الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) : « الشعراء : ٢١٤ » فامتثل أمره وجمع عشيرته ودعاهم إلى ما بعث له ووعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك علي عليه‌السلام فشكر له ذلك واستهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات (١) وكتب التاريخ والسير ، ثم لحق به أناس من أهله كخديجة زوجته وعمه حمزة بن عبد المطلب وعبيد وعمه أبي طالب على ما روته الشيعة وفي أشعاره تصريحات وتلويحات بذلك (٢) ( وإنما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكن من حمايته (ص)).

ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله : ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) : « الشورى : ٧ » وقوله : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) : « الم السجدة : ٣ » وقوله : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ، وهذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم ، وإنما بدأ بهم حكمة ومصلحة.

ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين وغيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » وقوله : « وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ » وغيرهما مما تقدم.

الثالثة : الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة والإرشاد والإجراء ، وهي الدعوة بالقول والدعوة السلبية والجهاد.

أما الدعوة بالقول فهي مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة ، وقد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الإنسانية والأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى : ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ ) : « الكهف : ١١٠ » وقال : ( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) : « الحجر : ٨٨ » وقال : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) : « حم السجدة : ٣٤ » وقال : ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) : « المدثر : ٦ » إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

__________________

(١) راجع سادس البحار ، وسيرة ابن هشام وغيرهما.

(٢) راجع ديوان أبي طالب.

١٦١

وأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام واستعدادات الأشخاص ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) : « النحل : ١٢٥ ».

وأما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم وأعمالهم وتكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه ولا أعمال غير المسلمين من المعاصي وسائر الرذائل الأخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة ، قال تعالى : ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) : « الكافرون : ٦ » وقال : ( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) : « هود : ١١٣ » وقال : ( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) : « الشورى : ١٥ » وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ) « إلى أن قال : ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) : « الممتحنة : ٩ » والآيات في معنى التبري والاعتزال عن أعداء الدين كثيرة ، وهي ـ كما ترى ـ تشرح معنى هذا التبري وكيفيته وخصوصيته.

وأما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة وهذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلامي ومفاخره والمرتبة الأولى لازمة في الأخيرتين وكذا الثانية في الثالثة ، فقد كانت من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعوة والموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال : « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ ».

ومن أخنى القول ما نبذوا به الإسلام : أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب والسيرة والتاريخ تشهد به وتنوره ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

وهؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الإلهية يوم القيامة

١٦٢

فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة ولو بالأقوال الحديثة في الطبيعيات والرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها.

فليت شعري هل بسط التوحيد وقطع منابت الوثنية وتطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطلميوسي ورد أنفاسه إلى صدره ، والكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا وخربت البلاد وأفنت الملايين من النفوس وأباحت الأعراض.

وبعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن والحرية!! وهؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية ويقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا وانحطاط الأخلاق وموت الفضائل وإحاطة الشؤم والفساد على الأرض ومن فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إن الإنسان لربه لكنود.

ويعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الأعاظم (١) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله : الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي وتحقيق العدل وتمزيق الظلم ومقاومة الشر والفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع :

١ ـ وسائل الدعوة والإرشاد بالخطب والمقالات والمؤلفات والنشرات ، وهذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، وقوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) وهذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة ، إلى أن قال :

٢ ـ وسائل المقاومة السلمية والسلبية كالمظاهرات والإضرابات والمقاطعة الاقتصادية وعدم التعاون مع الظالمين ، وعدم الاشتراك في أعمالهم وحكومتهم ،

__________________

(١) الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في رسالة : المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

١٦٣

وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ، و ( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ) وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة ، وأشهر من دعا إلى هذه الطريقة وأكد عليها النبي الهندي بوذا ، والمسيح عليه‌السلام ، والأديب الروسي « تولستوي » والزعيم الهندي الروحي « غاندي ».

٣ ـ الحرب والثورة والقتال.

والإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة : « الأولى » الموعظة الحسنة والدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين ودرء فسادهم واستبدادهم « فالثانية » المقاطعة السلمية أو السلبية وعدم التعاون والمشاركة معهم فإن لم تجد وتنفع « فالثالثة » الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل والراضي الساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة ، وقد غلط وركب الشطط من قال : إن الإسلام نشر دعوته بالسيف والقتال فإن الإسلام إيمان وعقيدة ، والعقيدة لا تحصل بالجبر والإكراه وإنما تخضع للحجة والبرهان ، والقرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ».

والإسلام إنما استعمل السيف وشهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات والبراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق ، أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جل شأنه : ( قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين والعقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة واختيارا وإنما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطرارا ولا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب والسلم التخريب والإحراق والسم وقطع الماء عن الأعداء كما يحرم قتل النساء والأطفال وقتل الأسرى ويوصي بالرفق بهم والإحسان إليهم مهما كانوا من العداء والبغضاء للمسلمين ويحرم الاغتيال في الحرب والسلم ويحرم قتل الشيوخ والعجزة ومن لم يبدأ بالحرب ويحرم الهجوم على العدو ليلا « فانبذ إليهم على سواء » ويحرم القتل على الظنة والتهمة والعقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال التي يأباها الشرف والمروءة والتي تنبعث من الخسة والقسوة والدناءة والوحشية.

١٦٤

كل تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شيء منها مع الأعداء في كل ما كان له من المعارك والحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والتبييت ليلا والهجوم ليلا بالسلاح والقنابل على العزل والمدنيين الآمنين ، وأباح القتل بالجملة.

ألم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني وقتلت النساء والأطفال والسكان الآمنين؟! ألم يقتل الألمان ألوف الأسرى؟! ألم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية ألوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها؟! ألم يرم الأمريكان القنابل الذرية على المدن اليابانية؟!.

وبعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية لا يعلم إلا الله ما ذا يحل بالأرض من عذاب وخراب ومآسي وآلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة ولجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل ، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب وهداه الصراط المستقيم ، انتهى.

قوله تعالى : « وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ » إلى آخر الآية ، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم وهو توطئة للجملتين اللاحقتين : ( وَلا تَتَبَدَّلُوا ) « إلخ » أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيد أن الجملة الأولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين.

وأصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة وتمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث ، ولما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج.

وأما قوله تعالى : « وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لأنفسكم وتردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم. ويمكن أن يكون المراد : لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال ـ كما قيل ـ لكن المعنى الأول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله : ( وَلا تَتَبَدَّلُوا ) إلخ وقوله : ( وَلا تَأْكُلُوا ) إلخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز وقوله : ( وَآتُوا الْيَتامى ) إلخ تمهيد لبيانهما معا ، وأما قوله : ( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً )

١٦٥

الحوب الإثم مصدر واسم مصدر.

قوله تعالى : « وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب ـ وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل ـ كان يكثر فيهم الأيتام ، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن ، وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش ، وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) : « النساء : ١٠ » ، وقوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) الآية ، : « النساء : ٢ » فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم ـ كما قيل ـ وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم ، ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك وشكوا إليه فنزل : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) : « البقرة : ٢٢٠ » ، فأجاز لهم أن يأووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وأن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم.

إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ) « إلخ » وهو واقع عقيب قوله : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى ـ والله أعلم ـ : اتقوا أمر اليتامى ، ولا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساء غيرهن ما

١٦٦

طاب لكم مثنى وثلاث ورباع.

فالشرطية أعني قوله : ( إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساء غيرهن فقوله : فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي ، وقوله : ( ما طابَ لَكُمْ ) ، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن ، وقد قيل : ( ما طابَ لَكُمْ ) ولم يقل : من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله : ( مَثْنى وَثُلاثَ ) إلخ ووضع قوله : ( إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ) موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله : ( ما طابَ لَكُمْ ) ، هذا.

وقد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة ، منها : أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع والخمس وأكثر ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان ، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.

ومنها : أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن ، فقال تعالى : إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.

ومنها : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه : إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ).

ومنها : أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) مما أحل لكم من يتامى قرباتكم ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ).

ومنها : أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور ، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى : « مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ » بناء مفعل وفعال في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، ولما

١٦٧

كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جيء بواو التفصيل بين ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى وثلاث ورباع.

وبذلك وبقرينة قوله بعده : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا ، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا ، وكذا في الثلاث والأربع ، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين والثلاث والأربع تسع ، وقد ذكر في المجمع : أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال : دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ، ولأن لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ـ جل كلامه عن ذلك وتقدس ـ.

قوله تعالى : « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » أي فانكحوا واحدة لا أزيد ، وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور ـ ولتسويل النفس فيها أثر بين ـ لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.

قوله تعالى : « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » وهي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة ، وإن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء.

ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم والتعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل ، ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وإتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن

١٦٨

سيتعرض لها في ما سيجيء من قوله : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية : « النساء : ٢٥ ».

قوله تعالى : « ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا » العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن ، وربما قيل : إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى.

وفي ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفي العول والإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى : « وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً » الصدقة بضم الدال وفتحها والصداق هو المهر ، والنحلة هي العطية من غير مثامنة.

وفي إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شيء من المال أو أي شيء له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي ، وهو الخطبة كما أن المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته ، وكيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

ولعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم ، والدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي.

والهناء سهولة الهضم وقبول الطبع ويستعمل في الطعام ، والمري من الري وهو في الشراب كالهنيء في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام والشراب معا ، فإذا قيل : هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام والري بالشراب.

قوله تعالى : « وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً » السفه خفة العقل ، وكان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي رديء النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف

١٦٩

باختلاف الأغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية وسفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا.

وظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء وإعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق ، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها وإنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى ، وأن المراد بقوله : ( أَمْوالَكُمُ ) ، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ ) ، وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى ، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الأول أرجح.

وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى ، فالمراد بقوله : ( أَمْوالَكُمُ ) ، أموال اليتامى وإنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم ، وعلى كل واحد منهم أن يكلأه ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة ، وتدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون ، وهذا من حيث الإضافة كقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) : « النساء : ٢٥ » ، ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة والفساد ، ومن فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم ويصلحوا شأنها ، وينموها بالكسب والاتجار والاسترباح ويرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهي إلى مسكنة صاحب المال وشقوته.

١٧٠

ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ ) ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره ، وهذه هي النكتة في قوله : « فِيها » دون أن يقول : « منها » كما ذكره الزمخشري.

ولا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب والجد فعليه التولي والمباشرة ، وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

(كلام في أن جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام وقوانين هامة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية : أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم أمورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك.

والأصل الثابت الذي يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع ، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة ، وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.

ويتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك ، وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) : « البقرة : ٢٩ » ، وقد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى : « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى : ( وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) : « آل عمران : ٢٧ » وقوله : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ ) ، كقوله : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ ) :

١٧١

« البقرة : ٢٣٣ » فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان والكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر والبرد ( غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة في لساننا ) كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن ونحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

وأما قوله : « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم ولا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله : ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ). كناية عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى : « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً » : « البقرة : ٨٣ ».

قوله تعالى : « وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ » إلى قوله : « أَمْوالَهُمْ » الابتلاء الامتحان والمراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي والإيناس المشاهدة وفيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الأنس ، والرشد خلاف الغي وهو الاهتداء إلى مقاصد الحياة ، ودفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه وإقباضه له كأن الولي يدفعه إليه ويبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

وقوله : ( حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) ، متعلق بقوله : ( وَابْتَلُوا ) ، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز ويصلح للابتلاء حتى ينتهي إلى أوان النكاح ويبلغ مبلغ الرجال ، ومن طبع هذا الحكم ذلك فإن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبي في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس ويتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح.

وقوله : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ ) إلخ تفريع على قوله : ( وَابْتَلُوا ) والمعنى : وامتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم والكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع

١٧٢

المال إلى اليتيم واستقلاله بالتصرف في مال نفسه والرشد شرط لنفوذ التصرف ، وقد فصل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات وأمثال الحدود والديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح واشترط في نفوذ التصرفات المالية والأقارير ونحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد ، وذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن إهمال أمر الرشد وإلغاءه في التصرفات المالية ونحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام ويكون نفوذ تصرفاتهم وأقاريرهم مفضيا إلى غرور الأفراد الفاسدة إياهم وإخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة والمواعيد الكاذبة والمعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الأمور ، وأما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر ، وكذا أمثال الحدود والديات فإن إدراك قبح هذه الجنايات والمعاصي وفهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهم ذلك قبله ولا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد وبعده.

قوله تعالى : « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا » اه الإسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل ، والبدار هو المبادرة إلى الشيء وقوله ( وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا ، وحذف النفي أو ما في معناه قبل أن وأن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى : ( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) : « النساء : ١٧٦ » أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا.

والتقابل الواقع بين الأكل إسرافا والأكل بدارا أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة ولا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة والأكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد أجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعة أو يعمل لليتيم ويسد حاجته الضرورية من ماله وهذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة والبناية ونحوهما وهو الذي ذكره بقوله : ( مَنْ كانَ غَنِيًّا ) أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم ( فَلْيَسْتَعْفِفْ ) أي ليطلب طريق العفة وليلزمه فلا يأخذ من أموالهم ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ ) منها ( بِالْمَعْرُوفِ ) ، وذكر بعض المفسرين أن المعنى : ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) من مال نفسه لا من

١٧٣

أموالهم وهو لا يلائم التفصيل بين الغني والفقير.

وأما قوله تعالى : « فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ » فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للأمر ورفعا لغائلة الخلاف والنزاع فمن الممكن أن يدعي اليتيم بعد الرشد وأخذ المال من الولي عليه ، ثم ذيل الجميع بقوله تعالى : ( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) ربطا للحكم بمنشئه الأصلي الأولي أعني محتد كل حكم من أسمائه وصفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق وهو تشريعه المحكم ، وتتميما للتربية الدينية الإسلامية فإن الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد وإن كان رافعا غالبا للخلاف والنزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوي هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي والشهود واليتيم الذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف ولا نزاع البتة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رءوس مسائل الولاية على أموال اليتامى والمحجور عليهم ومهماتها : من كيفية الأخذ والحفظ والإنماء والتصرف والرد ووقت الأخذ والدفع وتحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله وهو أن المال لله جعله قياما للإنسان على ما تقدم بيانه.

وثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربي الإنسان على وفق هذه الشرائع وهو الذي ذكره تعالى بقوله : ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ).

وثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية والأخلاقية والباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العملية والدستورات الأخلاقية من حيث الأثر ، وهو الذي ذكره بقوله : ( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ).

(بحث روائي)

في الدر المنثور ، في قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) الآية ـ أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن رجلا من غطفان ـ كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ـ فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه ـ فخاصمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية : ( وَآتُوا الْيَتامى

١٧٤

أَمْوالَهُمْ ) ، الحديث.

وفي تفسير العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام : لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

وفي الكافي ، عنه عليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة ـ حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق.

أقول : والروايات في الباب كثيرة.

وفي العلل ، بإسناده عن محمد بن سنان : أن الرضا عليه‌السلام كتب إليه فيما كتب ـ من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة ـ وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد ـ لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه ، والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها ـ وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف ، قال محمد بن سنان : ومن علل النساء الحرائر ـ (١) وتحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال ـ فلما نظر ـ والله أعلم ـ يقول الله عز وجل : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) ، فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغني والفقير ـ فيتزوج الرجل على قدر طاقته ، الحديث.

وفي الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : في حديث قال : والغيرة للرجال ، ولذلك حرم على المرأة إلا زوجها ـ وأحل للرجل أربعا ـ فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة ـ ويحل للرجل معها ثلاثا.

أقول : ويوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة وهي تغير الإنسان عن حاله المعتاد ، ونزوعه إلى الدفاع والانتقام عند تعدي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه ويعتقد كرامته عليه ، وهذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهي من فطريات الإنسان ، والإسلام دين مبني على الفطرة تؤخذ فيه الأمور التي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته ، ويحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل والفساد كما في اقتناء المال والمأكل والمشرب والملبس والمنكح وغير ذلك.

__________________

(١) كذا في النسخ.

١٧٥

فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا أخر ـ والدين مبني على رعاية حكم الفطرة ـ كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء وتغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة وسيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتي عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضي طار عليهن لا غريزي فطري.

وفي الكافي ، بإسناده عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام قال : لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ، ولا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز ـ أليس الله تبارك وتعالى يقول : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً )؟ وقال : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً )؟ وهذا يدخل في الصداق والهبة.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني ـ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ألك زوجة؟ قال : نعم ـ قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ـ ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ـ ثم اشربه فإني سمعت الله يقول في كتابه : ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، وقال : ( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، وقال : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى ، قال : ففعل ذلك فشفي.

أقول : ورواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (ع) وهو نوع من الاستفادة لطيف ، وبناؤه على التوسعة في المعنى ويوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

وفي الكافي ، عن الباقر عليه‌السلام : إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله ، ثم قال في بعض حديثه : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال ، وفساد المال ، وكثيرة السؤال ، فقيل له : يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال : إن الله عز وجل يقول : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ـ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، وقال : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) ، وقال : ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ).

١٧٦

وفي تفسير العياشي ، عن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال : من لا تثق به.

وفيه ، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الآية ـ ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : كل من يشرب الخمر فهو سفيه.

وفيه ، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال : هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد ـ فقلت : فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال : إذا كنت أنت الوارث لهم.

وفي تفسير القمي ، عن الباقر عليه‌السلام : في الآية : فالسفهاء النساء ـ والولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة ـ وولده سفيه مفسد ـ لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما ـ على ماله الذي جعل الله له قياما يقول : معاشا الحديث.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، وهي تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه والصبي قبل أن يرشد والمرأة المتلهية المتهوسة وشارب الخمر ومطلق من لا تثق به ، وبحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال ، وكذا معنى إضافة « أموالكم » وعليك بالتطبيق والاعتبار.

وقوله في رواية ابن أبي حمزة : إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الأصل ثم لكل من الأشخاص ثانيا وللمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

وفي الفقيه ، عن الصادق عليه‌السلام : انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده ، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا ـ فليمسك عنه وليه ماله.

وفيه ، عنه عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى ) الآية ـ قال : إيناس الرشد حفظ المال.

أقول : وقد تقدم وجه دلالة الآية عليه.

وفي التهذيب ، عنه عليه‌السلام : في قول الله : ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال : فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ـ فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم ـ فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم

١٧٧

والنحاس في ناسخه عن ابن عمر : أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ـ ومن غير أن تقي مالك بماله.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت عليه‌السلام وغيرهم ، وهناك مباحث فقهية وأخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث وكتب الفقه.

وفي تفسير العياشي ، عن رفاعة عنه عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قال عليه‌السلام : كان أبي يقول : إنها منسوخة.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال : نسختها : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ) الآية.

أقول : وكون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة ، وأما قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الأكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف ، وفي تلك الآية المحرمة بالظلم ولا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف وتحريم الأكل ظلما ، فالحق أن الآية غير منسوخة ، والروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد عليه‌السلام : في قول الله : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) ـ قال : فقال : إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة.

أقول : وهو من الجري من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين والمؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم.

(بحث علمي في فصول ثلاثة)

١ ـ النكاح من مقاصد الطبيعة : أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه

١٧٨

الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها ، والإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة.

وأمر الإيلاد والإفراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها وهكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والازدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الأكل والشرب والأثاث وإدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.

ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم وكذا الزنا وخاصة زنا المحصنة منه.

وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين ، وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع والتربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة وقد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الأم إياه وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة

١٧٩

والاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم ، فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالا وأعمالا فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا وتغيرا في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.

وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الإنسانية بالسقوط والانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس الجوامع البشرية وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد فإن سنة الاجتماع المنزلي وتربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياة والتواضع من الإنسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

وأما تدارك هذه النواقص بالفكر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة والخلقة وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها ، ولو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شئون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر

١٨٠