشركون ـ قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شيء حتى يوجب ذلك وهنكم وحزنكم.

واشتراط علوهم بالإيمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للإشارة إلى أن الجماعة وإن كانوا لا يفقدون الإيمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر والتقوى وإلا لأثر أثره.

وهذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقا والضعيف إيمانا والمريض قلبا ، ويكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم ، وعظة لضعيفهم وعتابا وتأنيبا لمريضهم.

قوله تعالى : « إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ » القرح ـ بفتح القاف ـ الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج ، والقرح ـ بالضم ـ أثرها من داخل كالبثرة ونحوها ـ قاله الراغب ـ وكأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه وهو قتل من قتل منهم ، وجراحة من جرح

٢٧

منهم ، وفوت النصر والفتح بعد ما أطلا عليهم.

وهذه الجملة أعني قوله : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ ) « إلخ » وما بعدها من الجمل المتسقة إلى قوله : ( وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) في موضع التعليل كما مر ـ لقوله : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ) اه كما أن قوله : ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) تعليل آخر.

والفرق بين النوعين من التعليل أن الأول أعني قوله : ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) إلخ ، تعليل من طريق التخطئة لظنهم ، فإنهم إنما وهنوا وحزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطاهم الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين ، وقد قال تعالى : ( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) : « الروم : ٤٧ ».

وأما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين ـ المؤمنين والمشركين ـ أو بيان الحكم والمصالح التي ترجع إلى أصل واحد وهو السنة الإلهية الجارية بمداولة الأيام بين الناس.

قوله تعالى : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » اليوم هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث ، وقد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس وغروبها ، وربما استعمل في الملك والسلطنة والقهر ونحوها بعلاقة الظرف والمظروف ، فيقال يوم جماعة كذا ويوم آل فلان أي تقدمهم وحكومتهم على غيرهم ، وقد يقال لنفس الزمان الذي وقع فيه ذلك ، والمراد بالأيام في الآية هو هذا المعنى. والمداولة جعل الشيء يتناوله واحد بعد آخر. فالمعنى : أن السنة الإلهية جرت على مداولة الأيام بين الناس من غير أن توقف على قوم ويذب عنها قوم لمصالح عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها.

قوله تعالى : « وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » إلخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الأفهام ولا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها ، والذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله : ( وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) إلخ وبقوله : ( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ).

أما قوله : ( وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه وخفائه ، فإن علمه تعالى بالحوادث والأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الأشياء

٢٨

معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا وإدراكاتنا وهو ظاهر ، ولازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشيء هي إرادة تحققه وظهوره وحيث قال : ( وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم ، وإذا كان ذلك على سنة الأسباب والمسببات لم يكن بد من وقوع أمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.

وأما قوله : ( وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) ، فالشهداء شهداء الأعمال وأما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن ، وإنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية ، كما مر في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ ) : البقرة ـ ١٤٣ على أن قوله : ( وَيَتَّخِذَ ) ، أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة ، فلا يقال : اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله وشهيدا كما يقال : اتخذ الله إبراهيم خليلا ، واتخذ الله موسى كليما ، واتخذ الله النبي شهيدا يشهد على أمته يوم القيامة.

وقد غير السياق فقال : ويتخذ منكم شهداء ، ولم يقل : ويتخذهم شهداء لأن الشهادة وإن أضيفت إلى الأمة في قوله : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) : البقرة ـ ١٤٣ إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل ، والشهداء بعض الأمة دون كلهم ، وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة ، ويمكن أن يتأيد هذا الذي ذكرناه بقوله بعده : ( وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ).

وأما قوله : « وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ » فالتمحيص هو تخليص الشيء من الشوائب الخارجة ، والمحق إنفاد الشيء تدريجا وإزالته شيئا فشيئا ، وهذا التمحيص من حكم مداولة الأيام ومصالحها ، وهو غير العلم بالذين آمنوا الذي هو أيضا من حكم مداولة الأيام ، فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر وتخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر والنفاق والفسوق أمر آخر ، ولذلك قوبل بالمحق للكافرين ، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر ونحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه ، فيكون خالصا لله ، ويبيد أجزاء الكفر والشرك والكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شيء.

فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيام بين الناس ، وعدم استمرار الدولة بين قوم خاص ، ولله الأمر كله يفعل ما يشاء ، ولا يفعل إلا الأصلح الأنفع كما

٢٩

قال : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) رعد ـ ١٧ وقال الله تعالى قبيل هذه الآيات : ( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شيء ، وقصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء.

وهذا الكلام أعني ما يبين أن الأيام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان وتمييز المؤمن من الكافر وتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين مع ما مر من نفي رجوع الأمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب تام في غلبتهم أينما غزوا وظهورهم على الباطل كيفما كانوا ، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك ، وقد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم ونزول ملائكة النصر ، وهذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان والتمحيص وفي ذلك بطلان مصلحة الأمر والنهي والثواب والعقاب ، ويؤدي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبني على خرق العادة الجارية والسنة الإلهية القائمة في الوجود بابتناء الغلبة والهزيمة على أسبابهما العادية.

شرح سبحانه ـ بعد بيان أن الأيام دول متداولة لغرض الامتحان والابتلاء ـ في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل وبيان حقيقة الحال فقال : ( أَمْ حَسِبْتُمْ ) إلى آخر الآيات.

قوله تعالى : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ » إلى آخر الآيتين وهذا أعني ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا لازم الظن المذكور آنفا ، وهو أنهم لما كانوا على الحق والحق لا يغلب عليه فأمر الظفر والغلبة إليهم ، لن ينهزموا ولن يغلبوا أبدا ، ومن المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي ولحق بجماعة المؤمنين سعيدا في دنياه بالغلبة والغنيمة ، وسعيدا في آخرته بالمغفرة والجنة ، ويبطل الفرق بين ظاهر الإيمان وحقيقته ويرتفع التمايز بين الدرجات ، فإيمان المجاهد وإيمان المجاهد الصابر واحد ، ومن تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه.

وعلى هذا فقوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا ) « إلخ » من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز

٣٠

المستحق لها منكم من غير المستحق ، وصاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟.

وأما قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ) الآية ففيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت ورأوه رأي العين لم يقدموا ولم يتناولوا ما كانوا يتمنونه ، بل فشلوا وتولوا عن القتال ، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمني من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا.

وبهذا يظهر أن في الكلام تقديرا ، والمعنى : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم تقدموا عليه ، ويمكن أن يكون قوله : تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرد النظر من غير إقدام ، وفيه عتاب وتوبيخ.

(كلام في الامتحان وحقيقته)

لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال : ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) ، : طه : ـ ٥٠ ، فعمم الهداية لكل شيء من ذوي الشعور والعقل وغيرهم ، وأطلقها أيضا من جهة الغاية ، وقال أيضا : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) ، : الأعلى ـ ٣ ، والآية من جهة الإطلاق كسابقتها.

ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفي عن شيء من خلقه ، قال تعالى : ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) : الجمعة ـ ٥ ، وقال : ( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) : الصف ـ ٥ ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى : ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) : الدهر ـ ٣ ، وقوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) : ، حم السجدة ـ ١٧ ، فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله : ( ثُمَّ هَدى ) وقوله : ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) عام من حيث المورد والغاية جميعا ،

٣١

على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير ، والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشيء إلى غاية خلقته ، وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك.

وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شيء إلى كمال وجوده ، وإيصاله إلى غاية خلقته ، وهي التي بها نزوع كل شيء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك ، وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.

والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ ، وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد ، كما قال تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ) : الليل ـ ١٣ ، والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان.

فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها ، وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة ، جيدة أو ردية ، فلا بد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي ( الشريعة ) وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده ، وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما.

توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال ، فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده ، فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه

٣٢

يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم ، قال تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) : آل عمران ـ ٥٤ ، وقال : ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) ، : فاطر ـ ٤٣ ، وقال : ( لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ ) ، : الأنعام ـ ١٢٣ ، وقال : ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) ، : الأعراف ـ ١٨٣ ، فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده ، قال تعالى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ » : العنكبوت ـ ٤ ، ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى « فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً » : الرعد ـ ٤٢.

فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية ، وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم ، مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل ، والله غالب على أمره.

وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم ، والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا ، والحوادث الداعية وما يجري مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجيء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

وأما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ، ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق ، قال تعالى : « وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ » : آل عمران ـ ١٣ ، وقال : « وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » : آل عمران ـ ٦٨ ، وقال : « اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » : البقرة ـ ٢٥٧ ، وقال : « يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ » : يونس ـ ٩ ، وقال : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » : الأنعام ـ ١٢٢ ، هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه ، وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم ، قال تعالى : « أُولئِكَ كَتَبَ فِي

٣٣

قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة ـ ٢٢.

ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى : « وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى » : الأعلى ـ ٣ ، فإن المقادير التي تحملها العلل والأسباب المحتفة بوجود الشيء هي التي تحول الشيء من حال أولى إلى حال ثانية وهلم جرا فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.

وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال ( وهي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء ) تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى : « ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ » : الأحقاف ـ ٣ ، فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها وهي الآجال ، والشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة أمور ثابتة غير متغيرة فهي تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر.

فالأشياء محاطة بقوى إلهية : قوة تدفعها ، وقوة تجذبها ، وقوة تصاحبها وتربيها وهي القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك.

ثم إنا نسمي نوع التصرفات في الشيء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه : هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان والاختبار ، فإنك إذا جهلت حال الشيء أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ وتسمي ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله ، أو ما يقاربها من الألفاظ.

وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان ، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهي امتحانات إلهية.

وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن

٣٤

الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا ، والله سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب ، فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحان لأنه يظهر ويتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب؟.

ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعني التشريع وتوجيه الحوادث بلاء وابتلاء وفتنة فقال بوجه عام : « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » : الكهف ـ ٧ ، وقال : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » : الدهر ـ ٢ ، وقال : « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً » : الأنبياء ـ ٣٥ ، وكأنه يريد به ما يفصله قوله : « فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ » : الفجر ـ ١٦ ، وقال : « إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » : التغابن ـ ١٥ ، وقال : « وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ » : محمد ـ ٤ ، وقال : « كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » : الأعراف ١٦٣ ، وقال : « وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً » : الأنفال ـ ١٧ ، وقال : « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ » : العنكبوت ـ ٣.

وقال في مثل إبراهيم : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ » البقرة ـ ١٢٤ ، وقال في قصة ذبح إسماعيل : « إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ » : الصافات ـ ١٠٦ ، وقال في موسى : « وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » : طه ـ ٤٠ ، إلى غير ذلك من الآيات.

والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة ، والخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد والأزواج والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع ، وكذا مقابلات هذه الأمور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه ، وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاء من الله سبحانه بالنسبة إليه.

وفيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر ، وصالح أو طالح ، ونبي أو من دونه ، فهي سنة جارية لا يستثني منها أحد.

٣٥

فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية ، وهي سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية وهي سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعني القدر والأجل كما مر بيانه.

ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال ، ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق ، وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى : « ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى » الأحقاف ـ ٣ ، وقوله تعالى : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » المؤمنون ـ ١١٥ ، وقوله تعالى : « وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » : الدخان ـ ٣٩ ، وقوله تعالى : « مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ » : العنكبوت ـ ٥ ، إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية ، وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة ، وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل ، وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك.

ويظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا ، فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل ، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث ، وكلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها ، قال تعالى : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ » : آل عمران ـ ١٤١.

وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر وخلوص الدين لله ، قال تعالى : « وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى : طه ـ ١٣٢ ، وقال : « أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » : الأنبياء ـ ١٠٥.

٣٦

قوله تعالى : « وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ » الموت زهاق الروح وبطلان حياة البدن ، والقتل هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه ، والموت والقتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل ، وإذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف والقتل خلافه.

وانقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب : ورجع على عقبيه إذا انثنى راجعا ، وانقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته ، ونحو ارتدا على آثارهما قصصا ، وقولهم رجع عوده إلى بدئه ، انتهى.

وحيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاء للشرط الذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو قتله ، وإنما النسبة والرابطة بين موته أو قتله وبين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.

ويدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله : ( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآيات ، على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف وتوليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين وخيبر وغيرهما ولم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب ولا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى : « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ » : البراءة ـ ٢٥ ، فالحق أن المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.

فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل ، ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الأمر شيئا ، وإنما الأمر لله والدين دينه باق ببقائه ، فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ، ورجعتم إلى أعقابكم القهقرى واتخذتم الغواية بعد الهداية؟.

وهذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمي الوطيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتل فانسلوا عند ذلك وتولوا عن القتال ، فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية والتاريخ

٣٧

ـ كما في ما رواه ابن هشام في السيرة ـ : أن أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ـ وقد ألقوا بأيديهم ـ فقال : ما يحبسكم؟ قالوا : قتل رسول الله قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.

وبالجملة فمعنى هذا الانسلال والإلقاء بالأيدي : أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبقى ببقائه ويزول بموته ، وهو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان وهذا هو الذي عاتبهم الله عليه ، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ، فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، فافهم ذلك.

وقوله : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ، بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق ، وهو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال والتولي وهم الشاكرون.

وحقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها والستر عليها ، وإظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها وذكر المنعم بها لسانا وهو الثناء وقلبا من غير نسيان ، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها ويوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها ولا يتعدى ذلك ، وإن من شيء إلا وهو نعمة من نعمه تعالى ، ولا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته ، قال تعالى : ( وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ، : إبراهيم ـ ٣٤ ، فشكره على نعمته أن يطاع فيها ويذكر مقام ربوبيته عندها.

وعلى هذا فشكره المطلق من غير تقييد ، ذكره تعالى من غير نسيان ، وإطاعته من غير معصية ، فمعنى قوله : « وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ » : البقرة ـ ١٥٢ ، اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان ، وأطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان ، ولا يصغي إلى قول من يقول : إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية.

وقد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما ،

٣٨

بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس وصيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق الإنسان ، ففرق بين قولنا : الذين أشركوا ، والذين صبروا ، والذين ظلموا ، والذين يعتدون ، وبين قولنا. المشركين ، والصابرين ، والظالمين ، والمعتدين ، فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر واستقرت فيهم هذه الفضيلة ، وقد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا « وهو نعمة » إلا وذكر الله معه ، ولا يمس شيئا « وهو نعمة » إلا ويطيع الله فيه.

فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الإخلاص لله سبحانه علما وعملا ، فالشاكرون هم المخلصون لله ، الذين لا مطمع للشيطان فيهم.

ويظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس ، قال تعالى : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » : ـ ص ـ ٨٣ ، وقال تعالى : « قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » الحجر ـ ٤٠ ، فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين ، وأمضاه الله سبحانه من غير رد ، وقال تعالى : « قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ » : الأعراف ـ ١٧ ، وقوله : ولا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين ، وليس إلا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم ، ولا صنع له لديهم ، وإنما صنعه وكيده إنساء مقام الربوبية والدعوة إلى المعصية.

ومما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ، مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ، وقوله فيما بعدها : ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ، وقد عرفت أنه في معنى الاستثناء.

فتدبر فيها واقض عجبا مما ربما يقال : إن الآية أعني قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ) ناظرة إلى ما روي : أن الشيطان نادى يوم أحد : « ألا قد قتل محمد » فأوجب ذلك وهن المؤمنين وتفرقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أي مهبط أهبط كتاب الله من أوج حقائقه ومستوى معارفه العالية؟.

٣٩

فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم يهنوا ولم يفتروا ولم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين ، وصدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم ولا مطمع له فيهم ، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم ، ولم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعني قوله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) الآية ، وقوله : ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) الآية ، ولم يذكر ما يجازيهم به في شيء من الموردين إشعارا بعظمته ونفاسته.

قوله تعالى : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً » إلخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ) الآية ، وقول طائفة منهم : ( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ) الآية ، وهؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقعدوا عن القتال.

فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله وسنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم ، ولازمه بطلان الملك الإلهي والتدبير المتقن الرباني وسيجيء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام.

ولما كان لازم هذا القول ممن قال به إنه آمن لظنه أن الأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه ومن اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، وإنما قال : ( نُؤْتِهِ مِنْها ) ولم يقل : نؤتها لأن الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده ، ولكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع وإن وافق البعض رزق البعض فحسب ، قال الله تعالى : ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) ، : الإسراء ـ ١٩ وقال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى : النجم ـ ٣٩.

ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال : « وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ » وليس إلا لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا ولا آخرة كما تقدم.

٤٠