الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤١٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة مريم مكية وهي ثمان وتسعون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)

٥

وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) )

( بيان )

غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها : « فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا » إلخ ، هو التبشير والإنذار غير أنه ساق الكلام في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى وقصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقصة موسى وهارون وقصة إسماعيل وقصة إدريس وما خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة والصدق والإخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع والخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك وأهملوا أمر التوجه إلى ربهم واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ويضل عنهم الرشد إلا أن يتوب منهم تائب ويرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة.

ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي وتحكماتهم كنفي المعاد ، وقولهم : ( اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) ، وعبادتهم الأصنام ، وما يلحقهم بذلك من النكال والعذاب.

فالبيان في السورة أشبه شيء ببيان المدعى بإيراد أمثلته كأنه قيل : إن فلانا وفلانا وفلانا الذين كانوا أهل الرشد والموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس والتوجه إلى ربهم وسبيلهم الخضوع والخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد والنعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل ، والإقبال على مذموم الشهوة ولا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد ، ولا يقرهم إلا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله وإثبات الشركاء لله وسد طريق الدعوة ولا يهديهم إلا إلى النكال والعذاب.

فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب بيانه وذلك قوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ » الآيات ، فالسورة تقسم الناس إلى

٦

ثلاث طوائف : الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأهل الاجتباء والهدى. وأهل الغي ، والذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحا وهم ملحقون بأهل النعمة والرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين وعذاب الغاوين وهم قرناء الشياطين وأولياؤهم.

والسورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها وقد نقل على ذلك اتفاق المفسرين.

قوله تعالى : « كهيعص » قد تقدم في تفسير أول سورة الأعراف أن السور القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها وبين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.

ويؤيد ذلك ما نجده من المناسبة والمجانسة بين هذه السورة وسورة ص في سرد قصص الأنبياء ، وسيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف ومضامين السور التي صدرت بها ، وكذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة وسورة يس وقد اشتركتا في الياء ، وهذه السورة وسورة الشورى وقد اشتركتا في العين.

قوله تعالى : « ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا » ظاهر السياق أن الذكر خبر لمبتدء محذوف والمصدر بمعنى المفعول ، والمال بحسب التقدير : هذا خبر رحمة ربك المذكور ، والمراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل قوله تلوا : « إِذْ نادى رَبَّهُ ».

قوله تعالى : « إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا » الظرف متعلق بقوله : « رَحْمَتِ رَبِّكَ » والنداء والمناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة ، ولا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة ، ويشعر بذلك قوله الآتي : « فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ».

وقيل : إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه وأحواله السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي » إلى آخر الآية ، تمهيد لما سيسأله وهو قوله : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ».

٧

وقد قدم قوله : « رَبِّ » للاسترحام في مفتتح الدعاء ، والتأكيد بإن للدلالة على تحققه بالحاجة ، والوهن هو الضعف ونقصان القوة وقد نسبه إلى العظم لأنه الدعامة التي يعتمد عليها البدن في حركته وسكونه ، ولم يقل : العظام مني ولا عظمي للدلالة على الجنس وليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.

وقوله : « وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً » الاشتعال انتشار شواظ النار ولهيبها في الشيء المحترق قال في المجمع ، : وقوله : « وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً » من أحسن الاستعارات والمعنى اشتعل الشيب في الرأس وانتشر ، كما ينتشر شعاع النار ، وكان المراد بالشعاع الشواظ واللهيب.

وقوله : « وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا » الشقاوة خلاف السعادة ، وكان المراد بها الحرمان من الخير وهو لازم الشقاوة أو هو هي ، وقوله : « بِدُعائِكَ » متعلق بالشقي والباء فيه للسببية أو بمعنى في والمعنى وكنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني وتحرمني ، أو لم أكن محروما خائبا في دعائي إياك عودتني الإجابة إذا دعوتك والتقبل إذا سألتك ، والدعاء على أي حال مصدر مضاف إلى المفعول.

وقيل : إن « بِدُعائِكَ » مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى لم أكن بدعوتك إياي إلى العبودية والطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك والمعنى الأول أظهر.

وفي تكرار قوله : « رَبِّ » ووضعه متخللا بين اسم كان وخبره في قوله : « وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا » من البلاغة ما لا يقدر بقدر ، ونظيره قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ».

قوله تعالى : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً » تتمة التمهيد الذي قدمه لدعائه ، والمراد بالموالي العمومة وبنو العم ، وقيل : الكلالة وقيل : العصبة ، وقيل : بنو العم فحسب ، وقيل : الورثة ، وكيف كان فهم غير الأولاد من صلب والمراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي وكان عليه‌السلام يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه ، وهو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.

٨

وقوله : « وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً » العاقر المرأة التي لا تلد يقال : امرأة عاقر لا تلد ورجل عاقر لا يولد له ولد. وفي التعبير بقوله : « وَكانَتِ امْرَأَتِي » دلالة على أن امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة.

وظاهر عدم تكرار أن في قوله : « وَكانَتِ امْرَأَتِي » إلخ أن الجملة حالية ومجموع الكلام أعني قوله : « وَإِنِّي خِفْتُ إلى قوله : عاقِراً » فصل واحد أريد به أن كون امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي وبعد وفاتي ، فمجموع ما مهده للدعاء يئول إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ وهرم والآخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته ، ويمكن تصوير الكلام فصولا ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته وعقر امرأته فصلا مستقلا.

قوله تعالى : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » هذا هو الدعاء ، وقد قيد الموهبة الإلهية التي سألها بقوله : « مِنْ لَدُنْكَ » لكونه آيسا من الأسباب العادية التي كانت عنده وهي نفسه وقد صار شيخا هرما ساقط القوى. وامرأته وقد شاخت وكانت قبل ذلك عاقرا.

وولي الإنسان من يلي أمره ، وولي الميت هو الذي يقوم بأمره ويخلفه فيما ترك ، وآل الرجل خاصته الذين يئول إليه أمرهم كولده وأقاربه وأصحابه وقيل : أصله أهل ، والمراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم وكانت امرأة زكريا أخت مريم وعلى هذا يكون معنى قوله : « يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » يرثني ويرث امرأتي وهي بعض آل يعقوب ، والأشبه حينئذ أن تكون « مِنْ » في قوله : « مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » للتبعيض وإن صح كونها ابتدائية أيضا.

وقوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » الرضي بمعنى المرضي ، وإطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم والعمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده وعمله أي اجعله رب محلى بالعلم النافع والعمل الصالح.

وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران وهي مدنية متأخرة نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم « فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً

٩

حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ » آل عمران : ٣٨.

ولا يرتاب المتدبر في الآيتين أن الذي دعا زكريا ودفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم وكرامتها على الله سبحانه في عبوديتها وإخلاصها العمل فأحب أن يخلفه خلف له من القرب والكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من الشيب ونفاد القوة وما عليه امرأته من كبر السن والعقر وله موال لا يرتضيهم فوجد لذلك وهو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة وكفاية كل مهمة ففزع إلى ربه بالدعاء واستيهاب ذرية طيبة.

فقوله في سورة آل عمران : « رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » بحذاء قوله في سورة مريم : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » وقوله هناك : « طَيِّبَةً » بحذاء قوله هنا : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » والمراد به ما شاهده من القرب والكرامة عند الله لمريم وعملها الصالح فيبقى قوله هناك : « هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً » ، بحذاء قوله هنا : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » وهو يفسره فالمراد بقوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » إلخ ، ولد صلبي يرثه.

ومن هنا يظهر فساد ما قيل : إنه عليه‌السلام طلب بقوله : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي » إلخ ، من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره ، وكذا ما قيل : إنه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس.

وذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران : « رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً » في طلب الولد.

على أن التعبير بمثل « فَهَبْ لِي » المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس من الأجانب وإنما الملائم له التعبير بالجعل ونحوه كما في قوله تعالى : « وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً » النساء : ٧٥.

ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » الولد كما عبر عنه في آية آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية وهو ولي في الإرث ، والمراد بالوراثة وراثة ما

١٠

تركه الميت من الأموال وأمتعة الحياة ، وهو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات والحالات المعنوية وإما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أي حال ظاهر في وراثة المال ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد ، ويزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي » على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.

وأما قول من قال : إن المراد به وراثة النبوة وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه عليه‌السلام إلى هذا الدعاء والمسألة هو ما شاهده من مريم ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟.

على أن النبوة مما لا يورث بالنسب وهو ظاهر ولو أصلح ذلك بأن المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الإشكال من جهة أخرى وهي عدم ملائمة ذلك قوله بعد : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » إذ لا معنى لقول القائل : هب لي ولدا نبيا واجعله رضيا ، ولو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشيء بما هو دونه ، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر.

ويقرب منه في الفساد قول من قال : إن المراد به وراثة العلم وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه علمه ، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريا من مريم عبادة وكرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي والمدعو إليه.

والقول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم وبقوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » العمل الصالح ومجموع العلم النافع والعمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الإخلاص والعبادة والكرامة.

يدفعه أن قوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع والعمل الصالح لمكان الإطلاق ، وإنما الإنسان المحسن عملا مع الغض عن العلم مرضي العمل ولا يسمى مرضيا مطلقا البتة ، ونظير ذلك القول بأن المراد بالرضى

١١

المرضي عند الناس.

ويقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى والكرامة وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب والمنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب والكرامة أو مطلق القرب والكرامة لا أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب والكرامة.

على أنه لا يلائمه قوله : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي » إذ ظاهر السياق أنه يطلب ولدا يرثه وينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي وهو يخاف منهم أن يتلبسوا بذلك بعد وفاته ، ولا معنى لأن يخاف عليه‌السلام تلبس مواليه بالقرب والمنزلة واتصافهم بالتقوى والكرامة لا قبل وفاته ولا بعدها فساحة الأنبياء أنزه وأطهر من هذه الضنة ولا أمنية لهم إلا صلاح الناس وسعادتهم.

وقول بعضهم إن مواليه عليه‌السلام كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته بعده ، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا يورث بالنسب قطعا ، على أنها لا تخطئ المورد الصالح لها ولا يتلبس بها إلا أهلها ولا وجه للخوف من ذلك ، وإن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب ونحوه فهي قنية اجتماعية ومن أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة والملك.

على أن يحيى عليه‌السلام لم يتقلد من هذه الخلافة والملك شيئا حتى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه ، ولم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن زكريا ويحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.

فإن قلت : يؤيد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المنقطع الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما زكريا عليه‌السلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من ربه ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة

١٢

وتعلق القلب بالدنيا وزخارفها.

والقول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة في ذلك على الميت ولا عتاب.

مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه‌السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم فليس قصده عليه‌السلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده.

قلت : الإشكال مبني على كون قوله : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي » مسوقا لبيان طلب الوراثة المالية لولده والواقع خلافه فليس المقصود من قوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » بالقصد الأول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران : « هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً » وقوله في موضع آخر : « رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً » الأنبياء : ٨٩.

وإنما قوله : « يَرِثُنِي » قرينة معينة لكون المراد بالولي في الكلام ولاية الإرث التي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا يتعين واحد منها إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله : « وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ » الشورى : ٤٦ ، والمراد به ولاية النصرة ، وقيدت بالأمر والنهي في قوله : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » التوبة : ٧١ ، والمراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.

ولو لا أن المراد به الوراثة المالية وأنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على طلب الولد الذي هو المقصود الأصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أو النبوة أو العبادة والكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شيء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الأصلي وكفى به سقوطا للكلام.

وبالجملة ، العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد ، وأما الوراثة المالية فليست

١٣

مقصودة بالقصد الأول وإنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله ، وليس في ذلك ولا في قوله : « وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي » وحاله حال قوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » دلالة على تعلق قلبه عليه‌السلام بالدنيا الفانية ولا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور.

وأما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح والطالح والنبي ومن دونه وقد جهز الجميع بجهاز التوالد والتناسل وغرز فيهم ما يدعوهم إليه ، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد ويرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه واستيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة ـ وهذا هو الإرث ـ استيلاء نفسه وعيش شخصه هذا.

والشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري ولا ذمت هذه الداعية الغريزية بل مدحته وندبت إليه ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » ، : الصافات : ١٠٠ وقوله : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ » » إبراهيم : ٣٩ ، وقوله حكاية عن المؤمنين : « رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ » الفرقان : ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات.

فإن قلت : ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله : « هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ » الآية ، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم وكرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة والكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أن زكريا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه : إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء لم يعز عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته وأنا شيخ فان وامرأتي عاقر فقال : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ».

فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أو العلم أو العبادة والكرامة.

١٤

قلت : لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله : « كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ » هي الثمرة في غير موسمها ، وأن الذي دعا زكريا عليه‌السلام إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم : « إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ » ولو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق وخاصة صدر الآية « فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً » أن العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربها يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا عليه‌السلام إلى طلب ذرية طيبة وولد رضي.

ولو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية والولد وإذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » والتقييد بالطيب في قوله : « ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ».

وقد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله : « هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً » وفي هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته وعقر امرأته وخوفه الموالي بقوله : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي » فالمراد بقوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » هو الولد بلا شك ، وقد عبر عنه وأشير إليه بعنوان ولاية الإرث.

وولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة ، وأما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة وكذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه وكذا ولاية وراثة المقامات المعنوية والكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب والولادة ربما جامعتها وربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة ومرآة لها إلا مع قرينة قوية ، وليس في الكلام ما يصلح لذلك ، وكل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأول واشتغل بما وراءه ، وكفى به سقوطا للكلام.

قوله تعالى : « يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا » في الكلام حذف إيجازا ، والتقدير : « فاستجبنا له وناديناه يا زكريا إنا نبشرك » إلخ ،

١٥

وقد ورد في سورة الأنبياء في القصة : « فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى » الأنبياء : ٩٠ ، وفي سورة آل عمران : « فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى » آل عمران : ٣٩.

وتشهد آية آل عمران على أن قوله : « يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ » إلخ ، كان وحيا بتوسط الملائكة فهو قوله تعالى أدته الملائكة إلى زكريا ، وذلك في قوله ثانيا : « قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » إلخ ، أظهر.

وفي الآية دلالة على أن الله سبحانه هو الذي سماه يحيى ، وهو قوله : « اسْمُهُ يَحْيى » وأنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد ، وهو قوله : « لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا » أي شريكا في الاسم.

وليس من البعيد أن يراد بالسمي المثل على حد ما سيأتي من قوله تعالى : « فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا » ، : الآية ـ ٦٥ من السورة ويشهد عليه أن الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحدا من أنبيائه وأوليائه قبله كقوله فيما سيأتي : « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا » وقوله : « وَسَيِّداً وَحَصُوراً » آل عمران : ٣٩ ، وقوله : « وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا » ، والمسيح عليه‌السلام وإن شاركه في هذه النعوت وهما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى عليه‌السلام.

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا » قال الراغب : الغلام الطار الشارب (١) يقال : غلام بين الغلومة والغلومية ، قال تعالى : « أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ». قال : واغتلم الغلام : إذا بلغ حد الغلمة. انتهى.

وقال في المجمع ، : العتي والعسي بمعنى يقال : عتا يعتو عتوا وعتيا وعسا يعسو عسوا وعسيا فهو عات وعاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس والجفاف. انتهى. وبلوغ العتي كناية عن بطلان شهوة النكاح وانقطاع سبيل الإيلاد.

واستفهامه عليه‌السلام عن كون الغلام مع عقر امرأته وبلوغه العتي مع ذكره

__________________

(١) غلام طر شاربه من باب نصر وضرب : أي طلع.

١٦

الأمرين في ضمن دعائه إذ قال : « رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي » إلخ ، مبني على استعجاب البشرى واستفسار خصوصياتها دون الاستبعاد والإنكار فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر الموانع وفقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه ويسكن اضطراب نفسه وهو مع ذلك على يقين من صدق ما بشر به فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع مع وجود العلم والإيمان وقد تقدم نظيره في تفسير قوله تعالى : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي » البقرة : ٢٦٠.

قوله تعالى : « قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً » جواب عما استفهمه واستفسره لتطيب به نفسه ، ويسكن جأشه ، وضمير قال راجع إليه تعالى ، وقوله : « كَذلِكَ » مقول القول وهو خبر مبتدإ محذوف والتقدير « هو كذلك » أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.

وقوله : « قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » مقول ثان لقال الأول ، وهو بمنزلة التعليل لقوله : « كَذلِكَ » يرتفع به أي استعجاب فلا يتخلف عن إرادته مراد وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن ، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر وامرأة عاقر هين سهل عليه.

وقد وقع التعبير عن هذا الاستفهام والجواب في سرد القصة من سورة آل عمران بقوله : « قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » آل عمران : ٤٠ ، فقوله : « قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » هاهنا يحاذي قوله هناك : « اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » وهو يؤيد ما قدمناه من المعنى ، وقوله هاهنا : « وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً » بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.

وفي الآية وجوه أخر تعرضوا لها : منها أن قوله : « كَذلِكَ » متعلق بقال الثاني ومجموع الجملة هو الجواب والمراد أمر ربك بذلك وقضى كذلك ، وقوله : « هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » مقول آخر للقول أو أنه جيء به على سبيل الحكاية.

ومنها أن الخطاب في قوله : « قالَ رَبُّكَ » للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا لزكريا عليه‌السلام وتلك وجوه لا يساعد عليها السياق.

١٧

قوله تعالى : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا » قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط الملائكة « فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى » ، وهو عليه‌السلام إنما سأل الآية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي ملكي لا إلقاء شيطاني ولذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها وهو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الأنبياء معصومون بعصمة إلهية ليس للشيطان أن يتصرف في نفوسهم.

فقوله : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً » سؤال لآية مميزة ، وقوله : « قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا » إجابة ما سأل ، وهو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير ذكر الله وهو سوي أي صحيح سليم من غير مرض وآفة.

فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم ، من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم كناية ، والمراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها وهو شائع في الاستعمال فكان عليه‌السلام يذكر الله بفنون الذكر ولا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا وإشارة ، والدليل على ذلك كله قوله تعالى في القصة من سورة آل عمران : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ » آل عمران : ٤١.

قوله تعالى : « فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا » قال في المجمع ، : وسمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته ، والأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. وقال : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة ، وأصله من قولهم : الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى : « يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ » قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوة والأمر به كقوله : « فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها » الأعراف : ١٤٥ ، وقوله : « خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ » البقرة ـ ٦٣ ، وقوله : « خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا » البقرة : ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات ،

١٨

والسابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من المعارف والعمل بما فيه من الأحكام بالعناية والاهتمام.

وفي الكلام حذف وإيجاز رعاية للاختصار ، والتقدير : فلما وهبنا له يحيى قلنا له : يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم والعمل ، وبهذا المعنى يتأيد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي وسائر كتب الأنبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة (١).

قوله تعالى : « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً » فسر الحكم بالفهم وبالعقل وبالحكمة وبمعرفة آداب الخدمة وبالفراسة الصادقة وبالنبوة ، لكن المستفاد من مثل قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » الجاثية : ١٦ ، وقوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » الأنعام : ٨٩ ، وغيرهما من الآيات أن الحكم غير النبوة ، فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغي ، وكذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى على شيء من ذلك.

نعم ربما يستأنس من مثل قوله : « يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ » البقرة : ١٢٩ ، وقوله : « يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » الجمعة : ٢ والحكمة بناء نوع من الحكم ـ أن المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقة الإلهية وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العادية ولعله إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. وعلى هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد.

وقوله : « وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا » معطوف على الحكم أي وأعطيناه حنانا من لدنا والحنان : العطف والإشفاق ، قال الراغب : ولكون الإشفاق لا ينفك من الرحمة عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى : « وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا » ومنه قيل : الحنان المنان وحنانيك إشفاقا بعد إشفاق.

__________________

(١) وليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصه.

١٩

وفسر الحنان في الآية بالرحمة ولعل المراد بها النبوة أو الولاية كقول نوح عليه‌السلام : « وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ » هود : ٢٨ ، وقول صالح : « وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً » هود : ٦٣.

وفسر بالمحبة ولعل المراد بها محبة الناس له على حد قوله : « وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي » طه : ٣٩ ، أي كان لا يراه أحد إلا أحبه.

وفسر بتعطفه على الناس ورحمته ورقته عليهم فكان رءوفا بهم ناصحا لهم يهديهم إلى الله ويأمرهم بالتوبة ولذا سمي في العهد الجديد بيوحنا المعمد.

وفسر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربه لباه الله سبحانه على ما في الخبر فيدل على أنه كان لله سبحانه حنان خاص به على ما يفيده تنكير الكلمة.

والذي يعطيه السياق وخاصة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله : « مِنْ لَدُنَّا » ـ والكلمة إنما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعية العادية أو لا نظر فيه إليها ـ أن المراد به نوع عطف وانجذاب خاص إلهي بينه وبين ربه غير مألوف ، وبذلك يسقط التفسير الثاني والثالث ثم تعقبه بقوله : « زَكاةً » والأصل في معناه النمو الصالح ، وهو لا يلائم المعنى الأول كثير ملائمة فالمراد به إما حنان من الله سبحانه إليه بتولي أمره والعناية بشأنه وهو ينمو عليه ، وإما حنان وانجذاب منه إلى ربه فكان ينمو عليه ، والنمو نمو الروح.

ومن هنا يظهر وهن ما قيل : إن المراد بالزكاة البركة ومعناها كونه مباركا نفاعا معلما للخير ، وما قيل : إن المراد به الصدقة ، والمعنى وآتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدق به على الناس أو المعنى أنه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أن الحكم المؤتى صدقة من الله عليه وما قيل : إن المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.

قوله تعالى : « وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا » التقي صفة مشبهة من التقوى مثال واوي وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن اقتراف المناهي المؤدي إلى عذاب الله ، والبر بفتح الباء صفة مشبهة من البر بكسر الباء وهو الإحسان ، والجبار قال في المجمع ، : الذي لا يرى لأحد عليه حقا وفيه جبرية وجبروت ، والجبار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيئول معناه إلى أنه المستكبر المستعلي الذي يحمل الناس ما أراد ولا يتحمل عنهم ، ويؤيده تعقيبه بالعصي فإنه صفة مشبهة من العصيان

٢٠